426

المال والجاه وما أشبه ذلك. فمن لا حظ كلّ هذا وما إليه، حصل له القطع ـ إذا كان سليماً في فطرته وعقله ـ بنبوّته(صلى الله عليه وآله).

هذا تمام الكلام في البحث النقضىّ عن إنكار الحسن والقبح أشعريّاً أو أخباريّاً.

 

مع المنكرين على مستوى الحلّ

 

وأمّا البحث الحلّىّ في المقام: فالواقع أنّه توجد في كلمات الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في بحث الموضوع تشويشات، ونحن نقول: تارة يفترض البحث في أصل إدراك البشر للحسن والقبح الذاتيّين وعدمه.

واُخرى يفترض البحث في أنّ باب الحسن والقبح ـ بعد فرض ثبوت إدراكهما ـ هل هو مرتبط بباب المصلحة والمفسدة، أي: إنّ سبب الحسن والقبح المدركين إنّما هو المصالح والمفاسد، أو هذا باب مستقلّ؟

وثالثة يفترض البحث في حقّانيّة هذا الإدراك بعد فرض ثبوته. فهذه أبحاث ثلاثة:

 

1 ـ إدراك الحسن والقبح

البحث الأوّل: في إدراك الحسن والقبح العقليّين وعدمه.

قد أنكر الأشعرىّ والأخبارىّ إدراك الحسن والقبح العقليّين، ولم يؤمنا إلّا بالحسن والقبح الشرعيّين.

في حين اعترف المعتزلىّ وكذلك الاُصولىّ من العدليّة بإدراكهما.

ويجب أن نلفت النظر هنا إلى الفارق الجوهرىّ بين الحسن والقبح الشرعيّين، والحسن والقبح الذاتيّين اللذين يدركهما العقل بحسب رأي الاُصولىّ والمعتزلىّ، فليست نسبة الحسن والقبح العقليّين إلى الحسن والقبح الشرعيّين كنسبة الموت الناشئ بفعل غير المولى إلى الموت الناشئ بفعل المولى؛ إذ إنّهما لا يختلفان في جوهرهما، وإنّما الفرق: في أنّ الموت تارة يكون بسبب قتل المولى لعبده، واُخرى بسبب قتل شخص آخر إيّاه مثلاً، وحقيقة الموت لا تختلف في كلتا الحالتين. وإنّما نسبة الحسن والقبح الذاتيّين إلى

427

الحسن والقبح الشرعيّين كنسبة السلطنة الواقعيّة إلى السلطنة الشرعيّة المختلفتين جوهريّاً: فالثانية عبارة عن عنوان السلطنة المجعول بتشريع الشارع وإنشائه، وهو الملكيّة مثلاً، في حين أنّ الاُولى عبارة عن نفس المعنون وواقع السلطنة الثابت في الخارج.

وكذلك الحال فيما نحن فيه، فالحسن والقبح الذاتيّان عبارة عن واقع الحسن والقبح ونفس المعنون، في حين أنّ الحسن والقبح الشرعيّان عبارة عن عنوان الحسن والقبح الثابت بالجعل والاعتبار، ولايؤثّر الجعل والاعتبار إلّا في إيجاد العنوان دون المعنون. وإن شئت فسمّ الأوّل بالحسن والقبح بالحمل الشائع، والثاني بالحسن والقبح بالحمل الأوّلىّ.

وبعد أن اتّضحت لك هذه النكتة، نقول: إنّ فرض النزاع في إدراك الحسن والقبح الذاتيّين يتصوّر بأحد وجوه:

الأوّل: أن تقول العدليّة ـ مثلاً ـ: إنّا ندرك الحسن والقبح الذاتيّين، ويكذّبهم الأشعرىّ، ويقول لهم: إنّكم لا تدركون ذلك.

وهذا ليس بحثاً علميّاً؛ فإنّ البحث العلمىّ قائم على أساس التخطئة لا التكذيب. والواقع: هو ثبوت هذا الإدراك في أكثر أفراد البشر.

الثاني: أن يقول هذا: إنّي اُدرك الحسن والقبح. ويقول ذاك: إنّي لا أدركهما. وهذا راجع في الحقيقة إلى البحث الثالث؛ إذ معنى ذلك: أنّ الأشعرىّ يقول للعدليّة: إنّ حقّانيّة ما عندكم من الإدراك غير ثابتة عندي، أو هي ثابتة العدم(1).

الثالث: أن يقول أحدهما للآخر: إنّي اُدرك ما تدركه، إلّا أنّ الخلاف فيما بيننا هو: أنّ هذا الأمر المدرك هل هو مضاف إلى ذات الشيء، أو إلى الشارع؟ وتشعر بذلك كلمات الأشعريّين في كيفيّة تحرير البحث؛ إذ إنّهم يقسّمون أوّلاً الأفعال إلى الحسن والقبيح، ويذكرون أقسام الحسن وأقسام القبيح، ثمّ يبحثون أنّ هذا الحسن والقبح عقلىّ، أو شرعىّ؟ فكأنّهم يرون أنّ الحسن والقبح لا يختلف ذاتهما على فرض كونهما عقليّين عنهما على فرض كونهما شرعيّين.

ويشعر بذلك ـ أيضاً ـ ردّ العدليّة للأشعرىّ بإدراك البراهمة ونحوهم ـ ممّن يقال عنهم:


(1) كأنّ المقصود: أنّ أحدهما يدّعي: أ نّي اُدركهما إدراكاً نابعاً من حاقّ نفسي، والآخر يقول: إنّي لا اُدركهما هكذا إدراك.

428

إنّهم غير متديّنين بأىّ شريعة ـ للحسن والقبح؛ فإنّ هذا ـ أيضاً ـ مشعر باتّحاد سنخ المدرك، وأنّ الاختلاف إنّما هو في إضافته إلى الشرع وعدمه، فيثبت بإدراك من لا يدين بشريعة للحسن والقبح عدم انتسابهما إلى الشرع.

وحلّ المغالطة يكون بما مضى: من بيان الاختلاف سنخاً وذاتاً بين الحسن والقبح العقليّين والشرعيّين؛ فإنّ هذه المغالطة إنّما نشأت من الخلط بين ما مضى ممّا أسميناه بالحمل الأوّليّ والحمل الشائع.

الرابع: أن تقول العدليّة: إنّا ندرك الحسن والقبح الذاتيّين بغضّ النظر عن الحسن والقبح الشرعيّين، ويقول الأشعرىّ: إنّي اُدرك نفس ما تدرك من الحسن والقبح الذاتيّين، لكن لامطلقاً، بل في طول الحسن والقبح الشرعيّين، فكلّ ما أوجبه الشارع كان فعله حسناً بعنوان إطاعة لله، وكلّ ما حرّمه كان قبيحاً بعنوان معصية لله.

وهذا التفسير للنزاع خارج عن مورد بحثنا؛ إذ المفروض فيه تسليم كليهما بإدراك العقل للحسن والقبح الذاتيّين، وإنّما الاختلاف يكون في سعة دائرة الحسن والقبح الذاتيّين وضيقهما، وأنّ الحسن والقبح هل يختصّان بطاعة المولى ومعصيته، أو لا؟ وهذا بحث آخر(1).

 

2 ـ الحسن والقبح مع المصلحة والمفسدة

البحث الثاني: في أنّ الحسن والقبح العقليّين ـ بعد فرض إدراكهما ـ هل يرجعان إلى باب المصلحة والمفسدة، أو لا؟

الواقع: أنّ الإدراك الموجود في نفوس الناس ـ سواء فرضناه حقّاً أوْ لا ـ غير مرتبط بباب المصلحة والمفسدة، بأن يقال: إنّ الكذب ـ مثلاً ـ إنّما يحكم بقبحه لما عرف بطول التجارب من ترتّب المفاسد عليه، وإنّ الصدق إنّما يحكم بحسنه لما عرف بطول التجارب


(1) والواقع: أنّ هذا نزاع في إدراك الحسن والقبح الذاتيّين في غير مصداق الطاعة والمعصية، وهذا النزاع حتماً يرجع إلى أحد الوجوه الثلاثة الماضية لتصوير النزاع، ولكن في دائرة غير الطاعة والمعصية: فإمّا أن يكون مرجعه إلى التكاذب، وليس هذا بحثاً علميّاً، أو إلى دعوى أحدهما إدراكه هو، ودعوى الآخر عدم إدراكه هو، وهذا راجع إلى البحث الثالث، أو إلى الخلط بين الحمل الأوّليّ والحمل الشائع، وحلّه هو توضيح الفرق بينهما.

429

من ترتّب المصالح عليه. والمقصود بالمصلحة: ما هو كمال لقوّة من القوى، وبالمفسدة: ما هو نقص لها(1).

ولا فرق فيما ذكرناه (من التغاير بين باب الحسن والقبح وباب المصلحة والمفسدة) بين ما لو قصد بالمصلحة والمفسدة المصلحة والمفسدة الشخصيّتان بالنسبة إلى قوّة من القوى، أو الشخصيّتان بالنسبة إلى خصوص النفس البشريّة، بمعنى كمال النفس ونقصها في قاموس علم الأخلاق دون ما لها من قوى، أو النوعيّتان؛ وذلك لتخلّف الحسن والقبح عن باب المصلحة والمفسدة في كلّ هذه الفروض الثلاثة. فيعلم أنّ الحسن والقبح لا يدوران مع المصلحة والمفسدة أينما دارتا:

أمّا الأوّل: فلأنّه لو فرض ربط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة الشخصيّتين لكلّ قوّة من القوى، فإمّا أن يقصد بالمصلحة والمفسدة ما هو علّة تامّة لانقداح الداعي إلى الفعل أو الترك، وإمّا أن يقصد ما هو مقتض لذلك.

ومن الواضح: أنّه ليس من المعقول أن يكون المقصود هو الأوّل؛ إذ يلزم من ذلك: أن يصدر عن الإنسان ـ دائماً ـ ما هو حسن، ولا يصدر عنه القبيح.

