488

أوّلاً عدم الموت ونعتذر عن استصحاب عدم الإسلام بأنّنا قد أحرزنا عدم الموضوع.

والواقع أنّ كلا الاستصحابين في عرض واحد، ولا معنى لتقديم أحدهما على الآخر، فلولا إشكال المثبتيّة الذي بيّنّاه لكانا متعارضين.

التقريب الثاني: أنّه هل يقصد باستصحاب عدم الموت استصحاب عدم ذات الموت، أو استصحاب عدم الموت المقيّد بكفر الابن والمقارن له؟

فإن قصد الأوّل ورد عليه: أنّ ذات الموت مقطوع به، فلا معنى لاستصحاب عدمه.

وإن قصد الثاني قلنا: هل المفروض أنّ الموضوع مركّب من موت الأب وكفر الابن، أو المفروض هو التقييد، ودخل عنوان الاجتماع؟

فإن فرض الأوّل فلا معنى لاستصحاب عدم الموت المقيّد والمقارن بكفر الابن؛ لأنّ التقيّد والتقارن ليس له دخل في الحكم.

وإن فرض الثاني فعندئذ نسلّم استصحاب عدم الموت، لكن في هذا الفرض لا يجري استصحاب الكفر؛ لأنّ إثبات أحد أجزاء الموضوع بالأصل والجزء الآخر بالوجدان إنّما يتمّ في فرض التركيب، لا التقييد.

وهذا التقريب كسابقه كأنّه ناش من أصل وضوح النتيجة عنده بحسّاسيّته الاُصوليّة. وجوابه: أنّنا نستصحب ذات الموت، لكن لا في تمام عمود الزمان حتّى يقال: إنّه مقطوع الحدوث، بل في خصوص القطعة الاُولى من الزمان التي نشير إليها بقولنا: (إلى أن أسلم الابن) ولا نقطع بحصول الموت في تلك القطعة من الزمان، وهذا هو ما نصنعه في استصحاب الكفر، فإنّنا لا نستصحبه بلحاظ تمام عمود الزمان؛ إذ هو عندئذ مقطوع الانتقاض، وإنّما نستصحبه بلحاظ قطعة من الزمان، فلازم ما ذكره ـ دامت بركاته ـ إنكار استصحاب الكفر رأساً، مع أنّه يسلّم باستصحابه، ويناقش في استصحاب عدم الموت.

وعلى أيّة حال، فقد تحصّل أنّ استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر عند العلم بانتقاض ذلك العدم في الجملة لا يكون جارياً، وأنّ هناك فرقاً جوهريّاً بين هذا الاستصحاب واستصحاب وجود الجزء إلى زمان حدوث الجزء الآخر.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

 

استصحاب بقاء أحد الجزءين إلى زمان حدوث الآخر:

وأمّا المقام الثاني، فالثمرة في جريان استصحاب بقاء الجزء وعدمه في ما ذكرناه من

489

الأمثلة إنّما تظهر إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب في المقام الأوّل كما قلنا بذلك، وإلاّفلا ثمرة بين أن يفرض جريانهما وسقوطهما بالتعارض أو عدم جريانهما.

وعلي أيّ حال فهناك وجوه في جريان هذا الاستصحاب في نفسه وعدمه، بغضّ النظر عن المعارض، فقد يقال بجريانه مطلقاً، وقد يقال بعدم جريانه مطلقاً.

والمحقّق الخراساني(رحمه الله) فصّل بين مجهولي التأريخ، فلا يجري الاستصحاب فيهما، وما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ، فيجري الاستصحاب عندئذ في مجهول التأريخ دون معلومه، فلو علم بأنّ موت الأب كان عند الغروب ولم يعلم بتأريخ إسلام الابن جرى استصحاب عدم الإسلام دون استصحاب عدم الموت.

ونحن قبل بيان المختار نبيّن مقدّمة تكون هي المفتاح لحلّ المطلب في كلّ الشقوق المطروحة في المقام، وهي أنّك عرفت في التنبيه السابق أنّ الجزءين إذا كانا بنحو التقييد لم يجرِ الاستصحاب في نفسه إذن، فلا تصل النوبة إلى البحث الجديد في هذا التنبيه بنكتة إضافة عنصر جديد، وهو عنصر العلم بالانتقاض، فلو كان الموضوع مثلاً هو كفر الابن في زمان مقيّد بموت الأب كان الاستصحاب غير جار في نفسه بغضّ النظر عن هذا العنصر الجديد، فمحلّ البحث ينحصر فيما إذا كانا بنحو التركيب، بأن كان الموضوع كفر الابن في زمان وموت الأب في ذلك الزمان بأن اُخذ كلاهما في عرض واحد مضافين إلى زمان واحد، وبهذا يتّضح أنّنا حينما نستصحب مثلاً كفر الابن إلى زمان موت الأب يجب أن ننظر إلى عنوان (زمان موت الأب) بنظرة مشيرة إلى واقع ذلك الزمان، لا بنظرة الموضوعيّة ؛ إذ لو كان هذا العنوان دخيلاً في الحكم لرجع إلى التقييد، ولو لم يكن دخيلاً في الحكم لما صحّ لحاظه بنظرة الموضوعيّة.

إذا عرفت ذلك اتّضح من هذا:

أوّلاً: أنّ الاستصحاب في معلوم التأريخ لا يجري بالنسبة لزمان مجهول التأريخ؛ إذ لو لوحظ عنوان زمان مجهول التأريخ بنظرة الموضوعيّة لم يصحّ ذلك ؛ لأنّ المفروض عدم دخل هذا العنوان، وإلاّ لرجع إلى التقييد، ولم يجرِ الاستصحاب في نفسه، ولو لوحظ طريقاً إلى واقع ذلك الزمان، فلا شكّ في معلوم التأريخ بلحاظ واقع الزمان، وقد يكون واقع زمان مجهول التأريخ هو الزمان الذي نعلم فيه بانتقاض المستصحب، فيكون من نقض اليقين باليقين.

490

وبهذا اتّضح ما في كلام السيّد الاُستاذ(1) من الاعتراض على من قال ـ كالمحقّق النائيني والشيخ الأعظم(قدس سرهما)ـ بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التأريخ لعدم الشكّ فيه، حيث قالوا: إنّ الموت المعلوم تأريخه وهو حين الغروب مثلاً لا معنى لاستصحاب عدمه؛ لأنّه قبل الغروب معلوم العدم، ولدى الغروب معلوم الوجود، فلا شكّ فيه في وقت من الأوقات حتّى يستصحب عدمه.

واعترض عليهم السيّد الاُستاذ بأنّ هؤلاء إنّما لاحظوا عمود الزمان، فرأوا أنّه لا يوجد شكّ في الموت. أمّا لو لوحظ الموت بالنسبة لزمان الحادث الآخر فالشكّ ثابت فيه.

ويرد عليه: أنّ المحقّق النائيني والشيخ الأعظم ملتفتان إلى أنّ المقصود هو استصحاب عدم معلوم التأريخ إلى زمان مجهول التأريخ، وكيف لا يكونان ملتفتين إلى ذلك في حين أنّ عنوان بحثهم هو هذا، وإنّما قالوا ما قالوه هنا باعتبار أنّ عنوان زمان مجهول التأريخ إنّما يلحظ بما هو عنوان مشير إلى واقع الزمان، فيكون مرجع الاستصحاب إلى الاستصحاب بلحاظ عمود الزمان، ولا شكّ في واقع الزمان في معلوم التأريخ، إلاّ أنّ بساطة تعبيرهم في مقام بيان علّة عدم جريان الاستصحاب أوجبت أن يعترض عليهم السيّد الاُستاذ بهذا الاعتراض، ويتّضح دفع الاعتراض بالتدقيق الذي بيّنّاه.

وثانياً: أنّ الاستصحاب في مجهول التأريخ بالنسبة لزمان معلوم التأريخ يجري؛ لأنّه من الواضح عدم انتقاض اليقين باليقين ؛ لأنّ معلوم التأريخ واقع زمانه الذي نعلمه هو المغرب مثلاً، ونحن نعلم وجداناً عند المغرب أنّنا لم نحرز إسلام الابن، فإنّ المفروض أنّنا لا ندري هل وقع إسلامه قبل موت الأب مثلاً أو بعده.

إذن، ففي موارد كون أحدهما معلوم التأريخ والآخر مجهول التأريخ لا يجري الاستصحاب في معلوم التأريخ، ويجري في مجهول التأريخ، إلاّ أنّ نكتة ذلك لا تكمن في هذا العنوان، أي: عنوان أنّ هذا مجهول التأريخ وذاك معلوم التأريخ، كما يبدو منهم، وإنّما تكمن في عنوان آخر سوف يتّضح في الأمر الثالث.

وثالثاً: أنّه إذا كانا مجهولي التأريخ فإن كانت دائرة احتمالات حدوث أحدهما مساوية لدائرة احتمالات حدوث الآخر لم يجرِ الاستصحاب، وإذا كانت دائرة احتمال الحدوث في أحدهما أوسع جرى الاستصحاب في الأوسع دون الأضيق.


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 194.

491

وتوضيح المقصود: أنّنا لو فرضنا مثلاً أنّ موت الأب نعلم بأنّه إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية، وإسلام الابن ـ أيضاً ـ كذلك، أي: نعلم بأنّه إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية، فليست دائرة احتمال أحدهما أوسع من دائرة الآخر، فعندئذ لا يجري الاستصحاب؛ لاحتمال نقض اليقين باليقين؛ إذ لو أجرينا مثلاً استصحاب عدم إسلام الابن إلى حين موت الأب، فنحن نحتمل أنّ موت الأب وقع في الساعة الثانية، ونحن في الساعة الثانية نقطع بإسلام الابن، ولو فرضنا مثلاً أنّنا نقطع بأنّ موت الأب إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية، وأمّا إسلام الابن فنعلم إجمالاً أنّه إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية أو الثالثة، فهنا استصحاب الأوسع دائرة وهو الإسلام يجري لعدم الانتقاض باليقين حتماً؛ لأنّنا حينما نستصحب عدم الإسلام إلى زمان الموت نحتمل تأخّر الإسلام عن الموت على جميع تقادير احتمالات زمان الموت؛ إذ لعلّ الإسلام وقع في الساعة الثالثة، وهذا بخلاف العكس، فلا يجري استصحاب الأضيق حدوثاً وهو الموت.

