245

المقدّمة

5

 

 

 

 

الخلط الواقع

 

في تبعيّة الدلالة للإرادة

 

 

○ الدلالة الوضعيّة تصوّريّة أو تصديقيّة؟

○ هل الدلالة تابعة للإرادة؟

○ هل اُخذت الإرادة قيداً في المعنى؟

 

 

247

 

 

 

 

 

 

الأمر الخامس: أنّ هناك مطالب ثلاثة وقع عند الأصحاب الخلط بينها، في حين أنّه يختلف كلّ واحد منها عن الآخر محتوىً، وقد لا يكفي ملاك بعضها للباقي، وهي:

1 ـ هل الدلالة الوضعيّة تصوّريّة، أو تصديقيّة؟

2 ـ هل الدلالة الوضعيّة تابعة للإرادة، أو لا؟

3 ـ هل اُخذ في معنى اللفظ قيد الإرادة، أو لا؟

فلنوضّح الكلام في هذه المطالب الثلاثة، وافتراق كلّ واحد منها عن الآخر فنقول:

 

الدلالة الوضعيّة تصوّريّة أو تصديقيّة؟

أمّا البحث الأوّل: وهو: أنّه «هل الدلالة الوضعيّة تصوّريّة أو تصديقيّة؟»، فمضمونه عبارة عن بيان جوهر الدلالة الوضعيّة وحقيقتها، هل هي عبارة عن انتقال الذهن من صورة اللفظ إلى صورة المعنى، أو عبارة عن الكشف عن أمر موجود في نفس المتكلّم؟ وملاك ذلك هو أن نرى أنّ الوضع هل هو عبارة عن

248

التعهّد، أو عبارة عن الاعتبار بمعنىً يشمل مسلك جعل السببيّة الواقعيّة؟(1).

فإن قلنا بالأوّل، بمعنى: أنّ المتكلّم متعهّد بأن لا يتكلّم بكلام إلاّ إذا أراد معنى ذلك الكلام مثلاً، فقد أوجدنا بهذا التعهّد الملازمة بين وجودين خارجيّين: أحدهما: وجود اللفظ، والآخر: وجود المعنى خارجاً، أعني: وجود إرادة المعنى حقيقةً في نفس المتكلّم. ومتى ما عرفنا الملازمة بين وجودين خارجيّين، فلا محالة تصبح المعرفة بأحدهما سبباً للتصديق بالآخر. وهذا معنى الدلالة التصديقيّة.

وإن قلنا بالثاني، كان من المستحيل أن تكون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة، ولا تعدو عن كونها تصوّريّة؛ وذلك لأنّ هذا الاعتبار إن أوجد مجرّد القرن بين صورة المعنى وصورة اللفظ في الذهن مثلاً، من دون إيجاد ملازمة خارجيّة بين وجود اللفظ ووجود الإرادة في نفس المتكلّم، فمن الواضح أنّ هذا غاية ما يترتّب عليه هو انتقال الذهن من إحدى الصورتين إلى الاُخرى، ولا معنى للكشف عن وجود الإرادة خارجاً والتصديق بها؛ لأنّ التصديق بها إنّما يكون عن طريق معرفة وجود ما يلازمها خارجاً، حتّى يكون وجود هذا الملازم برهاناً على وجودها، وبدون ذلك لا نملك أيّ برهان على وجودها حتّى تتمّ الدلالة التصديقيّة، ومجرّد الاعتبار أو القرن في الذهن بين صورة اللفظ والمعنى ليس برهاناً على وجود المعنى وإرادته في نفس المتكلّم، وأمّا إن كان هذا الاعتبار عبارة عن إيجاد الملازمة بين إيجاد اللفظ وإرادة المعنى، فهذا عبارة اُخرى عن التعهّد بأن يريد المعنى عند ذكر اللفظ، فقد رجعنا إلى مسلك التعهّد.


(1) أي يشمل نظريّة القرن الأكيد.

249

فإن قلت: إنّنا نفترض أحد طرفي الاعتبار هو اللفظ، والطرف الآخر ليس هو ذات المعنى مطلقاً، بل مقيّداً بالإرادة، فلا محالة يدلّ اللفظ على الإرادة.

قلت: إن كان المقصود بالإرادة مفهوم الإرادة مطلقاً، أصبح مفهوم الإرادة على الإطلاق داخلاً في معنى اللفظ، أي: أنّ معنى «زيد» مثلاً هو زيد المراد، والذهن ينتقل من صورة لفظ «زيد» إلى صورة معنى «زيد المراد». وهذا غير مربوط بالدلالة التصديقيّة، وإن كان المقصود بالإرادة مفهوم إرادة شخص المتكلّم بالخصوص، فحينما يقول خالد مثلاً: «زيد» يكون معناه: «زيد المراد في ذهن خالد»، فأيضاً لم يكن اللفظ كاشفاً عن الإرادة، وإنّما كان ناقلاً للذهن إلى مفهوم إرادة خاصّة، وهي إرادة خالد مثلاً، وهذا غير التصديق بوجود واقع الإرادة، وإن كان المقصود واقع الإرادة، فلا معنى لإيجاد الملازمة بالاعتبار بين لفظ زيد وواقع إرادة معناه، إلاّ التعهّد بأن لا يقول: «زيد» إلاّ إذا أراد معناه، فرجعنا مرّة اُخرى إلى التعهّد.

