115

ومشكوك، ولا يدخل ـ أيضاً ـ فرض عدم الإتيان بالرابعة في المتيقّن، بأن يبني على أنّه لم ياتِ بها، فيأتي بها متّصلة، فيكون عمله ـ أيضاً ـ مركّباً من متيقّن ومشكوك، وإنّما يجب أن يعمل عملاً يتيقّن بالصحّة على كلّ تقدير، أو يقصد بذلك أنّه لا يدخل الركعة الرابعة المشكوكة في الركعات المتيقّنة، بأن يأتي بها متّصلة.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ خلاف الظاهر؛ لوجهين:

الأوّل ـ تأويل اليقين والشكّ إلى متعلّقهما، أي: المتيقّن والمشكوك.

والثاني ـ أنّ هذا التأويل لا يأتي في كلّ الفقرات كقوله: «ولكن ينقض الشكّ باليقين»، فيلزم التفكيك في المقصود من اليقين والشكّ بين الفقرات.

وقد تحصّل من كلّ هذا: أنّ مقتضى الطبع الأوّلي هو ظهور الرواية في المعنى الأوّل، وهو الاستصحاب.

 

موانع الأخذ بظهور الرواية في الاستصحاب:

وأمّا المقام الثاني: فقد ذكرت في المقام محاذير للأخذ بما استظهرناه من الحديث في المقام الأوّل من الاستصحاب:

المحذور الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)(1)، وهو أنّه إن اُريد بقوله: «قام وأضاف إليها ركعة اُخرى» الركعة المفصولة، كان ذلك خلاف الاستصحاب، فإنّ الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة، فيتعيّن حمل الحديث على معنىً آخر غير الاستصحاب. وإن اُريد بذلك الركعة الموصولة، كان خلاف الضرورة من المذهب الشيعي المقطوع به فقهياً، فيتعيّن حمل الحديث على التقيّة.

واُجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره)(2) (وذكره غيره أيضاً) من: أنّ هذه الرواية يمكن أن تحمل على التقيّة في التطبيق دون الكبرى؛ لأنّ التقيّة على خلاف الأصل، فنقتصر فيها على قدر الضرورة. والتفكيك بين الكبرى والتطبيق متعارف في الروايات، كما ورد في


(1) راجع الرسائل: ص 331 حسب طبعة رحمة الله.

(2) راجع المقالات: ج 2، ص 352 بحسب طبعة آل البيت، وراجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 56 ـ 58.

116

مسألة الحلف بالطلاق والعتاق مكرها من النفي بحديث الرفع(1)، مع أنّ هذا الحلف باطل عندنا من أصله؛ لا أنّه يرفع بحديث الرفع، وإنّما يكون صحيحاً في نفسه عند العامّة، فيحتاج إلى الرفع بحديث الرفع، كقول الصادق(عليه السلام) للخليفة العباسي: «ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا»(2).

أقول: ويؤيّد الحمل على التقيّة أنّه بناءً على هذا يمكن حمل ما في كلام الإمام(عليه السلام)من التكرار والتمطيط بنحو غير متعارف على أنّه أراد أن يلمّح إلى واقع المطلب، وهو لزوم الانفصال، فقال: «ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر» (أي: أنّ الركعة الرابعة يجب أن يفصلها ولا يخلطها بباقي الركعات) برجاء التفات مثل زرارة إلى المقصود، وبهذا يمكن أن يجاب عن الوسوسة الماضية في حمل الحديث على الاستصحاب، بأن يقال: إنّ هذا النحو من الكلام ناشئ من طبيعة الموقف في نفسه؛ إذ مطّط الكلام ومدّده بهذا الشكل ليفي بكلا الأمرين: الاتّقاء، والإشارة إلى الواقع.

ثم ذكر المحقّق العراقي(قدس سره) إشكالاً على جوابه الذي بيّنه، وهو: أنّه كما يمكن إجراء أصالة الجهة في الكبرى وفرض التطبيق صورياً، كذلك يمكن العكس، بأن تفرض الكبرى صورية، ويقال: إنّ انطباق هذه الكبرى الصوريّة على المقام حقيقي، فيقع التعارض بين أصالة الجهة في الكبرى وأصالة الجهة في التطبيق.

وأجاب عن ذلك بأنّ أصالة الجهة في التطبيق متيقّنة السقوط؛ إذ ليس لها أثر على تقدير صوريّة الكبرى.

ولا يرد عليه(قدس سره): أنّ المتعارضين متّصلان، فيحصل الإجمال؛ لأنّ المتعارضين يكونان بحكم المنفصلين؛ لأن التعارض جاء من علم خارجي.

وقد تحصّلت للمحقّق العراقي(قدس سره) كلمات ثلاث:

1 ـ دفع المحذور بالحمل على التقيّة في التطبيق.

2 ـ الإشكال على هذا الدفع بإيقاع التعارض بين أصالتي الجهة.

3 ـ الجواب عن هذا الإشكال بأنّ أصالة الجهة في التطبيق لا أثر لها.

ولنا معه في كلّ من هذه الكلمات الثلاث كلام:


(1) الوسائل: ج 11، ب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

(2) الوسائل: ج 10، ب 57 ممّا يمسك عنه الصائم، ح 5، ص 132، بحسب طبعة آل البيت.

117

أمّا كلامه الأوّل، فيرد عليه: أنّ الحمل على التقيّة بعيد جدّاً؛ لوجود قرائن عديدة على خلافه:

القرينة الاُولى: أنّ قوله: «قام فأضاف إليها ركعة اُخرى» ظاهر في الانفصال الذي هو خلاف التقيّة. وصحيح أنّه لم يذكر الانفصال، وصحيح أنّ الانفصال مؤونة زائدة ومع عدم القرينة تنفى بالإطلاق، لكنّ القرينة موجودة، وهي بداية الحديث الواردة في الشكّ بين الاثنتين والأربع الظاهرة في ركعتي الاحتياط المفصولتين، فسكوته عن بيان الانفصال في الفرض الثاني يعدُّ تعويلاً على ما سبق. والوجه في ما ادّعيناه من ظهور بداية الحديث في الانفصال أمران:

الأوّل: ذكر كلمة (فاتحة الكتاب) فإنّها تدلّ على إرادة الانفصال بضمّ ارتكازين أحدهما إلى الآخر: الأوّل: ارتكاز أنّه لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، وأنّ كلّ صلاة مستقلّة تحتاج إلى فاتحة الكتاب. والثاني: ارتكاز كفاية التسبيحة في الأخيرتين، حتّى إنّه لم تعرف فتوىً عن فقيه شيعي بعينه بتعيّن الفاتحة، وقد روى زرارة نفسه روايات كثيرة(1) في ورود التسبيحة في الأخيرتين، أفتى جماعة من العلماء على أساسها بتعيّن التسبيحة، وأفتى الأكثرون بأفضليّتها. وعليه فتكون فاتحة الكتاب من الخواصّ واللوازم الظاهرة لفرض الركعتين مستقلتين ومفصولتين، فيكون الكلام ظاهراً في الملزوم بذكر اللازم الظاهر له.

إن قلت: نحمل الكلام على تقيّتين: (الاُولى) التقيّة في فرض الركعتين متّصلتين. (والثانية) التقيّة في فرض الفاتحة في الركعتين الأخيرتين؛ لأنّ مذهب العامّة هو وجوب الفاتحة فيهما، وإنما اختلفوا في كفاية الفاتحة أو الاحتياج إلى ضمّ السورة مثلاً.

قلت: أوّلاً: لم تكن حاجة إلى التقيّة الثانية؛ إذ لم يسأل الراوي عن حكم الفاتحة حتّى يجيب الإمام(عليه السلام) بلزوم الفاتحة، وإنّما هذا كلام ابتدائي من قبله(عليه السلام)، فأيّ داع إلى التبرّع بذكر حكم مع الابتلاء ببيان خلاف الواقع تقيّة؟!

وثانياً: أنّ هذا لا يدفع ظهور مثل هذا الكلام عند الشيعة في إرادة الركعتين المفصولتين؛ فإنّ الشيعي المرتكز في ذهنه كون الفاتحة من خواصّ فرض الاستقلال ينسبق ـ لا محالة ـ إلى ذهنه من هذا الكلام الاستقلال والانفصال.

نعم، قد يصلح هذا نكتة لاختيار تعبير من هذا القبيل بحيث يفهم الشيعي منه شيئاً


(1) في الوسائل: ج 6، ب 42 و 51 من القراءة في الصلاة، بحسب طبعة آل البيت.

118

ويفهم السنّي منه شيئاً آخر، فلا يكون مثيراً لمشاعرهم.

الثاني: ذكر خصوصيّات هاتين الركعتين من أجزاء وشرائط، حيث قال: «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهّد، ولا شيء عليه»، فلو كان المقصود الركعتين المتّصلتين لم تكن أيّ حاجة إلى ذكر أجزاء وشرائط لهما، أفهل كان شكّ في أنّ الركعتين الأخيرتين مشتملتان على ركوعين وأربع سجدات؟ أو في أنّهما ركعتان من قيام؟ أو في لزوم التشهّد بعدهما؟! فيظهر أنّ المقصود هو بيان صلاة مستقلّة، صار بصدد ذكر أجزائها وشرائطها، فقد يسأل سائل عن عدد سجدات هذه الصلاة، هل هي مثلاً من قبيل صلاة الآيات التي فيها ركوعان ولكن فيها عشرة سجودات؟ فذكر(عليه السلام): أنّ هذه الصلاة فيها ركوعان وأربع سجدات، وقد يسأل سائل: أنّ هذه الصلاة قيامية أو جلوسية؟ فذكر(عليه السلام): أنّها قيامية، وكذلك ذكر(عليه السلام) الحاجة إلى الحمد والتشهّد.

القرينة الثانية: أنّه من البعيد جدّاً ـ بحساب الاحتمالات ـ أنّ الإمام(عليه السلام) لم يكن بصدد التقيّة في أوّل الكلام، فذكر في الفرع الأوّل لزوم ركعتين منفصلتين، وصار بصدد التقيّة في آخره، خصوصاً مع قصر الكلام الذي لا يتجاوز سطرين، ولو فرض فارض دخول شخص في الأثناء يُتّقى منه قلنا: لماذا تبرّع الإمام(عليه السلام) بذكر الفرع الثاني حتّى يبيّنه على خلاف الواقع تقيّه، فإن السائل لم يسأل عن الفرع الثاني حتّى يبتلي الإمام(عليه السلام) بالتقيّة، ويضطرّ إلى بيان جواب على خلاف الواقع(1).

