456

على فصل المتصلات فيجب ان نتعامل مع نصوصه المنفصلة المتعارضة التي لو اتصل بعضها ببعض لزال التعارض على أثر القرينية معاملة المتصلات وهذا لا يعني ان نتعامل مع كل النصوص معاملة المتصلات فانّنا فرضنا ان دأب الشريعة فصل المتصلات ولم نفرض ان دأبه كون كل منفصلاته التي لو وصلت لوجد لها ظهور جديد متصلات في الواقع.

وعلى أيّة حال ففي خصوص ما نحن فيه لا تفيدنا هذه القاعدة ولا دعوى ان تلك النصوص المتفرقة تبعث في النفس بالقطع أو الوثوق بالقاعدة العامّة وبيان ذلك يكون بأحد وجهين:

الأوّل ـ ان يقال: إنّه وإن كان هناك قاسم مشترك بين جميع موارد هذه الروايات المتفرقة وما نحن فيه وهو الإتلاف ولكن هناك قاسم أخص يشمل جميع موارد هذه الروايات ولا يشمل ما نحن فيه من استيفاء منافع العين المشتراة ببيع فاسد وهو ان الإتلاف في تمام موارد الروايات لم يكن بنوع من التفاهم مع المالك وفي ما نحن فيه كان بنوع من التفاهم مع المالك حيث توافقا على البيع الذي كان باطلاً ونحن نحتمل وجداناً كون هذا الفرق فارقاً في الحكم فلا يمكن التعدّي.

والثاني ـ ما يُبطل حتى الاستفادة في المقام من الطريق الأوّل وهو استظهار القاعدة من النص الواحد، بيانه: انّنا سلّمنا استفادة قاعدة من أتلف مال الغير فهو له ضامن من نصّ واحد أو من النصوص المتفرّقة ولكنّنا نقول في مورد استيفاء منفعة العين المشتراة ببيع باطل: انّ هنا سببين محتملين للضمان: أحدهما الإتلاف والثاني الاستيفاء فانّ الاستيفاء بغض النظر عمّا فيه من حيثية الإتلاف سبب مستقل للضمان ولذا نرى انّ ضمان الغاصب للمنافع المستوفاة أوضح

457

عقلائياً من ضمانه للمنافع التي فوّتها بلا استيفاء، مع أنّه من ناحية الإتلاف لافرق بين الاستيفاء والتفويت بلا استيفاء، فإذا اتضح انّ في المقام سببين محتملين للضمان قلنا: إنّ سبب الأوّل وهو الإتلاف هو المقصود بقاعدة من أتلف مال الغير فهو له ضامن وهو المستفاد من النص أو النصوص المشار إليها وهذا السبب في ما نحن فيه ساقط، لما مضى منّا من أنّ المالك سهيم في الإتلاف لانّ إتلاف المنفعة يعني تفويتها على المالك والحيلولة بينها وبين المالك ولا يصدق هذا العنوان لدى توافقهما على المعاملة وعلى التسليم والتسلّم فلا يبقى في المقام إلّا السبب الثاني وهو الاستيفاء بما هو استيفاء لا بما هو إتلاف وهذا السبب أجنبي عن قاعدة الإتلاف ولا تدلّ عليه تلك الروايات فانّ تلك الروايات انّما كانت تنظر إلى الإتلاف فلا يبقى وجه في المقام للضمان عدا السيرة العقلائية دون قاعدة الإتلاف.

وأمّا قاعدة الخراج بالضمان فهي مروية في حديث نبويّ.

وهذا الحديث عاميّ مرويّ عن عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)تارة من دون ذكر قصّة مّا واُخرى ضمن ذكر قصّة وهي انّ رجلاً اشترى عبداً فاستغلّه ثم وجد به عيباً فردّه فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) انّه قد استغلّ غلامي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)الخراج بالضمان(1).