وفي الحقيقة يكون جريان الاستصحاب في مجهول التأريخ عندما يقابل معلوم التأريخ، وعدم جريانه في معلوم التأريخ من هذا الباب، أي: من باب أنّ مجهول التأريخ هو الأوسع دائرة في احتمالات الحدوث، ومعلوم التأريخ هو الأضيق دائرة في ذلك، فنكتة المطلب ليست عبارة عن أنّ أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلوم التأريخ، بل النكتة العامّة لجريان الاستصحاب وعدمه في المقام هي أنّ الاستصحاب يجري في الأوسع دائرة في احتمالات الحدوث؛ لعدم احتمال انتقاض اليقين باليقين، ولا يجري في الأضيق أو المساوي؛ لاحتمال انتقاض اليقين باليقين.

ولا يرد على هذا ما سوف يأتي عن السيّد الاُستاذ من أنّ الشكّ في انتقاض اليقين باليقين وعدمه غير معقول، فإنّ انتقاضه باليقين وعدمه أمر وجداني يمكن لكلّ أحد أن يعرفه بمراجعة نفسه، إلاّ إذا كان في المرتبة العالية من الوسوسة.

توضيح عدم الورود هو: أنّ الذي نفرض كونه مخصوصاً بشأن الوسواسيّين، ولا يصدر من الإنسان المتعارف إنّما هو الخلط بين المتيقّن بالذات والمشكوك بالذات، وأمّا الشكّ بلحاظ المعلوم بالعرض والمشكوك بالعرض فهو شيء اعتيادي جدّاً، فمثلاً لو كان لزيد عنوانان: عنوان أنّه أبو فلان، وعنوان أنّه ابن فلان، ولكنّنا لم نكن ندري أنّ هذين العنوانين لمعنون واحد، فعلمنا بموت أبي فلان، فهنا المتيقّن بالذات هي الصورة الذهنيّة لعنوان أبي فلان، والمشكوك بالذات هي الصورة الذهنيّة لعنوان ابن فلان، ولا يخلط الإنسان

492

الاعتيادي أحدهما بالآخر، وإنّما الشكّ يكون بلحاظ المتيقّن بالعرض والمشكوك بالعرض، فلا ندري أنّ ذا الصورة لأبي فلان الذي علمنا بموته هو نفس ذي الصورة لابن فلان الذي شككنا في موته، أو لا، أي: لا ندري أنّ المتيقّن بالعرض هو نفس المشكوك بالعرض، أو لا.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا كان مثلاً موت الأب هو الأضيق في احتمالات زمان الحدوث من إسلام الابن، وكنّا نحتمل تأخّر إسلام الابن إلى الساعة الثالثة، بينما لا نحتمل ذلك في موت الأب، فاستصحاب عدم الإسلام لا مانع منه. وأمّا استصحاب عدم الموت فلا يجري؛ لأنّ القطعة الخاصّة من الزمان وهي الساعة الثالثة، وكذا الثانية بعنوانها الأوّلي نقطع بعدم حياة الأب فيها، وعنوان زمان إسلام الابن الذي هو عنوان ثانوي لقطعة معيّنة عند الله من الزمان نشكّ في حياة الأب فيه وعدمه، وعندئذ لو كان موضوع الأثر هو هذا العنوان الثانوي، إذن فالاستصحاب لا يجري أساساً ؛ لكون الموضوع تقييديّاً لا تركيبيّاً، ولو كان موضوع الأثر هو القطعة المعيّنة عند الله من الزمان بعنوانها الأوّلي فنحن نحتمل أنّ تلك القطعة التي نشير إليها بعنوان ثانوي وهو عنوان زمان إسلام الابن هي بعينها القطعة التي يكون عنوانها الأوّلي الساعة الثالثة، أو الثانية، أي: نحتمل أنّ المعلوم بالعرض للمتيّقن نفس المشكوك بالعرض لغير المتيّقن، فيكون شيء واحد بعنوانه الأوّلي معلوماً انتقاض الحياة فيه، وبعنوانه الثانوي مشكوكاً، والمفروض أنّ موضوع الأثر هو العنوان الأوّلي، فلا يجري الاستصحاب لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

ثمّ إنّ النتائج التي توصّلنا إليها قريبة جداً من النتائج التي سجّلها المحقّق الخراساني(رحمه الله)في المقام، حيث ذكر: أنّ الاستصحاب في مجهولي التأريخ لا يجري. وأمّا إذا كان أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلوم التأريخ فيجري في مجهول التأريخ، ولا يجري في معلومه، إلاّ أنّه ذكر في وجه ذلك: أنّه في مجهولي التأريخ يحتمل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، وفي ما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ والآخر مجهول التأريخ ففي مجهول التأريخ لا يحتمل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، فيجري فيه الاستصحاب، وفي معلوم التأريخ لا يوجد شكّ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا الكلام منه (رحمه الله) بغضّ النظر عن احتمال رجوعه إلى ما نحن ذكرناه (مع سوء التعبير، حيث توجد في عبارته عدّة قرائن تدلّ على عدم إرادة ما ذكرناه) لا يمكننا تفسيره بنحو ينسجم مع ظواهر عبارته، ويعطي وجهاً معقولاً مناسباً لشأن المحقّق الخراساني(رحمه الله)للتفصيل بين ما إذا كانا مجهولي التأريخ، وما إذا كان أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلومه، والذي

493

يبدو هو أنّ الذين تصدّوا إلى تفسير عبارته ـ أيضاً ـ عجزوا عن ذلك.

والبيان المدرسي له والذي ينبغي أن يقال في مقام تدريس الكفاية هو: أنّنا نفترض في المقام ثلاث ساعات: الساعة الاُولى هي الساعة التي نعلم فيها بحياة الأب وكفر الابن، والساعة الثانية هي الساعة التي وقع فيها موت الأب أو إسلام الابن، والساعة الثالثة هي الساعة التي وقع فيها الآخر، ولنفترض الآن عدم احتمال التقارن، وعندئذ نقول: إنّ المفروض أنّنا نريد أن نستصحب عدم إسلام الابن إلى زمان موت الأب، فزمان اليقين هو الساعة الاُولى، وزمان الشكّ هو زمان موت الأب، ولا يعرف أنّه هل هو الساعة الثانية أو الثالثة، فإن كان هو الساعة الثانية فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين، وإن كان هو الساعة الثالثة إذن فالإسلام المعلوم بالإجمال قد وقع في الساعة الثانية، وكان فاصلاً بين زمان اليقين وزمان الشكّ.

أقول: إن كان مراده(رحمه الله) هذا ورد عليه: أنّ هذا البيان لو تمّ للزم عدم جريان الاستصحاب حتّى في مجهول التأريخ في مقابل معلوم التأريخ؛ إذ نقول هناك أيضاً: إنّنا لو أردنا استصحاب عدم الإسلام إلى ما بعد الموت المعلوم تأريخه فنحن نحتمل أنّ الإسلام المعلوم بالإجمال وقع قبل الموت، فصار فاصلاً بين زمان اليقين وزمان الشكّ، بل يبطل الاستصحاب في كلّ موارد وجود علم إجمالي أحد أطرافه هو انتقاض الحالة السابقة، ولو كان باقي أطرافه لا أثر له، كما لو علم إجمالاً بأنّه إمّا تنجّس هذا الإناء أو طار طائر، فعندئذ لا يمكنه أن يستصحب طهارة هذا الإناء لاحتمال كون المعلوم بالإجمال في الواقع هو تنجّس الإناء، فيكون اليقين قد انتقض بيقين آخر، بل يلزم من ذلك عدم جريان الاستصحاب في كلّ مورد علم بالانتقاض وشكّ في زمان الانتقاض ولو لم يكن حادث آخر نقيسه إليه، كما لو علم بالطهارة وعلم بطروّ الحدث لكنّه لا يعرف زمان طروّه، فلا يمكنه أن يستصحب الطهارة إلى زمان العلم بالحدث؛ لاحتمال كون الحدث المعلوم قبل ذلك.

والخلاصة: أنّه تترتّب على هذا الكلام توالي فاسدة من قبيل ما ذكرناه وما شابهه ممّا لا يلتزم به حتّى المحقّق الخراساني نفسه.

والجواب الحلّي أمران:

الأوّل: أنّ هذا الكلام إن تمّ فإنّما يتمّ لو قلنا بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع، فيقال: إنّ الإسلام في الساعة الثانية على تقدير ثبوته واقعاً معلوم، فيصبح فاصلاً، إلاّ أنّ الصحيح هو تعلّقه بالجامع بمعنىً ليس هنا مجال تفصيله.