القرينة الثالثة: إصرار الإمام على هذا الحكم وبيانه بعبائر مختلفة حيث قال: «قام فأضاف إليها ركعة اُخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكن ينقض الشكّ باليقين، ويتمّ على اليقين، فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات»، فإنّه من المعلوم أنّ مثل هذا الحرص على البيان والتأكيد لا يكون غالباً إلاّ عند بيان الحكم الواقعي، وإذا كان المقصود بيان حكم على خلاف الواقع تقيّة فأيّ داع إلى هذا التكرار والتأكيد على خلاف الواقع؟! ولا يصحّ حمل


(1) لا بأس بهذا البيان، وكذا البيان اللاحق ما دمنا بصدد دفع تصحيح الاستدلال بالحديث على كبرى الاستصحاب بحمل تطبيقه على التقيّة دون كبراه. أمّا لو كنا بصدد دفع إسقاط الحديث نهائياً عن الحجّيّة لموافقته للعامّة، فقد يقال: إنّ مجرّد عدم وجود الداعي إلى ذكر الفرع الثاني لا يمنع إسقاط الحديث عن الحجّيّة بموافقته للعامّة بناءً على أنّ المستفاد من الأخبار العلاجية هو إسقاط ما وافق القوم الأعم من إحتمال التقية واحتمال الكذب، أي: أنّ موافقة القوم أمارة على مخالفته للواقع، وهي تنسجم مع التقيّة ومع الكذب.

119

ذلك على ما مضى من إرادة الجمع بين التقيّة وبيان الواقع، بأن يقصد بقوله: «لا يدخل الشكّ في اليقين» عدم إدخال الركعة الرابعة في بقيّة الركعات؛ فإنّه على هذا لا يبقى تقابل بين قوله: «لا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر» وقوله: «ولكن ينقض الشكّ باليقين».

وأمّا كلامه الثاني ـ بعد تسليم كلامه الأوّل وحمل الحديث على التقية ـ، فالصحيح عدم المعارضة بين أصالتي الجهة في المقام؛ لا لما ذكره(قدس سره) في كلامه الثالث من عدم ترتب أثر على أصالة الجهة في التطبيق، بل لأنّ الأمر في نفسه دائر بين الأقلّ والأكثر لا المتباينين.

توضيحة: أنّ الكبرى في المقام تنحل إلى أصل الكبرى وهو الاستصحاب، وإلى إطلاقها لباب الركعات، والثاني حتماً يكون غير جدّي؛ لأنّنا نعلم من المذهب بانفصال الركعة، والمفروض إلى ساعتنا هذه أنّ الاستصحاب إنّما ينتج الاتّصال، فهذا الإطلاق ليس جدّياً سواء كان ذات الكبرى جدّياً أو لا، فتجري أصالة الجهة في ذات الكبرى، ولا تعارضها أصالة الجهة في التطبيق، فإنّه إن كان المقصود بأصالة الجهة في التطبيق أصالة الجهة في الإطلاق، فعدم جدّيّة الإطلاق مقطوع به. وإن كان المقصود بها أصالة الجهة في الحكم المستنبط للواقعة، فهذا ـ أيضاً ـ غير جدّي حتماً؛ لأنّ الحكم المستنبط هو الركعة الموصولة حسب الفرض. وإن كان المقصود بها أصالة الجهة في بيان أنّ محل الكلام من المصاديق الحقيقية للكبرى بإطلاقها، فلا شكّ في ذلك، سواء فرض الكبرى أو إطلاقها جدّياً أو غير جدّي، فإنّه على أيّ حال ينطبق إطلاقها على المقام لا محالة، فأيّ معنىً لإيقاع المعارضة بين أصالة الجهة في ذلك وأصالة الجهة في الكبرى؟!

وأمّا كلامه الثالث، فلو سلّمنا أصلين متعارضين للجهة أحدهما في الكبرى والثاني في التطبيق، فلا معنى لأن يقال: إنّ الثاني ساقط حتماً؛ إذ لا أثر له إلاّ في طول أصالة الجهة في الكبرى، فإنّ مثل هذا الكلام إنّما يتمّ في الاُصول العملية، وأصالة الجهة من الاُصول الظهورية العقلائية التي تثبت لوازمها، فيكفي ثبوت الأثر على المدلول الالتزامي. وفي ما نحن فيه يكون المدلول الالتزامي لأصالة الجهة في التطبيق هو تكذيب أصالة الجهة في الكبرى، حيث إنّ المفروض أنّ الأصلين هما ظهوران متكاذبان، فكأنّ هذا الكلام منه(قدس سره)يكون من باب مقايسة الاُصول العقلائية بباب الاُصول العملية.

وعلى أيّ حال، فإشكال الشيخ الأعظم(قدس سره) بقي إلى الآن بلا جواب.

الوجه الثاني: للجواب عن إشكال الشيخ الأعظم(قدس سره) ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)، وهو

120

مع الوجه الثالث يختلفان أساساً عن الوجه الأوّل في أنّ الوجه الأوّل اختير فيه حمل الركعة المذكورة في الحديث على الموصولة، وحمل الحديث على التقية، واُجيب على محذور التقيّة. وأمّا في هذين الجوابين فيختار حمل الركعة على المفصولة، ويعالج محذور مخالفة ذلك للاستصحاب.

فقد أجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن الإشكال بأنّ مقتضى إطلاق الاستصحاب ترتّب أثرين في المقام: أحدهما: بقاء الأمر بإتيان ركعة رابعة، والثاني: بقاء لزوم كونها موصولة. ومانعيّة التشهّد والتسليم والتكبيرة والأثر الثاني انتفى هنا، ولم يترتّب إلاّ الأثر الآخر، ولا يلزم من ذلك شيء عدا تقييد إطلاق الاستصحاب، ولا محذور في ذلك(1).

أقول: إنّ عدم ترتّب الأثر الثاني في المقام يمكن فرضه بنحوين:

1 ـ ما ذكره هو(قدس سره) من تخصيص إطلاق الاستصحاب.

2 ـ إخراجه تخصّصاً، بأن يفرض أنّ الأثر الثاني انتفى واقعاً، أي: أنّ عدم إتيان الركعة الرابعة إنّما يكون له أثران عند العلم، فمن علم بأنّه لم يأتِ بها ترتّب على ذلك: أوّلاً: لزوم الإتيان بها، وثانياً: لزوم الوصل. وأمّا عند الشكّ فلا يكون له واقعاً إلاّ الأثر الأوّل، ولا يجب الوصل، ولا يكون التشهّد والتسليم والتكبير مانعاً واقعاً.

وكان على المحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يذكر النحو الثاني لا الأوّل؛ وذلك لبطلانه من وجهين:

الأوّل: أنّنا لو أرجعنا الأمر إلى تخصيص إطلاق الاستصحاب وإسقاطه عن الحجّيّة في أحد أثري الواقع مع ثبوت الواقع على حاله، لزم من ذلك عدم مطابقة ما أتى به من الصلاة للحكم الواقعي على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع، بمعنى: أنّه كان في علم الله لم يأتِ إلاّ بثلاث ركع؛ وذلك لأنّه لم يعمل بكلا أثري الواقع.

وقد تقول: لا بأس بذلك، فليكن ما أتى به حتّى على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع (أو قل: حتّى على تقدير أنّه لم يكن قد أتى إلاّ بثلاث ركع) عملاً بالحكم الظاهري لا الواقعي؛ لأنّ أحد أثري الواقع قد كان مرفوعاً عنه ظاهراً، وليكن الإجزاء الذي لا إشكال فيه فقهياً حتّى بعد انكشاف الواقع لديه من باب إجزاء الحكم الظاهري عن الواقع.

ولكننا نقول: إنّ هذا خلاف الضرورة الفقهية؛ إذ من الضرورة الفقهية أنّ وظيفته الواقعية على تقدير أنّه لم يأتِ إلاّ بثلاث ركع وهي وجوب الركعة الموصولة قد انقلبت،


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 295 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

120

مع الوجه الثالث يختلفان أساساً عن الوجه الأوّل في أنّ الوجه الأوّل اختير فيه حمل الركعة المذكورة في الحديث على الموصولة، وحمل الحديث على التقية، واُجيب على محذور التقيّة. وأمّا في هذين الجوابين فيختار حمل الركعة على المفصولة، ويعالج محذور مخالفة ذلك للاستصحاب.

فقد أجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن الإشكال بأنّ مقتضى إطلاق الاستصحاب ترتّب أثرين في المقام: أحدهما: بقاء الأمر بإتيان ركعة رابعة، والثاني: بقاء لزوم كونها موصولة. ومانعيّة التشهّد والتسليم والتكبيرة والأثر الثاني انتفى هنا، ولم يترتّب إلاّ الأثر الآخر، ولا يلزم من ذلك شيء عدا تقييد إطلاق الاستصحاب، ولا محذور في ذلك(1).

أقول: إنّ عدم ترتّب الأثر الثاني في المقام يمكن فرضه بنحوين:

1 ـ ما ذكره هو(قدس سره) من تخصيص إطلاق الاستصحاب.

2 ـ إخراجه تخصّصاً، بأن يفرض أنّ الأثر الثاني انتفى واقعاً، أي: أنّ عدم إتيان الركعة الرابعة إنّما يكون له أثران عند العلم، فمن علم بأنّه لم يأتِ بها ترتّب على ذلك: أوّلاً: لزوم الإتيان بها، وثانياً: لزوم الوصل. وأمّا عند الشكّ فلا يكون له واقعاً إلاّ الأثر الأوّل، ولا يجب الوصل، ولا يكون التشهّد والتسليم والتكبير مانعاً واقعاً.