وذكر السيد الخوئي(2): انّ هذه الرواية بقطع النظر عن سقوطها سنداً فيها احتمالات ليس لابن حمزة التمسّك بها إلّا على أحد تلك الاحتمالات وليس هو الاحتمال الأرجح بل هو احتمال مرجوح:


(1) راجع المحاضرات 2: 169 ـ 172، تعليق السيد المقرّم (رحمه الله) في الهامش.

(2) راجع المحاضرات 2: 181 ـ 182، ومصباح الفقاهة 3: 133 ـ 135.

458

الاحتمال الأوّل ـ أن يكون المقصود بالخراج ما يقابل المقاسمة ويكون المقصود بكونه بالضمان ان الخراج على من ضمن الأرض وتقبّلها ولو جعلها لأجل الاستفادة تحت يد شخص آخر وادّعى السيد الخوئي: انّ هذا الاحتمال هو أظهر الاحتمالات.

إلّا انّنا لا نعرف نكتة لأظهريته إن لم يكن بعيداً بل لا يمكن تطبيقه على الحديث في القسم الوارد في ضمن قصّة العبد المشترى.

الاحتمال الثاني ـ أن يكون المقصود بالخراج مطلق المنافع ويكون المقصود بالضمان مطلق الضمان وهذا ينتج ما لا يلتزم به أبو حمزة وهو قول أبي حنيفة من أنّ الغاصب أيضاً لا يضمن المنافع لانّه ضامن للعين وهذا هو القضاء الذي بشأنه ورد في صحيحة أبي ولاد عن الإمام الصادق (عليه السلام): في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركاتها(1).

الاحتمال الثالث ـ أن يكون المقصود بالخراج المنافع وبالضمان تقبّل الشخص للقيمة المسمّاة الممضى شرعاً وهذا ينتج ما لا شكّ فيه من أن من ملك شيئاً بقيمة ليست عليه قيمة اُخرى في مقابل منافعه بل كانت منافعه له بما عليه من قيمة العين وهذا اجنبيّ عن كلام أبي حمزة.

الاحتمال الرابع ـ أن يكون المقصود بالخراج المنافع ويكون المقصود بالضمان تقبّل الشخص للقيمة المسمّاة سواء اُمضي شرعاً كما في البيع الصحيح أو لم يمض كما في البيع الفاسد وهذا هو التفسير الذي يفيد ابن حمزة في المقام إلّا انّه لا شاهد على هذا التفسير بل أورد السيد الخوئي النقض على ذلك، بانّ لازم


(1) الوسائل 13: 256، الباب 17 من أبواب الاجارة، الحديث 1.

459

ذلك ان المالك لو استوفى المنافع ضمنها للمشتري الذي لم يملكه لفساد البيع وانّ شخصا ثالثاً لو استوفاها ضمنها للمشتري لا للمالك.

وقد تستفاد قاعدة الخراج بالضمان من بعض الروايات المروية في طرقنا من قبيل:

1 ـ رواية اسحاق بن عمّار قال حدّثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: ابيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي ان انا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ فقال لا بأس بهذا ان جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه قلت فانّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة لمَن تكون الغلّة؟ فقال: الغلّة للمشتري ألا ترى انّه لو احترقت لكانت من ماله؟(1).

وسند الحديث ضعيف بعدم معرفة من حدّث اسحاق بن عمّار به.

2 ـ رواية معاوية بن ميسرة قال سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله (عليه السلام)عن رجل باع داراً له من رجل وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر فشرط أ نّك ان اتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فاتاه بماله قال: له شرطه قال ابو الجارود فان ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين قال هو ماله وقال ابو عبد الله (عليه السلام) أرأيت لو انّ الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري(2).

وسند الحديث غير تام لانّ معاوية بن ميسرة لم يرد بشأنه توثيق نعم روى


(1) الوسائل 12: 355، الباب 8 من أبواب الخيار، الحديث 1.

(2) الوسائل 12: 355 ـ 356، الباب 8 من أبواب الخيار، الحديث 3.