وقد عرفت فيما سبق أنّ مسلك التعهّد غير صحيح، وأنّ الصحيح هو مسلك الاعتبار بمعنى إيجاد القرن الأكيد بين صورة اللفظ وصورة المعنى، ولو بوسيلة الاعتبار.

إذن فالصحيح: أنّ الدلالة الوضعيّة لا تعدو أن تكون دلالة تصوّريّة، وموجبة للتلازم في عالم الذهن بين صورة اللفظ وصورة المعنى، لا التلازم الخارجيّ بين وجود اللفظ ووجود إرادة المعنى.

نعم، لا إشكال في أنّه تستفاد من ظاهر الكلام الدلالة التصديقيّة أيضاً، لكن هذا يكون باعتبار قرينة الغلبة، بحيث إنّ الغالب في المتكلّم العاقل عن وعي واختيار أنّه لا يتكلّم بكلام على سبيل لقلقة اللسان، وأنّه يقصد به أقوى المعاني

250

المرتبط باللفظ في عالم التصوّر، فهذه الغلبة تكون قرينة سياقيّة على ثبوت الإرادة، فبهذه القرينة تتمّ الدلالة التصديقيّة، وبما أنّ هذه القرينة واضحة ومركوزة في الأذهان أصبحت كالقرينة المتّصلة، فأوجبت الظهور في الكلام في ثبوت الإرادة للمعنى.

فأصل ظهور الكلام في ثبوت إرادة معناه في نفس المتكلّم مسلّم، إلاّ أنّه ليس عن طريق الوضع، وإنّما عن طريق القرينة السياقيّة.

 

هل الدلالة تابعة للإرادة؟

وأمّا البحث الثاني، وهو: أنّه «هل اُخذ في معنى اللفظ قيد الإرادة أو لا؟» فمضمونه يختلف عن مضمون البحث الأوّل؛ إذ في ذاك البحث يطلب جوهر الدلالة، وهنا يطلب حدّها وشرطها، وأنّ الدلالة في طول وجود الإرادة أو لا؟ وملاكه أيضاً ليس هو ملاك ذاك البحث، ففي ذاك البحث كان الملاك في ثبوت الدلالة التصديقيّة بالوضع هو الالتزام بمسلك التعهّد، في حين أنّه هنا لو قلنا بمسلك التعهّد كان نفس القول بهذا المسلك ملاكاً للقول بعدم تبعيّة الدلالة للإرادة؛ لأنّ مسلك التعهّد يقتضي ـ كما عرفت ـ كون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة، أي: كاشفة عن الإرادة فكيف يعقل أن يقال بكونها فرع وجود الإرادة؟! فإنّ هذا معناه أن نكون بحاجة إلى أن نحرز من الخارج وجود الإرادة حتّى يتمّ الكشف عندنا، وأنت ترى أنّ كشف الدلالة عن الإرادة بعد فرض إحراز الإرادة من الخارج لغو صرف؛ لأنّه كشف لما هو مكشوف، فلا يمكن تبعيّة الدلالة للإرادة، إلاّ بتأويلات بحيث يرجع الأمر إلى بحث لفظيّ، لا إلى بحث حقيقيّ.

وبكلمة اُخرى: أنّ التعهّد الذي هو ملاك الدلالة الوضعيّة حسب الفرض

251

لا يعقل أن يكون مشروطاً بإرادة المعنى؛ إذ لا معنى محصّل للتعهّد بأنّه عند الإتيان باللفظ يكون قاصداً للمعنى بشرط أن يكون قاصداً للمعنى؛ لأنّ قصد المعنى بنفسه متعلّق للتعهّد، فلا يمكن أخذه شرطاً له، فإذا استحال تقييد التعهّد بذلك؛ استحال تقييد الدلالة التصديقيّة المتحصّلة من التعهّد بذلك.

نعم، يعقل أن يكون التعهّد مشروطاً بطبيعيّ القصد، ويكون المتعهّد به هو كون القصد قصد المعنى الفلانيّ لا المعنى الآخر، فتكون الدلالة التصديقيّة للّفظ تابعة للإرادة، بمعنى: أنّه لابدّ من إحراز طبيعيّ القصد من الخارج، وفي طول ذلك يكون اللفظ كاشفاً عن تعيين متعلّق هذا القصد، وفي مثل هذا الفرض لا يعقل أن تكون للّفظ دلالة وضعيّة على أصل القصد، بل لابدّ لمن يلتزم بمثل هذا التعهّد أن يعترف بأنّ دلالة اللفظ على أصل القصد دلالة سياقيّة غير وضعيّة. وهذا اعتراف بتعقّل الدلالات السياقيّة، وكونها منشأً للكشف عن أمر نفسانيّ، وهذا يعني اعترافه بإمكان الاستغناء عن التعهّد رأساً، وذلك بتفسير الدلالة التي يراد تحصيلها بالتعهّد على أساس السياق بالنحو الذي شرحناه، وهو خلاف مسلك التعهّد.