وإن اُريد الثاني، أعني: ما هو مقتض لانقداح الداعي، قلنا: إنّ هناك فرقاً بيّناً في حالة الإنسان المدرك للحسن والقبح بين فرض ارتكابه لما يعتقد قبحه وفرض ارتكابه لما يعتقد كونه خلاف مصالحه.

فمثلاً: من كان يعتقد بكون التدخين خلاف مصلحته؛ لأنّه يؤثّر في انكسار قواه وانحراف مزاجه، وأنّ الضرر المترتّب على الصبر على تركه أهون بكثير من ذلك، ومع ذلك لا يترك هذا العمل معلّلاً بضعف الإرادة وما شابه ذلك، لا يشعر في نفسه إلّا بالأسف. وهذا بخلاف من كشف سرّ أخيه معتقداً لقبح ذلك؛ فإنّه يشعر في نفسه بالخيانة والخجل


(1) لا يخفى أنّ المصلحة والمفسدة بالمعنى الذي قد يفترض تبعيّة الحسن والقبح لهما: إمّا أن يقصد بهما ما يوجب الكمال والنقص، أو يقصد بهما ما يوجب اللذّة والألم، أو الجامع بينهما. واُستاذنا الشهيد(رحمه الله)فسّر في المقام المصلحة والمفسدة بمعنى الكمال والنقص، ولعلّه فرض اللذّة ـ أيضاً ـ كمالاً لقوّة من القوى والألم نقصاً. وعلى أىّ حال، فلو فسّرت المصلحة والمفسدة بخصوص ما يوجب اللذّة أو الألم، فأيضاً الحقّ انفصال باب الحسن والقبح عن باب المصلحة والمفسدة. ولا تخفى عليك (بعد الإحاطة بما في المتن) كيفيّة صياغة البيان بنحو يوضّح انفصال باب الحسن والقبح عن باب اللذّة والألم، وإن لم يكن ما في المتن بصدد ذلك بالخصوص.

430

ووخز الضمير ـ إن لم يكن قد مات ضميره بكثرة الممارسة مثلاً ـ حتّى إذا افترضنا أنّ ذلك لم يكن خلاف مصالحه الشخصيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو ربط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة بمعنى ما هو كمال للنفس أو نقص لها بحسب علم الأخلاق، لزم أن يكون الحسن والقبح في طول كمال النفس ونقصها، في حين أنّ الأمر بالعكس، فما يتّصف بالحسن أو القبح يؤثّر بما هو كذلك في الكمال والنقص، دون العكس، وإلّا للزم إيقاع المزاحمة بين الكمالات والنقائص في مقام استنتاج كون هذا الفعل حسناً أو قبيحاً.

فمثلاً: لو كان كشف سرّ الأخ مقدّمة لتحصيل علم من أهمّ العلوم، فلا إشكال في أنّ من يكشف سرّ أخيه لكي يحصل على علم من هذا القبيل، يعدّ لدى المعترفين بقبح كشف السرّ خائناً غير نبيل، في حين لو فرضنا دوران الحسن والقبح مدار ما يوجبه الشيء من كمال أو نقص، يجب إيقاع التزاحم بين المقدار الذي يزول بسبب كشف السرّ مرّة واحدة من ملكة كتمان السرّ (التي هي في قاموس علم الأخلاق كمال من كمالات النفس) والمقدار الذي يحصل عليه من كمال العلم بسبب ذلك؛ ولرجحان الثاني يحكم بعدم قبح كشف السّر، بل بحسنه.

وكذلك لو فرض أنّ شخصاً قادراً على التصرّف في النفوس قال له: اكشف مرّة واحدة سرّ أخيك، وأنا أضمن لك تتميم هذه الملكة في نفسك، وجعلها أقوى ممّا كانت قبل كشف السرّ بدرجات كثيرة، ففعل ذلك، فلا إشكال في أنّه يعدّ رجلاً خائناً، ويعدّ فعله رذيلة من الرذائل.

وأمّا الثالث: فلأنّه لو ربط الحسن والقبح بمصلحة المجتمع ومفسدته، لزم في مثال مقدّميّة كشف السرّ لتحصيل ما هو من أهمّ العلوم ـ مثلاً ـ إيقاع التزاحم بين المفسدة النوعيّة المترتّبة على كشف السرّ وزوال ملكة الكتمان، والمصلحة المترتّبة على تحصيل ذلك العلم الذي يمكّنه من نفع المجتمع بمنافع عظمى. فمتى ما كانت هذه المصلحة أقوى، لزم أن لا يكون كشف السرّ قبيحاً، ولا يعدّ هذا الشخص خائناً وغير نبيل عند من يدرك قبح كشف السرّ، في حين ليس الأمر كذلك. هذا.

431

وللمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في فوائده(1) بيان في شرح الحسن والقبح، يربط فيه باب الحسن والقبح بباب المصلحة والمفسدة باُسلوب آخر يختلف عن الوجوه الماضية. ولعلّه كان لتفطّنه على ما يرد على تلك الوجوه، أو لتفتيشه عن أساس أعمق. وحاصل كلامه ـ رضوان الله عليه ـ: أنّه طبّق أوّلاً مقالة الفلاسفة في تفسير الخير والشرّ على باب الأفعال.

توضيح ذلك: أنّ الفلاسفة ذهبوا إلى أنّ الوجود خير محض، وأنّ العدم شرّ محض، فكلّما كان أوسع وجوداً، كان أوسع خيريّة، وكلّما كان أضأل وأضيق وجانب العدم أغلب عليه، يكون أكثر شرّيّة. واتّصاف بعض الوجودات بالشرّ يكون باعتبار ما يلازمها، أو يترتّب عليها من الأعدام، كما أنّ اتّصاف بعض الأعدام بالخير يكون باعتبار ما يلازمها، أو يترتّب عليها من الوجودات. فالإنسان ـ مثلاً ـ أكثر خيراً وآثاراً من الحيوان؛ لكونه أوسع وأرقى وجوداً منه، وكذلك الحيوان أكثر بركة وآثاراً من النبات، والنبات من الجماد. هذا هو تطبيق كلام الفلاسفة على الأعيان الخارجيّة.

وكذا الكلام في تطبيقه على الأفعال: فكلّ فعل يكون جانب الوجود فيه أوسع، فهو أكثر خيريّة، وكلّما كان من الأفعال ضئيلاً وحقيراً، وكان جانب العدم هو الغالب عليه، كان أشدّ شرّيّة.

والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بعد ما طبّق كلام الفلاسفة على باب الأفعال ذكر: أنّ كلّ قوّة من القوى في الإنسان ـ كقوّة البصر والذوق والشمّ وغير ذلك ـ تنبسط وتنشرح بإدراك ما يلائمها، وتتضجّر وتنكمش من إدراك ما ينافرها. فالباصرة ـ مثلاً ـ تنبسط لرؤية الحديقة والأزهار، وتتضجّر لرؤية ما تستقبحه من صور الأشياء الكريهة، وكذلك الشامّة بالنسبة إلى الروائح وغيرها من القوى.

وكذلك الحال في رئيس تلك القوى، وهي القوّة العاقلة، فتنبسط لادراك ما يلائمها، وتنكمش من إدراك ما ينافرها. ومقياس الملائمة والمنافرة لها هي: درجة التسانخ وعدمه. وبما أنّ القوّة العاقلة موجود بسيط ومجرّد، ومن أوسع الوجودات وأرقاها، فكلّ فعل كان أوسع وجوداً، كان أشبه وأنسب بالقوّة العاقلة، وأكثر سنخيّة لها، فتنبسط القوّة


(1) وهي الفائدة 13 من كتاب الفوائد للشيخ الآخوند، وبحسب طبعة بصيرتي في ذيل حاشية الآخوند على الفوائد وقعت في صفحة 330 ـ 332.

432

العاقلة بإدراكه لها تصوّراً أو تصديقاً، وكلّ فعل كان أضيق وجوداً وجانب العدم أكثر غلبة عليه، كان أكثر مباينة لتلك القوّة، فتنكمش منه. وهذا هو معنى الحسن والقبح العقليّين(1). هذا هو ما اختاره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في المقام.

وتحقيق ما مضى من تفسير الفلاسفة للخير والشرّ مربوط ببحث الفلسفة، وإنّما نتكلّم هنا فيما أفاده المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بالمقدار المناسب لبحثنا.

والواقع: أنّ ما ذكره(رحمه الله) كان ألطف ما ذكره الاُصوليّون في المقام من حيث التطبيق على المصطلحات، لكن التحقيق: أنّ كلامه لا يرجع إلى محصّل.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما ذكره(رحمه الله) هو خلط في الحقيقة بين المدرك بالذات والمدرك بالعرض.

توضيح ذلك: أنّنا حقّقنا في بحث اجتماع الأمر والنهي أنّ الحالات النفسيّة من قبيل الإدراك والحبّ والبغض وغير ذلك لا تنصبّ ابتداءً على ما في الخارج، وإنّما يكون المدرك بالذات أو المحبوب والمبغوض بالذات ونحو ذلك هي الصورة الموجودة في صقع الإدراك أو الحبّ والبغض، وهي عين الإدراك أو الحبّ والبغض أو غير ذلك من الصفات النفسيّة. أمّا ما في الخارج فهو مدرك بالعرض أو محبوب أو مبغوض بالعرض.