460

عنه ابن أبي عمير في طريق النجاشي إليه إلّا انّ سند النجاشي الذي ينتهي بابن أبي عمير عن معاوية بن ميسرة فيه أحمد بن جعفر وهو أحمد بن جعفر بن سفيان البزوفري ولا دليل على توثيقه إلّا بناء على اتّحاده مع أحمد بن محمّد بن جعفر الصولي كما استقربه البعض، ولكن لا دليل على ذلك بل استبعده السيد الخوئي باعتبار انّ بزوفر قرب واسط غربي بغداد والصولي بصريّ(1).

3 ـ رواية اسحاق بن عمار بسند تام قال قلت لأبي ابراهيم (عليه السلام) الرجل يرهن الغلام والدار فتصيبه الآفة على مَن يكون؟ قال على مولاه ثم قال أرأيت لو قتل قتيلاً على مَن يكون؟ قلت هو في عنق العبد قال: ألا ترى؟! فلم يذهب مال هذا ثم قال: أرايت لو كان ثمنه مأة دينار فزاد وبلغ مأتي دينار لمَن كان يكون؟ قلت: لمولاه قال: كذلك يكون عليه ما يكون له(2).

وهذه الرواية مفادها قاعدة من له الغنم فعليه الغرم لكنها تثبت العكس لا محالة إذ لو لم يكن الخراج لمن عليه الضمان لكان لغيره ويلزم من ذلك انّ ذاك الغير له الغنم وليس عليه الغرم.

وأجاب السيد الخوئي عن كل هذه الروايات من حيث الدلالة على ما في المصباح بجواب واحد وهو انّها ليست مسوقة لبيان الكبرى الكلية بل الغرض منها هو التنبيه على انّ الدار ملك للمشتري والرهن ملك للراهن مملوك لهما فنماؤهما(3).


(1) راجع معجم رجال الحديث 2: 61.

(2) الوسائل 13: 126، الباب 5 من أبواب الرهن، الحديث 6.

(3) راجع مصباح الفقاهة 3: 136.

461

وهذا الكلام على تشويشه لا ينطبق على الرواية الثانية لانّ الدار في الرواية الثانية ملك للمشتري ومع ذلك جعلت المنافع للبائع. على أنّه يأتي في بادىء النظر السؤال عن أنّ مفاد هذه الأحاديث هو تعليل ثبوت المنافع له بكونه ضامناً للعين أي انّ ضمان العين هو الذي يثبت بالمباشرة كون المنافع له، أمّا افتراض وسيط بينهما كما فرضه السيد الخوئي وهو انّ ضمانه للعين يثبت مالكيته لها ومالكيته لها تثبت انّ المنافع له فهو بحاجة إلى توضيح وإثبات.

ولنجعل محور الحديث أوّلاً هي الرواية الاُولى وهي مرسلة اسحاق بن عمّار فنقول: إنّ الوجوه التي يمكن ان تذكر لاستبعاد الرواية عمّا نحن فيه من مسألة منافع العين المشتراة بالعقد الفاسد بالنسبة للمشتري اُمور:

1 ـ انّ الرواية واردة في البيع الصحيح الذي انتهى إلى الفسخ فهي أجنبية عن مورد البحث من البيع الفاسد.

ويمكن الجواب على ذلك بانّ المورد لا يخصص الوارد.

2 ـ انّ المورد وإن كان لا يخصص الوارد لكن الوارد في ذاته لا إطلاق له لانّ الحديث ليس بصدد بيان كبرى كلية وانّما هو وارد مورد بيان انّ منافع العين المشتراة في زمان الخيار للمشتري وانّ الفسخ فسخ من حينه لا من أصله ولعل هذا هو مقصود السيد الخوئي من الجواب الذي مضى نقله.

ويمكن الجواب على ذلك بانّ المقصود ابتداءً بلحاظ المورد وإن كان هو كون منافع العين المشتراة للمشتري لكن تعليل ذلك بانّها لو احترقت لكانت من مال المشتري يفيد لا محالة العموم ورمى ذلك بعدم كونه في مقام البيان يكون من قبيل رمي جميع موارد التعليل بذلك.