494

الثاني: أنّه حتّى لو فرضنا تعلّق العلم الإجمالي بالواقع قلنا: إنّ هذا العلم يجامع الشكّ في كلّ طرف من أطرافه، وإلاّ لكان علماً تفصيليّاً، ويكفي في الاستصحاب الشكّ ولا يشترط عدم العلم، وصاحب الكفاية نفسه لم يقبل ما قاله الشيخ الأعظم (رحمه الله) من أنّ اليقين بإحدى الحالتين في باب العلم الإجمالي بانتقاض إحداهما قد انتقض بيقين لاحق، وقال: لو ابتليت الرواية المذيّلة بقوله: (ولكن انقضه بيقن آخر) بإجمال من هذا القبيل يكفينا مالا يكون مذيّلاً بذلك. والحاصل: أنّ صدور هذا الكلام من المحقّق الخراساني(رحمه الله)أبعد عندي(1) من


(1) جاء في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول لاُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ـ ص316، طبعة دار الكتاب اللبناني الطبعة الاُولى ـ احتمال تفسير آخر لكلام الآخوند أكثر انسجاماً مع ظاهر عبائره من التفسير الماضي هنا، وهو أنّه (رحمه الله) ينظر إلى الإسلام والكفر الثابت في حين الموت مقيّداً بهذا العنوان، باعتبار أنّ الإسلام أو الكفر وحده وفي عمود الزمان المطلق لا أثر له، ويرى أنّ الشكّ في ذلك يكون ظرفه ـ لا محالة ـ مقيّداً بزمان الموت، وبما أنّنا نحتمل كون هذا الزمان عبارة عن الساعة الثالثة إذن نحتمل انفصاله عن ساعة اليقين بعدم الإسلام، وهي الساعة الاُولى بالساعة الثانية، فاحتمال الفصل في هذا التفسير ليس بنكتة احتمال وقوع الإسلام المعلوم بالإجمال في الساعة الثانية كي يرجع إلى دعوى كون العلم الإجمالي ناقضاً لليقين السابق، بل بنكتة أنّ زمان الشكّ في الإسلام مقيّد بحالة موت الأب ؛ لأنّ الموضوع هو إسلام الابن أو عدمه حال موت الأب، ويحتمل كون هذا القيد غير موجود في الساعة الثانية، فتصبح الساعة الثانية فاصلة بين زمان اليقين وزمان الشكّ.وأورد (رحمه الله) على هذا التفسير (لو كان مقصود المحقّق الخراساني (رحمه الله)):

أوّلاً: بأنّ تقيّد زمان الشكّ بزمان موت الأب إنّما قد يتبادر إلى الذهن لو فرضنا الموضوع عبارة عن إسلام الابن المقيّد بزمان موت الأب من دون إرجاع هذا العنوان إلى العنوان المشير إلى واقع الزمان، ولو كان الأمر كذلك لخرج عن محلّ البحث ؛ لأنّه عندئذ لا يجري الاستصحاب في ذاته وبقطع النظر عن هذه المناقشة الجديدة على ما تقدّم توضيحه.

أمّا لو جعلنا هذا العنوان مشيراً إلى واقع الزمان، وجعلنا الموضوع مركّباً لا مقيّداً، وهو المفروض، فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين، غاية الأمر أنّ زمان ترتّب الأثر على المستصحب قد تكون هي الساعة الثالثة، وتكون منفصلة عن زمان اليقين، ولا ضير في ذلك ؛ فإنّ الاستصحاب إنّما يكون مشروطاً بترتّب الأثر في حال تمسّكنا بالاستصحاب، لا في تمام عمود الزمان من لدن انتفاء اليقين إلى زمان التمسّك بالاستصحاب.

وثانياً: بالنقض بحالة كون أحد الحادثين معلوم التأريخ والآخر مجهوله، حيث اعترف الآخوند (رحمه الله)بجريان الاستصحاب في مجهول التأريخ عندئذ، بينما لو تمّ إشكاله السابق لجرى في هذه الحالة أيضاً، فلنفترض أنّنا نعلم أنّ موت الأب وقع في الساعة الثالثة ولا نعلم أنّ الابن هل كان في تلك الساعة باقياً على الكفر ثمّ أسلم أو كان مسلماً في تلك الساعة ؛ لأنّه كان قد أسلم في الساعة الثانية مثلاً، فالأثر يكون للإسلام أو الكفر الثابت في خصوص الساعة الثالثة؛ لأنّها ساعة موت الأب المقيّد به الموضوع، فظرف الشكّ إذن هو تلك الساعة ؛ إذ لا معنى للشكّ في المقيّد بلحاظ زمان ما قبل القيد مثلاً، في حين أنّ ظرف اليقين بعدم الإسلام هو الساعة الاُولى، فالساعة الثانية أصبحت فاصلة بين زمان اليقين وزمان الشكّ.

495

حمل كلامه على مختارنا من البيان.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ أورد على المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام إيرادين:

الأوّل: ما مضى، وجعلناه إشكالاً على مختارنا مع جوابه، وهو أنّ الشكّ في انتقاض اليقين باليقين وعدمه غير معقول ؛ لأنّ اليقين والشكّ من الوجدانيّات النفسيّة.

وهذا الكلام لا يصحّ جعله إيراداً على ما اخترناه، ولا جعله إيراداً على المحقّق الخراساني(رحمه الله).

أمّا الأوّل، فلما مضى من أنّه لنفرض عدم الاشتباه بلحاظ المعلوم بالذات والمشكوك بالذات، لكنّ المدّعى هو الاشتباه بلحاظ المعلوم بالعرض والمشكوك بالعرض.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ المفروض عند من يجعل العلم الإجمالي متعلّقاً بالواقع هو إمكان اجتماعه مع الشكّ على مصبّ واحد، وإلاّ لانقلب إلى العلم التفصيلي.

والثاني: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) في الحقيقة أضاف شرطاً جديداً على شرائط الاستصحاب من اليقين والشكّ، وهو اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين باعتبار أنّ الفاء في قوله: (من كان على يقين فشكّ) يفيد الترتيب بالاتّصال، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، أي: لا يوجد لدينا شرط من هذا القبيل في الاستصحاب، بل قد يكون زمان الشكّ عين زمان اليقين بأن يحدثا في آن واحد.

أقول: إنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) لا يدّعي شرطاً جديداً في المقام، وهو شرط اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، بل يقصد شرط اتّصال زمان المشكوك بزمان المتيقّن، كما هو صريح عبارته، حيث قال: (لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه). نعم، هو عبّر عن زمان المشكوك بزمان الشكّ، وعن زمان المتيقّن بزمان اليقين، إلاّ أنّ التعبير عن زمان المشكوك والمتيقّن بزمان الشكّ واليقين تعبير عرفيّ، ولا ضير فيه.

 


هذا مفاد ما ورد عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الحلقة الثالثة من حلقاته الاُصوليّة بفرق أنّ المثال الذي طبّق عليه البحث هو مثال العلم بحدوث الكرّيّة وملاقاة النجس لا العلم بموت الأب وإسلام الابن.

أقول: إنّه (رحمه الله) عبّر في إشكاله الأوّل المبيّن لكون الموضوع تركيبيّاً لا تقييديّاً بأنّه لو كان تقييديّاً (فقد يتبادر إلى الذهن أنّ الشكّ في العدم متقيّد بزمان الحادث الآخر، ويأتي احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين) وكأنّ هذا إشارة إلى إشكال ثالث في المقام، وهو أنّه حتّى مع فرض التقييد لا يتقيّد الشكّ بذلك ولا يأتي احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين؛ وذلك لأنّه يكفي في صدق زمان الشكّ على الزمان المتّصل باليقين احتمال ثبوت القيد في ذلك الزمان، ولا يشترط في ذلك الجزم بثبوته.

496

على أنّ مسألة اشتراط اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في تأريخ عمرهما لا تشكّل إشكالاً في المقام؛ إذ من الممكن أن نفترض اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، بل هو الغالب، فإنّ العلم الإجمالي بالإسلام عادة إنّما يحدث في الساعة الثالثة، لا في الساعة الثانية التي لم يعلم بعدُ فيها بتحقّق الإسلام، فزمان الساعة الثانية تأريخيّاً هو زمان الشكّ لا زمان العلم.

هذا واشتراط اتّصال زمان المشكوك بزمان المتيقّن ليس شرطاً جديداً، بل هو عبارة عن نفس اشتراط عدم انتقاض اليقين باليقين.

وقد تحصّل: أنّ إشكال السيّد الاُستاذ لا يرتبط بكلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)في المقام بوجه من الوجوه. نعم، يصلح أن يكون إشكالاً على كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)يرجع حاصله إلى دعوى شرط جديد في الاستصحاب، وكان ينبغي أن يجعل هذا كتنبيه مستقلّ يذكر فيه هذا الشرط الجديد مع هذا الإشكال عليه.

وما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) هو أنّه لو علمنا مثلاً بنجاسة إناءين، ثمّ علمنا إجمالاً بطهارة أحدهما، فحصول هذا العلم الإجمالي يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن يفترض أنّنا علمنا تفصيلاً بطهارة أحدهما المعيّن بنزول المطر عليه مثلاً، ثمّ اختلط بالآخر واشتبه به، فتكوّن العلم الإجمالي.

2 ـ أن يفترض أنّنا علمنا تفصيلاً بطهارة إناء زيد من هذين الإناءين بنزول المطر عليه مثلاً، لكنّنا لا نعرف أنّ أيّهما هو إناء زيد.

3 ـ أن يفترض أنّه علمنا رأساً بطهارة أحدهما غير المعيّن من دون أن يوجد علم تفصيلي متعلّق بعنوان لا يعلم أنّه ينطبق على أيّ واحد منهما، ومن دون أن يوجد علم تفصيلي بأحدهما المعيّن، ثمّ يقع الاشتباه.

أمّا في الفرض الثالث فلا يوجد هنا انفصال بين زمان اليقين وزمان الشكّ، فإنّنا كنّا نعلم مثلاً إلى أوّل الظهر بنجاسة الإناءين، ومن أوّل الظهر وقع الشكّ في كلّ واحد من الإناءين في أنّه هل طهر أو لا، وهذا الشكّ مسبّب عن العلم الإجمالي بطهارة أحدهما.

وأمّا في الفرض الأوّل فلا يمكن إجراء استصحاب نجاسة الإناء؛ لأنّه في كلّ واحد من الإناءين نحتمل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، فإلى أوّل الظهر مثلاً كان زمان اليقين وحين الظهر علمنا تفصيلاً بطهارة أحدهما، وبعد ذلك حصل الشكّ لأجل الاختلاط.

وأمّا الفرض الثاني فذكر (رحمه الله) أنّه من ناحية شبيه بالفرض الأوّل، ومن ناحية شبيه بالفرض الثالث، ثمّ ألحقه بالاستحسان بالفرض الأوّل، حيث قد توسّط بين اليقين والشكّ

497

العلم التفصيلي بطهارة إناء زيد، فلا يجري الاستصحاب.

أقول: يرد عليه:

أوّلاً: ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّه لا دليل على اشتراط شرط جديد في الاستصحاب، وهو اشتراط اتّصال زمان الشكّ تأريخيّاً بزمان اليقين.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا هذا الكلام فالفرض الثاني يجب إلحاقه بالفرض الثالث، لا بالفرض الأوّل، فإنّ مركب الاستصحاب إنّما هو موضوع الحكم الشرعي، وهو نجاسة أيّ واحد من الإناءين بعنوانه الأوّلي، ومركب العلم التفصيلي إنّما هو عنوان إناء زيد، وكونه إناء زيد ليس دخيلاً في الحكم أصلاً.