هذا تمام الكلام بناءً على مسلك التعهّد.

وأمّا إذا بنينا على مسلك الاعتبار، فهل تكون الدلالة تابعة للإرادة، أو لا؟

قد يقال ـ كما في كلمات السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1) ـ: إنّ هذه العلقة الاعتباريّة لابدّ من تصويرها بنحو تكون الدلالة تابعة للإرادة.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ص 31 تحت الخطّ.

252

وحاصل ما ذكروه في تصوير ذلك: أنّ الواضع لم يضع اللفظ للمعنى جزافاً، بل لغرض انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى، لكن لا مطلقاً، بل حينما يريد المتكلّم إفادة المعنى. وأمّا في انتقال الذهن إلى المعنى في غير هذه الحالة، كحال النوم أو صدور اللفظ من الحجر، فليس داخلاً في الغرض العقلائيّ للواضع، ولابدّ للعاقل أن يجعل الوضع على طبق الغرض بأن يضيّق دائرة الوضع، وإلاّ لكان إطلاقه عملاً لغواً. ومرجع ذلك إلى أنّ الدلالة تابعة للإرادة؛ لأنّ الدلالة فرع الوضع، وقد قيّد الوضع.

إلاّ أنّ هذا البيان غير صحيح، وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ هذا البيان لو تمّ فإنّما يتمّ بناءً على أنّ الإطلاق بحاجة إلى مؤونة زائدة، فيقال مثلاً: إنّ الواضع لماذا ارتكب هذه المؤونة بلا فائدة؟ فهذا لغو، ولكنّنا حقّقنا في محلّه أنّ الإطلاق ليس إلاّ عبارة عن مجرّد عدم التقييد، وليست فيه أيّ مؤونة لحاظيّة زائدة.

نعم، لو لم يكن الكلام في مقام الثبوت، بل كان في مقام الإثبات، وفرضت قرينة على أنّه لم يقصد الواضع الوضع إلاّ في مورد يحقّق هذا الغرض، لكنّا نقول بعدم شمول الوضع لغير صورة إرادة التفهيم، من قبيل ما يقال في الاُصول العمليّة من عدم شمول إطلاقها لغير المورد الذي تترتّب عليه ثمرة عمليّة، بقرينة أنّها وضعت لتعيين الوظيفة العمليّة، إلاّ أنّ الكلام هنا في مقام الثبوت، ولا موضوع لفرض القرينة على هذا الاختصاص وعدمه على أيّ حال.

وهذا الوجه من الجواب مبنيّ على المماشاة مع التصوّرات المشهوريّة التي اقتضاها هذا البيان الذي نناقشه، وحقّ الجواب هو الوجه الثاني.

والثاني: أنّ هذا الطرز من التفكير مبنيّ على أنّ الوضع من قبيل سائر

253

المجعولات الاعتباريّة التشريعيّة التي تطلق و تقيّد، كالوجوب والحرمة وغير ذلك. وهذا يتّضح بطلانه ممّا بيّنّاه سابقاً في حقيقة الوضع، من أنّ الواضع تمام ما يعمله بحسب الحقيقة هو قرن اللفظ بالمعنى في ذهن الإنسان قرناً أكيداً، وإذا كان يستعمل الاعتبار فهو من باب كونه مقدّمة لذاك القرن، والله خلق ذهن الإنسان بنحو ينتقل من أحد المقترنين بالاقتران الأكيد إلى الآخر، ويكون تصوّر أحدهما علّة لتصوّر الآخر، فعندنا قرنٌ وعندنا معلول تكوينيّ لهذا القرن، وهو الملازمة بين التصوّرين، فنحن نسأل: ما الذي يفترض تقييده؟ هل نفس القرن، أو معلوله، وهو الملازمة التكوينيّة بين التصوّرين؟ أمّا نفس القرن، فهو فعل خارجيّ يتسبّب إليه الواضع بمثل التكرار أو الاعتبار، ولا معنى لتقييد الفعل الخارجيّ، وأمّا معلول هذا القرن فهو ملازمة تكوينيّة ليست في الإطلاق والتقييد تحت اختيار الإنسان، ولا يمكن لأحد أن يوجد القرن بين شيئين، ثُمّ يأتي ويقول مثلاً: إنّ الملازمة الناتجة عن ذلك أفرضها في الليل فقط، لا في النهار.

نعم، يبقى في المقام فرضان آخران، حاصلهما: أنّ الإرادة لا تفرض قيداً مأخوذاً في نفس الوضع حتّى يقال: إنّ هذا لا معنى له، بل تفرض قيداً مأخوذاً في أحد طرفي الوضع:

فإمّا هي قيد مأخوذ في المعنى، وبالإمكان تقييد المعنى بالإرادة، كما يقيّد بأيّ قيد آخر، فكما يمكن أن توضع كلمة «الإنسان» للحيوان الناطق بقيد الطول أو القصر مثلاً، كذلك يمكن أن توضع له بقيد إرادته.