3 ـ ارتكازية عدم صحّة نفي الضمان عن الغاصب بالنسبة للمنافع تكون

462

قرينة على أنّ المقصود من الرواية ليس هو انّ ضمان العين يوجب كون الخراج له وإلّا لصدق ذلك بشأن الغاصب أيضاً لانّه أيضاً ضامن للعين بل المقصود ما فرضه السيد الخوئي من توسيط كون الدار له فكون تلف العين منه دليل ملكه لها، وملكه لها دليل مالكيته للمنافع وبما انّ الوسيط وهو الملكية لم يكن ثابتاً في باب الغصب وكان سبب الضمان فيه شيئاً آخر غير الملكية فلهذا لم يكن الخراج له.

ويمكن الجواب على ذلك بان جعل خروج الغاصب بالارتكاز تقييداً لإطلاق الرواية وتخصيصاً له بفرض الإقدام على ضمان ولو بالعقد الفاسد أولى من جعله قرينة على تغيير أصل العنوان بان يبدّل تعليل كون المنافع له بكون التلف عليه بتعليل آخر وهو تعليله بمالكيته للعين.

4 ـ ان لسان الحديث لسان احتجاج الإمام (عليه السلام) مع الراوي حيث قال: الا ترى انّه لو احترقت لكانت من ماله؟ وهذا يعني انّ الإمام عليه يعلّل الحكم بشيء مركوز في الذهن ونحن نحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى ارتكاز عقلائي لا متشرعي ولا ارتكاز عقلائي للملازمة بين الخراج والضمان إلّا بأن يكونا معلولين لشيء واحد وهو الملكية وهذا يشهد لما فرضه السيد الخوئي من أنّ المقصود بذكر كون التلف من ماله الإشارة إلى كونه ملكاً له.

5 ـ انّ التعبير بقوله: لكانت من ماله ظاهر في عدم شمول الحديث لمثل المشترى بالعقد الفاسد ولا المأخوذ بالغصب فانّ تلف المشترى بالعقد الفاسد أو المأخوذ بالغصب ليس من مال المشتري أو الغاصب بل من مال مالكه ويكون تداركه على المشتري أو الغاصب، وفرق بين أن يكون التلف ابتداءً خروجاً من جيب شخص ومن ماله وبين كون ضمانه ودركه عليه.

وهذا الكلام ان فسّرناه بمعنى أن يكون المال قبل التلف ملكاً له فهذا المعنى

463

لا ينطبق على الرواية الثانية لانّ الدار في الرواية الثانية فرض انّها ملك للمشتري ولكنها تتلف من البائع باعتبار انّ تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه فهذا فارق جوهري بين الروايتين في معنى كون المنافع في مقابل الضمان وهو انّ هذا الوجه الخامس يمكن استظهاره من الرواية الاُولى دون الثانية وكذلك الوجه الثاني وهو دعوى ارتكازية الملازمة بين الضمان والخراج بسبب العلّة المشتركة وهي الملك لا يأتي في الرواية الثانية.

إلّا انّه بالإمكان ان يفسّر كون التلف من ماله بتفسير أوسع من كون التالف قبل التلف ملكاً له وهو انّ التلف تلف من جيبه سواء كان بسبب انّ المال داخل في ملكه من قبل التلف أو بسبب ان نفس التلف يوجب الانفساخ باعتبار ان تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه، فإذا أخذنا بهذا التفسير أمكن حمل كلتاالروايتين عليه ويثبت ان الخراج بالضمان بمعنى ان من كان تلف المال من ملكه سواء كان المال قبل التلف ملكاً له أو لا فالخراج له أي انّ المقياس هو ان يعدّ التلف تلفاً منه مباشرة لا بمعنى خصوص ثبوت الملكية له قبل التلف ولا بمعنى كون التدارك عليه الثابت في الغاصب وفي المقبوض بالبيع الفاسد، فانّ التلف في فرض الغصب والقبض بالبيع الفاسد يكون مباشرة تلفاً من المالك وإن كان تداركه ثابتاً على الغاصب أو القابض.