وكان على المحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يذكر النحو الثاني لا الأوّل؛ وذلك لبطلانه من وجهين:

الأوّل: أنّنا لو أرجعنا الأمر إلى تخصيص إطلاق الاستصحاب وإسقاطه عن الحجّيّة في أحد أثري الواقع مع ثبوت الواقع على حاله، لزم من ذلك عدم مطابقة ما أتى به من الصلاة للحكم الواقعي على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع، بمعنى: أنّه كان في علم الله لم يأتِ إلاّ بثلاث ركع؛ وذلك لأنّه لم يعمل بكلا أثري الواقع.

وقد تقول: لا بأس بذلك، فليكن ما أتى به حتّى على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع (أو قل: حتّى على تقدير أنّه لم يكن قد أتى إلاّ بثلاث ركع) عملاً بالحكم الظاهري لا الواقعي؛ لأنّ أحد أثري الواقع قد كان مرفوعاً عنه ظاهراً، وليكن الإجزاء الذي لا إشكال فيه فقهياً حتّى بعد انكشاف الواقع لديه من باب إجزاء الحكم الظاهري عن الواقع.

ولكننا نقول: إنّ هذا خلاف الضرورة الفقهية؛ إذ من الضرورة الفقهية أنّ وظيفته الواقعية على تقدير أنّه لم يأتِ إلاّ بثلاث ركع وهي وجوب الركعة الموصولة قد انقلبت،


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 295 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

121

وكيف لا وقد وجبت عليه التكبيرة، فهل كان يحتمل أن تكون عليه بحسب الواقع تكبيرة حتّى ينجّز عليه هذا الحكم ظاهراً؟! طبعاً لا، فهذا لا يكون إلاّ بانقلاب الوظيفة واقعاً.

هذا، مضافاً إلى أنّ ظاهر الروايات ـ أيضاً ـ صحّة الصلاة بهذا الشكل صحّة واقعية لا ظاهرية، أو من باب الإجزاء.

الثاني: أنّ كون ركعة الاحتياط حكماً ظاهرياً غير معقول ثبوتاً؛ لحصول القطع بعدم مطلوبية ركعة الاحتياط؛ لأنّه إمّا قد صلّى بحسب الواقع أربع ركعات، أو صلّى ثلاثاً. فعلى الأوّل لا حاجة إلى ركعة الاحتياط. وعلى الثاني لا فائدة في ركعة الاحتياط المنفصلة؛ لأنّ الصلاة باطلة.

ولنفترض نحن أنّ عدم ترتّب الأثر الثاني في المقام من باب التخصّص بالنحو الذي بيّنّاه حتّى لا يرد هذان الإشكالان.

ويكون حاصل الجواب عن إشكال الشيخ ـ عند ئذ ـ أنّ الرواية محمولة على إرادة الركعة المفصولة، وأنّ المقصود بها الاستفادة من الاستصحاب لترتيب أحد الأثرين اللذين كانا من أوّل الأمر ثابتين للمستصحب، أعني: عدم الإتيان بالركعة الرابعة، وهو وجوب الإتيان بها. وأمّا الأثر الثاني وهو وجوب الوصل فقد رفع رفعاً واقعياً(1).

وقد أورد المحقّق الإصفهاني(قدس سره) على هذا الجواب بما حاصله بعد صوغه بتعبيراتنا: أنّه في المقام قد انتفى الأثر الأوّل أيضاً، وهو الأمر بالركعة الرابعة، وأصبح الأمر في المقام أمراً جديداً؛ وذلك لأنّ التشهّد والتسليم والتكبير ليست في المقام ساقطة عن المانعية فحسب، حتّى لا يضرّ ذلك ببقاء الأمر الأوّل، بل زائداً على ذلك أصبحت أجزاء، فلا يصحّ الإتيان بالركعة الموصولة، ومن المعلوم أنّ الأمر الاستقلالي يتبدّل أساساً بزيادة جزء أو نقصه، لا أنّه يزيد أو ينقض أمر ضمنيّ مع بقاء الأمر الاستقلالي على حاله(2).

أقول: إنّ سقوط المانعية إنّما لم يره كافياً في تبدّل الأمر الاستقلالي لأجل ما اختاره هو في محلّه من أنّ المانعية دائماً تكون بخطاب مستقلّ، وإنّما يتحقّق الارتباط بلحاظ عالم الملاك الذي هو فوق عالم الخطاب. وأمّا الجزئية فدائماً تكون بخطاب ضمنيّ في ضمن الخطاب


(1) وفرق هذا الوجه عن الوجه الآتي أنّه فرضت في هذا الوجه إرادة ترتيب أثر المستصحب الذي كان له في الزمان السابق، وفي الوجه الآتي فرضت ارادة أثر جديد للمستصحب لم يكن ثابتاً له حدوثاً، وإنّما ثبت له حين الاستصحاب.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 82 ـ 83 بحسب طبعة آل البيت.

122

الاستقلاليّ، فبزيادته ونقيصته يتبدّل أصل الخطاب الاستقلالي(1).

وأمّا على مختارنا من رجوع المانعية إلى شرطية العدم، ورجوع الشرطية إلى الجزئية من باب أنّ التقيّد جزء والقيد خارج، فلا يبقى فرق في هذه الجهة بين المانعيّة والجزئيّة، فيكفي لتسجيل إشكال المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في المقام على هذا الوجه الالتفات إلى سقوط التشهّد والتسليم والتكبير عن المانعية.

إلاّ أنّه يمكن دفع هذا الإشكال بإبداء فرضيّة في المقام لو لم يخالفها ظاهر الأدلّة في الفقه، وهي أنّه لعلّ الأمر الأوّل لم يكن متعلّقاً بالركعة بشرط لا عن التشهد والتسليم والتكبير، حتّى يلزم تغيّر الأمر، بل كان متعلّقاً بالجامع بين إتيان الركعة بشرط لا عن ذلك في فرض العلم وإتيان الركعة بشرط شيء بالنسبة لتلك الاُمور في فرض الشكّ، فإنّ الأمر باق على حاله، ومع احتمال ذلك نتمسّك بظاهر الرواية في المقام الدالّة على الاستصحاب.

إلاّ أنّه لا يخفى أنّ تغيّر الحكم في المقام ليس فقط بلحاظ صيرورة الركعة بشرط شيء بالنسبة لهذه الاُمور بعد أن كانت بشرط لا، بل هنا فرق آخر، وهو أنّ الركعة قبل الشكّ كان يتعيّن فيها كونها من قيام، وأمّا الآن فنحن مخيّرون ـ على ما ثبت في الفقه ـ بين إتيان ركعة من قيام وإتيان ركعتين من جلوس. وعليه، فلا بدّ من فرض تعلّق الأمر بجامع ينسجم مع كلّ هذه الاُمور، بأن يقال: إنّ الأمر تعلّق بالجامع بين ركعة بشرط لا بالنسبة للتشهّد و التسليم والتكبير، وبشرط القيام في فرض العلم، وركعة بشرط شيء بالنسبة للتشهّد والتسليم والتكبير، وبشرط الجامع بين القيام والجلوس مع ضمّ ركعة اُخرى، وأيضاً يجب أن يدخل في الحساب أنّ القراءة لم تكن متعيّنة، بل كان المكلّف مخيّراً بينها وبين التسبيح، والآن أصبحت متعيّنة، وبعد الالتفات إلى كلّ هذه الفوارق يكون من الواضح جدّاً أن يقال: إنّ بقاء الأثر السابق إنّما يصدق في المقام بالدقّة العقليّة دون النظر العرفيّ.

أضف إلى ذلك: أنّ الذي يُفهم عرفاً من الحكم ببقاء الأثر في المقام هو الحكم ببقاء الأثر المعلوم في نفسه ثبوته للمستصحب وقبل دليل الاستصحاب، لا الأثر الذي يستنبط ترتّبه على المستصحب من نفس دليل الاستصحاب.

الوجه الثالث: ما يتحصّل من كلام المحقّق النائيني(قدس سره)(2): وهو أنّ الاستصحاب في المقام


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 277 ـ 278.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 370. وفوائد الاُصول: ج 4، ص 363 ـ 364 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

123

ينتج وجوب الركعة المفصولة؛ وذلك لانقلاب الوظيفة بالشكّ، فمن لم يأتِ بالركعة الرابعة وهو شاكّ في ذلك وظيفته هي الإتيان بالركعة المفصولة، والجزء الثاني من الموضوع وهو الشكّ ثابت بالوجدان، والجزء الأوّل منه وهو عدم الاتيان بالركعة الرابعة ثابت بالاستصحاب، وعدم ثبوت هذا الأثر قبل الشكّ لا يضرّ بالاستصحاب، فإنّ اللازم في الاستصحاب هو كون المستصحب ذا أثر حين الاستصحاب ولو فرض قبله بلا أثر، أو ذا أثر آخر يخالف هذا الأثر أو يضادّه.

وهذا البيان يمكن إثارة شبهات حوله:

الاُولى: شبهة مبنيّة على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله): من أنّ الاستصحاب يقوم مقام العلم الموضوعي كما يقوم مقام العلم الطريقي، وهي: أنّ الاستصحاب في المقام وإن كان يثبت أحد جزئي الموضوع، وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة، لكنّه ينفي الجزء الآخر، وهو الشكّ، ويثبت العلم الذي هو بانضمامه إلى عدم الإتيان بالركعة الرابعة موضوع لوجوب الركعة الموصولة، فهو يهدم بمقدار ما يبني، فلا يفيد شيئاً.

وللمحقّق النائيني(رحمه الله) أن يجيب على هذه الشبهة: بأنّنا وإن قلنا بقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي بحكومته على الأدلّة الواقعية التي أخذ في موضوعها العلم أو الشكّ، لكن في خصوص المقام لا تتم الحكومة؛ إذ لو كان الاستصحاب حاكماً على دليل لزوم الإتيان بالركعة المفصولة عند الشكّ لم يبقَ لذلك الدليل مورد، وكلّما كان المحكوم أخصّ من الحاكم، ويلزم من حكومة الحاكم عليه لغويّته وعدم بقاء مورد له لا تثبت الحكومة، ويخصّص الحاكم بالمحكوم.

الثانية: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(1): من أنّ جعل الحكم بوجوب الركعة المفصولة على موضوع مركّب من عدم الإتيان بالركعة الرابعة والشكّ غير معقول؛ لأنّ هذا الحكم لا يقبل الوصول؛ لأنّه إن وصل بوصول موضوعه، أي: بالعلم بعدم الإتيان بالركعة الرابعة انتفى الشكّ، وإن لم يعلم بذلك لم يصل الحكم.