وبعد هذا نقول: إنّ تنافر أىّ قوّة من القوى من إدراك شيء أو انبساطها منه عبارة عن المنافرة أو الملائمة بينها وبين المدرك بالذات، لا المدرك بالعرض؛ فإنّ المدرك بالعرض


(1)وقال(رحمه الله) ما نصّه: ومع ذا لا يكاد يبقى مجال لإنكار الحسن والقبح عقلاً؛ إذ لانعني بهما إلّا كون الشيء في نفسه ملائماً للعقل فيعجبه أو منافراً فيغربه. وبالضرورة أنّهما يوجبان صحّة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختاراً بما هو فاعل، كما لا يكاد يخفى على عاقل. ودعوى عدم اختلاف الأفعال في ذلك، كدعوى عدم إيراث ذلك تفاوتاً فيها ملائمة ومنافرة للعقل، كدعوى عدم صحّة مدح الفاعل وذمّه على صدور الفعل الملائم والمنافر بالاختيار، مكابرة واضحة... إلى أن قال: ثُمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ـ من بيان ما هو سبب اتّصاف الأفعال عند العقل بالحسن والقبح ـ اتّصافها بهما أيضاً عنده جلّ شأنه، ولايبقى مجال لإنكار ذلك ـ بتقريب: أنّه من المحتمل أن يكون ملائمات العقل ومنافراته بالقياس إليه تعالى، كملائمات سائر القوى ومنافراتها بالنسبة إليه. فكما لا يتفاوت عنده الملائم والمنافر لها، بل على حدّ سواء، كذلك كان حال ملائماته ومنافراته بالإضافة إليه تعالى ـ وذلك لما عرفت: من أنّ سبب الاتّصاف هو الاختلاف في السنخيّة والبينونة في الوجود بحسب سعته وكماله وضيقه ونقصه، بما له من الأثر خيراً وشرّاً. ولايخفى أنّ هذا كلّما كان الوجود أكمل، كان أظهر وأبين؛ ولأجل ذلك يكون كلّما كان العقل أكمل، كان استقلاله بهما فيها أكثر، والملائمة والمنافرة أبين وأظهر، وكلّما كان أنقص، كان ذلك أقلّ، إلى أن لا يرى المنافر منافراً والملائم ملائماً، بل يرى بالعكس.

433

ليس هو الحاضر لدى القوّة كي يؤثّر في انبساطها وانقباضها.

مثلاً: القوّة الباصرة تلتذّ بإدراكها للحدائق والأزهار ولو فرض إدراكها غير مطابق للواقع الخارجىّ، وتشمئزّ من إدراكها للصور القبيحة ولو فرض غير مطابق للواقع. وحينئذ نسأل بالنسبة إلى القوّة العاقلة: هل المقصود انبساطها وانقباضها بالمدرك بالعرض باعتبار مسانخته أو عدم مسانخته لها، أو المقصود انبساطها وانقباضها بالمدرك بالذات باعتبار مسانخته أو عدم مسانخته لها؟ فإن فرض الأوّل قلنا: إنّ المدرك بالعرض ليس هو الحاضر لدى القوّة العاقلة كي يؤثّر بالمسانخة وعدم المسانخة ذاك التأثير، وإن فرض الثاني قلنا: إنّ المدرك بالذات ـ دائماً ـ على حدّ سواء من حيث التجرّد وسعة الوجود، بلا فرق بين أن يكون المدرك بالعرض وسيعاً أو ضيّقاً؛ فإنّ من أوّليّات علم النفس في الفلسفة: أنّ إدراكات قوّة واحدة تناسب تلك القوّة في التجرّد وسعة الوجود على نهج واحد، فليس ـ مثلاً ـ إدراك الأمر المادّىّ مادّيّاً والمجرّد مجرّداً، بل إدراك ما هو من أرقى الموجودات يساوي من حيث التجرّد إدراك ما هو من أخسّ الموجودات، كالبياض ـ مثلاً ـ الذي هو وجود عرضىّ حالّ في وجود مادّيّ.

وما للمدرك بالعرض من السعة والضيق أو الخيريّة والشرّيّة لا يسري إلى المدرك بالذات، وإنّما يحكم على المدرك بالذات بأحكام وخصائص المدرك بالعرض بمنطق الفناء، ولا يوجب الفناء سريان الخصائص والآثار من الخارج إلى الصورة حقيقة. فصورة النار ـ مثلاً ـ لن تحرق بفنائها في ذي الصورة، وإدراك الوسيع أو الضيّق لن يكون وسيعاً أو ضيّقاً بلحاظ حال المدرك بالعرض، كي يترتّب على ذلك انبساط القوّة العاقلة وانقباضها؛ ولذا ترى وجداناً: أنّ القوّة العاقلة ليس الأولى بها أن تدرك العدل فقط دون الظلم، كما كان الأولى بالقوّة الباصرة أن تدرك الصورة الحسنة دون القبيحة، والأولى بالقوّة الشامّة أن تشمّ الروائح العطرة دون الكريهة.

إذن فما مضى من المقدّمة الفلسفيّة بناءً على تماميّتها لا تنتج المطلوب.

وثانياً: أنّ هناك نقوضاً ترد على ما ذكره(رحمه الله) إن أمكن الجواب عن بعضها بتكلّف، فمجموع النقوض كاف في الإيراد عليه:

الأوّل: أنّه لو كان الحسن والقبح العقليّان باعتبار مدى مسانخة الفعل للقوّة العاقلة في

434

سعة الوجود، لزم أن يختلف العقل العملىّ ـ بالتعبير العلمىّ ـ والضمير الخلقىّ ـ بالتعبير الوعظىّ ـ باختلاف العقل النظرىّ، ويكون تابعاً له سعة وضيقاً. فمن يكون منّا أذكى في العقل النظرىّ وأقوى في مقام اقتناص الكلّيّات وفهم المجرّدات واستخلاصها من شوائب الموادّ والخصوصيّات، يكون أشدّ انقباضاً من إدراك الفعل القبيح واستقباحاً لصدوره عن شخص ما، ومن يكون أضعف في ذلك، يكون أقلّ انقباضاً منه واستقباحاً لصدوره عن نفس ذاك الشخص، في حين ليس الأمر كذلك.

الثاني: أنّه يلزم من ذلك أن تكون الاُمور المباحة وغير القبيحة في نظر الأدنى في العقل النظرىّ قبيحة في نظر الأعلى، حيث تكون نسبة قوّته العاقلة إلى هذا الفعل كنسبة القوّة العاقلة للأدنى إلى ما يستقبحه. فالفعل الخاصّ الصادر عن شخص خاصّ مباح في نظر الأوّل وقبيح في نظر الثاني. وليس الأمر كذلك.

الثالث: أنّه يلزم من ذلك أن يتساوى في نظر شخص واحد قبح العمل القبيح الصادر عن أىّ شخص مع قبح نفس العمل الصادر عن شخص آخر، مع وضوح أنّه يشتدّ قبحاً، ويخفّ بلحاظ الفاعل. فلو أنّه صدر ذلك عن نبىّ من الأنبياء مثلاً، فهو لايساوي في القبح فرض صدوره عن إنسان اعتيادىّ. وإذا فرض الكلام بلحاظ الأعدام الملازمة، قلنا حتّى مع افتراض تساوي الأعدام الملازمة يشعر العقل بأشدّيّة قبح صدوره عن النبىّ من قبح صدوره عن إنسان اعتيادىّ(1).

الرابع: أنّه هل المراد بقبح الكذب ـ مثلاً ـ كونه قبيحاً باعتبار الحدّ العدمىّ له، أو المراد كونه قبيحاً باعتبار الأعدام الملازمة له؟ فإن اُريد الأوّل، ورد عليه النقض بالصدق والكذب؛ فإنّهما بما هما كيف مسموع وكيفيّة نفسانيّة لا فرق بينهما من حيث الحدّ العدمىّ أصلاً، وإن اُريد الثاني، ورد عليه النقض بفرض عدم الالتفات إلى الأعدام الملازمة؛ فإنّه يلزم من ذلك ربط إدراك القبح بالالتفات إلى الأعدام الملازمة وعدم إدراكه


(1) الواقع: هو أنّ الفرق ليس في مقدار قبح العمل، وإنّما الفرق هو في درجة الانحطاط النفسىّ التي يكشف عنها هذا العمل؛ ذلك لأنّ الإنسان الاعتيادىّ كان المترقّب أن يكون أعلى مستوىً من صدور مثل هذا الفعل عنه بدرجة واحدة مثلاً، فكشف هذا العمل عن أنّه قد انحطّت نفسيّته بدرجة حتّى انقدحت في نفسه إرادة هذا العمل، في حين أنّ النبىّ ـ الذي هو أرفع مستوىً من هذا الفعل بمئات الدرجات ـ لو صدر عنه هذا الفعل، كشف عن أنّه قد انحطّت نفسيّته بمئات الدرجات، حتّى استعدّ لعمل من هذا القبيل.

435

عند عدم الالتفات إليها، في حين ليس الأمر كذلك. وكذا ربط إدراك حسن ترك الانتقام بالالتفات إلى وجودات ملازمة له وعدم إدراكه عند عدم الالتفات إليها، في حين ليس الأمر كذلك. هذا مضافاً إلى أنّ هذا الكلام ينافي مبناه(رحمه الله): من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ(1).

وأمّا لو اُريد أنّ إسناد القبح إلى الكذب ـ مثلاً ـ إسناد مجازىّ باعتبار الأعدام الملازمة له، فهو بغضّ النظر عمّا عرفت من النقض بفرض عدم الالتفات إلى الأعدام المترتّبة عليه، يكون ممّا يكذّبه وجدان المدركين للحسن والقبح من العقلاء؛ فإنّهم يدركون قبح الكذب حقيقة لا مجازاً.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ ما ذكره(رحمه الله) من انبساط القوّة العاقلة وانقباضها لا ترى له أىّ منشأيّة لصحّة المدح والذم، فلابدّ من التفتيش عن نكتة لصحّة المدح والذمّ. فإن فرضنا أنّها عبارة عن قانون العقلاء وجعلهم لصحّة المدح والذمّ، رجع هذا في الحقيقة إلى إنكار إدراك الحسن والقبح الذاتيّين، وإن فرضنا أنّها عبارة عن خصوصيّة ذاتيّة في الفعل، فهي بنفسها تفسير للحسن والقبح بلا حاجة إلى ضمّ انبساط القوّة العاقلة وانقباضها، إلّا أن يكون مقصوده(قدس سره) أنّ ذلك علامة ومعرّف للحسن والقبح، وإن كان هذا خلاف ظاهر كلامه (2).

ثُمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه عدم صحّة إرجاع ما يتراءى لدى الناس من إدراك الحسن والقبح إلى باب الميل والغريزة، وسلخهما من باب الإدراك؛ فإنّه يلزم من ذلك عدم صحّة


(1) قد يقول القائل: إنّنا لا ندخل الأعدام والوجودات الملازمة للشيء في الحساب، ولكن ندخل الأعدام والوجودات الناتجة عن الشيء في الحساب، فهذا يشبه اقتضاء النهي عن المعلول النهي عن علّته، لا اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

(2) كان الأولى أن يصاغ هذا المقطع بصياغة اُخرى أشمل، وذلك بأن يقال: هل المقصود أنّ الحسن والقبح عبارة عن نفس الملائمة والمنافرة للقوّة العاقلة التي توجب الانبساط والانقباض، أو المقصود أنّ الحسن والقبح أمران واقعيّان بغضّ النظر عن الملائمة والمنافرة، مرتبطان بسعة الوجود وضيقه (أو هما عين سعة الوجود والضيق في العمل الاختيارىّ)، ومعنى إدراك العقل لهما: انبساطه للحسن وانقباضه للقبيح على أساس الملائمة والمنافرة؟ فإن فرض الأوّل، ورد عليه ما في المتن: من أنّ مجرّد الملائمة والمنافرة، أو تأثير المدرك في انبساط وانقباض العقل، ليس مصحّحاً للمدح والذم... إلى آخره.

وإن فرض الثاني، فهذا في واقعه إنكار لادراك الحسن والقبح؛ فإنّ الإدراك يعني الكشف، لا حالة الانبساط والانقباض؛ إلّا أن يفرض الانبساط والانقباض مجرّد علامة، وهذا خلاف ظاهر كلامه.

436

إسناد الحسن والقبح إلّا بالنسبة إلى من له هذا الميل الطبيعىّ والغريزة النفسانيّة، وعدم تطبيق الحسن على أفعال الله تعالى. فلا يصحّ أن يقال ـ مثلاً ـ: إنّ العدل منه حسن والظلم منه قبيح(1). وكذلك من عوّد نفسه على ارتكاب القبائح وترك المحسّنات إلى أن زال منه الميل الطبيعىّ إلى فعل الحسن وترك القبيح، وماتت غريزته، لزم أن لا يميّز بين الحسن والقبيح، مع أنّه ليس كذلك(2).

كما ظهر ـ أيضاً ـ ممّا ذكرناه ما في كلام الفلاسفة، حيث ربطوا إدراك الحسن والقبح بباب المصلحة والمفسدة، لكن ليس كلّ مصلحة ومفسدة، بل خصوص ما لا يحتاج منهما في مقام الإدراك إلى تأمّل عقلىّ، فيدركهما جميع العقلاء، ونتيجة لذلك يتطابقون ـ لأجل الحفاظ على المصالح والتجنّب عن المفاسد ـ على مدح فاعل ما فيه المصلحة، وذمّ فاعل ما فيه المفسدة. ومن هنا سمّوا القضايا التحسينيّة والتقبيحيّة بالمشهورات.

أقول: أمّا ربطهم لدرك الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة، فغير صحيح سواء اُريد المصلحة والمفسدة الشخصيّتان أو النوعيّتان، أي: ما يرجع إلى حفظ نظام المجتمع وبقاء النوع؛ فإنّه يلزم من ذلك على أىّ حال دوران الحكم لديهم بالحسن والقبح مدار نتيجة التزاحم بين المصالح والمفاسد، في حين ليس الأمر كذلك.

وأمّا ما ذكروه نتيجة لذلك: من أنّ هذه قضايا مشهورة، فلم يتّضح لنا ـ ممّا رأيناه من كلماتهم ـ ما هو مرادهم من ذلك؛ فإنّه يحتمل في كلامهم أمران:

الأوّل: أن يكون مرادهم من ذلك إنكار ضمان حقّانيّة هذه القضايا؛ لعدم ضامن لحقانيّتها عدا الشهرة التي لا تصلح لذلك؛ ولذا ترى الشيخ الرئيس يقول: إنّه لو خلق إنسان في مكان منفرداً، ولم يتعلّم المحسّنات والقبائح بالمعاشرة، لم يدرك بعقله ولا بوهمه ولا بحسّه حسن العدل وقبح الظلم. وذكر ـ أيضاً ـ هو وشارح إشاراته المحقّق الطوسىّ(رحمه الله): أنّ القضايا المشهورة ليست بيّنة الصحّة وإن كانت قد تصحّ.


(1) إن كان مقصود من يرجع الحسن والقبح إلى الغريزة هو غريزة الفاعل، ورد عليه هذا النقض، أمّا لو كان المقصود هو غريزة المدرك، فهذا النقض غير وارد عليه.

(2) معرفتنا بأنّه ليس الأمر كذلك إمّا أن تنشأ من علمنا السابق بأنّ باب الحسن والقبح يختلف عن باب الغريزة، وهذا لا يصلح بيانه كنقض، أو من التجربة والاستقراء، وهذا صعب. ولعلّ الأولى النقض بما هو سهل التجربة والاستقراء: من أنّ كثيراً من الناس الاعتياديّين يدركون أحياناً الحسن والقبح على خلاف ما هي نتيجة تزاحم غرائزهم، فمن يدافع ـ مثلاً ـ عن ابنه لغلبة غريزة حبّ الابن على غريزة حبّ العدل عنده، يحكم مع ذلك بأنّه قد خان في سبيل حبّه لابنه.

437

وهذا المعنى ـ الذي يظهر من بعض كلماتهم كما عرفت ـ راجع في الحقيقة إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بحثنا الثالث، وهو البحث عن حقّانيّة مدركات العقل العملىّ.

الثاني: أن يكون مرادهم ما يظهر من كلام المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) اختياراً أو إسناداً إلى الفلاسفة: من إنكار ما بإزاء له في الواقع للمدركات بالعقل العملىّ، وأنّ مرجع العقل العملىّ إلى تطابق آراء العقلاء، ولا واقع له وراء ذلك. وهو(قدس سره) بالرغم من إصراره على ذلك لم يذكر في كلامه عدا ما إذا تمّ لا يدلّ على أزيد من الأمر الأوّل، أعني: عدم ضمان الحقّانيّة؛ إذ إنّه ذكر(رحمه الله) في بحث التجرّيّ دليلاً على عدم كون قضايا العقل العملىّ من موادّ البرهان، وهذا المقدار ـ كما ترى ـ ينفع في سلب صفة ضمان الحقّانيّة عنها فحسب؛ لأنّ العقل البرهانىّ هو المضمون حقّانيّته دون غيره. ولا يثبت بذلك كذب هذا الإدراك وعدم وجود ما بإزاء له في الواقع حتماً.

وعلى أىّ حال، فإن كان هذا الوجه هو المقصود، فسيرجع محصلّه إلى إنكار العقل العملىّ رأساً، وإرجاعه إلى العقل النظرىّ، وجعل هذا العنوان مجرّد اصطلاح بحت بلا مائز فنّيّ. توضيح ذلك: أنّ المدرك بالعقل العملىّ على هذا: إمّا هو نفس تطابق العقلاء على صحّة المدح والذمّ، أو متعلّق هذا التطابق. فإن فرض الأوّل، فهذا التطابق إنّما هو مدرك بالعقل النظرىّ، كتطابقهم على حبّ الأولاد، وبغض الأعداء، وغير ذلك.

وإن فرض الثاني، فإن قيل: إنّ متعلّق هذا التطابق أمر واقعىّ وثابت بغضّ النظر عن تطابق العقلاء، فهذا خلاف فرض إنكار ما بإزاء له في الواقع للمدركات بالعقل العملىّ وإرجاعه إلى تطابق العقلاء، وإن قيل: إنّ متعلّق هذا التطابق هو فعل العقلاء من جعل قانون المدح والذمّ، أو تنفيذه عملاً، فهذا حاله حال سائر أفعال العقلاء المدركة بالعقل النظرىّ. وأيّ فرق بين فرض كون جاعل القانون هو العقلاء أو الشارع، حتّى يفترض أنّ القائل بالأوّل معترف بالعقل العملىّ، والقائل بالثاني غير معترف به؟ وهل هذا ـ كما قلنا ـ عدا اصطلاح بحت، خال من الملاك والمائز الفنّيّ؟

 

3 ـ حقّانيّة العقل العملىّ

البحث الثالث: في حقّانيّة إدراك الحسن والقبح الذاتيّين وعدمها، ونستقصي الكلام في ذلك بذكر اُمور ثلاثة:

الأوّل: في تصوير ما هو المعنى المبحوث عن حقّانيّة إدراكه.

438

الثاني: فيما يمكن الاستدلال به على عدم حقّانيّة ذلك.

الثالث: في أنّه ـ بعد الفراغ من عدم قيام برهان ناف لحقّانيّة العقل العملىّ ـ ما هو التحقيق في مدى حقّانيّة هذا الإدراك.

 

حقيقة الحسن والقبح العقليّين

أمّا الأمر الأوّل: وهو بيان ما هو المعنى المبحوث عن حقّانيّة إدراكه، وهو الحسن والقبح، فنقول: إنّهما عبارة عن الضرورة الخلُقيّة الثابتة في لوح الواقع بقطع النظر عن اعتبار أىّ معتبر. وهي مباينة للضرورة التكوينيّة ماهيّة ومرتبة؛ إذ إنّ الضرورة التكوينيّة عبارة عن الوجوب، وهذه الضرورة عبارة عن الانبغاء والأحرائيّة، والضرورة التكوينيّة في عرض السلطنة، وهذه الضرورة في طولها.