وهذا المعنى يحتمل أيضاً أن يكون هو المقصود بالرواية الثالثة كما يحتمل أيضاً أن يكون هو المقصود من النبوي المعروف (الخراج بالضمان) وهذا احتمال آخر غير الاحتمالات التي مضت في النبوي عن السيد الخوئي.

وإذا فسّرنا قاعدة الخراج بالضمان بهذا التفسير لم يفد ما ذهب إليه ابن حمزة ولا ما ذهب إليه أبو حنيفة.

464

وإذا فسّرت القاعدة بهذا التفسير فلا يبعد أن يكون هذا أيضاً مطابقاً للارتكاز العقلائي بأن لا يكون الارتكاز العقلائي في الملازمة بين الضمان والخراج أو الغنم والغرم مخصوصاً بخصوص ثبوت الملكية المسبقة على التلف بل يكون ثابتاً على الإطلاق، فمتى ما كان التلف من جيب شخص مباشرة لا بمعنى وجوب التدارك كان الخراج له ولو لم يكن التالف ملكاً له قبل التلف.

نعم ان ارتكازية هذه القاعدة بهذا المعنى تختص بما إذا وقع التلف بالفعل أو وقع الانفساخ بالفعل بفسخ خياري، أمّا لو فرض انّ المبيع كان له قبل القبض نماء ثم حصل القبض فافتراض كون ذاك النماء للبائع لانّه لو كان تلف لكان يتلف منه خلاف الارتكاز ولعلّه خلاف ما عليه الفقهاء جميعاً.

ومن هنا يتضح انّ الرواية الثانية لا يمكن تصحيح مفادها بنحو يطابق الفتاوى حتى بهذا التفسير الأخير لانّها حكمت بانّ منافع الدار قبل القبض للبائع وان حصل التقابض بعد ذلك وهذا الحكم وإن لم يكن في مورد الرواية غريباً، لانّ المفهوم عرفاً من مثل مورد الرواية الذي فرض فيه انّه باع البيت وقال للمشتري ان جئت بالمال بينك وبين ثلاث سنين فالبيت بيتك هو وجود شرط ضمني ارتكازي وهو انّ البائع سينتفع بالبيت خلال الفترة ما قبل ان يأتي المشتري بالمال ومن الطبيعي عندئذ انّ منفعة البيت خلال هذه المدّة له ولكن تعليل ذلك بانّ الدار لو احترقت لكانت من ماله يعطي الملازمة بين ثبوت المنفعة للشخص وكون التلف منه حتى في ما إذا لم يحصل التلف بالفعل ولا الفسخ فحتى لو لم يكن بينهما شرط ضمنيّ من هذا القبيل تكون منافع المبيع قبل قبضه للبائع من دون فرض تلف أو فسخ، ولا أظنّ أحداً يفتي بذلك إلّا على فرض كون التقابض دخيلاً في حصول النقل والانتقال. وقد نقل عن مبسوط الشيخ الطوسي(رحمه الله) انّه قال: وإن

465

حصل للمبيع نماء قبل القبض كان ذلك للبائع إذا أراد الردّ بالعيب لانّ ضمانه على البائع(1) فتراه (رحمه الله)قد قيّد الحكم بما إذا حصل الردّ.

وعلى أيّة حال فقد عرفت انّ الرواية الثانية ضعيفة سنداً.

وعلى كل حال فاستدلال ابن حمزة بقاعدة الخراج بالضمان ليس في محله. هذا تمام الكلام في فرض استيفاء المنفعة.

المنافع غير المستوفاة:

وأمّا في فرض عدم استيفاء المنفعة فالظاهر كما أسلفنا في ذيل البحث عن قاعدة ما لا يضمن هو عدم الضمان.