وإمّا هي قيد مأخوذ في اللفظ، من قبيل تقييد اللفظ بالرفع أو التنوين مثلاً، فكما يمكن أن تجعل كلمة «زيد» مقيّدة بالرفع أو التنوين اسماً لفلان، كذلك يمكن أن تجعل مقيّدة بالإرادة اسماً له، فهل هذان الوجهان يصحّحان التبعيّة أو لا؟

254

التحقيق: أنّهما لا يصحّحان التبعيّة:

أمّا الوجه الأوّل، فلأنّ غايته: أنّ لفظ «الإنسان» مثلاً يدلّ على مفهوم الإرادة ولو صدر عن نائم، ودلالة اللفظ على مفهوم لا تتوقّف على وجود ذاك المفهوم. هذا إذا اُخذ مفهوم الإرادة قيداً في المعنى الموضوع له. وأمّا لو كان المأخوذ قيداً فيه هو الوجود الخارجيّ للإرادة، فقد عرفت أنّ هذا غير معقول، إلاّ بالرجوع إلى مسلك التعهّد.

على أنّنا لو تصوّرنا ذلك، أي: الانتقال من تصور اللفظ إلى واقع الإرادة، فهذا لا يجعل دلالة اللفظ متوقّفة على الإرادة، بحيث لابدّ من إحراز الإرادة من الخارج؛ لكي تثبت دلالة اللفظ، بل تكون دلالة اللفظ نفسها بمعنى كون تصوّر اللفظ منشأً للتصديق بوجود الإرادة، فإحراز وجود الإرادة يكون ببركة الدلالة الوضعيّة، لا أنّ إثبات الدلالة الوضعيّة فرع إحراز وجود الإرادة.

وأمّا الوجه الثاني، وهو قياس الإرادة بمثل التنوين بأن يقال: كما يمكن فرض اللفظ لدى عدم دخول التنوين عليه مهملاً، كذلك يمكن فرض كونه لدى عدم الإرادة مهملاً، أي: أنّ اللفظ المقيّد بالإرادة هو الموضوع للمعنى، فهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّه: إن كان المقصود جعل الإرادة الخارجيّة بوجودها الخارجيّ قيداً في الدلالة، بحيث تكون دخيلة في الانتقال إلى صورة المعنى، فهذا غير معقول؛ لأنّ الإرادة بوجودها الخارجيّ في نفس المتكلّم لا يعقل أن تكون مؤثّرة في تصوير السامع للمعنى، وإن كان المقصود جعل التصديق بالإرادة الخارجيّة قيداً في اللفظ، بحيث يكون الانتقال إلى صورة المعنى مسبّباً لتصوّر اللفظ المنضمّ إلى التصديق بالإرادة الخارجيّة، فهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ الانتقال من شيء إلى شيء فرع الملازمة، والملازمة إذا كانت بلحاظ الاقتران المتكرّر بين الوجودين،

255

فالانتقال تصديقيّ من تصديق إلى تصديق، وإذا كانت بلحاظ الاقتران المتكرّر بين التصوّرين، فالانتقال تصوّريّ من تصوّر إلى تصوّر، ولا معنى للاقتران المتكرّر بين التصديق والتصوّر بما هو تصديق وتصوّر، وإن كان المقصود جعل تصوّر الإرادة قيداً في اللفظ بحث يكون الانتقال إلى صورة المعنى مسبّباً عن تصوّر اللفظ وتصوّر الإرادة، أي: تصوّر اللفظ بما هو مراد، فهذا خروج عن فرض أخذ الإرادة الخارجيّة قيداً في اللفظ، واعتراف بعدم إمكان تصوير تبعيّة الدلالة للإرادة الخارجيّة.

وقد تحصّل: أنّ تبعيّة الدلالة للإرادة غير معقولة، سواء قلنا بمسلك التعهّد أو قلنا بمسلك الاعتبار.

 

هل اُخذت الإرادة قيداً في المعنى؟

وأمّا البحث الثالث: وهو: أنّه «هل اُخذ في معنى اللفظ قيد الإرادة أو لا؟» فنقول: إنّ أخذ قيد الإرادة في معنى اللفظ يمكن افتراضه بأحد افتراضات ثلاثة:

الأوّل: أخذ مفهوم الإرادة، فيكون معنى الماء مثلاً السائل المخصوص المراد.

وهذا ليس مستحيلاً ثبوتاً، لكن وجه بطلانه كونه خلاف الوجدان إثباتاً؛ فإنّ مفهوم الإرادة لا ينسبق من الألفاظ على حدّ انسباقه من نفس لفظ الإرادة.

والثاني: أخذ مفهوم الإرادة الجزئيّة، أي: خصوص الحصص الخاصّة من إرادات المتكلّمين.

وهذا أيضاً محذوره نفس محذور الفرض السابق، وهو: أنّه خلاف الوجدان.

وقد يعترض عليه بمحذور آخر، وهو: أنّ أخذ الحصص المفهوميّة للإرادة يلزم منه كون أسماء الأجناس موضوعة بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

256

إلاّ أنّ هذا ليس إشكالاً مستقلاًّ حقيقيّاً؛ فإنّه لا برهان على عدم كون وضعها بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، حتّى يكون ذلك إشكالاً واقعيّاً، وإنّما هو إشكال جدليّ مثلاً.

والمهمّ ما عرفته من أنّه خلاف الوجدان إثباتاً.