وتوضيح هذه المصطلحات يتوقّف على ذكر إجمالىّ لما هو المختار في باب الجبر والاختيار، وموضع تفصيله هو مبحث الطلب والإرادة، فنقول: ذكر الفلاسفة: أنّ نسبة شيء إلى شيء ـ بعد فرض إخراج الامتناع عن المقسم ـ إمّا هي الوجوب، أو الإمكان. فنسبة الشيء إلى قابله هي الإمكان، ونسبته إلى فاعله هي الوجوب. وقد قالوا بذلك في تمام عوالم الإمكان، بلا فرق بين الأفعال الاختياريّة وغيرها، فحركة يد المشلول وتحريك اليد اختياراً سيّان في هذا الأمر. ومن هنا وقعوا في إشكال في تصوير معنى الاختيار في الأفعال الاختياريّة. وحاصل ما يتلخّص من كلماتهم في تصوير ذلك أمران:

الأوّل: أنّه تفترق الأفعال الاختياريّة عن غيرها من ناحية الإمكان وقابليّة القابل، فانفتاح باب الإمكان على وجه الشيء الموجود يكون بمقدار رفعته وخسّته في سلّم الوجود، فالجماد ـ مثلاً ـ الذي هو أخسّ الموجودات ليست له إمكانيّة قبول العوارض والطوارئ إلّا في مجال ضيّق؛ ولذا ترى أنّ العالم الطبيعىّ بإمكانه أن يتنبّأ كيفيّة تحرّكالحجر ـ مثلاً ـ المرمىّ إلى فوق، في سير نزوله ومحلّ سقوطه.

وأمّا النبات الذي يتنعّم بنعمة الحياة بمقدار ما، فهو أرقى في سلّم الوجود، فقابليّته وإمكاناته تكون في دائرة أوسع، فهناك مجال للتشكيك فيما سوف يصنعه النبات؛ ولذا ترى بعض النباتات إذا اقترب في نموّه من جدار يمنع عن نموّه لو التصق به، يغيّر من

439

شكل حركته، ويتحرّك في نموّه من جهة اُخرى، فهو أوسع إمكاناً من الجماد.

وأمّا الحيوان فهو أرقى من النبات في سلّم الوجود، فتتّسع دائرة إمكاناته وحرّيّته في مجال أوسع. فإذا ضرب حيوان مثلاً، وصمّم على الفرار، وكانت لفراره عدّة طرق متساوية، لا يمكن للعالم الطبيعىّ أن يتنبّأ ما سوف يختاره هذا الحيوان من طريق الفرار.

وأمّا الإنسان فهو أرقى مرتبة من الحيوان في سلّم الوجود، ويعيش في دائرة أوسع من الإمكانيّات والحرّيّات. فبينما ترى الحيوان أسير غرائزه وميوله النفسانيّة لا يتخلّف عنها قدر المستطاع، ترى الإنسان له عقل باستطاعته أن يحكّمه على الغرائز والميول النفسانيّة، فيغيّر مجرى عمله من مسير الغرائز وتلك الميول، أو أن لا يحكّمه.

والخلاصة: أنّه كلّما كان الموجود في درجة أرقى من سلّم الوجود، فهو أكثر إمكاناً وحرّيّة في التصرّف. وبهذا يتّضح جوهر الاختيار في الأفعال الاختياريّة.

الثاني: أنّه تفترق الأفعال الاختياريّة عن غيرها من ناحية الوجوب؛ إذ إنّ الثاني واجب بوجوب غير مسبوق بالاختيار، والأوّل يكون وجوبه في طول الاختيار والإرادة. وما هو في طول الاختيار لا يعقل أن ينافي الاختيار، وإلّا لزم من وجوده عدمه.

والواقع: أنّ شيئاً من هذين الوجهين لا يفيدان الاختيار بالمعنى الذي هو موضوع لحكم العقل بالحسن والقبح، وصحّة المدح والذمّ.

ولعلّهم إنّما اصطلحوا على ما ذكروه باسم الاختيار، وتكلّموا بتلك الكلمات خجلاً من التصريح بالجبر.

توضيح ذلك: أنّ الوجه الأوّل إنّما يبيّن تفاوت الموجودات في المقدار الممكن من طروّ العوارض والخصوصيّات عليها، واختلاف درجات قابليّة القابل، وتسمية بعض الدرجات باسم الاختيار. وهذا لا يختلف في الروح والجوهر عن مثل أن يقال:

إنّ الجسم الفلانىّ لا تكون له قابليّة التلوّن بلون عدا لون السواد مثلاً، والجسم الآخر يقبل التلوّن بعدّة ألوان. فيسمّى الثاني بالاختيار، ويقال إنّ هذا الجسم مختار في اتّخاذ أىّ لون من هذه الألوان. أ فليس هذا عدا اصطلاح اعتباطىّ خال من النكتة الفنّيّة الموجودة في الاختيار المصحّح للمدح والذمّ والموضوع للحسن والقبح؟!

وأمّا الوجه الثاني: فما ذكر فيه: من أنّ ما هو في طول الاختيار لا ينافي الاختيار، وإن

440

كان صحيحاً، إلّا أنّ الكلام في الصغرى، وهو كون هذا الوجوب في طول الاختيار؛ فإنّهم يقصدون بذلك: أنّ الفعل في طول الإرادة، وسمّوا الإرادة بالاختيار. وهذه التسمية ـ أيضاً ـ ليست عدا اصطلاح اعتباطىّ فارغ من النكتة المطلوبة في تصحيح استحقاق المدح والذمّ، وحكم العقل العملىّ بالحسن والقبح؛ فإنّ الإرادة ليست عدا حالة نفسانيّة تعرض على الإنسان، كعروض سائر العوارض عليه، ونسبتها إلى الإنسان بعنوان الفاعل هي نسبة الوجوب ـ بحسب ما هو مفروض في كلامهم ـ وبعنوان القابل هي نسبة الإمكان، كما قالوا بذلك في جميع العوارض لعوالم الإمكان. فهل ترى لو أوجد شخص تكويناً إرادة الفعل في نفس شخص آخر، وترتّب عليها تكويناً صدور الفعل عنه، استحقّ ذاك الفاعل المدح أو الذمّ؟!

وحاصل الكلام: أنّ ما هو ثابت في الواقع، ومركوز في الأذهان، ومدرك بالعقل الفطرىّ، هو اختياريّة أفعال الإنسان بالمعنى المترتّب عليه الحسن والقبح والمدح والذمّ. فالمحدّد للاختياريّة عندنا إنّما هو العقل العملىّ. وأمّا هؤلاء الفلاسفة فلم يحدّدوا الاختياريّة بالعقل العملىّ، وإنّما حدّدوها باصطلاح خاصّ، ولا نزاع لنا معهم في اصطلاحهم.

ولكنّا نقول: إنّ هذه المصطلحات والنزاع فيها لا تعدوأن تكون نزاعاً لفظيّاً فارغاً لا محصّل لها ما لم يرجع الكلام إلى البحث عن اختيار مصحّح لما هو المدرك لدى الناس من الحسن والقبح بناءً على حقّانيّتهما.

نعم، إن صحّت نسبة المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) إلى الفلاسفة القول بما يرجع إلى إنكار العقل العملىّ رأساً، ورجوع التحسين والتقبيح والمدح والذمّ إلى تباني العقلاء وتواطئهم على ذلك، لم يبق لهم أثر عملىّ للبحث عن الاختيار بهذا المعنى. هذا.

وذكر المحقّق النائينىّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ومن حذا حذوهما في تصوير الاختيار أنّ قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد مختصّة بغير الأفعال الإراديّة، أمّا الأفعال الإراديّة فالنسبة فيها هي الإمكان بلحاظ الفاعل، كما كانت هي الإمكان بلحاظ القابل؛ وذلك لأنّ الأفعال الإراديّة تكون في طول الاختيار، بمعنى: أنّه يصدر عن الإنسان حين العمل أمران:

1 ـ إعمال القدرة، وهو فعل من أفعال النفس، لا حالة خاصّة عارضة عليها كالإرادة.

2 ـ العمل الخارجىّ. والثاني اختيارىّ بالأوّل، والأوّل اختيارىّ بنفسه. وترتّب الفعل

441

الخارجىّ على ذاك الفعل النفسىّ واجب، لكنّ هذا الوجوب لا ينافي الاختيار؛ لكونه في طول الاختيار، لا بمعنى كونه في طول الإرادة: بأن تسمّى الإرادة اختياراً، بل بمعنى كونه في طول إعمال النفس للقدرة. وخصوص هذا الفعل النفسانىّ خارج عن تحت قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، ويكفي فيه نفس الإمكان.

أقول: لا أدري لماذا لم يدّعوا ـ بعد فرض تطرّق الاستثناء إلى قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ـ كفاية الإمكان ابتداءً بالنسبة إلى الأفعال الخارجيّة. ثُمّ لا أدري ماذا يقصد بإعمال القدرة؟ فهل الإعمال غير العمل؟

وبتعبير آخر: هل المقصود بإعمال القدرة إيجاد نفس القدرة، أو إيجاد المقدور ـ وهو الفعل الخارجىّ ـ أو ماذا؟ فإن كان المقصود هو إيجاد نفس القدرة ـ والظاهر أنّه ليس هو المقصود ـ فمن الواضح: أنّ إيجاد القدرة عمل للواهب تعالى لا لهذا الشخص، وإن كان المقصود هو الثاني، ورد عليه أنّ الإيجاد عين الوجود، وإنّما يختلفان بالاعتبار، وليس كلّ من الإيجاد والوجود فعلاً مستقلّاً للفاعل في قبال الآخر.

وأظنّ أنّهم تفطّنوا إلى أنّه لو بني على استثناء الأفعال الإراديّة مباشرة من قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، وقيل بكفاية الإمكان فيها، لأمكن دعوى كفاية الإمكان في الاُمور التكوينيّة أيضاً، وبهذه الدعوى ينسدّ باب إثبات الصانع، فالتزموا بحالة متوسّطة بين الوجوب والإمكان في الأفعال الإراديّة بتوسيط أمر لا يتصوّر القول به في الاُمور التكوينيّة، وهو إعمال القدرة، غفلة منهم عن أنّ الكلام ينقل إلى هذا الأمر المتوسّط، وهو إعمال القدرة؛ إذ هذا اعتراف بكفاية الإمكان بالمباشرة وبلا توسيط أمر في تحقّق إعمال القدرة. ولو أمكن دعوى كفاية الإمكان في هذا الأمر، أمكن دعواها في الاُمور التكوينيّة؛ لعدم وجود نكتة فنّيّة للفرق.