وهذا الكلام من المحقّق الاصفهاني(قدس سره) مبنيّ على مبناه في باب الحكم: من أنّه لا يعقل الحكم إلاّ إذا أمكنت محرّكيّته بالوصول الوجداني. وأمّا على ما هو الصحيح: من أنّه إنّما يشترط في الحكم كونه قابلاً للتنجز ولو بغير الوصول الوجداني، فإن لم يكن قابلاً لذلك لم


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 83 بحسب طبعة آل البيت.

124

يكن ممكناً: إمّا عقلاً أو عقلائيّاً، ولا يشترط فيه إمكان وصوله وجداناً، فهذا الإشكال لا موضوع له في المقام؛ لإمكان التنجّز في المقام بالاستصحاب أو بنفس الشكّ الذي هو شكّ في مرحلة الامتثال، وهذا الاختلاف بيننا وبين المحقّق الإصفهاني(قدس سره) في المبنى(1) يرتبط بأبحاث في تصوّر الحكم وحقيقته، ليس هنا محلّ شرحها.

الثالثة: مبنيّة على أصل موضوعيّ صحيح عندنا يأتي بعد هذا بيانه ـ إن شاء الله ـ، وهو: أنّ مفاد قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو أنّه اِجعَلْ الشكّ خَلَفاً لليقين في تحريكه نحو ما كان يحرّك اليقين إليه، ولا ترفع يدك عمّا كان يحرّكك اليقين إليه لو كان باقياً بمجرّد الشكّ. وعلى هذا نقول: إنّ هذا المعنى لدليل الاستصحاب لا ينطبق في مورد يكون الحكم مع الشكّ غيره مع اليقين كما في المقام، فاليقين لو كان، لكان يحرّكنا نحو الأمر بركعة موصولة، والشكّ هنا يحرّكنا نحو أمر آخر متعلّق بركعة منفصلة، بعد ما عرفت من أنّ هذا أمر اخر مغاير للأمر الأوّل ولو عرفاً.

وللمحقّق النائيني(قدس سره) أن يجيب على هذا الإشكال، بأنّ اليقين في المقام له جهتان:

الجهة الاُولى إثباته لجزء الموضوع لوجوب الركعة المفصولة، وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة، فيقتضي التحريك نحو الركعة المفصولة بمقدار ما يقتضيه ثبوت جزء الموضوع.

والجهة الثانية هدمه للجزء الثاني لذلك، وهو الشكّ، فيبطل بذلك ما اقتضاه في الجهة الاُولى، ويُبقيه بلا ثمرة.

والاستصحاب في المقام إنّما يقتضي خَلَفيّة الشكّ لليقين في الجهة الاُولى دون الثانية، فيثبت الاقتضاء الموجود في الجهة الاُولى من دون أن تهدمه الجهة الثانية، وبذلك يثبت الجزء الأوّل، ويضمّ ذلك إلى تحقّق الجزء الثاني وجداناً، وهو الشك، فيثبت المطلوب.

إلاّ أنّ الشأن في أنّه بعد هذا التفكيك هل تصدق عرفاً الخَلَفيّة بحيث يبقى الاستصحاب


(1) لم أرَ في كتاب الشيخ الإصفهاني في غير هذا الموضع ما يوحي إلى أنّ الحكم يجب أن يكون قابلاً للوصول الوجداني. ويوجد له في الجزء الثالث من نهاية الدراية في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ص 122 بحسب طبعة آل البيت، إن لم يكن موحياً إلى كفاية قابليّة الوصول بأيّ نحو من الأنحاد، فهو لا يوحي إلى الخلاف، حيث قال: (وقد عرفت أنّ الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي هو تمام ما بيد المولى لا يعقل أن يتّصف بصفة الدعوة إمكاناً، إلاّ بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول...).

وأنا أظنّ أنّ مقصود الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) في المقام هو: أنّ هذا الحكم غير قابل للوصول من باب أنّ أحد جزئيه وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة لو وصل وجداناً أو تعبّداً لانتفى الجزء الآخر، وهو الشكّ وجداناً أو تعبّداً، أي: أنّ هذه الشبهة ترجع في الحقيقة إلى الشبهة الاُولى.

125

في المقام داخلاً تحت إطلاق (لا تنقض اليقين بالشكّ، وتحرِّك نحو ما يتحركُ إليه مع فرض اليقين) أو لا؟ فإن سلّمنا بعرفيّة ذلك ارتفعت هذه الشبهة، وإلاّ فلا. والظاهر عندي عدم عرفيّة ذلك.

الرابعة: الإشكال الأخير الذي أوردناه على الوجه الثاني من أنّه يظهر من الحكم ببقاء الأثر في المقام الحكم ببقاء الأثر المعلوم أثريّته في نفسه، أي: بغضّ النظر عن دليل الاستصحاب، لا الأثر الذي يجب أن يستنبط من دليل الاستصحاب.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ إشكال الشيخ الأعظم(قدس سره) بقي بلا جواب.

المحذور الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو محذور على أحد شقّي الترديد الذين ذكرهما الشيخ الأعظم(رحمه الله)، وهو حمل الرواية على إرادة الركعة الموصولة، وهو أنّ الاستصحاب لا ينطبق على المورد حتّى لو أخذنا بقول العامّة، وفرضنا لزوم الركعة المتّصلة؛ وذلك لأصل موضوعي عند المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو أنّ المستظهر فقهيّاً من الروايات أنّ التشهّد والتسليم يجب أن يكون ظرفهما الركعة الرابعة، فلو صلّى شخص خمس ركعات، وجعل التشهّد والتسليم في الركعة الخامسة، لم يكن في صلاته عيب واحد وهو زيادة الركعة، بل فيها عيب آخر أيضاً، وهو عدم وقوع التشهّد والتسليم في محلّهما، وعند ئذ نقول: إنّ الاستصحاب في المقام وإن كان يثبت وجوب الإتيان بركعة اُخرى، لكنّه لا يثبت بذلك أنّ هذه الركعة التي يأتي بها هي ركعة رابعة، فإنّ ذلك تعويل على الأصل المثبت، فلا يثبت وقوع التشهّد والتسليم في محلّهما وهو الركعة الرابعة، فبالتالي لا تصحّ الصلاة بهذا الاستصحاب، فعدم مصحّحيّة الاستصحاب في باب عدد الركعات للصلاة يكون على القاعدة، بغضّ النظر عن الأخبار الدالّة على ذلك(1).

وأجاب السيد الاُستاذ على ذلك(2): بأنّنا نثبت شرط التشهّد والتسليم باستصحاب آخر، وهو استصحاب كون هذا الشخص في الركعة الرابعة، فإنّه بعد أن أجرى هذا الشخص استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة، فاشتغل على إثره بركعة جديدة يحصل له العلم إجمالاً بأنّه إمّا أن دخل الآن في الركعة الرابعة، أو دخل فيها حين دخوله في الركعة التي شكّ أنّها الرابعة أو الثالثة، فعلى الأوّل هو باق بعدُ بالرابعة، وعلى الثاني قد خرج عنها، فهو يعلم


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 60.

(2) أجاب السيد الخوئي تارة بمناقشة المبنى، وهو شرط كون التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة، واُخرى بما ورد في المتن بعد فرض تسليم المبنى. راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 61 ـ 62.

126

بالدخول في الرابعة ويشكّ في الخروج عنها، فيستصحب كونه في الرابعة، فيقع التشهّد والتسليم في محلّهما.

أقول: يرد على هذا: أوّلاً: أنّ المحقّق العراقى(رحمه الله) يدّعي أنّ التشهّد والتسليم يجب أن يقعا في الركعة الموصوفة بكونها رابعة، لا أنّه يجب أن يقعا عند اتّصاف الشخص بكونه في الرابعة، وهذا الاستصحاب إنّما أثبت اتّصاف الشخص بكونه في الرابعة، ولم يثبت اتّصاف الركعة بكونها رابعة إلاّ تعويلاً على الأصل المثبت.

وثانياً: أنّ هذا الشخص يعلم إجمالاً ـ أيضاً ـ بأنّه: إمّا لم يكن في الرابعة حينما كان في الركعة التي شكّ في أنها ثالثة أو رابعة، او لا يكون في الرابعة حينما دخل في الركعة الجديدة. فعلى الأوّل قد انتفى عدم كونه في الرابعة، وعلى الثاني لم ينتفِ، فيستصحب عدم كونه في الرابعة، ويعارض ذلك استصحاب كونه في الرابعة.

إن قلت: إنّ كونه في الرابعة له عدمان: عدم قبل الوجود، وعدم بعد الوجود. والأوّل مقطوع الارتفاع، والثاني مشكوك الحدوث، نظير من كان محدثاً ثم توضّأ ثم علم بحدوث حدث منه لا يدري أنّه حدث بعد الوضوء أو قبله، فهنا لا يجري استصحاب الحدث؛ لأنّه يعلم أنّ الحدث قبل الوضوء ارتفع، وبعده مشكوك الحدوث.

قلنا: هناك فرق بين ما نحن فيه وهذا المثال، ففي هذا المثال لا مجال للاستصحاب؛ لأنّنا نسأل: ما الذي يستصحبه؟ هل يستصحب حالته الحدثيّة المعلومة تفصيلاً قبل الوضوء، أو حالته الحدثيّة المشكوكة بعد الوضوء، أو حالته الحدثيّة المعلومة إجمالاً؟ أمّا الاُولى فمقطوعة الارتفاع. وأمّا الثانية فمشكوكة الحدوث. وأمّا الثالثة فالعلم الإجمالي منحلّ بتعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه وهو الحدث قبل الوضوء.

وأمّا في المقام فلم ندّعِ نحن العلم الإجمالي بعنوان العدم قبل الوجود، أو العدم بعد الوجود، وإنّما ادّعينا العلم الإجمالي بعدم الكون في الرابعة عند الركعة السابقة، أو عند الركعة الجديدة، وهذا العلم الإجمالي ليس منحلاًّ؛ لعدم تعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه، وإنّما تعلّق العلم بأنّ أحد طرفيه وهو الطرف الأوّل لو كان فقد زال، والعلم الإجمالي لا ينحلّ بهذا، وإنّما ينحلّ بتعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه، فيجري استصحاب المعلوم بالإجمال(1).