هذا تمام ما ينبغي أن نذكره في هذا المبحث من الناحية الاُصوليّة.

 

فرعان تمرينيّان:

والآن نتكلّم في فرعين تطبيقيّين لأجل التمرين:

الفرع الأوّل: إذا كان الماء قليلاً طاهراً ثمّ طرأت عليه الكرّيّة والملاقاة، ولم نعرف ما هو المقدّم وما هو المؤخّر، فهل يحكم بالطهارة مطلقاً، أو النجاسة مطلقاً، أو فيه تفصيل بلحاظ الصور، حيث إنّه قد يكونان مجهولي التأريخ، وقد تكون الكرّيّة فقط مجهولة التأريخ، وقد تكون الملاقاة فقط مجهولة التأريخ؟ فيه أقوال.

واستنباط الحكم في المقام يرتبط بثلاثة أبحاث.

1 ـ هل يجري الاستصحاب في نفسه في كلّ واحد من الطرفين، أو أحدهما، أو لا؟

2 ـ هل نفرّق بين مجهولي التأريخ ومجهول التأريخ مع معلومه، أو لا؟

3 ـ بعد فرض عدم جريان الاستصحاب الموضوعي هل تصل النوبة إلى أصالة الطهارة أو إلى الاحتياط بلحاظ القاعدة الميرزائيّة، وهي قاعدة أنّه إذا كان عندنا حكم إلزامي على موضوع واستثني منه أمر وجودي، فلا بدّ من الالتزام عند الشكّ بذلك الحكم الإلزامي ظاهراً.

فمثلاً لو اخترنا في البحث الأوّل عدم جريان الاستصحاب، وفي البحث الثاني عدم الفرق بين مجهولي التأريخ ومجهوله مع معلومه، فالاستصحاب لا يجري مطلقاً، فتصل النوبة إلى البحث الثالث، فإن اخترنا فيه أصالة الطاهرة كان ذلك أحد المدارك للحكم بالطهارة في تمام الصور، كما أنّه لو اخترنا القاعدة الميرزائيّة لزم الاحتياط في تمام الصور.

498

ولو اخترنا في البحث الأوّل عدم جريان الاستصحاب، وفي البحث الثاني الفرق بين مجهولي التأريخ ومجهوله مع معلومه، فانّما لا يجري الاستصحاب في مجهولي التأريخ، ويجري في مجهوله في مقابل معلومه، فعندئذ لو كان أحدهما معلوم التأريخ أجرينا الاستصحاب في الآخر وثبتت النجاسة او الطهارة، ولو كان كلاهما مجهولي التأريخ رجعنا إلى أصالة الطهارة أو القاعدة الميرزائيّة.

وأمّا بيان المختار في كلّ واحد من هذه الأبحاث الثلاثة: ففي البحث الثالث الصحيح هو إجراء أصالة الطهارة دون القاعدة الميرزائيّة ؛ لما نقّحناه فيما مضى من بعض الأبحاث من عدم صحّة تلك القاعدة، وليس هنا محلّ البحث عنها ؛ لأنّنا نتكلّم فعلاً من الناحية التطبيقية فحسب.

وفي البحث الثاني عرفت أنّ الصحيح هو التفصيل بين مجهولي التأريخ ومجهوله مع معلومه، على تحقيق وتفصيل مضى.

وفي البحث الأوّل عرفت أنّ الصحيح هو جريان الاستصحاب المثبت لأحد جزئي الموضوع إلى زمان الجزء الآخر، وعدم جريان الاستصحاب النافي لأحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر؛ لكونه مثبتاً، ففي المقام يجري استصحاب عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة، ويثبت بذلك موضوع النجاسة إذا كانت دائرة احتمال حدوث الكريّة أوسع من دائرة احتمال حدوث الملاقاة، ولا يجري استصحاب عدم الملاقاة النافي للموضوع، لأنّه مثبت(1).

نعم، قد يقال فقهياً: إنّه كما أنّ الشارع حكم بالنجاسة على موضوع مركّب من عدم الكرّيّة والملاقاة كذلك حكم بالطهارة المطلقة (أي: حتّى بعد الملاقاة) على موضوع مركّب من الكرّيّة وعدم الملاقاة مع النجاسة قبل الكرّيّة، وذلك استظهاراً من قوله: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) فيقال: إنّ المحمول في هذه القضية هو الطهارة المطلقة (أي: حتّى بعد


(1) لا يخفى أنّ الملاقاة في كلّ زمان موضوع لحصول الانفعال في ذاك الزمان، فكما أنّ الموضوع يتعدّد بتعدّد الزمان كذلك المتعلّق هنا يتعدّد بتعدد الزمان، فإنّ الانفعال الحادث في كلّ زمان غير الانفعال الحادث في الزمان الآخر، فانفعال الزمان الأوّل ينفى بأصالة عدم الملاقاة وانفعال الزمان الثاني ينفى بالعلم بالكرّيّة، فالنتيجة الصحيحة في هذا الفرع هي أنْ يقال: إنّ الاستصحاب يجري في الأوسع دائرة منها، فإن كانت احتمالات الكرّيّة أوسع دائرة، أي: احتملنا تأخّر الكريّة عن زمان نقطع بحصول الملاقاة إلى ذاك الزمان، جرى استصحاب عدم الكرّيّة، وإن كان العكس بأن كانت احتمالات الملاقاة أوسع دائرة ؛ أي: احتملنا تأخّر الملاقاة عن آخر زمان نحتمل تأخّر الكرّيّة إليه جرى استصحاب عدم الملاقاة، وإن تساوت الدائرتان لم يجرِ شيء من الاستصحابين، ووصلت النوبة إلى أصالة الطهارة.

499

الملاقاة) والموضوع بالمقدار المذكور فيها هو الكرّيّة، لكنّنا نعلم من الخارج ثبوت جزء آخر له، وهو عدم الملاقاة والنجاسة قبل الكرية ؛ لأنّنا نعلم أنّ الماء النجس المتمّم كرّاً ليس معتصماً، وعليه فيجري ـ أيضاً ـ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة لإثبات الطهارة.

ويرد عليه: أنّه ليس المستفاد من لسان قوله: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) الحكم بالطهارة المطلقة، بمعنى أمر وجودي في مقابل النجاسة موضوعه مركّب من الكرّيّة وعدم الملاقاة قبل الكرّيّة، بل كلّما يستفاد منه هو نفي النجاسة بانتفاء موضوعها الذي كان مركّباً من عدم الكرّيّة والملاقاة، فيقول: إذا كان الماء كرّاً لم ينجس لانتفاء موضوع النجاسة، إذن فلا يجري استصحاب عدم الملاقاة.

والحاصل: أنّنا لو كنّا قد اخترنا في الفقه أنّه توجد عندنا ثلاثة أحكام: الأوّل: الحكم بالنجاسة، وموضوعه مركّب من الملاقاة وعدم الكرية، والثاني: الحكم بالطهارة المقيّدة بعدم الملاقاة، وموضوعه الماء القليل، والثالث: الحكم بالطهارة المطلقة (أي: حتّى بعد الملاقاة) وموضوعه مركّب من الكرّيّة وعدم الملاقاة قبل الكرّيّة، فعندئذ يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة لإثبات الطهارة، لكنّنا لا نقبل هذا المبنى في الفقه، بل نقول: إنّه يوجد عندنا عامّ يدلّ على طهارة الماء، واستثني من هذا العام عنوان مركّب من غير الكرّ والملاقاة، وجعلت على هذا العنوان المركّب النجاسة، وعندئذ لا مجال لاستصحاب عدم الملاقاة ؛ لأنّه إن اُريد بذلك نفي موضوع النجاسة، فقد عرفت أنّه يرجع إلى نفي الجامع بنفي أحد فرديه بالاستصحاب منضمًّا إلى نفي الفرد الآخر بالوجدان، وهذا مثبت. وإن اُريد بذلك إثبات موضوع الحكم الثابت في العامّ، وهو الطهارة، قلنا: إنّ العامّ بعد التخصيص لم يتقيّد بعدم الملاقاة إلى حين الكرّيّة مثلاً، حتّى يقال: إنّنا نثبت هذا الجزء بالاستصحاب، وإنّما تقيّد بعدم مجموع الجزءين، أي: مجموع عدم الكرّيّة والملاقاة، فإنّ العام إذا خصّص بمخصّص يتقيّد بنقيض عنوان المخصّص. إذن، فلو اُريد إثبات حكم العام يجب أن يحرز عدم المجموع، وعدم المجموع في الزمان الثاني، وهو زمان الكرّيّة يكون بعدم أحد جزءيه بالوجدان ؛ إذ هو كرّ وجداناً، وفي الزمان الأوّل وهو زمان عدم الكرّيّة يكون بعدم أحد جزءيه، أي عدم الملاقاة بالاستصحاب، فأيضاً رجع إلى نفي الجامع بنفي أحد فرديه بالاستصحاب منضمًّا إلى نفي الفرد الآخر بالوجدان، وهذا مثبت ؛ فإنّه لا فرق في مثبتية ذلك بين أن يكون ما يترتّب على نفي الجامع هو نفي حكم أو إثبات حكم، وإنّما الذي لا يكون مثبتاً هو إثبات الموضوع المركّب بإثبات أحد جزءيه وجداناً والجزء الآخر بالاستصحاب.

500

الفرع الثاني: أن يكون الماء مسبوقاً بالكرّيّة، ثمّ عرضت عليه القلّة والملاقاة، ولا نعلم السابق من اللاحق.

فقد يقال: إنّه لو كانا مجهولي التأريخ جرى استصحاب الكرّيّة واستصحاب عدم الملاقاة، وتعارضا (أو لا يجري شيء منهما إذا كانا متساويين في سعة الدائرة مثلاً كما اخترنا).

ولو كان أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلوم التأريخ (ولو بالمعنى الأعمّ الذي اخترناه، أي كان أحدهما أوسع دائرة والآخر أضيق، على ما مضى شرحه) جرى الاستصحاب في مجهول التأريخ.