وأساس كلّ هذه الاشتباهات هو تخيّل انحصار النسبة في الوجوب والإمكان.

ونحن نقول: إنّ نسبة الفعل الاختيارىّ إلى فاعله هي بالتعبير الاسمىّ نسبة السلطنة، وبالتعبير الحرفىّ نسبة (له أن يفعل، وله أن لا يفعل). فنحن ننكر انحصار النسبة في الوجوب والإمكان، ونؤمن بأنّ النسب ثلاثة: نسبة الوجوب، ونسبة الإمكان، ونسبة السلطنة، أو (له أن يفعل، وأن لا يفعل). ونؤمن بأنّ موضوع القاعدة العقليّة الصادقة في كلّ

442

العالم بالدقّة: هو الجامع بين الوجوب والسلطنة، لانفس الوجوب فقط. فالقاعدة التي تصحّ في كلّ المواضع هي: (أنّ الشيء لايوجد إلّا بالوجوب أو السلطنة)، لا (أنّ الشيء بشكل عامّ ما لم يجب لم يوجد) نعم، بما أنّ السلطنة غير موجودة في العلل التكوينيّة فوجود معلولاتها لا يكون إلّا بالوجوب. هذا.

وما ادّعيناه من وجود نسبة اُخرى إلى صفّ نسبة الوجوب والإمكان، يكون بحسب عالم التصوّر بديهيّاً، كبداهة الوجوب والإمكان والوجود والعدم، فلا غبار بحسب عالم التصوّر على وجود نسبة ثالثة في قبال نسبة الوجوب والإمكان، فهذه غير الوجوب وغير الإمكان: أمّا أنّها غير الوجوب؛ فللتضاد الواضح بين عنوان (له أن يفعل) وعنوان (لابدّ له أن يفعل).

وأمّا أنّها غير الإمكان؛ فلأنّ الإمكان عبارة عن القابليّة، وهي التأهّل للقبول، وهذا مفهوم لا يتصوّر إلّا بين الشيء وقابله، دون الشيء وفاعله، بخلاف مفهوم (له). هذا.

وبالإمكان أن نقيم برهاناً على وجود نسبة السلطنة واقعاً في الجملة، ويكون هذا أوّل مرّة في تأريخ هذه المسألة؛ لعدم الاقتصار في مقام إثبات هذه السلطنة على الوجدان، وإثباتها بالبرهان.

وبيان ذلك إجمالاً: أنّ هناك قاعدتين عقليّتين ثابتتين في محلّهما:

1 ـ إنّ الممكن بالذات يستحيل أن يصبح علّة للمحال بالذات ولو فرض أنّ المحال بالذات قد يكون معلولاً لمحال آخر.

2 ـ إنّ المحال بالذات يستحيل أن يكون معلولاً ولو لمحال ذاتىّ آخر.

وبعد هذا نقول: إنّ ارتفاع ضدّين وجوديّين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ـ بعد فرض وجود جسم مثلاً كي يتّصف بالحركة والسكون ـ محال بالذات، كارتفاع النقيضين. وحينئذ نلفت النظر إلى ضدّين لا ثالث لهما، ونقول:

إنّ من الممكن أن لا يوجد في سلسلة العلل لهذين الضدّين مرجّح لأحدهما على الآخر. فلو ثبت هذا الإمكان (من دون حاجة إلى دعوى الفعليّة كما قيل في رغيفي الجائع وطريقي الهارب كي يقال لا برهان على عدم المرجّح)، قلنا: إنّه لو بني على انحصار النسبة خارجاً في الوجوب والإمكان، للزم كون الممكن بالذات ـ وهو عدم المرجّح لكلّ

443

من الضدّين ـ علّة لارتفاع الضدّين اللذين لا ثالث لهما، الذي هو محال بالذات. وهذا انخرام لكلتا القاعدتين العقليّتين اللتين أشرنا إليهما. ولو قلنا باستحالة انتفاء المرجّح في سلسلة العلل، لزم انخرام القاعدة الثانية فحسب، في حين لو سلّمنا وجود النسبة الثالثة في الخارج، فلا يبقى هناك إشكال؛ إذ يوجد أحد الضدّين ـ حينئذ ـ بالسلطنة بلا حاجة إلى مرجّح(1).

إذا عرفت هذا قلنا في المقام: إنّ الضرورة التكوينيّة ـ التي هي النسبة بين الفعل وفاعله، من دون فرق بين الأفعال، على مذهب الفلاسفة ـ تكون في عرض السلطنة التي هي النسبة عندنا بين الفعل وفاعله المختار، في حين أنّ الحسن والقبح عبارة عن ضرورة خلقيّة، وهي في طول السلطنة؛ إذ لا تتّصف الاُمور غير الاختياريّة بالحسن والقبح، وتباين ماهيّة الضرورة التكوينيّة، وإلّا لكانت خلف فرض السلطنة المفروضة في الرتبة السابقة عليها.

فالضرورة الخلقيّة عبارة عن كون الأولى أن يقع هذا الفعل أو أن لا يقع، والضرورة التكوينيّة عبارة عن أنّه لا يمكن أن لا يقع أو أن يقع. وليس المقصود بيان التعريف المنطقىّ؛ فإنّ الأولويّة وكذا الضرورة التكوينيّة وما أشبه ذلك كالإمكان والامتناع والوجود والعدم مفاهيم واضحة، ومن أوضح المفاهيم، ولا يمكن توضيحها بمفاهيم اُخرى، وإنّما المقصود إلفات النظر وتوجيهه نحو المعنى الخاصّ، وهو ـ كما اتّضح ـ الضرورة الخلقيّة: وهي نسبة واقعيّة بين السلطنة والفعل.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ المشهور جعلوا الحسن والقبح عبارة عن صحّة المدح والذمّ عليه.


(1) قد يقال: إنّ هذا ليس دليلاً على وجود السلطنة خارجاً؛ إذ فرض وجود السلطنة خارجاً لايرفع الإشكال؛ ذلك لأنّه حتّى لو كانت السلطنة موجودة خارجاً بإمكاننا أن نقول: إنّ عدم المرجّح منضمّاً إلى عدم السلطنة ـ ولو محالاً ـ علّة لارتفاع الضدّين اللذين لاثالث لهما، في حين أنّ ارتفاعهما مستحيل بالذات، وقد قلنا: إنّ المستحيل بالذات لا يكون معلولاً ولو لأمر محال، فقد عاد الإشكال.

والجواب عن ذلك: أنّ السلطنة نسبتها إلى الوجود والعدم سيّان، فليست هي علّة للوجود كي يدخل عدمها في علّة العدم، فعلّة عدم الضدّين إنّما هي عدم المرجّح في ظرف عدم السلطنة، أي: إنّ عدم السلطنة قيد للعلّيّة لا للعلّة. فإن كان هذا القيد ثابتاً، إذن العلّيّة ثابتة، وبالتالي قد ثبت الإشكال؛ لأنّ عدم المرجّح أصبح علّة لمستحيل بالذات، وهو انتفاء ضدّين لا ثالث لهما، وإن كان هذا القيد غير ثابت: بأن كانت السلطنة موجودة خارجاً إذن فالعلّيّة غير ثابتة، فيرتفع الإشكال من أساسه.

444

ولكن التحقيق: أنّ هذا يستلزم المحال بعد الالتفات إلى وضوح عدم صحّة المدح والذمّ لمن فعل الحسن أو القبيح مع جهله بحسنه أو قبحه.

فمثلاً: من ارتكب القتل والغارة مع جهله بقبحه؛ لكونه قد عاش في مجتمع يفتخرون بذلك، ويرونه شجاعة، ويمارسونه باعتقاد كونه فضيلة وامتيازاً للإنسان، فتغطّى عقله العملىّ بعيشه في بيئة من هذا القبيل، فلم ير هذا الفعل قبيحاً، فارتكب القتل والغارة، لم يصحّ ذمّه ذمّاً عقابيّاً، وإن صحّ تنقيصه من سنخ تنقيص الشخص الغبىّ الذي لا يدرك ما هو من واضحات العقل النظرىّ. فلو كان الحسن والقبح يعني صحّة المدح والذمّ ـ في حين نرى أنّ صحّتهما تتوقّف على علم الفاعل بهما ـ لزم كون حسن فعله وقبحه متوقّفاً على علمه بذلك، وتوقّف الشيء على العلم به مستحيل.

والجواب بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول أو ما يشابه ذلك لا يأتي هنا؛ لاختصاصه بباب الجعل والتشريع، ومفروض الكلام هو كون الحسن والقبح أمرين واقعيّين وثابتين بغضّ النظر عن جعل أىّ جاعل واعتبار أىّ معتبر.

والتفكيك بين الجعل والمجعول ـ بمعنى من المعاني ـ إنّما يمكن في الاعتباريّات، دون ما هو من الموجودات الخارجيّة، ولا ما هو من موجودات لوح الواقع ـ بحسب مصطلحنا ـ الذي هو أوسع من لوح الخارج.

والتحقيق: أنّ صحّة المدح والذمّ أو عدم صحّتهما ليسا إلّا عبارة عن حسن المدح والذمّ أو قبحهما. وليس المدح والذمّ إلّا فعلاً من أفعال الإنسان، يتّصف ـ كسائر أفعاله ـ بالحسن والقبح، فالقتل والغارة ـ مثلاً ـ محكومان بالقبح، وذمّ صدورهما عن الشخص محكوم بالحسن، والحكم الثاني اُخذ في موضوعه علم الفاعل بالحكم الأوّل، ولا إشكال في ذلك(1).