 


(1) وبكلمة اُخرى: أنّ ما نحن فيه شبيه بما لو علم إجمالاً بالطهارة في الساعة الرابعة والحدث في الساعة

127

ثمّ إنّ جريان أمثال هذه الاستصحابات في نفسها مرتبط ببحث يأتي ـ إن شاء الله ـ في مسألة لزوم اتّصال زمان اليقين بالشكّ. وضابط هذه الاستصحابات هو: أنّ الشكّ لم يحصل من ناحية نقطة الانتهاء، وإنّما حصل من ناحية نقطة الابتداء، فالمشكوك ليس على كلّ تقدير بقاء للمتيقّن، بل يكون نفس المتيقّن إذا كان المتيقّن حادثاً في الزمان الثاني.

ثم إنّ المحقّق العراقي بعد أن ذكر ما عرفته من إشكال مثبتيّة الاستصحاب اعترض على نفسه ـ على ما في تقرير بحثه ـ بأنّ عدم حجّيّة الأصل المثبت إنّما هو من باب قصور دليل الحجّيّة، فلو دلّ دليل في مورد على الحجّيّة في ذاك المورد التزمنا بها. وعليه فنقول: إن كان الاستصحاب في المقام مثبتاً فقد دلّت هذه الرواية على حجّيّة الاستصحاب المثبت في المقام(1).

ثمّ ذكر على ذلك جواباً(2) وعبارته مشوّشة، لا يتحصّل منها جواب فنّي، ولكي نعطي صورة لذلك الجواب نفترض فيه أصلاً موضوعياً، وهو أنّ حجّيّة الأصل المثبت إنّما تتعقّل بفرض تنزيل في المرتبة السابقة يكوّن أثراً شرعياً للمستصحب، ببيان: أنّه إذا اُريد استصحاب حياة زيد ليثبت الأثر الشرعي المترتّب على نبات لحيته الذي فرضناه لازماً عقلياً لبقاء حياته، فإنّما يمكن ذلك إذا فرض أنّ المولى في المرتبة السابقة أثبت تعبّداً وتنزيلاً نبات لحيته على تقدير بقاء حياته، وهذا النبات ليس أمر تكوينيّاً، وإنّما هو حكم شرعيّ؛ لأنّه نبات تعبّدي وتنزيليّ، وموضوعه بقاء الحياة لزيد، فأصبح بقاء الحياة ذا حكم شرعيّ، فيستصحب ليثبت ذلك الحكم، وهو نبات اللحية، وبالتالي يثبت أثر نبات اللحية.

إذا عرفت ذلك قلنا في المقام: إنّه إذا اُريد استصحاب عدم الكون في الركعة الرابعة ليثبت أثر كون الركعة الجديدة رابعة، فلا بدّ من فرض تنزيل وتعبّد في المرتبة السابقة، وهو التعبّد برابعيّة الركعة الجديدة، ومع التعبّد بذلك يرتفع الشكّ في الإتيان بالركعة الرابعة، ويتبدّل الى العلم بعدم الاتيان بها، إذ قد ثبت انّ الرابعة هي هذه الركعة الجديدة التي لم ياتِ بها بعد، فيرتفع موضوع استصحاب عدم الإتيان بالرابعة. وهذا بخلاف مثال نبات اللحية الذي لم


الخامسة، أو العكس، ومن الواضح تعارض الاستصحابين في ذلك، لا بما لو علم تفصيلاً بالطهارة في الساعة الرابعة وعلم إجمالاً بصدور الحدث في الساعة الخامسة أو صدوره حينما كان محدثاً، وقبل تطهّره في الساعة الرابعة.

(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 61.

(2) راجع نفس المصدر: ص 61 ـ 62.

128

يكن التعبّد بنبات اللحية فيه رافعاً للشكّ في الحياة.

أقول: يرد على هذا ـ بعد المناقشة في الأصل الموضوعي لما سوف يظهر (إن شاء الله) في بحث الأصل المثبت من أنّ إمكان حجّيّة الأصل المثبت لا تنحصر صورته في ما مضى ـ: أنّه(قدس سره) لم يتحفّظ على الأصل الموضوعي حرفياً عند التطبيق على المقام، فإنّ الأصل الموضوعي ليس هو التعبّد بنبات اللحية مثلاً بالفعل، وإلاّ لم تبقَ حاجة إلى استصحاب الحياة، وإنّما الأصل الموضوعي هو التعبّد بنبات اللحية على تقدير الحياة، فيثبت ذلك باستصحاب الحياة، وتطبيق ذلك على المقام يكون بأن يفرض التعبّد برابعيّة الركعة الجديدة على تقدير عدم الإتيان بها، لا برابعيّتها بالفعل، فلا بدّ من استصحاب عدم الإتيان، وليس مجرّد التعبّد والتنزيل الثاني رافعاً ومبطلاً لموضوع التعبّد والتنزيل الأوّل؛ لأنّه تعبّد تقديري.

المحذور الثالث: ما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره) أيضاً: من أنّ الشكّ إنّما تعلّق بعنوان الرابعة لا بذات الرابعة، فإنّ آخر ركعة جاء بها إن كانت هي الرابعة واقعاً، فهو يعلم بواقع الرابعة، وإلاّ فهو يعلم بواقع عدم الإتيان بالرابعة، وإنّما الشكّ تعلّق بعنوان الرابعة، والأثر إنّما هو مترتّب على واقع الركعات لا عناوينها، أي: أنّ الواجب إنّما هو الإتيان بواقع الركعة الرابعة لا تحصيل هذا العنوان(1).

أقول: إن تمّ ما ذكره من كون الحكم هنا للواقع لا للعنوان، كفانا في ردّه أن نستصحب عدم ذات من ذوات الركعات الأربع؛ إذ هو لا يتذكّر أربع ذوات، وإلاّ لما كان يشكّ في العنوان أيضاً، وإنّما يتذكّر ثلاث ذوات، فإحدى الذوات الأربع مشكوكة حتماً، فيستصحب عدم تلك الذات، فيجب عليه أن يعمل عملاً يحرز معه الإتيان بذوات الركعات الأربع، ويكون ذلك بإضافة ركعة اُخرى ولو لم يكن لنا جواب على كلام المحقّق العراقي غير هذا لكفى.

هذا. ويوجد هنا محذور رابع يشبه كلمات المحقّق العراقي(رحمه الله) في كونه في الواقع محذوراً في إجراء الاستصحاب بمقتضى القواعد، ولا يصلح إشكالاً على التطبيق الوارد في الرواية للاستصحاب على المقام؛ لأنّ تطبيق الرواية للاستصحاب على المقام يكون بنفسه دليلاً


(1) وقد شبّه(رحمه الله) ما نحن فيه باستصحاب الفرد المردّد. راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 59 ـ 60.

129

على حجّيّة الاستصحاب المثبت، أو استصحاب الفرد المردّد، او نحو ذلك في المقام، فلنحذف ذكر هذا المحذور هنا لنذكره بعد ذلك كإشكال على تطبيق الاستصحاب على المقام وفق القواعد، وبغض النظر عن هذه الرواية.

 

فائدة في مطلبين:

ونودّ أن نذكر هنا بالمناسبة مطلبين:

الأوّل: أنّه لولا الروايات الخاصّة في المقام هل يمكن تصحيح صلاة شكّ فيها بين الثلاث والأربع بمقتضى القواعد، أو لا؟

والثاني: أنّه بغضّ النظر عن رواية تدلّ على إجراء الإمام(عليه السلام) للاستصحاب في المقام، أو تمنع عنه، هل يجري استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة، أو لا؟

أمّا المطلب الأوّل: فيقع الكلام فيه في مرحلتين:

1 ـ في إمكان تصحيح الصلاة بمقتضى القواعد بغضّ النظر عن قاعدة الاستصحاب نهائياً، وعدمه.

2 ـ في إمكان تصحيح الصلاة بالنظر إلى قاعدة الاستصحاب.

أمّا المرحلة الاُولى، فقد يقال: إنّه يمكن تصحيح الصلاة بأن يقوم فيأتي بركعة جديدة بناءً على منع ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) من اشتراط كون التشهّد والتسليم في ظرف الركعة الرابعة، فلو وقعا في ركعة خامسة وقعا في غير محلّهما(نعم، لا إشكال في أنّه لو وقعا في ركعة ثالثة وقعا في غير محلّهما لاشتراط الترتيب)، وعند ئذ نقول: إنّ النقيصة مقطوعة العدم، وكون هذه الركعة زائدة مشكوك بالشبهة المصداقية، فتجري البراءة عن مانعيّة هذه الركعة، فياتي بها.

ويمكن الاستشكال في هذه البراءة بوجهين:

الأوّل: أنّنا نعلم إجمالاً بمانعيّة هذه الركعة أو جزئيّتها، فالبراءة عن مانعيّتها تعارض بالبراءة عن جزئيّتها. ولا يقال: إنّ هذا علم إجماليّ بالوجوب أو الحرمة، والأمر فيه دائر بين المحذورين، فلا ينجّز هذا العلم. فإنّه يقال: إنّه حيث أنّ الجزئيّة والمانعيّة من الأحكام الضمنيّة يكون بالإمكان موافقتهما القطعية بإعادة الصلاة؛ إذ يحصل بذلك الامتثال القطعي للأمر النفسي، وامتثال الأوامر الضمنيّة إنّما يكون بامتثال الأمر النفسي، كما أنّه يمكن مخالفتهما القطعية بترك الصلاة رأساً.

130

والجواب: أنّ البراءة عن المانعيّة لا تعارض هنا بالبراءة عن الجزئيّة، باعتبار أنّ الشكّ في الجزئيّة هنا يكون مورداً للشكّ في الامتثال، حيث إنّه يعلم بجزئيّة ركعات أربع، ويشكّ في أنّه هل امتثل ذلك أو لا، فالمورد مورد الاشتغال لا البراءة. وأمّا في جانب المانعيّة فهو يعلم تفصيلاً بمانعيّة ركعة اُخرى بعد هذه الركعة؛ لزيادتها حتماً، ويشكّ في مانعيّة هذه الركعة شكّاً بدويّاً، وهذه شبهة مصداقية للتكليف، فتجري البراءة فيه(1).