والثالث: أخذ واقع الإرادة ووجودها الخارجيّ القائم في نفس المتكلّم.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّنا إن بنينا على مسلك التعهّد، فبحسب الحقيقة تكون الإرادة هي تمام المدلول الوضعيّ للّفظ لا قيده، فعلى مسلك التعهّد يصحّ هذا الفرض مع تحويل القيديّة إلى كون الإرادة تمام المدلول، وهذا يرجع في الحقيقة إلى البحث عن كون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة، وقد عرفت أنّه على مبنى التعهّد تكون الدلالة تصديقيّة وكاشفة عن واقع الإرادة في نفس المتكلّم.

وأمّا بناءً على ما هو المختار من أنّ الوضع عبارة عن القرن وإيجاد الملازمة ـ ولو عن طريق الاعتبار، بمعنى جعل الاعتبار مقدّمة إعداديّة لذلك ـ فأخذ واقع الإرادة أمر غير معقول، ووجهه ما بيّنّاه سابقاً. وحاصله: أنّ الانتقال من شيء إلى شيء فرع الملازمة بينهما، فإن كانت الملازمة بين وجودين خارجيّين كالنار والحرارة، كان الانتقال تصديقيّاً، وإن كانت الملازمة بين التصوّرين كان الانتقال تصوّريّاً، ولا تعقل الملازمة بين تصوّر ووجود، بل الملازمة: إمّا في عالم الخارج، فتكون بين الوجودين، ويكون الانتقال تصديقيّاً، أو في عالم الذهن، فتكون بين التصوّرين، وحينئذ إن كانت الملازمة في المقام بين وجود اللفظ ووجود الإرادة، رجع إلى التعهّد، وهو خلف، وإن كانت بين تصوّر اللفظ ووجود الإرادة، قلنا: إنّ الملازمة بين التصوّر والوجود غير معقولة، ولذا قلنا فيما سبق: إنّ تقييد اللفظ أو المعنى إنّما يعقل بالقيود التصوّريّة.

257

هذا هو الوجه الصحيح في نكتة عدم معقوليّة أخذ الإرادة بوجودها الخارجيّ في المعنى الموضوع له.

إلاّ أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ذكر وجوهاً اُخرى(1)، أهمّها وجهان:

الوجه الأوّل: أنّه يلزم عدم انطباق مداليل الألفاظ على الخارجيّات؛ لأنّها تصبح اُموراً ذهنيّة.

وتوضيح ذلك بنحو يتّضح جوابه أيضاً هو أن يقال: إنّ الإرادة إنّما تتعلّق بحسب الحقيقة بالصورة الذهنيّة للمراد الموجودة في اُفق النفس، وفي اُفق الإرادة، ولهذا نُسمّي ذاك الوجود الذهنيّ بالمراد بالذات؛ لأنّ الإرادة أوّلاً وبالذات منتسبة إليه، ويقال: إنّها تكون منتسبة بالعرض إلى ماهية هذا الوجود الذهنيّ، وتسمّى تلك الماهية بالمراد بالعرض، فهناك نسبتان للإرادة: إحداهما: نسبة ذاتيّة إلى المراد بالذات، وهو الصورة الذهنيّة، والاُخرى: نسبة عرضيّة إلى المراد بالعرض، ويقال: إنّه هو ذات الماهية.

وعليه، فنقول: إنّ لفظ الماء مثلاً لو وضع للسائل المخصوص بقيد كونه مراداً: فإمّا أن تكون لفظة «ماء» موضوعة للمراد بالذات، وإمّا أن تكون موضوعة للمراد بالعرض، فإن كان المقصود هو الأوّل، أي: أنّ الموضوع له هو الوجود الذهنيّ المقوّم للإرادة في اُفق النفس، فهذا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية؛ لأنّ الموجود الذهنيّ بما هو موجود ذهنيّ لا يعقل وجوده خارجاً، وإن كان المقصود هو الثاني، فلا يرد عليه هذا الإشكال؛ لأنّ المراد بالعرض قابل للانطباق على ما في الخارج؛


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 111 ـ 114 بحسب الطبعة المحقّقة من قبل الشيخ سامي الخفاجيّ.

258

ولذا قد نشير إلى الخارج ونقول: هذا مرادنا، أي: انتسبت إليه إرادتنا بالنسبة العرضيّة.

فكأنّما وقع الخلط في إشكال المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بين النسبتين؛ فإنّ التقييد لا ينحصر أمره بأخذ النسبة الذاتيّة القائمة بين المراد بالذات والإرادة، بل يمكن التقييد بالنسبة العرضيّة القائمة بين ما في الخارج والإرادة.

والوجه الثاني: أنّ الإرادة في طول المراد، ومن شؤونه وعوارضه، فهي تُرى في مرتبة متأخّرة عن المراد، فقصد تفهيم المعنى باعتباره من شؤون تفهيم المعنى يُرى في مرتبة متأخّرة عن تفهيم المعنى، وبالتالي يُرى في مرتبة متأخّرة عن المعنى، فأخذه فيه يوجب التهافت في اللحاظ. هذه هي الصيغة الإجماليّة للإشكال.