 


(1) لا يخفى أنّ تعريف الحسن والقبح بالمدح والذمّ إن كان بمعنى التعريف المنطقىّ، فهذا غير معقول؛ فإنّهما مفهومان أوّليّان واضحان لا يعرّفان بشيء آخر. على أنّ صحّة المدح أو الذمّ لا تعني إلّا حسنهما أو عدم قبحهما، فهذا تفسير للشيء بنفسه، ولكنّ الواقع: أنّ المدح والذمّ هما عين قولنا: إنّ هذا حسن وهذا قبيح، فقولنا: (هذا حسن) هو مدح، وقولنا: (هذا قبيح) هو ذمّ. فصحّ أن يقال كإلفات للنظر ـ لا كتعريف ـ: إنّ الحسن والقبيح عبارة عمّا يستحقّ عليه المدح والذمّ، بمعنى: أنّ الحكم بالحسن والقبح هو عين المدح والذّم. وأمّا لزوم أخذ العلم بالشيء في موضوع نفسه؛ لأنّ صحّة المدح والذمّ تتوقّف على علم الفاعل بالحسن والقبح،


445

ما يستدلّ به على عدم الحقّانيّة

وأمّا الأمر الثاني: وهو الكلام فيما يمكن الاستدلال به على عدم حقّانيّة ما يدركه الناس من الحسن والقبح، فنذكر هنا براهين ثلاثة على ذلك:

البرهان الأوّل: برهان أشعرىّ، وهو مركّب من صغرى وكبرى استفادوهما من العقل النظرىّ: أمّا الصغرى فهي مجبوريّة الناس على أعمالهم. وهذه ممنوعة عندنا، وأمّا الكبرى فهي عدم اتّصاف الفعل الخارج عن القدرة بالحسن والقبح. وهذه صحيحة. ويستنتج من هاتين المقدّمتين عدم اتّصاف أفعال الناس بالحسن والقبح. وهذا هو الوجه الوحيد الموجود في كلمات الأشعريّين الذي يمكن أن يجعل دليلاً على بطلان العقل العملىّ. وأمّا ما عدا ذلك من الوجوه المذكورة في كلماتهم، فلا ينبغي الشكّ في أنّها لا تفيد أكثر من عدم ضمان حقّانيّة العقل العملىّ.

والتحقيق: أنّ هذا الوجه ـ أيضاً ـ لا يفيد إنكار صحّة العقل العملىّ؛ فإنّ العقل العملىّ لا يحكم إلّا بقضيّة شرطيّة، وهي: إنّ الفعل إن كان اختياريّاً، اتّصف بالحسن والقبح. وإنكار الشرط لا يؤدّي بنا إلى إنكار القضيّة الشرطيّة، بل ظاهر سوق الدليل بهذا الشكل هو التسليم بحسن الأفعال وقبحها على تقدير اختياريّتها.

نعم، يمكن أن يتخيّل أنّ العقل العملىّ يحكم ابتداءً بحسن بعض أفعال الناس وقبح بعضها، فيجعل ما مضى من البرهان الأشعرىّ برهاناً على بطلان العقل العملىّ، ولكن لدى التحليل يظهر أنّ حكم العقل بالبداهة بحسن بعض أفعال الناس وقبح بعضها مرجعه إلى حكم العقل النظرىّ بصغرى بديهيّة، وهي: الاختيار. وحكم العقل العملىّ بكبرى بديهيّة، وهي: اتّصاف الفعل الاختيارىّ بالحسن والقبح، فتنتقل النفس ـ التي هي مركز واحد


فجوابه: أنّ المدح والذمّ تارة يرجعان إلى صدور الفعل عن الفاعل، أو قل: إلى ذات الفعل، واُخرى يرجعان إلى السريرة، وكون هذا الشخص في سريرته خبيثاً أو طيّباً. فإن قصد أنّ رجوعهما إلى الفعل مشروط بالعلم، فهو ممنوع، وإن قصد أنّ دلالة العمل على خبث السريرة وطيبها مشروطة بالعلم بحسن الفعل وقبحه، فهذا صحيح، ولا يلزم من ذلك أخذ العلم بالشي ء في موضوع نفسه. هذا.

والظاهر: أنّ المشهور عرّفوا الحسن والقبح بمدح الفاعل وذمّه، وكأنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان بصدد ردّ ذلك، وعليه كلامه (رضوان الله عليه) صحيح.

446

لكلا الإدراكين ـ إلى النتيجة بكمال الوضوح؛ إذ كانت المقدّمتان مع التطبيق بديهيّة، فصارت النتيجة في قوّة البديهىّ.

البرهان الثاني: برهان فلسفىّ، وأقصد بذلك برهاناً قد نصوغه على وفق مباني الفلاسفة، وإن كانوا هم لم يذكروا هذا البرهان، وهو: أنّ الحسن والقبح لو كانا واقعيّين: فإمّا أن يكونا انتزاعيّين، أو من الأعراض المتأصّلة في المحلّ.

وبتعبير آخر: إمّا أن يكونا من المعقول الثانوىّ بحسب مصطلح الفلاسفة، أو من المتأصّلة العارضة على المحلّ.

وتوضيح هذه الاصطلاحات: أنّ الشيء تارة يتصوّر بعناوينه الذاتيّة من الجنس، والفصل، والنوع، وهذه معقولات أوّليّة، واُخرى يتصوّر بعناوين غير ذاتيّة، كوجوبه، وإمكانه، وسواده، وبياضه، وغير ذلك، وهذه عناوين متأخّرة عن العناوين الأوّليّة. وهي على قسمين:

الأوّل: ما يكون انتزاعيّاً، وهو ما يكون ظرف عروضه هو الذهن، وظرف اتّصافه هو الخارج، كالوجوب والإمكان ونحوهما. وهذا هو المعقول الثانوىّ في المصطلح الفلسفىّ.

الثاني: ما يكون أصيلاً، وهو ما يكون ظرف عروضه واتّصافه هو الخارج، كالسواد والبياض ونحوهما.

فهل الضرورة الخلقيّة أو الحسن والقبح أمر انتزاعىّ ينتزع من الاُمور الحسنة والقبيحة، أو أنّ ظرف عروضها واتّصافها معاً هو الخارج؟ فإن قيل بالأوّل، لزم انتزاع شيء واحد من اُمور متباينة بما هي متباينة؛ إذ الأفعال المتّصفة بالحسن أو القبح قد تكون متباينة بحسب المقولة والماهيّة ولا جامع بينها، بل ربّما ينتزع هذا الشيء الواحد من الوجود والعدم، فوجود الإكرام ـ مثلاً ـ حسن، وعدم الانتقام ـ أيضاً ـ حسن، في حين أنّه لاجامع بين الوجود والعدم.

وإن قيل بالثاني، لزم عدم اتّصاف الأفعال قبل وجودها بالحسن والقبح؛ إذ لا يعقل وجود العرض قبل وجود المعروض، فقبل أن يضرب هذا الشخص اليتيم لا يقبح ضربه، وقبل أن يكرمه لا يحسن إكرامه.

وهذا ـ كما ترى ـ مناف لماهيّة الحسن والقبح والضرورة الخلقيّة، وخلف للعقل العملىّ.

447

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا البرهان ـ كما ذكرنا ـ مصوغ على وفق مباني الفلاسفة، ولكن الإشكال في المبنى؛ فإنّ لوح الواقع عندهم عبارة عن لوح الخارج، فكلّما يدركه العقل إدراكاً صحيحاً، وليس ظرف عروضه هو الخارج، قالوا عنه: إنّه أمر انتزاعىّ انتزعه العقل، وليس أصيلاً.

ولكنّا نرى أن لوح الواقع أوسع من لوح الخارج؛ ولذا نقول: إنّ الإنسان ممكن سواء وجد شخص ينتزع الإمكان من الإنسان، أو لا، والخالق سبحانه واجب سواء تصوّر أحد وجوبه، أو لا، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ الحسن والقبح ليسا انتزاعيّين ـ بمعنى يقابل الوجود في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الخارج ـ حتّى يرد الإشكال الأوّل، ولا خارجيّين حتّى يرد الإشكال الثاني، بل هما من موجودات لوح الواقع.

وثانياً: لو سلّمنا المبنى، اخترنا في المقام الشقّ الأوّل، وهو كون ظرف العروض هو الذهن، وظرف الاتّصاف هو الخارج، وننكر عدم وجود الجامع الذي يكون منشأً للانتزاع؛ إذ الجامع بين الأفعال المختلفة ماهيّة والأعدام المتّصفة بالحسن والقبح هو دخولها تحت السلطنة وكونها في طول السلطنة. وقد مضى أنّ اتّصاف الأشياء بالضرورة الخلقيّة إنّما هو بهذا الاعتبار. فأصل الضرورة الخلقيّة تابع لأصل السلطنة، وهي الجامع، وتحصّصات هذه الضرورة ـ بكونها ضرورة الصدق، أو الوفاء، أو ترك الانتقام، وما إلى ذلك ـ تابعة لتحصّصات نفس السلطنة، بكونها سلطنة على الصدق، أو الوفاء، أو ترك الانتقام، وما إلى ذلك(1).


(1) قد يقال: لو كانت الضرورة الخلقيّة منتزعة من جامع كون الشيء داخلاً تحت السلطنة، للزم ثبوتها في كلّ الأفعال والتروك التي هي تحت السلطنة، في حين أنّه يوجد كثير من الاُمور تحت السلطنة التي لا تتّصف بالضرورة، ولزم كون فعل واحد وجوده وعدمه في آن واحد ضروريّاً بالضرورة الخلقيّة؛ لأن نسبة السلطنة إليها على حدّ سواء.

إلّا أنّ هذا الإشكال قد يجاب عنه بافتراض موانع عن هذا الانتزاع في كلّ ما لا يتّصف بصفة الضرورة الخلقيّة، بنوع من المانعيّة ملائمة مع عالم الانتزاع. هذا.