والثاني: أنّنا نعلم إجمالاً بمانعيّة هذه الركعة أو مانعية التشهّد والتسليم الآن، إذ لو كان قد أتى بركعات أربع فهذه الركعة زائدة ومبطلة للصلاة. ولو كان قد أتى بثلاث ركعات، فإن تشهّد وسلّم كان ذلك زيادة؛ لوقوعهما قبل الركعة الرابعة، وهو خلاف الترتيب، فيعلم إجمالاً بزيادة أحد الأمرين ومانعيّته، فيقع التعارض بين البراءتين.

وهذا الإشكال لا جواب عليه بناءً على مبنانا في تنجيز العلم الإجمالي وتعارض الاُصول الذي حقّقناه في محلّه. وأمّا بناءً على الميزان الذي أخذه المحقّق النائيني(رحمه الله) في تنجيز العلم الإجمالي من كون الاُصول موجبة للترخيص في المخالفة القطعيّة، فيمكن دفع هذا الإشكال؛ لأنّ الأصول في المقام لا تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة(2). فإنّه لو تشهّد وسلّم لم يكن


(1) قد تقول: كيف تجري البراءة عن المانعية هنا في نظر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مع أنّه مضى منه عدم جريان البراءة عن مانعيّة النجاسة لدى احتمال نجاسة الثوب بحجّة أنّ فعلية المانعية لا تتوقّف على فعلية المانع؟!

ويمكن الجواب عن ذلك ببيان: أنّه مضى منه(رحمه الله) أنّه إن بنينا على مانعية نجاسة الثوب فالبراءة لا تجري؛ لأنّ المانعية فعليّة حتّى مع عدم فعلية المانع. أمّا إن بنينا على أنّ الثوب النجس مانع بأن كانت النجاسة حيثية تعليلية لمانعية الثوب، فالشكّ في النجاسة يؤدّي إلى الشكّ في مانعية الثوب، فتجري البراءة. وفيما نحن فيه نستظهر من أدلّة مانعية الزيادة أنّ الركعة الزائدة مانعة، أي: أنّ الزيادة حيثيّة تعليليّة لمانعيّة الركعة، فالركعة حالها حال الثوب، والزيادة حالها حال النجاسة، ومع الشكّ في الزيادة نشكّ في مانعيّة الركعة، فتجري البراءة.

(2) لو بنينا على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ محذور جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم الترخيص في المخالفة القطعية، فهذا المحذور غير موجود في المقام كما هو مشروح في المتن. ولو بنينا على مبنى السيد الخوئي من أنّ المحذور في ذلك لزوم الترخيص القطعي في المخالفة، فهذا المحذور موجود في المقام بلا إشكال؛ لأنّ إحدى البراءتين ترخيص في المخالفة قطعاً، وذلك للقطع بمخالفة إحداهما للواقع. ولو بنينا على ما مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث شبهة التخيير التي ذكرها المحقّق العراقي(قدس سره) كنقض على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، من أنّ المحذور وإن كان في الترخيص في المخالفة القطعيّة لا في الترخيص القطعي في المخالفة، ولكن مع ذلك لا يمكن إجراء الأصلين على شكل التخيير؛ لأنّ التخيير في الترخيص الظاهري يعود إلى الترخيص في الجامع، وهو لا يستنبط من الجمع بين دليل الترخيصين التعيينيّين زائداً دليل عدم الترخيص في المخالفة القطعية، فهذا المحذور بعينه يأتي في ما نحن فيه؛ لأنّ المخالفة القطعية ممكنة في المقام، غاية الأمر أنّها تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة

131

ذلك مخالفة قطعيّة. ولو قام ولم يتشهّد لم يكن ذلك مخالفة قطعية. ولو تشهّد وقبل التسليم قام وجاء بالركعة الاُخرى، أو قام وقبل إنهاء الركعة الاُخرى تشهّد، كان ذلك مخالفة قطعية، لكن هذا مخالفة قطعيّة تفصيليّة باعتبار أنّه يتولّد من علمه الإجمالي هنا العلم التفصيلي بأنّه خالف الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة، والاُصول لا ترخّص في المخالفة التفصيلية.

وأمّا المرحلة الثانية، فبعد أن عرفت أنّه بحسب مبانينا لا يمكن تصحيح الصلاة بغضّ النظر عن الاستصحاب، فهل يمكن تصحيحها بالاستصحاب أو لا؟

التحقيق: أنّه إن قام فأضاف ركعة اُخرى كانت النقيصة مقطوعة العدم كما مضى، والزيادة يمكن دفع احتمالها بالاستصحاب، لا باستصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة الذي هو محطّ كلام الاصحاب؛ فإنّ هذا لا يثبت أنّ الركعة الجديدة ليست زيادة إلاّ بنحو الأصل المثبت، بل باستصحاب عدم الزيادة الذي يجري بعد العمل. نعم، إنّما يفيد استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة بعد فرض مقدّمتين:

(الاُولى): أن يقال: إنّ المبطل ليس عنوان الزيادة، بل منشأ انتزاعها وهو الركعة غير المأمور بها.

(والثانية): أن يقال: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يثبت الأمر بالركعة الجديدة، فيثبت بهاتين المقدّمتين أنّ الاستصحاب يرفع موضوع المبطلّية وهو الركعة غير المأمور بها.

إلاّ أنّ شيئاً من المقدّمتين غير صحيح: أمّا الاُولى فغير صحيحة فقهيّاً؛ لأنّ العنوان المأخوذ في لسان الأدلّة هو الزيادة، وذلك ظاهر في دخلها بعنوانها. وأمّا الثانية فغير صحيحة اُصولياً؛ لما سوف يظهر ـ إن شاء الله ـ في المطلب الثاني من أنّ هذا الاستصحاب لا يثبت الأمر.

وأمّا المطلب الثاني: وهو في بيان جريان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة وعدمه بغضّ النظر عن نصّ خاصّ يدلّ على جريانه أو عدمه، فهذا الاستصحاب لا نبحث


للعلم التفصيلي كما ذكر في المتن، فيجب استثناءها، ويؤول الترخيص بعد هذا الاستثناء إلى الترخيص في الجامع الذي لا يمكن استفادته من الجمع بين دليل الترخيصين التعيينيّين والمنع عن المخالفة القطعية المؤدّية إلى المخالفة التفصيلية.

132

جريانه بلحاظ تصحيحه للصلاة؛ لما عرفت في المطلب الأوّل من أنّ هذا الاستصحاب لا يصحّح الصلاة، وإنّما الذي يصحّحها هو استصحاب عدم الزيادة بالبيان الذي مضى، وإنّما نبحث جريانه لتأكيد قاعدة الاشتغال.

والكلام تارةً يقع في إجراء هذا الاستصحاب بداعي التحريك نحو الإتيان بركعة موصولة، واُخرى في إجرائه بداعي التحريك نحو الإتيان بركعة مفصولة.

أمّا إجراء الاستصحاب بداعي التحريك نحو الإتيان بركعة موصولة فنقول: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة في المقام هو في الحقيقة مصداق من مصاديق استصحاب عدم الامتثال، وهناك بعض النقاشات في كبرى استصحاب عدم الامتثال لدى الشكّ في الامتثال، من قبيل القول بأنّ ما يراد تحميله ظاهراً على المكلف باستصحاب عدم الامتثال من المحتمل تحقّق امتثاله ولو روحاً، وذلك بامتثال أصل الأمر الواقعي قبل جريان الاستصحاب، إذن فنحن شاكّون في امتثال هذا الاستصحاب، فلو تمسّكنا بأصالة الاشتغال فلنتمسّك بها ابتداءً بلا حاجة إلى توسيط الاستصحاب، وإلاّ فلا فائدة في هذا الاستصحاب.

فإن أنكرنا كبرى استصحاب عدم الامتثال بهذا البيان أو بأيّ بيان آخر، لم يبقَ مورد للبحث عن استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة في المقام. وتحقيق الحال في كبرى استصحاب عدم الامتثال يأتي في محلّه إن شاء الله.

أمّا هنا فنفترض افتراضاً صحّة كبرى استصحاب عدم الامتثال في الجملة، أي في موارد الشكّ في امتثال الأوامر الاستقلاليّة، فيقع الكلام في أنّه هل يجري ـ أيضاً ـ استصحاب عدم الامتثال في باب الأوامر الضمنيّة لكي يجري في المقام استصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة، أو لا؟

ولننبّه ابتداءً على أنّ كلامنا إنّما هو في إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة في أثناء الصلاة. أمّا إذا لم يعتنِ باحتمال عدم الإتيان بها، وأتمّ الصلاة بالتشهّد والتسليم، كان بعد ذلك استصحاب عدم الإتيان بها في قوّة استصحاب عدم امتثال الأوامر الاستقلاليّة.

ثم إنّ في كيفيّة إجراء استصحاب عدم الامتثال مسلكين:

المسلك الأوّل: أن يقال بجريان استصحاب عدم الامتثال باعتباره مثبتاً لبقاء الوجوب؛ لأنّ الوجوب مقيّد بقاءً بعدم الامتثال على ما يحكم به العقل القاطع من سقوط الوجوب بالامتثال، فعدم الامتثال موضوع للوجوب بقاءً، فباستصحابه يثبت الحكم،

133

فالاستصحاب وإن كان لا يجري إلاّ في الأحكام الشرعيّة أو موضوعاتها، لكن عدم الامتثال موضوع للحكم الشرعي ولو بقاءً، فلا بأس باستصحابه.