والصحيح: أنّ شيئاً من الاستصحابين غير جار:

أمّا استصحاب عدم الملاقاة فلأنّه لا أثر له؛ إذ لا يثبت بذلك أنّ الملاقاة وقعت في زمان القلّة، إلاّ بالملازمة العقليّة للعلم بوقوع ملاقاة على أيّ حال.

وأمّا استصحاب الكرّيّة فإن قصد به نفي موضوع النجاسة فقد مضى أنّ الاستصحاب النافي في مثل المقام يكون مبتلىً بإشكال الإثبات(1). وإن قصد به إثبات موضوع الطهارة المطلقة فقد مضى أنّنا لا نقبل كون الكرّ موضوعاً للحكم بالطهارة المطلقة.

هذا تمام الكلام في الفرعين التمرينيّين.

ثمّ إنّنا حتى الآن كنّا نتكلّم في الاستصحاب بلحاظ حادثين: أحدهما جزء الموضوع والآخر عدم جزء الموضوع.

 

الاستصحاب في حالات توارد الحالتين

وهناك بحث آخر وهو بحث توارد الحالتين، وهو فرض ما إذا كان كلّ من الحادثين تمام الموضوع للحكم، أو كان هو الحكم نفسه.


(1) مضى منّا عدم الابتلاء بإشكال الإثبات؛ لأنّ النجاسة الحادثة في كلّ زمان غير النجاسة الحادثة في الزمان الآخر، فليس الهدف نفي أحد فردي الموضوع بالاستصحاب والآخر بالوجدان استطراقاً إلى نفي الجامع الذي حكمه النجاسة، بل هناك نجاستان تنفى إحداهما بنفي موضوعها بالاستصحاب، والاُخرى بنفي موضوعها بالوجدان، فيقال: إنّ هذا الماء حينما كان كرّاً يقيناً لم يتنجّس بالقطع واليقين، وفي زمان الشكّ في الكرّيّة لم يتنجّس أيضاً؛ لأنّه مستصحب الكرّيّة، وذلك فيما إذا كانت الملاقاة معلومة التأريخ مثلاً، وكان الشكّ في زمان سقوط الماء عن الكرّيّة.

501

فلو كان شيء مّا مثلاً في وقت مباحاً وفي وقت حراماً، ولا ندري ما هو المتأخّر منهما، أو كان شيء في وقت طاهراً وفي وقت نجساً وكلّ من الطهارة والنجاسة تمام الموضوع لجواز الصلاة فيه وعدمه مثلاً، فهل يجري الاستصحاب في كلّ واحد منهما، أو في أحدهما، أو لا؟

والكلام في ذلك يقع في مقامين:

الأوّل: في أنّ ما اخترناها من نكتة المنع عن استصحاب العدم في معلوم التأريخ، أو غير الأوسع دائرة في البحث السابق هل يجري هنا، أو لا؟

الثاني: في الموانع الاُخرى التي ذكرها الأصحاب في المقام.

 

البحث بلحاظ نكتة المنع المختارة في البحث السابق

أمّا المقام الأوّل، فالكلام فيه يقع في جهتين:

الاُولى: في معلوم التأريخ مع مجهوله.

والثانية: في مجهولي التأريخ:

أمّا الجهة الاُولى، وهي في معلوم التأريخ مع مجهوله.

فلو علمنا بأنّ هذا الشيء مثلاً كان طاهراً عند الفجر، وعلمنا بأنّه كان نجساً: إمّا قبل الفجر، أو بعده، فلا إشكال في جريان استصحاب معلوم التأريخ وهو الطهارة، وعدم ورود إشكال احتمال نقض اليقين باليقين؛ إذ لا يقين بزوال هذه الطهارة في ساعة مّا بعد الفجر. نعم، نعلم إجمالاً بنجاسة: إمّا قبل الفجر، أو بعده، لكنّ العلم الإجمالي لا يسري إلى الواقع، ولو سرى إلى الواقع لم يُنافِ الشكّ، فاستصحاب الطهارة يجري في نفسه بلا إشكال، بغضّ النظر عن الابتلاء بالمعارض.

وأمّا استصحاب مجهول التأريخ وهو النجاسة، فقد يقال: إنّه يرد عليه نفس إيرادنا على استصحاب عدم معلوم التأريخ في البحث السابق، فكما كنّا نقول هناك: إنّ استصحاب عدم الموت إلى زمان إسلام الابن لا يجري؛ لأنّه إن جعل عنوان زمان إسلام الابن مشيراً إلى واقع ذلك الزمان احتمل انتقاض اليقين باليقين، وإن اُخذ هذا العنوان بما هو فهو لا أثر له، ولو كان الأثر له لانسدّ باب الاستصحاب رأساً، كذلك نقول هنا: إنّ استصحاب النجاسة لا يجري، إلاّ إنّ الإشكال هناك كان بلحاظ آخر أزمنة الاستصحاب، وهنا يكون بلحاظ أوّل أزمنة الاستصحاب، وهو الزمان المتعقّب للنجاسة المتيقّنة، فإنّ هذا الزمان له عنوان إجمالي وهو ما قلناه من (الزمان المتعقّب للنجاسة المتيقّنة)، وله عنوان تفصيلي وهو وقت

502

الفجر، أو وقت الظهر، أو الساعة الفلانية مثلاً. فإن كانت النجاسة المعلومة واقعة في علم الله قبل الفجر كان الزمان المتعقّب لها وقت الفجر، وإن كانت واقعة بعد الفجر كان الزمان المتعقّب لها وقت الظهر مثلاً.

وعندئذ نقول: إنّه هل يراد استصحاب النجاسة المعلومة في الزمان المتعقّب لها وإلى زماننا هذا بهذا العنوان الإجمالي للزمان المتعقّب بما هو كذلك، أو يجعل هذا العنوان الإجمالي معرّفاً ومشيراً إلى العنوان التفصيلي وواقع ذاك الزمان؟ فان اُريد جعله معرّفاً ومشيراً الى العنوان التفصيلي فمن المحتمل انتقاض اليقين باليقين؛ إذ لو كان واقع ذاك الزمان هو وقت الفجر فنحن قد علمنا بطهارته في ذاك الزمان، وإن اُريد النظر إلى هذا العنوان الإجمالي بما هو قلنا: إنّ هذا العنوان ليس موضوعاً لأثر شرعيّ ؛ إذن فلا يجري الاستصحاب.

والجواب: أنّنا تارة ً نختار المشيرية، واُخرى نختار نفس العنوان الإجمالي بما هو، ونجيب عن الإشكال على كلا التقديرين.

أمّا على التقدير الأوّل وهو المشيرية، فنقول: إنّ الاستصحاب يجري، ولا يرد عليه إشكال احتمال انتقاض اليقين باليقين، فإنّه لا يكفي في انتقاض اليقين باليقين مجرّد تعلّق اليقين بنقيض المتيقّن السابق، وإنّما ينتقض اليقين باليقين إذا علمنا بتعلّق اليقين بنقيض المتيقن السابق، أو بتعبير آخر: إذا تعلّق اليقين الثاني بنفس العنوان الذي تعلّق به اليقين الأوّل، وإلاّ فاليقين لم ينتقض باليقين بالرغم من تناقض متعلقيهما، ألا ترى أنّ يقينين قد يجتمعان في آن واحد مع تناقض متعلقيهما باعتبار أنّ كلّ واحد منهما تعلّق بعنوان غير عنوان الآخر، فمثلاً يحصل له العلم بطهارة ثوبه حين الغروب، ويحصل له العلم بنجاسته حين نزول المطر، في حين أنّ واقع زمان نزول المطر كان نفس واقع زمان الغروب، لكنّه كان جاهلاً بذلك.

والحاصل: أنّ المتيّقن في المقام وهو النجاسة قد انتقض إذا كان قبل الفجر، ولم ينتقض إذا كان بعد الفجر، وهو لا يدري أنّه قبل الفجر أو بعده، إذن لا يدري أنّه انتقض أو لا، وهذا معناه أنّه لا يقين بالانتقاض، إذن فيقطع بعدم النقض باليقين، وهذا بخلاف الحال في البحث السابق ؛ إذ هناك كان انتقاض عدم الموت في الساعة الثالثة مثلاً يقينياً.

نعم، لو كان دليل الاستصحاب منحصراً في صحيحة عبدالله بن سنان التي لم يؤخذ في لسانها اليقين السابق، وإنّما اُخذ فيها نفس المتيّقن كان إجراء الاستصحاب مع لحاظ مشيرية العنوان ومعرّفيّته غير صحيح ؛ لاحتمال انتقاض المتيقّن، لكنّنا قد قبلنا كلتا

503

الروايتين، أعني صحيحة زرارة التي اُخذ فيها اليقين، وصحيحة عبدالله بن سنان التي اُخذ فيها ذات المتيقّن، فننتفع بمكاسب كلتيهما.

وأمّا على التقدير الثاني فإشكال عدم الأثر غير وارد ؛ لأنّ الاستصحاب إنّما يحتاج إلى الأثر بلحاظ نقطة الانتهاء لا بلحاظ نقطة الابتداء، ولذا يجري استصحاب حياة زيد عشر سنين إذا ترتّب وجوب التصدّق على حياته في الآن الأخير من هذا الزمان الطويل ولو لم يترتّب على شيء من الآنات السابقة. وفي البحث السابق لم نقبل الاستصحاب لأنّ إشكال عدم الأثر كان بلحاظ نقطة الانتهاء ؛ اذ كنّا نقول: إنّ استصحاب عدم الموت إلى زمان الإسلام لا يجري ؛ لأنّ هذا العنوان لا أثر له. وأمّا في المقام فالعنوان الذي لا أثر له إنّما هو عنوان الزمان المتعقّب للنجاسة المعلومة، لا زمان ينتهي إليه الاستصحاب ويثبته.