وتوضيح ذلك: ان أسباب الضمان العقلائية ثلاثة: اليد والإتلاف والاستيفاء ونقصد باليد اليد المقترنة بالتلف وليس الاستيفاء موجباً للضمان لكونه شعبة من شعب الإتلاف فقط بل هو موجب عقلائياً للضمان بقطع النظر عن مسألة الإتلاف فالمحبوس بحقّ مثلاً الذي كان حبسه كافياً في تلف عمله عليه لو استعمل في الحبس كان ذلك موجباً لضمان عمله، وفي ما نحن فيه قد قلنا بالضمان في فرض استيفاء المنفعة حتى على ما سنبيّن الآن من عدم الضمان لولا الاستيفاء فإذا عرفت أن أسباب الضمان العقلائية ثلاثة قلنا: إنّ السبب الثالث وهو الاستيفاء غير موجود في المقام كما هو المفروض، وأمّا السبب الثاني وهو الإتلاف فقد ذكر السيد الخوئي: انّه غير صادق في المقام نعم يصدق الإتلاف في باب الغصب إن كان المالك يستوفي المنفعة التي فاتت بالغصب لولا الغصب وإلّا فلا، ومن هنا فصّل السيد الخوئي في باب الغصب بين ما لو كان المالك يستوفي المنفعة لولا الغصب


(1) لا يحضرني المبسوط ولكني نقلته عن تعليق الشيخ الاصفهاني على المكاسب 1: 87.

466

وما لم يكن كذلك بضمان الغاصب للمنفعة في الأوّل دون الثاني، وأمّا في المقام فاختار عدم الضمان إطلاقاً أي سواء كان المالك يستوفي المنفعة لولا العقد الفاسد أو لا لعدم صدق الإتلاف مطلقاً(1).

أقول: الوجه في دعوى عدم صدق الإتلاف في باب الغصب فيما لو لم يكن المالك يستوفي المنفعة لولا الغصب وفي المقام يمكن أن يكون بأحد بيانين:

الأوّل ـ دعوى انّ فوات المنفعة ليس مستنداً إلى الغاصب أو القابض للمال ما دام انّ المالك لم يكن يستوفي المنفعة لولا الغصب أو ما دام انّ المالك هو دخل في المعاملة الفاسدة باختياره مثلاً. فلا يصدق انّ الغاصب أو القابض هو الذي أتلف المنفعة، وهذا المقدار من البيان لا ينفي صدق عنوان التلف وانّما يثبت انّ التلف ليس مستنداً إلى هذا الغاصب أو القابض فليس هذا إتلافاً من قبله.

والثاني ـ دعوى انّ الإتلاف الموجب للضمان في باب المنافع يختلف عنه في باب الأعيان فالإتلاف الموجب للضمان في باب المنافع يعتبر أمراً إضافياً ونسبياً بمعنى إتلاف المنفعة على المالك وهذا بخلاف باب الأعيان فان الإتلاف فيها ينسب إلى العين فقط دون المالك أي انّ الإتلاف إتلاف للعين وليس إتلافاً للعين على المالك فإذا أخذنا مفهوم الإضافة والنسبة إلى المالك في الإتلاف الموجب للضمان في باب المنافع بان قلنا: إنّ إتلاف المنفعة على المالك يوجب الضمان قلنا: إنّه في باب الغصب لو لم يكن المالك يستوفي المنفعة لولا الغصب لم يصدق هذا الأمر الإضافي أي إتلافها على المالك، وكذلك في المقام ما دام المالك هو الذي دخل باختياره المعاملة الفاسدة وسلّم العين إلى القابض برضاه


(1) راجع المحاضرات 2: 183، ومصباح الفقاهة 3: 139 و 143.

467

بالمعاملة لا تصدق هذه الإضافة وهي إتلاف القابض للمنفعة على المالك. ولعل هذا البيان أقوى من البيان الأوّل أو تعميق للبيان الأوّل وهذا ان تمّ يأتي حتى في التلف أي انّه يثبت بذلك عدم صدق التلف في المقام، إذ لا فرق في نكتة الإضافية والنسبية لو تمّت بين الإتلاف والتلف.

وأمّا السبب الأوّل وهو اليد فهي انّما توجب الضمان

لو اقترنت بالتلف وقد أشرنا إلى أنّ البيان الثاني يرجع جوهره إلى دعوى عدم صدق التلف في المقام.