ولكنّ العقل المدرك للحسن والقبح لدى من يعترف به حاكم بأنّه ليس مجرّد كون الشيء تحت السلطنة تمام المقتضي للحسن والقبح، بل لمتعلّق السلطنة دخل اقتضائىّ في ذلك، فيلزم انتزاع الشيء من اُمور متباينة بما هي متباينة. فالجواب الصحيح هو الجواب الأوّل في المقام.

448

البرهان الثالث: ما ذكره بعض الكلاميّين، وهو مبتن على مقدّمة فرضت مفروغاً منها، وهي: إنّ ما يعرض على الأشياء حقيقة وواقعاً ـ لا جعلاً واعتباراً ـ يجب أن يكون ذاتيّاً لكلّ ما يعرض عليها أو لبعضها؛ إذ كلّ ما بالعرض يجب أن ينتهي إلى ما بالذات.

ونحن لا نتكلّم هنا عن مدى صحّة هذه المقدّمة وعدمها؛ لاستلزامه الخروج عمّا يقتضيه المقام، ونبحث الأمر بناءً على صحّة هذه المقدّمة، فنقول:

إنّ البرهان الذي ذكر في المقام على عدم واقعيّة الحسن والقبح، هو أنّهما لو كانا واقعيّين لكانا ذاتيّين، مع أنّهما ليسا ذاتيّين؛ لما نرى من اختلافهما بالوجوه والاعتبارات.

وأجيب عن ذلك بأنّ الحسن ذاتىّ للعدل، والقبح ذاتىّ للظلم، ولا يختلف العدل والظلم في الحسن والقبح باختلاف الوجوه والاعتبارات. وأمّا ما نراه من كون الصدق ـ مثلاً ـ تارة حسناً، واُخرى قبيحاً، أو ضرب اليتيم كذلك، وما إلى ذلك من الاُمور، فهذا ينشأ عن اختلاف الحالات في الدخول تحت هذه الكبرى أو تلك. فمتّى ما كان الصدق أو ضرب اليتيم أو غير ذلك عدلاً، كان حسناً، ومتّى ما كان ظلماً، كان قبيحاً. فصحّ هنا ـ أيضاً ـ أنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات.

ويرد عليه: ما سيأتي إن شاء الله في الأمر الثالث: من أن قولنا: العدل حسن والظلم قبيح ليس إلّا قضيّة بشرط المحمول.

والصحيح في الجواب: أوّلاً: ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الأمر الثالث: من أنّ الحسن والقبح لا يختلفان باختلاف الوجوه والاعتبارات. فالصدق في ذاته ـ دائماً ـ حسن، والكذب في ذاته ـ دائماً ـ قبيح، وهكذا غيرهما من العناوين التفصيليّة للفضائل والرذائل. ولكن ما يتراءى من الاختلاف ينشأ عن مسألة التزاحم، كما سنبيّن ذلك إن شاء الله.

وثانياً: لو سلّمنا وقوع الاختلاف في الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات، فتلك الوجوه والاعتبارات مأخوذة كقيد فيما هو حسن أو قبيح، لا كمجرّد حيثيّات تعليليّة. وهذا لا ينافي الذاتيّة بالمعنى الذي ينبغي أن يكون مقصوداً من قولهم: «إنّ الأمر الواقعىّ يجب أن يكون ذاتيّاً»؛ إذ لو أرادوا من هذه الجملة: أنّ الأمر الواقعىّ يجب أن لايؤخذ في متعلقه قيد، فهذا كلام غير قابل للتعقّل، ولو أرادوا منها ذاتيّة الأمر الواقعىّ للحصص، أو لبعضها ممّا ترجع إليها باقي الحصص، فهذا ثابت في المقام؛ لأنّنا افترضنا تلك الوجوه والاعتبارات كقيود محصّصه، لا كحيثيّات تعليليّة.

449

مدى حقّانيّة العقل العملىّ

وأمّا الأمر الثالث: وهو الكلام في مدى حقّانيّة العقل العملىّ، فهنا موقفان:

موقف المثبتين، وموقف المشكّكين.

أمّا الموقف الأوّل: فقد ذكروا لبيان حقّانيّة العقل العملىّ وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ قضايا العقل العملىّ اتّفاقيّة بين تمام العقلاء، اذن فهي حقّة.

ومن الواضح: أنّ مجرّد اتّفاق العقلاء ليس بالمباشرة دليلاً على الصحّة والحقّانيّة. فكأنّ المقصود من الاستدلال به ما يكون من سنخ الاستدلال بالتجربة، بأن يقال: إنّ المعارف البشريّة النابعة من حاقّ النفس تكون مضمونة الصحّة، ويستحيل فيها الخطأ، بخلاف المعارف التي يتدخّل فيها الاُمور الخارجة عن النفس، ومعرفة الضرورة الخلقيّة هي من المعارف النابعة من حاقّ النفس؛ بدليل اتّفاق العقلاء عليها؛ إذ إنّ اتّفاقهم عليها شاهد على كون المنشأ لهذه المعرفة أمراً مشتركاً بين الجميع؛ إذ لو كان المنشأ لها أمراً غير مشترك بين الجميع، لما حصل اتّفاق الجميع عليها، وليس هناك شيء مشترك بين الجميع عدا النفس البشريّة، فتثبت أنّ هذه المعرفة نابعة من النفس وفطريّة للإنسان.

ويرد عليه: أنّ من عاشرناهم ورأيناهم من الناس لم يكن الأمر المشترك بينهم منحصراً في النفس البشريّة، بل هم مشتركون ـ أيضاً ـ في تعايشهم في مجتمع إنسانىّ، ومشاهدتهم لقوانين مقنّنة في المجتمع، وتربيتهم في حجر الأب والاُمّ أو المعلّم ونحو ذلك(1). فمن احتمل كون هذه المعرفة مستوحاة من تلك القوانين والمجتمعات والتربية والتعليمات، لم يمكن إثبات عدمه له بهذا الوجه، ومن لايحتمل ذلك لايحتاج إلى هذا الوجه.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض: من أنّه لو خلق إنسان منفرداً، وعاش منفرداً، ولم يشاهد أىّ مجتمع أو تعليم وتربية ونحو ذلك، ثُمّ حمل على الإخبار بشيء ما، ولم توجد له أىّ فائدة صدفة في الكذب، فهذا الإنسان سيصدق في إخباره، وهذا شاهد على أنّه يدرك


(1) والمجتمعات والتعاليم المختلفة مشتركة في كثير من المناشئ، كالمصالح والغرائز، فمن لا يدرك بوجدانه حقّانيّة الحسن والقبح، يحتمل أنّ المقدار المشترك بين الناس من الحسن والقبح المعترف بهما عند جميع المجتمعات ناشئ من التعاليم الاجتماعيّة المستوحاة من تلك المصالح والغرائز. وطبعاً أنّ تعاليم من هذا القبيل لا يشترط فيها التطابق الكامل والشامل لتمام الموارد مع المصالح والغرائز حتّى ينقض ببعض الموارد التي نرى الحسن والقبح المعترف بهما اجتماعيّاً يتخلّفان عن المصالح والغرائز.

450

حسن الصدق وقبح الكذب.

وهنا ـ أيضاً ـ من الواضح: أنّ مجرّد إدراك هذا الشخص ليس دليلاً مباشراً على المطلوب. وكأنّه ذكر ذلك لجبر النقص الذي أحسّ به ـ ولو ارتكازاً ـ في الوجه الأوّل من ثبوت جامع آخر من التعايش في المجتمع وملاحظة القوانين وما شابه ذلك، ففرض شخص فاقد لذلك كي يكون توافقه لباقي العقلاء في درك الحسن والقبح دليلاً على كون هذا الدرك نابعاً من حاقّ الفطرة والنفس البشريّة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا صرف فرض وخيال، ولم نجرّبه خارجاً كي نرى هل يدرك هذا الإنسان الضرورة الخلقيّة، أو لا؟ وهذا الفرض يقابله فرض الشيخ الرئيس ابن سينا حيث ذكر بصدد الاستشهاد على عدم ثبوت واقعيّة العقل العملىّ: أنّنا لو فرضنا شخصاً وجد وعاش منفرداً، لا يكون مدركاً بعقله ولا بوهمه ولا بحسّه الحسن والقبح.

والواقع: أنّ كلا الفرضين لا يفيدنا بحسب الفنّ شيئاً.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا في الجملة العلم بأنّ هذا الشخص سيختار الصدق، فإنّ هذا العلم لو تحقّق، فإنّما يتحقّق لمن يدرك سابقاً واقعيّة الحسن والقبح، فإدراكه السابق لذلك يجرّه إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان الذي وجد وعاش منفرداً سيختار الصدق. أمّا من لا يدرك واقعيّة الحسن والقبح، فلا مسوّغ له لدعوى العلم بأنّ هذا الشخص سيختار الصدق؛ كي يجعل هذا دليلاً على واقعيّة الحسن والقبح.

وثالثاً: لو سلّم ـ على رغم فرض عدم إدراكنا السابق لواقعيّة الحسن والقبح ـ أنّ هذا الإنسان سيختار الصدق، تطرّق احتمال أن يكون اختياره للصدق لميل وغريزة نفسانيّة في الطبع البشرىّ يدفعه نحو الصدق متى ما لم تكن له مصلحة في الكذب، أو أن يكون اختياره للصدق لإدراكه بالعقل النظرىّ مصلحة الصدق ومفسدة الكذب على ما قاله الفلاسفة من كون إدراك مصالح الاُمور الحسنة ومفاسد الاُمور القبيحة واضحة لدى كلّ عاقل، وقد مضى أنّ إدراك الحسن والقبح غير مرتبط بباب الميل والغريزة، وبباب المصلحة والمفسدة.

وأمّا الموقف الثاني: وهو موقف التشكيك في العقل العملىّ: فتارة يكون بالمنطق الأخبارىّ، واُخرى بالمنطق التجريبىّ، وثالثة بالمنطق العقلىّ.

أمّا المنطق الأخبارىّ: فهو دعوى كثرة الأخطاء في العقل العملىّ ببرهان وقوع