وأمّا الجهة الثانية، وهي ما لو كان كلاهما مجهولي التأريخ، فالأمر هنا أوضح ؛ فإنّ أيّ واحدة من الطهارة والنجاسة المعلومة بالإجمال لا أعلم بنقيضها في وقت متأخّر عنها. نعم، بناءً على تقريب المحقّق الخراساني (رحمه الله) في البحث السابق في مقام بيان احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين من أنّ المعلوم بالإجمال يحتمل كونه بعد المتيّقن السابق تكون هنا ـ أيضاً ـ شبهة الانفصال ثابتة للعلم الإجمالي بنجاسة هذا الشيء. إمّا قبل زمان طهارته أو بعده، وكذا العكس، فعلى تقدير أن تكون الطهارة في الساعة الاُولى والنجاسة المعلومة بالإجمال في الساعة الثانية لا يجري استصحاب الطهارة ؛ للانتقاض، وكذا العكس. لكن هذا الكلام لم يكن صحيحاً لوجوه ذكرنا فيما سبق اثنين منها:

1 ـ إنّ العلم الإجمالي يقف على الجامع، ولا يسري إلى الواقع.

2 ـ وعلى تقدير السريان لا يكون منافياً للشكّ، وموضع الاستصحاب هو الشكّ، وهو حاصل.

وهنا نضيف وجهاً ثالثاً وهو ما عرفته في الجهة الاُولى من أنّ مجرّد تعلّق العلم بنقيض المعلوم السابق لا يكفي في الانتقاض اليقيني، أي: اليقين بالانتقاض ما لم أعلم بأنّ هذا العلم قد تعلّق بنقيض المعلوم السابق.

 

البحث بلحاظ الموانع الاُخرى

وأمّا المقام الثاني، فقد ذكر المحقّق العراقي (رحمه الله) في المقام موانع اُخرى عن الاستصحاب(1).


(1) راجع المقالات: ج2، ص169 ـ 170، ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص214 ـ 218.

504

منها: أنّه كيف نجري في الساعة الثالثة استصحاب الطهارة مثلاً التي لا ندري أنّها في الساعة الاُولى أو الثانية، في حين أنّه إن اُريد استصحاب طهارة الساعة الاُولى فنحن نعلم بارتفاعها على تقدير حدوثها، وإن اُريد استصحاب طهارة الساعة الثانية فنحن نعلم ببقائها على تقديرها، فأيّ الطهارتين نستصحب؟!(1).

وهذا جوابه واضح وإن كان ظاهر نقل الناقل له عن المحقّق العراقي (رحمه الله) من دون نقل ردّ عنه أنّه (رحمه الله) يرتضيه؛ وذلك لوضوح أنّنا لا نستصحب طهارة الساعة الاُولى ولا طهارة الساعة الثانية، وإنّما نستصحب الجامع بينهما، والجامع مشكوك البقاء، وهذا هو الحال دائماً في استصحاب القسم الثاني من الكلّي المردّد فرده بين فرد قصير مقطوع الارتفاع وفرد طويل مقطوع البقاء، فمثلاً عند العلم الإجمالي بطروّ حدث إمّا هو الأكبر، وإمّا هو الأصغر لو توضّأ يجري استصحاب الحدث، في حين أنّه إن كان الحدث أصغر فقد ارتفع حتماً، وإن كان أكبر فهو باق حتماً.

نعم، لو أردنا أن نستصحب الطهارة المعلوم إجمالاً كونها في الساعة الاُولى أو الثانية مثلاً في نفس الساعة الثانية، ونحن نعلم ـ أيضاً ـ بالنجاسة في إحدى الساعتين، جاء الإشكال من ناحية عدم الشكّ في البقاء حتّى على تقدير استصحاب الكلّي، فإنّ الطهارة في الساعة الثانية: إمّا غير موجودة، أو موجودة بوجود حدوثي، وليست بقاءً لطهارة سابقة.

وقد ذكر هذا ـ أيضاً ـ المحقّق العراقي (رحمه الله)، وهذا موقوف على اشتراط عنوان الشكّ في البقاء في الاستصحاب، وعدم كفاية اليقين بالحدوث والشكّ في الوجود.

وعلى أيّ حال، فهذا الإشكال لا يؤثّر شيئاً في المقام؛ إذ يكفي أن يمضي آنٌ من الساعة


(1)هذا الوجه لا يناسب مقام الشيخ العراقي (رحمه الله)، وهو غير موجود في المقالات، ولكنّه موجود في نهاية الأفكار، وأظنّ أنّ الخطأ من المقرّر بقرينة أنّه يوجد في المقالات بدلاً عن هذا الوجه وجه آخر يقرب منه في التعبير، وهو أنّه لو علمنا إجمالاً بالطهارة في إحدى الساعتين الاُوليين وبالنجاسة في الاُخرى وأردنا استصحاب الطهارة مثلاً في الساعة الثالثة، لم يمكن ذلك؛ لأنّنا نقطع بعدم ارتفاع الطهارة في الساعة الثالثة؛ لأنّها إمّا مرتفعة في الساعة الثانية، أو لا زالت باقية، كما أنّه لو أردنا استصحاب الطهارة في الساعة الثانية لم يكن يمكن؛ لأنّنا نقطع بعدم البقاء؛ لأنّ الطهارة في الساعة الثانية إمّا مرتفعة، وإمّا حادثة، ويشترط في الاستصحاب احتمال البقاء واحتمال الارتفاع.

أقول: إنّ اشتراط احتمال الارتفاع بالمعنى الذي يقوله لا دليل عليه.

505

الثانية فنستصحب.

ومنها: أنّه يشترط في جريان الاستصحاب أنّنا حينما نصعد قهقرائيّاً في عمود الزمان نصل إلى نقطة نشير إليها ونقول هذا هو زمان اليقين، فنجرّ اليقين إلى ما بعد.

وفيما نحن فيه حينما نصعد في عمود الزمان قهقرائيّاً لا نصل إلى زمان من هذا القبيل؛ إذ كلّ زمان نشير إليه نرى أنّه محلّ الشكّ في الطهارة والنجاسة، فأيّ شيء نستصحبه؟!

والجواب: أنّ اشتراط الوصول قهقرائيّاً إلى زمان معيّن يكون هو زمان اليقين أوّل الكلام، ولا أعرف له وجهاً، ولم يذكر المحقّق العراقي (رحمه الله) وجهاً له حتّى اُناقشه. نعم، لا بدّ من الوصول إلى يقين (بناءً على اشتراط اليقين السابق) إمّا تفصيلي من حيث الزمان، أو إجمالي، فإذا كان تفصيليّاً فبالصعود قهقرائيّاً نصل إلى زمان بعينه نشير إليه ونقول: إنّه زمان اليقين، وإن كان إجماليّاً نجد يقيننا في الصعود القهقرائي في مجموع زمانين، لا في زمان واحد معيّن.

على أنّ هذا التقريب يرد عليه نقض تنبّه إليه المحقّق العراقي (رحمه الله) فذكره مع ردّه.

أمّا النقض فهو أنّه لو تمّ هذا الكلام لزم عدم جريان الاستصحاب في بعض موارد عدم العلم بتوارد الحالتين، وذلك كما لو علمنا إجمالاً بحدوث طهارة اليد: إمّا في الساعة الاُولى، أو في الساعة الثانية. وعلى تقدير طهارتها في الساعة الثانية فهي باقية، ولكن على تقدير طهارتها في الساعة الاُولى فهي محتملة الارتفاع في الساعة الثانية، لا مقطوعة الارتفاع حتّى يدخل في توارد الحالتين، فعندئذ لا يجري استصحاب الطهارة؛ إذ حينما نصعد في عمود الزمان إلى القهقراء لا نصل إلى نقطة نشير إليها ونقول بأنّ يدنا كانت في هذه النقطة طاهرة حتماً.

وأمّا الردّ فذكر (قدس سره): أنّنا نجري في مثل هذا الفرض استصحاب طهارة اليد على تقدير ثبوتها في الساعة الاُولى مبنيّاً على مبناه (قدس سره) من أنّ العلم بالقضيّة الشرطيّة يستلزم ثبوت العلم بالجزاء فعلاً، إلاّ أنّه علم منوط بالشرط، ففي ما نحن فيه باعتباره يعلم بأنّه على تقدير عدم حدوث طهارة يده في الساعة الثانية تكون يده طاهرة في الساعة الاُولى يكون في الحقيقة عالماً بطهارة يده في الساعة الاُولى علماً منوطاً بتقدير عدم حدوث الطهارة في الساعة الثانية، فنجري استصحاب طهارة اليد على هذا التقدير، فإن كان هذا التقدير في الواقع ثابتاً إذن فالاستصحاب مؤثّر وتامّ الفاعليّة، وإن لم يكن هذا التقدير ثابتاً إذن فنحن

506

عالمون(1) ببقاء الطهارة وعدم انتقاضها على تقدير حدوثها في الساعة الثانية، إذن فيعلم إجمالاً بأنّ يده الآن: إمّا طاهرة بالطهارة الاستصحابيّة، أو بالطهارة الواقعيّة.

وهذا الكلام لا يأتي فيما نحن فيه، فلا يمكن أن يقال فيما نحن فيه بأنّنا نستصحب الطهارة على تقدير ثبوتها في الساعة الاُولى ؛ إذ على هذا التقدير نقطع بانتقاضها في الساعة الثانية لفرض العلم الإجمالي بتوارد الحالتين.

هذا ما أفاده (رحمه الله) في المقام، وهو موقوف على مبناه من العلم المنوط الذي مضى فيما سبق مناقشته، وعرفنا أنّ المنوطيّة في العلم تساوق عدم وجوده بالفعل.

ومنها: أنّ الاستصحاب يُثبت ما هو من سنخ المستصحب من العنوان الإجمالي أو العنوان التفصيلي، وبما أنّ المستصحب في المقام هو الطهارة في زمان إجمالي، فالذي يثبت بالاستصحاب هو الطهارة بهذا العلم الإجمالي، فلا تترتّب عليه الآثار المترتّبة على الطهارة في واقع الزمان بالعنوان التفصيلي. نعم، إذا كان هناك أثر يترتّب على العنوان الإجمالي كما لو نذر التصدق على تقدير ثبوت الطهارة ولو بهذا العنوان الإجمالي، ترتّب ذلك الأثر.