وأمّا لو لم نقبل البيان الثاني أيضاً وبالتالي قلنا في باب الغصب بضمان المنافع الفائتة حتى التي لم يكن المالك يستوفيها لولا الغصب لصدق التلف أو الإتلاف فأيضاً نقول في ما نحن فيه بعدم الضمان، لما مضى منّا في ما سبق من أنّه مع فرض صدق الإتلاف يكون المالك سهيماً في هذا الإتلاف لانّه هو الذي دخل المعاملة الفاسدة باختياره وسلّم المال إلى القابض برضاه بالمعاملة، ومساهمة المالك في الإتلاف تارة تكون بمعنى التبعيض في إتلاف أي انّ المالك أتلف جزءً والشخص الآخر أتلف جزءً آخر وهذا يؤدّي إلى التبعيض في الضمان، واُخرى تكون بمعنى مساهمته في كل الإتلاف أي انّ الإتلاف يستند إليه وإلى الغير كما في ما نحن فيه وهذا يوجب عقلائياً سقوط الضمان.

 

المثل في المثلي والقيمة في القيمي:

الخامس: من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد وجوب المثل إذا تلف في المثلي والقيمة في القيمي.

وهذا البحث أعني وجوب المثل في المثلي والقيمة في القيمي يتجلّى على

468

طبيعته الأوّلية في باب الغصب وفي باب إتلاف الأمين أو الإتلاف من دون يد، أمّا باب المقبوض بالعقد الفاسد فقد يؤثّر عليه عامل هدر كرامة المال فيفترض في المثلي الذي بيع بثمن مسمّى أرخص من ثمن المثل انّ البائع هو الذي هدر كرامة ماله بمقدار الفارق بين ثمن المسمّى وثمن المثل كما مضى ذلك فبالإمكان أن يقال: ليس على المشتري تهيئة المثل وإرجاعه إلى البائع لانّ هذا يكلّفه قيمة أكثر من ثمن المسمى وقد هدر المالك احترام ماله بقدر الزيادة على ثمن المسمّى، كما انّه في باب القرض أيضاً قد تؤثّر الشروط الضمنية الارتكازية التي هي كالمتصل في الحساب في حين انّه في باب الغصب لا يوجد هناك عقد حتى يوجد في ضمنه شرط ارتكازي.

ومن هنا نحن نجعل محور البحث في المثلي والقيمي هو المغصوب أو ما أتلفه الأمين أو ما أتلفه غير ذي اليد ثم بإمكانك بعد ذلك ان تأخذ خصوصية باب المقبوض بالعقد الفاسد أو باب القرض بعين الاعتبار في مورديهما.

وعلى أيّة حال فالكلام يقع أوّلاً في أنّ أصل تقسيم الأمتعة إلى المثلي والقيمي لكي يفرّق بينهما في حكم الضمان بضمان الأوّل بالمثل والثاني بالقيمة هل هو صحيح أو لا؟

مقتضى الارتكاز العقلائي:

ولنبحث أوّل ما نبحث حال أوّل دليل من أدلّة الضمان وهو الارتكاز العقلائي القائم على قاعدة الإتلاف أو قاعدة اليد لدى التلف لكي نرى انّ هذا الارتكاز هل يفرّق في الحكم بين شيء يسمّى مثلياً وآخر يسمّى قيمياً أو لا؟

قد يبدُو للذهن انّ هذا التفريق أمر طبيعي لانّه في القيمي لا يوجد للتالف أو المتلَف مثل كي يؤدّيه الغاصب أو المتلِف فمن الطبيعي الانتقال إلى أداء القيمة.