المسلك الثاني: أن يقال: إنّه لا حاجة إلى كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم شرعي، فحتّى بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الوجوب لا يسقط بالامتثال، وأنّ عدم الامتثال ليس مأخوذاً في موضوع الحكم بقاءً، وإنّما الذي يسقط بالامتثال هو فاعليّة الحكم لا فعليّته، نقول بجريان الاستصحاب في باب الامتثال رغم عدم كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي؛ وذلك باعتبار إمكان جعل الاُصول المؤمّنة والمنجّزة في مرحلة الامتثال، كما في قاعدة الفراغ، فإذا كان الأصل مؤمّناً كان حاكماً على قاعدة الاشتغال الجارية في مرحلة الامتثال، وإذا كان منجِّزاً كان مؤكِّداً لها، وقبول المرحلة للتنجيز والتعذير كاف في جريان الاستصحاب ولو لم يكن المستصحب حكماً أو موضوع حكم، فإنّ دليل الاستصحاب يدلّ على لزوم الحركة والمشي نحو ما لو كان اليقين ثابتاً كان يحرّك عقلاً إليه بما هو يقين طريقي. وفي ما نحن فيه لو كان اليقين بعدم الامتثال ثابتاً لكان يحرّك نحو الامتثال، فعند الشكّ ـ أيضاً ـ لا بدّ من الحركة نحو الامتثال. ويأتي توضيح ذلك في تنبيه من تنبيهات المسألة إن شاء الله.

والآن نتكلّم في موضوع بحثنا تارةً على المسلك الأوّل، واُخرى على المسلك الثاني:

أمّا لو بنينا على المسلك الأوّل، وهو: أنّ استصحاب عدم الامتثال يجري لكونه منقّحاً لموضوع الحكم بقاءً، فبالإمكان أن يقال: إنّ هذا وإن كان يصحّح استصحاب عدم الامتثال في التكاليف الاستقلالية، ولكن يمكن أن يورد عليه في المقام بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ الوجوب الضمني إنّما يسقط بسقوط ما هو في ضمنه من الوجوب الاستقلالي، وهو لا يسقط إلاّ بالانتهاء من العمل، بأن يأتي بالركعات الأربع مع التشهّد والتسليم، فهو الآن عالم بعدم سقوط الوجوب، فلا معنىً لاثبات الوجوب باستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة.

الإيراد الثاني: أنّ هذا الاستصحاب لا يمكنه أن يثبت وجوب الإتيان بالركعة الرابعة؛ لأنّ هذا الوجوب مشروط بالقدرة ككلّ وجوب، وإنّما يكون قادراً على الإتيان بالركعة الرابعة إن لم يكن قد أتى بها، أي: أنّه إنّما يكون قادراً على امتثال هذا الحكم الظاهري إن كان مطابقاً للواقع. وجعل حكم ظاهري مشروط بالمطابقة للواقع غير معقول؛ لأنّه غير قابل

134

للوصول حتّى يحرّك(1).

ويمكن أن يقال: إنّ هذا الإيراد إنّما يرد إذا استظهرنا فقهياً وجوب الركعة الرابعة بما هي رابعة. وأمّا إذا استظهرنا وجوب ذات الركعات، أي: أنّه تجب ركعة وركعة وركعة وركعة، فهذا الاستصحاب إنّما يثبت وجوب إتيان ركعة. وهذا أمر بشيء مقدور حتماً.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا الإشكال يتسجّل حتّى بناءً على كون الواجب ركعة وركعة وركعة وركعة، بغضّ النظر عن عناوين الأعداد، وذلك بالالتفات إلى مسألة مانعيّة الزيادة، وأنّ عدم الزيادة ـ أيضاً ـ واجب ضمني كالركعة الرابعة، ولا بدّ من لحاظ مجموع الوجوبات الضمنيّة، فيظهر بذلك أنّ الذي يثبت بهذا الاستصحاب هو وجوب ركعة مع عدم الزيادة، أو قل: يثبت عليه وجوب الإتيان بركعة في صلاة لا يوجد فيها زيادة(2). وهذا الحكم يشكّ في القدرة على امتثاله، وإنّما يكون قادراً عليه إذا كان الاستصحاب مطابقاً للواقع، وإلاّ تحقّقت الزيادة بالركعة الجديدة. وعليه، فالإشكال ثابت على حاله.

نعم، إنّ هذا الإشكال مبنيّ على مبنىً مختار لنا من كون مفاد الاستصحاب حكماً تكليفياً، فيكون عند ئذ مشروطاً بالقدرة. وأمّا على سائر المباني في الاستصحاب فلا يرد هذا الإشكال(3).

 


(1) ولا يقال: إنّنا وإن شككنا في القدرة لكنّنا نتمسّك بأصالة الاشتغال، وذلك بدعوى: أنّ الشكّ في التكليف إن كان ناتجاً من الشكّ في القدرة كان مجرىً لقاعدة الاشتغال، فإنّه يقال: إنّ أصالة الاشتغال كانت ثابتة منذ البدء، فلا داعي إلى توسيط الاستصحاب.

(2) أو قل: إنّ الواجب عليه هو الإتيان بركعة غير زائدة، وهو غير قادر على ذلك على تقدير أنّه قد أتى بالركعة الرابعة.

(3) قد يقال: إنّه لا فرق في المقام بين افتراض كون مفاد الاستصحاب حكماً تكليفيّاً وعدمه، فإنّه حتّى بناءً على عدم كون مفاده حكماً تكليفيّاً لا إشكال في أنّ الاستصحاب أصل عمليّ يجب أن ينتهي إلى أثر عمليّ وإلى التحريك أو التعذير، ومع فرض عدم القدرة على التحرك لا معنى لإجرائه، وقد تقيّدت القدرة على التحرّك بمطابقته للواقع حسب الفرض، فأصبح جريان الاستصحاب مشروطاً ـ أيضاً ـ بمطابقته للواقع.

والجواب: أنّ الاستصحاب لو كان مفاده مجرّد تنجيز الواقع مثلاً، كفى في قابليّة الواقع للتنجيز احتمال القدرة، فإنّ معنى تنجيزه ـ عند ئذ ـ هو ضرورة محاولة المكلّف للوصول إليه ما لم يثبت لديه عجزه عن الوصول، (وطبعاً ليس المقصود بالتنجيز ذاك الحكم العقليّ الذي لا يقبل دخل الشرع فيه، وإنّما المقصود به إبراز اهتمام المولى بالواقع على تقدير ثبوته، وهو كاف لضرورة المحاولة من قبل المكلف رغم شكّه في القدرة؛ لأنّه يعلم أنّه على تقدير تحقّق القدرة فالمولى لا يرضى بفوات الواقع).

أمّا لو كان مفاد الاستصحاب جعل حكم تكليفي، فهو كأيّ حكم آخر مشروط بالقدرة، ومع الشكّ في

135

ثمّ إنّ حال هذين الإشكالين يختلف وروداً وعدماً باختلاف المباني في باب سقوط الوجوبات الضمنيّة، فلنذكر أوّلاً تلك المباني وحال هذين الإشكالين بناءً عليها، ثمّ ننتقل إلى بيان ما هو الصحيح من تلك المباني:

أما المباني في باب الوجوبات الضمنية فهي ما يلي:

إمّا أن نبني على أنّ الوجوبات الضمنيّة تسقط كلّها دفعة واحدة بانتهاء العمل، لا بالتدريج.

وإمّا أن نبني على أنّ امتثال بعضها يوجب سقوط ذاك البعض، فمن أتى بثلاث ركعات مثلاً سقطت عنه الوجوبات الضمنية المتعلّقة بتلك الركعات، ولو أبطل صلاته تولّد أمر جديد(1) وبعث جديد بتلك الأجزاء من باب وجود الملاك، ولازم هذا المبنى كون الأمر الضمني الباقي متعلّقاً بركعة رابعة في هذه الصلاة لا بركعة رابعة كلّية؛ وذلك لأنّ الصلاة المطلوبة للمولى هي أربع ركعات في صلاة واحدة، لا أربع ركعات ملفّقة، فالأمر بالركعة الرابعة أمر متعلّق برابعة لتلك الثلاث التي يمتثل بها الأوامر الضمنيّة السابقة، فما دامت تلك الثلاث باقية على كلّيتها تكون هذه ـ أيضاً ـ كلّيّة، ومهما طبّقت خارجاً على مصداق معيّن انحصر مصداق هذا الأمر ـ أيضاً ـ فيما يكمّل ذاك المصداق؛ لأنّه أمر برابعة تلك الثلاث.

 


القدرة يشكّ في أصل هذا الحكم. واستصحاب القدرة ـ أيضاً ـ لا يفيد شيئاً؛ لأنّ هذا الاستصحاب ـ أيضاً ـ مفاده جعل الحكم التكليفي وفق الحكم المترتّب على القدرة، وهذا الحكم بنفسه مشكوك المقدوريّة، فمرّةً اُخرى نقع في إشكال صيرورة الاستصحاب مشروطاً بمطابقته للواقع.

وقد تقول: إنّ مبنى الاُستاذ(رحمه الله) هو: أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها إبرازات لاهتمام المولى بالواقع على تقدير ثبوته، وهذا غير الحكم التكلفيّ، ويكفي في معقوليّة ذلك احتمال القدرة، فإنّ معنى الاستصحاب ـ عند ئذ ـ هو أنّ الواقع على تقدير ثبوته لا يرضى المولى بفواته، وهذا يكفي في تحريك العبد نحو محاولة الامتثال بمجرّد احتماله للقدرة عليه.

والجواب: أنّ اُستاذنا(رحمه الله) وإن كان يؤمن بأنّ روح الأحكام الظاهرية هو ذلك، ولكنّ الكلام فعلاً في لسان دليل الاستصحاب لا في روحه؛ إذ لو سلّمنا أنّ لسان دليل الاستصحاب هو لسان الحكم التكليفي، وأنّ هذا اللسان لا يناسب عرفاً شموله لفرض عدم القدرة، فهو يختصّ بفرض القدرة، وبالتالي لا يصل إلى العبد إلاّ لدى علمه بالقدرة، أو قل في المقام لا يصل إلى العبد إلاّ لدى علمه بمطابقته للواقع، ومع علمه بذلك لا حاجة له إلى الاستصحاب.

(1) ذكر اُستاذنا(رضوان الله عليه): إنّنا نتكلّم على المنهج المعروف من جعل الكلام في البعث، لا في روح الحكم الذي هو الحبّ، والذي يكون من الواضح عدم تجدّده بالإبطال، بل عدم زواله بالامتثال.