ونذكر ممّا يرد على هذا التقريب إشكالاً واحداً وهو: أنّ هذا التقريب فيه خلط بين العنوان الثانوي وبين الجامع بين فردي الزمان، فإنّ الطهارة مثلاً تارةً نضيفها إلى واقع الزمان، لكنّه بقدر الجامع بين فردين من الزمان وبغضّ النظر عن خصوصيّة الفردين، وهذا تترتّب عليه كلّ الآثار المطلوبة في المقام، فإنّها آثار للطهارة في واقع الزمان. واُخرى نضيفها إلى عنوان ثانوي للزمان كعنوان وقت نزول المطر، وهذا هو الذي لا تترتّب عليه الآثار المطلوبة ؛ لكونها مترتّبة على الطهارة في واقع الزمان، وهذا خارج عمّا نحن فيه، مضافاً إلى وجوه اُخرى ترد على هذا الوجه(2).

 


(1)ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ هذا بناءً على ما فرضه (قدس سره) من انّ احتمال الانتقاض مختصّ بخصوص ما إذا كانت الطهارة في الساعة الاُولى حتّى يكون مورد النقض شبيهاً تماماً بما نحن فيه. وأمّا فرض أنّه على تقدير طهارة اليد في الساعة الاُولى يحتمل نجاستها من الساعة الثانية، وعلى تقدير حدوث الطهارة في الساعة الثانية يحتمل ـ أيضاً ـ حدوث النجاسة بعد ذلك. فعندئذ نجري استصحاباً منوطاً آخر بلحاظ الساعة الثانية، ونقطع إجمالاً بفاعليّة أحد الاستصحابين.

(2) من قبيل: أنّ كون المستصحب حدوثاً إجمالياً بلحاظ الزمان لا يستلزم كونه بقاءً كذلك. ومن قبيل: أنّ الحقّ كفاية الحدوث في الاستصحاب من دون ركنيّة اليقين ؛ وذلك لصحيحة عبدالله بن سنان، ففرض كون اليقين متعلقاً بالزمان الإجمالي لا يضرّ شيئاً.

507


إلاّ أنّ الموجود لدينا من كلام الشيخ العراقي (رحمه الله) يختلف عمّا هو منقول عنه هنا في المتن، مع فرق ـ ايضاً ـ بين ما في المقالات وما في نهاية الأفكار.

فما ورد في المقالات هو: أنّ الإشكال الأخير ذكر كتكملة لإشكال عدم احتمال الارتفاع في الساعة الثالثة، ولم يذكر كإشكال مستقلّ، فذكر: أنّ احتمال الارتفاع في الساعة الثالثة غير موجود ؛ لأنّ الطهارة مثلاً: إمّا قد ارتفعت في الساعة الثانية، أو لا زالت موجودة.

نعم لو لم يكن المقصود إثبات الطهارة بالاستصحاب للساعة الثالثة بالخصوص، بل إثباتها لساعة ما بعد الطهارة المتيقّنة ملحوظةً على إجمالها فاحتمال الارتفاع في تلك الساعة حينما تبقى على إجمالها موجود، ولكن استصحاباً كهذا لا يُثبت آثار طهارة هذه الساعة المشخّصة الحالية.

نعم، لو كان لدينا أثر لم نحتج في ترتيبه تطبيق الساعة الإجماليّة على ساعة تفصيليّة، فلا بأس بترتيب ذلك الأثر.

وهذا الكلام كما ترى لا ترد عليه الإشكالات التي شرحناها. نعم، يرد عليه الإشكال الذي مضى على أصل اشتراط احتمال حدوث الارتفاع في ساعة الاستصحاب.

وأمّا ما ورد في نهاية الأفكار فهو جَعْلُ الإشكال الأخير مكمِّلاً لإشكال عدم وجود زمان لليقين ننتهي إليه في صعودنا القهقرائي في عمود الزمان إلى الوراء، فذكر: أنّ الزمان الذي نريد أن نثبت فيه الطهارة مثلاً بالاستصحاب إن فرضناه زماناً تفصيلياً وهي الساعة الثالثة فمهما صعدنا منها إلى الوراء لا نصل إلى زمان اليقين بالطهارة، وإن فرضناه زماناً إجمالياً وهو زمان ما بعد الطهارة المتيقّنة، فهذا الزمان الإجمالي وإن كان فرضه هو فرض الاتّصال بزمان اليقين، لكن استصحاباً كهذا لا يُثبت آثار طهارة هذه الساعة المشخّصة الحالية.

نعم، لو كان لدينا أثر لم نحتج في ترتيبه تطبيق الساعة الإجماليّة على ساعة تفصيليّة، فلا بأس بترتيب ذلك الأثر.

وهذا الكلام ـ ايضاً ـ كما ترى لا ترد عليه تلك الإشكالات.

نعم يرد عليه الإشكال الذي مضى على أصل اشتراط الانتهاء إلى زمان اليقين لدى صعودنا القهقرائي إلى الوراء في عمود الزمان.

ثم أورد في نهاية الأفكار النقض على إشكال عدم وجود زمان اليقين في صعودنا القهقرائي بعد تكميله بما عرفت بأنّنا لو علمنا إجمالاً بطهارة إحدى الساعتين: الاولى أو الثانية مع العلم ببقائها على تقدير حدوثها في الساعة الثانية، واحتمال زوالها على تقدير حدوثها في الساعة الاُولى، فهنا لا نظنّ بأحد أن يشكّك في جريان الاستصحاب، مع أنّنا مهما نصعد من الساعة الثالثة إلى القهقراء لا نصل إلى زمان اليقين.

وأجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأوّل، ما حذفه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) (وكان حذفه طبيعياً حينما جُعِل إشكال إجماليّة زمان الطهارة إشكالاً مستقلاًّ، وفُهم بالمعنى الموجود في متن كتابنا هذا، ولكنْ لهذا الجواب مجال واسع بعد الالتفات إلى معنى إجماليّة زمان الطهارة بالشكل الذي نقلناه عن نهاية الأفكار) وهذا الجواب ما يلي:

508


إنّ في مورد النقض لا حاجة إلى جعل الزمان الذي نريد أن نثبت فيه الطهارة الاستصحابيّة عبارة عن الساعة الثالثة، كي يقال: إنّنا مهما صعدنا قهقرائيّاً من هذه الساعة إلى الوراء لا نصل إلى ساعة اليقين، بل نثبت الطهارة الاستصحابيّة لزمان ما بعد حدوث الطهارة المتيقّن على إجماله. وهذا الزمان حينما ينظر إليه بعين الإجمال يرى متّصلاً بزمان اليقين بالطهارة؛ لأنّ فرضه هو فرض ما بعد الطهارة المتيقّنة. وهذا الاستصحاب ينفعنا في المقام؛ لأنّنا نعلم إجمالاً عندئذ أنّ هذا الزمان الإجمالي: إمّا هو منطبق على الساعة الثانية، فهو في الساعة الثانية طاهر طهارة استصحابية، أو منطبق على الساعة الثالثة، فهو في الساعة الثانية طاهر طهارة واقعيّة، وبالتالي نعلم أنّه في الساعة الثانية طاهر يقيناً: إمّا طهارة واقعيّة، أو طهارة ظاهريّة، وتلك الطهارة ثابتة في الساعة الثالثة أيضاً.

والجواب الثاني: أنّنا في هذه الحالة باستطاعتنا أن نجري الاستصحاب التقديري، فنقول: على تقدير حدوث الطهارة في الساعة الاُولى فهي باقية بالاستصحاب إلى الساعة الثالثة، وهذا الاستصحاب التقديري يضمّ إلى علمنا بأنّه على تقدير حدوث الطهارة في الساعة الثانية فهي باقية واقعاً إلى الساعة الثالثة، فيحصل لنا العلم بالطهارة الفعليّة: إمّا واقعيّة، وإمّا استصحابيّة.

وهذا الاستصحاب التقديري يتمّ لو لم نشترط في الاستصحاب اليقين بالحدوث، واكتفينا بواقع الحدوث. أمّا لو اشترطنا فيه اليقين بالحدوث فعلاج المشكل هو التمسّك باليقين المنوط في المقام.

هذا حاصل ما يستفاد من كلام المحقّق العراقي (رحمه الله) في نهاية الأفكار.

509

 

 

 

الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص

 

التنبيه الثاني عشر: ما عقده الشيخ الأعظم(رحمه الله) وتبعه المتأخّرون عنه في ذلك، من أنّه إذا ورد عامّ له عموم أفرادي وعموم أزماني، وخرج منه بالتخصيص فرد في قطعة من الزمن، فبعد انتهاء تلك القطعة هل يرجع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص.

وسوف يظهر ـ إن شاء الله ـ بالتكلّم في تفسير ما أرادوه في المقام ومحتملات كلامهم أنّ هذا التنبيه كان الأحسن أن لا يعقدوه؛ إذ ليس فيه مطلب جديد.

وعلى أيّ حال، فذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله)(1): أنّه لو كانت قطعات الزمان قيوداً تعدّدت الأفراد للعامّ، فبعد خروج فرد نتمسّك في الفرد الآخر بالعامّ، ولا مورد للاستصحاب لتعدّد الموضوع. وأمّا لو أخذ الزمان بما هو أمر طولاني واحد مستمرّ، فلا مجال للتمسّك بالعامّ؛ إذ المفروض خروج الفرد منه، ولو عادَ له الحكم مرّة اُخرى كان حكماً ثانياً، والمفروض أنّ العامّ لم يدلّ إلاّ على حكم واحد، وهنا يجري الاستصحاب.

وعلّق على ذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله)(2) بأنّه ينبغي أن تلحظ المفرّدية وعدمها في جانب الخاصّ أيضاً، فإن كان الزمان مفرّداً وقيداً في العامّ والخاصّ معاً فلا مقتضي للاستصحاب، ويتمسّك بالعامّ، وإن لم يكن مفرِّداً في شيء منهما فلا مقتضي للتمسّك بالعموم، ويجري الاستصحاب، ولو كان مفرّداً للعامّ دون الخاصّ فالعموم في نفسه تامّ، واستصحاب حكم الخاصّ أيضاً في نفسه تامّ ؛ لعدم تعدّد الموضوع بلحاظ الخاصّ إلاّ أنّ العموم يحكم على الاستصحاب طبعاً، ولو كان بالعكس فلا مقتضي للتمسّك بالعموم؛ لأنّ الزمان لم يكن مفرّداً فيه، ولا استصحاب حكم الخاصّ؛ لأنّ الزمان كان مفرّداً فيه، فتعدّد الموضوع. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام بإضافة أمر آخر اُأجّله إلى ما يأتي.