وهذا أيضاً مبنيّ على المغالطات؛ فإنّ قصد تفهيم تمام المعنى يكون في طول المعنى، ولا يمكن كونه داخلاً فيه شرطاً أو شطراً؛ للزوم الدور على المشهور، والخلف على ما هو الصحيح، ولكن لو اُدّعي أنّ قصد تفهيم جزء المعنى جزء آخر من المعنى، فلا يلزم محذور، فيقال مثلاً: إنّ جزء المعنى لكلمة «الماء» هو السائل البارد بالطبع، والجزء الآخر هو قصد تفهيم هذا الجزء، فهو في طول الجزء الأوّل، والمعنى متكوّن من أمرين طوليّين، ولا بأس بذلك، فبحسب الحقيقة إنّما نشأ الإشكال من طرز التعبير، وإنّما يلزم الدور أو الخلف لو فرض أخذ قصد تفهيم تمام المعنى في المعنى، دون ما لو فرض كون أحد جزئي معنى الماء هو السائل المخصوص، والجزء الآخر قصد تفهيم الجزء الأوّل. وهذا المقدار من البيان كاف لرفع هذه المغالطة.

259

المقدّمة

6

 

 

 

كيفيّة وضع المركّبات

 

 

 

○ وضع الهيئة التركيبيّة.

○ المجموع المركّب من الموادّ والهيئات.

 

261

 

 

 

 

 

 

الأمر السادس: في أنّه: هل للمركّب وضع زائد على وضع المفردات، أو لا؟

وفيما هو المقصود من هذا النزاع يوجد احتمالان:

 

وضع الهيئة التركيبيّة:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بالمركّب الهيئة التركيبيّة بعد الفراغ عن وضع موادّ المفردات لمعانيها، ووضع الهيئات الإفراديّة كهيئة المشتقّ وهيئة الفعل لمعانيها.

وعُبّر عن الهيئة التركيبيّة بالمركّب؛ لكونها الجزء الصوريّ من المركّب.

وهنا توجد عدّة اتّجاهات في الجمل التامّة:

الاتّجاه الأوّل: هو اتّجاه المشهور، وهو القول بوضع الهيئة التركيبيّة للجمل التامّة، سواء كانت اسميّة أو فعليّة.

وهذا هو الصحيح؛ فإنّ هذه الهيئة تفيد معنىً لم توضع له المفردات ولا الهيئات الإفراديّة، وهو النسبة التصادقيّة. وسيظهر تعيين هذا الاتّجاه عن طريق إبطال باقي الاتّجاهات.

الاتّجاه الثاني: ما عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) من التفصيل بين الجملة الاسميّة

262

والجملة الفعليّة، ففي الجملة الاسميّة كـ «زيد عالم» نحتاج إلى ما يدلّ على النسبة والربط بين الموضوع والمحمول، وهو الهيئة التركيبيّة، وأمّا في الجملة الفعليّة كـ «ضرب زيد» فنفس هيئة الفعل دالّة على النسبة بين المادّة والفاعل، فلا نحتاج إلى وضع جديد للهيئة التركيبيّة للدلالة على ذلك(1).

وقد أورد المحقّق العراقيّ(رحمه الله) على ذلك بالنقض والحلّ(2):

أمّا النقض: فبالجملة الاسميّة التي يكون المحمول فيها فعلاً كـ «زيد ضرب»، فإنّ هيئة الفعل هنا موجودة، وتدلّ على النسبة والربط، فالمفروض به أن يقول في ذلك: لا حاجة إلى وضع الهيئة التركيبيّة، مع أنّه يفصّل في الجملة الاسميّة بين قسم وقسم.

أقول: إن بنينا على أنّ ضرب في «زيد ضرب» غير مشتمل على ضمير مقدّر يكون هو الفاعل، وأنّ «زيد» هو الفاعل في الواقع، إذن فـ «زيد ضرب» يكون في واقعه جملة فعليّة، وإن بنينا على ما يفترضه علماء العربيّة من تقدير ضمير هو الفاعل، إذن فهنا نسبتان: نسبة الفعل وفاعله، والمحقّق النائينيّ يعترف بأنّها تفهم من هيئة الفعل، ولا حاجة لوضع الهيئة التركيبيّة للفعل وفاعله المقدّر لتلك النسبة، ونسبة بين المبتدأ والخبر الذي كان بدوره جملة فعليّة، وهذه النسبة لم يدلّ عليها شيء، فلابدّ من وضع الهيئة التركيبيّة للمبتدأ والخبر لها.


(1) راجع أجود التقريرات، الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ص 32.

(2) الجواب الحلّي هو صريح كلام المحقّق العراقيّ في المقالات، المقالة الخامسة، ص 110 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، وأمّا الجواب النقضيّ فلعلّه استنبطه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ممّا جاء في ص 109 من نفس الطبعة، من عدم تفريقه في الحكم بين الجملة الفعليّة ومثلاً «زيد ضرب» والذي سمّاه بالاسميّة غير الحمليّة.

263

وأمّا الحلّ: فقد ذكر: أنّ هيئة «ضرب» تدلّ على نسبة مادّة الضرب إلى فاعل ما، ونحتاج إلى الهيئة التركيبيّة في مقام تعيين ذلك الفاعل المبهم فيما يؤتى به في الكلام من فاعل.

فكأنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) متّفق مع المحقّق النائينيّ(قدس سره) في أنّ النسبة المحتاج إليها بين الفعل والفاعل تدلّ عليها هيئة الفعل، إلاّ أنّ المحقّق النائينيّ يقول بأنّ تلك الهيئة تدلّ على النسبة بين الفعل والفاعل المعيّن، فلا نحتاج إلى دلالة اُخرى، والمحقّق العراقيّ يقول بأنّ تلك الهيئة إنّما تدلّ على النسبة بين الفعل وفاعل ما، فلأجل تعيين الفاعل نحتاج إلى الهيئة التركيبيّة.

في حين أنّ الصحيح ليس هو هذا ولا ذاك، بل نحن بغضّ النظر عن تعيين الفاعل بحاجة إلى الهيئة التركيبيّة للدلالة على النسبة بين مفاد الفعل والفاعل بنسبة تصادقيّة تامّة.

وتوضيح ذلك على ضوء ما حقّقناه في المعاني الحرفيّة: أنّ نسبة الضرب إلى الضارب المستفادة في هيئة «ضرب» نسبة أوّليّة، أي: أنّ موطنها الأصليّ هو الخارج، فإنّ الضرب حقيقة يرتبط بزيد في الخارج، وقد برهنّا فيما سبق أنّ النسب الأوّليّة كلّها تستفاد من الحرف بنحو النسبة الناقصة، ويستحيل فيها التماميّة، وإنّما النسبة التامّة تكون نسبة ثانويّة، إذن فيتبرهن أنّنا نحتاج إلى نسبة اُخرى في المقام؛ لأنّنا بحاجة إلى نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها، فيتعيّن أن تكون هيئة الجملة التركيبيّة موضوعة للنسبة التامّة، وهي النسبة التصادقيّة بين الفاعل ومفاد الفعل بالمعنى الذي مضى شرحه في بحث المعاني الحرفيّة.

وهذا الذي ينساق إليه البرهان يكون الوجدان أيضاً شاهداً عليه، فإنّ الوجدان يشهد بأنّ كلمة «ضَرَبَ» وحدها لا يصحّ السكوت عليها، لا بمعنى مجرّد الميل

264

إلى معرفة هذا الفاعل المبهم بالتعيين، بل بمعنى النقصان وعدم وجود نسبة واقعيّة غير تحليليّة بين شيئين، ولهذا ترى بالوجدان الفرق الواضح بين «ضرب» و «ضرب شخص»، مع أنّ الفاعل في كليهما مبهم، فالأوّل غير تامّ، لا يصحّ السكوت عليه، والثاني تامّ يصحّ السكوت عليه، و«ضَرَبَ» من دون ذكر الفاعل ولو بنحو الإبهام يكون من قبيل المبتدأ من دون ذكر الخبر ولو بنحو الإبهام.

الاتّجاه الثالث: عكس الاتّجاه الثاني، وهو: أنّ الجملة الفعليّة بحاجة إلى وضع هيئتها للنسبة، وأمّا الجملة الاسميّة فلا تدلّ هيئتها على شيء؛ لأنّ الدالّ على النسبة في الجملة الاسميّة هو الضمير المستتر، والمقدّر تقديره «هو»، ففي «زيد قائم» مثلاً يكون الضمير المستتر هو الذي يربط بين الموضوع والمحمول.

إلاّ أنّ هذا الاتّجاه أيضاً غير صحيح؛ فإنّ ضمير هو ـ بحسب ماله من معنىً معهود ـ ليس حرفاً، وإنّما معناه معنىً اسميّ، غاية الأمر أنّه في غاية الإبهام، ويتعيّن بمرجعه، فهو غير قابل للربط بين الموضوع والمحمول، بل هو بنفسه يحتاج إلى ما يربطه بالمحمول، فلنفترض أنّ قوله: «زيد قائم» في قوّة قوله: «زيد هو قائم»، لكنّنا بحاجة إلى ما يربط «هو» بالمحمول، وليس إلاّ الهيئة التركيبّة بينه وبين المحمول، فإذا اضطررنا بالنهاية إلى الرجوع إلى الهيئة التركيبيّة، فلنرجع إليها من أوّل الأمر، ولا معنى لتطويل المسافة.

 

المجموع المركّب من الموادّ والهيئات:

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بالمركّب هو مجموع ما في الجملة من موادّ المفردات والهيئات الإفراديّة والهيئة التركيبيّة، بعد الفراغ عن وضع كلّ واحدة من هذه الفئات الثلاث لمعناها، فيقال: هل المركّب وضع مرّة اُخرى لمجموع المعاني،