136

وإما أن نبني على أنّ الوجوبات الضمنية تسقط بالتدريج كما مضى في المبنى الثاني، إلاّ أنّه نقول: إنّ الأمر بالركعات الثلاث مثلاً لا يكفي في سقوطه الإتيان بها، بل يشترط في سقوطه شرط متأخّر، وهو الإتيان بباقي الصلاة فيما بعد. وهذه المباني كلّها تكون بغضّ النظر عمّا أشرنا إليه من أنّ الحقّ هو عدم سقوط الأمر بالامتثال حتّى إذا كان استقلالياً.

وحال ما مضى من الإشكالين يختلف باختلاف هذه المباني.

أمّا الإشكال الأوّل ـ وهو أنّ وجوب الركعة الرابعة مقطوع البقاء، فلا معنى لاثباته باستصحاب عدم الإتيان بها ـ فهو يختصّ بالمبنى الأوّل؛ إذ على المبنى الثاني لا علم ببقاء الوجوب، فإنّ الوجوب ساقط لو كان قد أتى بها، وكذلك على المبنى الثالث، فإنّ الوجوب ساقط على تقدير أنّه أتى بها، وأنّه سوف يأتي بباقي الصلاة.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو أنّ الوجوب المستفاد بالاستصحاب لا يقدر على امتثاله إلاّ إذا كان الاستصحاب مطابقاً للواقع، والحكم الظاهري المشروط بالمطابقة للواقع لا يقبل الوصول، وبالتالي لا يقبل التحريك ـ فبناءً على المبنى الأوّل الذي تسجّل فيه الإشكال الأوّل لم يبقَ موضوع لهذا الإشكال؛ لأنّ الاستصحاب ـ حسب ما فرض في الإشكال الأوّل ـ لا يثبت وجوباً ظاهرياً حتّى يتكلّم في اشتراطه بالقدرة، وبالتالي بموافقته للواقع وعدمه. نعم، بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل تصل النوبة إلى الإشكال الثاني. والحقّ عدم وروده؛ لثبوت القدرة على الامتثال حتماً ولو بإعادة الصلاة؛ لأنّ الأمر بالركعة الرابعة أمر بكلّي الرابعة ولو في ضمن صلاة اُخرى؛ إذ لم تنطبق بعدُ الأوامر الضمنية السابقة ـ بناءً على هذا المبنى ـ على ما أتى به من الركعات الثلاث، حتّى يقال بلزوم انطباق هذا الأمر الضمني ـ أيضاً ـ بركعة في هذه الصلاة.

وأمّا على المبنى الثاني فيتسجّل هذا الإشكال الثاني؛ وذلك لأنّ الأمر بالركعة الرابعة ـ على ما عرفت من لازم هذا المبنى ـ قد تعلّق برابعة هذه الصلاة بالذات، فيأتي ـ لا محالة ـ إشكال إرتباط القدرة على ذلك بمطابقة الاستصحاب للواقع؛ إذ لو كان في الواقع قد أتى بركعة رابعة لم يقدر على امتثال هذا الحكم الظاهري إمّا من باب دخل عنوان الرابعة فيه، أو من باب دخل عدم الزيادة فيه.

وأمّا على المبنى الثالث فلا يرد هذا الإشكال؛ وذلك لأنّ الشرط المتأخّر دخيل في تحقّق امتثال الأوامر الضمنية السابقة، والأمر بالصلاة في الرتبة السابقة على الامتثال أمر بالكلّي، وهو قادر على الإتيان به ولو ضمن فرد آخر. وفي الرتبة المتأخّرة عن الامتثال المساوق

137

لفرض الإتيان بالشرط في ظرفه المتأخّر يكون ساقطاً بكلّ ما فيه من الأوامر الضمنية. فالأمر في مرتبة وجوده قابل للتحريك، وفي المرتبة الاُخرى ليس موجوداً أصلاً.

بقي في المقام شيء، وهو أنّه إذا تكلّمنا في آخر الوقت الذي لا يمكنه أن يأتي فيه بفرد جديد، تسجّل الإشكال الثاني (وهو إشكال عدم القدرة إلاّ على تقدير موافقة الاستصحاب للواقع) على جميع المباني الثلاثة؛ لأنّه غير قادر على فرد جديد، غاية الأمر أنّه على المبنى الأوّل نورد هذا الإشكال بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل؛ إذ معه لا تصل النوبة إلى هذا الإشكال كما عرفت. وعلى المبنى الثاني والثالث نورده بلا حاجة إلى التنزّل؛ لعدم ورود الإشكال الأوّل فيهما.

وأمّا بيان ما هو الصحيح من هذه المباني الثلاثة، فالحق عدم سقوط الوجوبات الضمنيّة بالتدريج:

أمّا على مبنانا من عدم سقوط الوجوب الاستقلالي بالامتثال، فالأمر واضح، فإنّه ـ عندئذ ـ لا مجال لسقوط الأمر الضمني ـ أيضاً ـ نهائياً. نعم، حينما يأتي ببعض الأجزاء يسقط الأمر الاستقلالي عن الفاعلية من بعض الجهات دون بعض، أي: لا يحرّك نحو سدّ باب العدم الذي انسدّ، ويحرّك نحو سدّ أبواب اُخرى.

وأمّا على مبنى سقوط البعث والأمر الاستقلالي بالامتثال، لكون بقائه تحصيلاً للحاصل، وبعثاً نحو أمر قد حصل وتحقّق، فقد يتخيّل أنّ هذا البيان يأتي في الأوامر الضمنية أيضاً، فالأمر بالتكبيرة مثلاً قد سقط بعد الإتيان بها؛ لأنّه لو بقي لكان بعثاً نحو شيء حاصل.

لكنّ الصحيح عدم تأتّي هذه الشبهة في الأوامر الضمنيّة.

ونوضّح ذلك بالحديث في مقامين:

الأوّل في مقابل المبنى الثاني القائل بسقوط ما أتى به من الأوامر الضمنيّة سقوطاً محتّماً.

والثاني في مقابل المبنى الثالث القائل بسقوطها مشروطاً بالشرط المتأخّر.

أمّا المقام الأوّل: وهو في إبطال المبنى الثاني القائل بسقوط ما أتى به من الأوامر الضمنية سقوطاً محتّماً، فنحن نبرهن على بطلان هذا المبنى بوجوه أربعة، الأوّل والثاني منها يحلاّن أصل شبهة كون بقاء الأمر الضمني طلباً للحاصل، والثالث والرابع لا يحلاّن الشبهة وإن كانا يبرهنان على عدم السقوط، فان شئت فسمِّ الأوّلين بالجواب الحلّي، والأخيرين بالجواب النقضي.

138

الوجه الأوّل: ما حقّقناه في بحث التعبّدي والتوصّلي، وفي بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين من أنّ الأمر الاستقلالي الواحد يستحيل أن يتعلّق بالكثير بما هو كثير، وإنّما يتعلّق في اُفق الجعل بشيء واحد بسيط، وتلبس هذه الأجزاء المتعدّدة لباس الوحدة في ذلك الاُفق، حيث إنّ متعلّقات الطلب موجودة بعين ذلك الطلب، كما أنّ متعلّقات العلم والحب والبغض ونحوها موجودة بعين وجودها، فهي موجودة بوجود وحداني، فهو أمر واحد متعلّق بشيء واحد لا معنى لتجزّئه في اُفق الجعل إلى أوامر ضمنية، حتّى يقال: إنّ الأمر الضمني بالتكبيرة مثلاً لو لم يسقط بعد الإتيان بالتكبيرة لكان طلباً للحاصل. نعم، هذا الواحد نأتي به بعد ذلك إلى عالم ذهننا ونجّزّئه، فيبدو لنا بعوث كثيرة، وإن هي إلاّ أجزاء تحليليّة تماماً، من قبيل الأجزاء الحدّية كالجنس والفصل العالي والسافل.

الوجه الثاني: بعد التنزّل عن البيان الأوّل، والغفلة عن استحالة تعلّق بعث واحد بأشياء كثيرة بما هي كثيرة نستعين بأصل موضوعي من دون ضمان صحّته، ونوكل أمر تحقيقه ببحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وحاصله: أنّ الأمر الضمني أمر بالجزء المقيّد بسائر الأجزاء، فالتقيّد ماخوذ في كلّ جزء جزء، والأمر الضمني تعلّق بالحصّة. وعليه نقول: لا يلزم من عدم السقوط طلب الحاصل؛ لأنّ الحصّة الخاصّة بما هي حصّة خاصّة لم تحصل، والتقيّد داخل في المطلوب، وهو لا يحصل إلاّ بحصول طرفيه، إلاّ أن يلتزم بتحليل الأمر بالمقيّد ـ أيضاً ـ إلى الأمر بذات المقيّد والأمر بالتقيّد. لكن كون ذلك تجزئه في عالم التحليل الذهني لا في واقع عالم الأمر أوضح منه في الأمر بأجزاء تركيبيّة؛ فإنّ التقيّد لا ينظر إليه مستقلاًّ، وإنّما ينظر إليه مندكّاً وبما هو معنىً حرفي، فنبرز في هذا البيان أوضحيّة المطلب.

الوجه الثالث: أنّ سقوط الوجوب إمّا يكون بمعنى سقوط الجعل، أو بمعنى سقوط المجعول. أمّا الأوّل فغير مقصود في المقام حتماً؛ لوضوح أنّ الجعل إنّما يسقط بالنسخ لا بالامتثال. وأمّا سقوط المجعول فلا يكون إلاّ بانتفاء أحد قيود الموضوع، فيفرض في المقام أنّ عدم الإتيان قيد من قيود الموضوع، وقد انتفى. وهنا نسأل: هل عدم الاتيان بكلّ جزء موضوع لوجوب ذاك الجزء فحسب، فعدم الإتيان بالتكبيرة مثلاً موضوع لوجوب التكبيرة دون الحمد وغيره، وعدم الإتيان بالحمد موضوع لوجوب الحمد دون التكبيرة وغيرها، أو عدم الإتيان بأيّ واحد منها قيد لموضوع وجوب كلّ تلك الأجزاء، أو قل: قيد لموضوع الوجوب الاستقلالي؟ فإن قيل بالأوّل كان معنى ذلك فرض وجوبات وجعول استقلاليّة لفرض موضوعات مقدّرة الوجود متباينة، والجعل عبارة عن إنشاء قضيّة