ويقع الكلام هنا في أنّه ما هو المقصود لهم من أنّ الزمان إن كان مفرِّداً ومقيِّداً للعامّ صحّ


(1) راجع الرسائل: ص 395 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 342 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكيني.

510

التمسّك بالعامّ، وإلاّ فلا.

وهناك عدّة تفسيرات.

التفسير الأوّل: ما ذكره السيّد الاُستاذ(1) حيث فسّر ذلك بكون العامّ استغراقياً له امتثالات عديدة، وعصيانات عديدة، ويمكن أن يطاع بلحاظ وقت، ويعصى بلحاظ وقت آخر، فهذا ما يسمى بكون الزمان مفرِّداً ومقيّداً، وكونه مجموعيّاً له امتثال واحد وعصيان واحد، وإذا عصى في زمان لم يمكن الامتثال، وهذا ما يقال عنه: إنّ الزمان لم يكن مقيِّداً ومفرِّداً، فيصحّ التمسّك بالعامّ في الأوّل دون الثاني ؛ لأنّه على الأوّل يكون الحكم متعدّداً ؛ فإذا استثني أحدها بقي الباقي. وعلى الثاني يكون الحكم بالنسبة للكلّ فرداً واحداً، وإذا خرج لم يبقَ شيء تحت العامّ.

ومن هنا أورد السيّد الاُستاذ على هذا التفصيل بأنّنا قد اثبتنا في بحث حجيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص أنّه حجّة في الباقي، سواء كان استغراقياً أو مجموعياً؛ فإنّ نكتة الحجّيّة جارية في كلا الفرضين، وهي أنّ العامّ له دلالات تضمّنيّة بعدد ما تحت العام، وإذا سقط بعضها عن الحجّيّة لا وجه لرفع اليد عن البعض الآخر.

ولنا حول ما ذكره السيّد الاُستاذ في المقام ثلاث تعليقات:

1 ـ إنّه لو كان مراد الأصحاب ما ذكره من فرض التفصيل بين الاستغراقيّة والمجموعيّة لم يكن يناسب ذكرهم لهذا البحث في المقام، وإنّما المناسب ذكر ذلك في بحث العامّ والخاصّ، فإنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة لا تختصّ بالأفراد الطوليّة، بل تجري في الأفراد العرضيّة أيضاً، ونكتة التفصيل لو تمّت جرت في الأفراد العرضيّة، فيقال: إنّ العامّ حجّة في الباقي بعد التخصيص لو كان استغراقياً، وليس حجّة فيه بعده لو كان مجموعياً، من دون أن توجد نكتة في عمود الزمان حتّى يكون البحث مناسباً للمقام.

2 ـ من البعيد أن يكون مرادهم ما ذكره من فرض التفصيل بين الاستغراقيّة والمجموعيّة، فإنّه لو كان المقصود ذلك لزم منه لازم واضح لا يلتزمونه، وهو عدم حجيّة العامّ في الفرد الذي اُخرج في قطعة من الزمان فيما قبل تلك القطعة، كما لا يكون حجّة في ما بعد تلك القطعة، فإنّ النكتة واحدة، وهي أنّ كلّ فرد بالنسبة لقطعات زمانه فرد واحد لا يتبعض.

3 ـ ما ذكره السيّد الاُستاذ من حجّيّة العامّ بعد التخصيص في الباقي سواء كان استغراقياً


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 216.

511

أو مجموعياً صحيح، لكنّه بنكتة اُخرى غير ما ذكره، بيّنّاها في بحث العامّ والخاصّ. وأمّا النكتة التي ذكرها من أنّ العامّ له دلالة تضمّنيّة، فإذا سقط بعضها عن الحجّيّة بقي الباقي، فلو كانت هي النكتة لحجيّة العام في الباقي لاتّجه التفصيل بين العموم المجموعي والاستغراقي، لأنّه لو كان عموم وجوب الإكرام مثلاً استغراقيّاً فهو يدل بالتضمّن على وجوب إكرام زيد، وعلى وجوب إكرام عمرو...، وهكذا، وإذا خرج زيد بقي الباقي. وأمّا لو كان مجموعيّاً فهو يدل على وجوب واحد لإكرام الكلّ على نحو الواجب الإرتباطيّ، فيدل أيضاً بالتضمّن على وجوب إكرام زيد، لكن لا مطلق إكرامه بل خصوص إكرامه المقيّد بكونه مع إكرام الآخرين كعمر ومثلاً، وكذا الحال في دلالته على وجوب إكرام عمرو فهو يدل على وجوب إكرامه المقيّد بكونه مع إكرام زيد وغيره، وهكذا فإذا اُخرج زيد مثلاً عن العموم ولم يكرم فإكرام عمرو لا يكون إكراماً ثابتاً مع إكرام زيد ولم تكن الدلالة التضمّنيّة تقتضي وجوب إكرامه مستقلاً، إذن فيسقط العام عن الحجيّة في الباقي.

التفسير الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(1) وهو التفصيل بين ما إذا كانت قطعات الزمان مأخوذة بنحو العموم أو كان الحكم ثابتاً على طبيعيّ الزمان بنحو الإطلاق.

توضيحه: إنّنا نفترض أن العامّ استغراقيّ في كلا الحالين فهو لبّاً ينحلّ الى عدّة أحكام، لكنّه في عالم لحاظ الحكم عند بيانه وفي مقام الإثبات يمكن أن يفترض أنّ المولى لاحظ كلّ قطعة من الزمان على نحو العموم، ويمكن أن يفترض أنّه لاحظ ثبوت طبيعي الحكم على طبيعي الإكرام في طبيعي الزمان بنحو الإطلاق، من دون لحاظ القطعات، فبحسب عالم اللحاظ والإثبات لا يدلّ إلاّ على حكم واحد، ففي الفرض الأوّل يتمسّك بالعامّ بعد انتهاء أمد التخصيص، وفي الفرض الثاني لا يتمسك به ؛ لأنّ قطعة زمان التخصيص تصبح فاصلة بين ما قبلها وما بعدها من الحكم، ونحن نعلم أنّ تخلّل العدم يساوق التعدّد، وقد افترضنا أنّ العامّ لا يدل إلاّ على حكم واحد.

وعلى هذا التفسير يتّضح ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام من التفصيل بين ما لو كان الإخراج من المبدأ، أو المنتهى، أو من الوسط، فعلى الأوّل والثاني يتمسّك بالعامّ في الباقي دون الثالث، فهذا واضح بناءً على هذا التفسير، فإنّ تخلل العدم إنّما يكون إذا كان الإخراج من الوسط، كما أنّه بناءً على هذا التفسير لا يرد ما قلناه في التفسير الأوّل من أنّه لم


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5 ص 218 ـ 219 حسب طبعة آل البيت.

512

يكن يناسب البحث عنه هنا لعدم ارتباطه بقصّة الزمان، والعموم بلحاظ الأفراد الطوليّة، بل يجري حتّى في الأفراد العرضيّة، فإنّه على هذا التفسير يتّضح الفرق بين الأفراد العرضيّة والطولية، وهو أنّه لو أُخرج فرد عرضي من الأفراد لم يلزم من ذلك تخلّل العدم بين فردين من الحكم، وهذا بخلاف ما لو اُخرجت قطعة من الزمان.

نعم، قد يتصوّر أنّه يرد عليه ما مضى من أنّه لا توجد أيّ نكتة للتفصيل بين القطعة السابقة من الزمان على القطعة المستثناة والقطعة اللاحقة لتلك القطعة المستثناة، إلاّ أنّ الصحيح: أنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير وارد هنا، فإنّه يمكن ترجيح القطعة السابقة بالفهم العرفي، فإنّه لو دار الأمر بين القطعة السابقة والقطعة اللاحقة فلا إشكال في تقدّم القطعة السابقة، وانصراف العامّ إلى القطعة الزمنيّة المتّصلة به دون القطعة المنفصلة، وهذا بخلاف الحال في التقريب السابق، فإنّه في ذاك التقريب لم يكن مبرّرٌ لدخول جزء الزمان مستقلاًّ في العامّ. وأمّا هنا فدخول جزء الزمان فيه معقول؛ لعدم تخلّل العدم، فلا تبقى إلاّ مسألة أنّه ما هو المرجّح للجزء السابق؟ فنجيب عنها بما عرفت من الترجيح العرفي.

وعلى أيّ حال، فلو اُريد هذا المعنى فهو خلط بين الوجود الخارجي والوجود اللحاظي، فإنّ غاية ما فرض أنّ الحكم كان له لحاظ واحد بالنسبة لكلّ فرد حينما ينسب إلى الأزمنة، وهذا العدم المتخلّل بين الفردين ليس عدماً بلحاظ عالم اللحاظ، وإنّما يتخلّل مثلاً بين الوجودين الخارجيين للحكم. وأمّا في عالم اللحاظ فبالإمكان لحاظ الكلّ ما عدا ما خرج بدليل المخصّص بلحاظ واحد، ولذا ترى أنّه لو كان المستثنى مثلاً يوم الجمعة فبإمكان المولى أن يقول: (يجب إكرام زيد في غير يوم الجمعة) فهذا عنوان واحد يشمل ما قبل التخصيص وما بعده، يلحظه المولى بلحاظ واحد(1).

التفسير الثالث: موقوف على مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ في تصوير الإطلاق وجهين: أحدهما أن يقال: إنّه عبارة عن رفض القيود، والآخر أن يقال: إنّه عبارة عن الجمع بين القيود، فإذا قال مثلاً: (أكرم العالم) فعلى الأوّل يكون الموضوع هو طبيعي العالم مع رفض قيد الطول والقصر مثلاً، فيسري الحكم إلى الطويل والقصير. وعلى الثاني إنّما يسري الحكم إلى الطويل والقصير؛ لأنّه اُخذ كلّ منهما


(1) لا يخفى أنّ الشيخ الإصفهاني (رحمه الله) ملتفت إلى هذا الإشكال، وقد أورده في كتابه. راجع نفس المصدر: ص220.