265

أو لا؟

المعروف: أنّه ليس للمركّب وضع زائد، ويستدلّ على ذلك: تارةً بأنّه لو كان للمركّب وضع زائد للزم الانتقال إلى المعنى مرّتين؛ لوجود دالّين عليه حسب الفرض، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، فنحن نحسّ بالانتقال مرّتين وبوجود دالّين حينما نسمع الكلام من شخصين في وقت واحد، ولكن لا نحسّ بذلك حينما نسمع كلاماً واحداً من شخص واحد، واُخرى بلزوم اللغويّة، حيث إنّ تمام أجزاء المعنى قد اُفيدت بأجزاء الجملة، فوضع تمام الجملة مرّة اُخرى لتمام المعنى لغو صِرف.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ من يقول بأنّ للمركّب وضعاً على حدة زائداً على وضع أجزائه: إن كان يتكلّم في المركّب التامّ من قبيل: «زيد قائم»، فهذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ المعنى له أجزاء واقعيّة، وقد أصبح كلّ جزء من أجزاء الجملة دالاًّ على جزء من أجزاء المعنى بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، ويستحيل وضع المجموع مرّة اُخرى لمجموع المعنى في نفسه، بغضّ النظر عن مسألة اللغويّة؛ وذلك لأنّ الوضع لم يكن عبارة عن الاعتبار حتّى يفرض أنّ الواضع اشتهى أن يكرّر الاعتبار، فيضع مجموع الجملة لمجموع المعنى بعد أن وضع أجزاءها لأجزائه، وإنّما كان عبارة عن القرن، فإذا اقترنت أجزاء الجملة بأجزاء المعنى، فقد اقترنت الجملة بالمعنى، والاقتران لا يتكرّر.

وإن كان يتكلّم في المركّب الناقص من قبيل: «نار في الموقد»، فهنا نسلّم أنّ المركّب موضوع للمعنى، وذلك لما عرفت بالبرهان من أنّ النسبة الناقصة توحّد معنى الطرفين مع النسبة، أي: أنّ النسبة الناقصة إنّما هي جزء ماهويّ وتحليليّ، ولا يوجد في عالم الذهن إلاّ وجود واحد، إذن فليس لهذا المعنى الواحد أجزاء

266

عديدة موجودة في عالم الذهن حتّى يعقل وضع كلّ جزء من أجزاء الجملة بإزاء جزء من أجزاء المعنى بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، نعم، كلّ من «النار» و«الموقد» له وضع مستقلّ، لكن هذا الوضع المستقلّ مختصّ بما إذا استعمل خارجاً عن جملة ناقصة، وحينما يدخلان في جملة ناقصة من هذا القبيل يفقدان دلالتهما على معنيَيهما، وليسا من قبيل «زيد» و«قائم» المحتفظان بدلالتهما حتّى في ضمن «زيد قائم»، فإذا استحالت دلالة كلّ جزء من أجزاء المركّب على جزء المعنى بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، لأنّ المعنى أمر وحدانيّ لا يمكن تجزئته بهذا الترتيب، تعيّن إذن كون مجموع الجملة موضوعاً للمعنى، ولا يرد على ذلك لا إشكال لزوم الانتقال إلى المعنى مرّتين؛ لأنّ أجزاء المركّب غير موضوعة، وغير دالّة على أجزاء المعنى، فلا يوجد عندنا دالاّن، ولا إشكال اللغويّة؛ لأنّ الأجزاء لم تكن تدلّ على أجزاء المعنى حتّى نستغني بها، إذن فالمركّب هنا موضوع للمعنى، ولكن هذا ليس معناه أنّ المركّب هنا صار له وضع زائداً على وضع المفردات، كما هو ظاهر كلام المدّعي، وإنّما صار له وضع بدلاً عن وضع المفردات.

فدعوى ثبوت وضع للمركّب زائداً على وضع المفردات لم تتمّ، لا في المركّب التامّ ولا في المركّب الناقص.

 

267

المقدّمة

7

 

 

 

 

 

 

علامات الحقيقة والمجاز

 

 

 

○ التبادر.

○ صحّة الحمل.

○ الاطّراد.

 

269

 

 

 

 

 

 

الأمر السابع: في علامات الحقيقة والمجاز.

وقد ذكروا ثلاث علائم للحقيقة: التبادر، وصحّة الحمل، والاطّراد.

 

التبادر:

العلامة الاُولى: التبادر. وقالوا في تقريب علاميّته: إنّ سبب تبادر المعنى من اللفظ منحصر في أمرين: الوضع والقرينة، حيث إنّ تبادر المعنى من اللفظ لا ينبع من حاقّ ذات اللفظ، فإذا انتفت القرينة كان التبادر ـ لا محالة ـ دليلاً على الوضع والحقيقة؛ إذ يبقى هو السبب المنحصر للتبادر.

وهناك إشكال معروف في علاميّته، وهو إشكال الدور، حيث إنّ تبادر المعنى من اللفظ لأجل الوضع لا يحصل لمن لا يعلم بالوضع، وكيف يحصل للجاهل بالألفاظ ومعانيها التبادر من اللفظ؟ إذن فالتبادر موقوف على العلم بالوضع، فإذا كان العلم بالوضع مستنتجاً من التبادر لزم الدور.

ويجاب عادة على هذا الإشكال بأنّ التبادر موقوف على العلم الإجماليّ بالوضع، والمتوقّف عليه هو العلم التفصيليّ به. وطبعاً ليس مقصودهم العلم الإجماليّ والتفصيليّ بالمعنى الاُصوليّ، بمعنى: كون العلم الإجماليّ بكون كلمة