469

وقبل مناقشة ذلك نشير إلى أن ما يمكن ان يجعل أثراً عملياً في التفريق بين المثليات والقيميات أمران:

الأوّل ـ ان يقال: إنّ القيمي لو وجد له صدفة مثل ولم يتوقّف تحصيله على بذل مال مُجحف لم يجب رغم ذلك على الغاصب تحصيله ودفعه إلى المالك لانّه قيميّ ويكون مضموناً بالقيمة، وهذا بخلاف المثلي فانّه يجب على الغاصب أو المتلف تحصيل المثل ودفعه إلى المالك لو أراد المالك ذلك. ويمكن أن يقال أيضاً بعكس ذلك أي انّ الغاصب أو المتلف لو حصل على المثل وأراد دفعه إلى المالك لم يجز للمالك في المثلي الامتناع عن قبوله والمطالبة بالقيمة وجاز له ذلك في القيمي الذي وجد فيه المثل صدفة.

والثاني ـ ان يقال: إنّ القيمي إذا تلف أو أتلف كان على الغاصب أو المتلف أداء قيمة يوم التلف مثلاً دون يوم الأداء لانّه حينما تلفت العين استقرت القيمة في الذمّة وهي لا تصعد ولا تنزل، وهذا بخلاف ما لو أنكرنا انقسام التالف في الحكم إلى ا لمثلي أو القيمي وقلنا: إنّ الذي يستقر في الذمّة دائماً هو المثل حتى لو عجز عن أدائه فنتيجة ذلك انّه لدى الأداء تكون عليه قيمة يوم الأداء.

إذا عرفت ذلك فالوجه الذي ذكرناه آنفاً للتفكيك بين المثلي والقيمي في الحكم من أنّه إذا وجد المثل فمن الطبيعي ان يطالب المالك بالمثل أو يؤدّي الضامن المثل الذي هو أقرب الأشياء إلى التالف، أمّا إذا لم يوجد المثل فمن الطبيعي التنزّل إلى ا لقيمة لعدم إمكانية أداء المثل.

أقول: إنّ هذا الوجه لو تمّ لا يثبت الثمرة الاُولى فيجب ان يقال في القيمي إذا حصل له صدفة المثل: انّه يجب أداء المثل أو انّ القيمي الذي حصل له صدفة المثل تحوّل إلى المثلي في فرض عدم وجود إجحاف في شرائه على أقل تقدير

470

وحتى في فرض الإجحاف لو تحمّل الضامن هذا الإجحاف لم يجز للمالك الامتناع عن قبوله والمطالبة بالقيمة، فلو تمّ هذا الوجه فانّما يثبت الثمرة الثانية.

إلّا انّ هذا الوجه على بساطته ومن دون تعميق لا يتمّ وذلك لوضوح انّ الحكم التكليفي يختلف عن الحكم الوضعي فعدم وجدان المثل وإن كان يؤثّر في الحكم التكليفي فلا يمكن مطالبة الضامن بأداء المثل لعجزه عن ذلك لكن هذا المقدار من البيان لا يثبت استقرار القيمة في ذمّته كي يقال مثلاً: انّ العبرة بقيمة يوم التلف ولكن يمكن تعميق ذلك بأحد الوجوه:

الوجه الأوّل ـ ان يقال: إنّ الحكم الوضعي غير المؤدّي إلى الحكم التكليفي أو غير المنتزع منه لا قيمة له فلا معنى لضمان المثل مع فرض عدم إمكان أداء المثل لعدم وجوده.

والجواب: انّ ثمرة الحكم الوضعي بضمان المثل رغم عدم وجوده تكون عقلائياً عبارة عمّا عرفت من أنّه لدى الأداء يكون عليه أداء قيمة يوم الأداء دون يوم التلف. وهذا كاف في عدم لغوية الحكم الوضعي.

الوجه الثاني ـ ان يقال: إنّ المال بشخصه ونوعه وماليته دخل في العهدة وكل ما يتلف من ذلك يسقط عن العهدة فحينما تلفت العين سقطت الشخصية عن العهدة لتعذّرها وبقيت النوعية والمالية وهما متجسّدتان في المثل وإذا انعدم المثل سقطت النوعيّة أيضاً عن العهدة لتعذّرها وبقيت المالية وهي متجسّدة في القيمة.

وهذا كما ترى إمّا يكون اجنبياً عن باب الضمان بمعناه الوضعي أو يكون خلطاً بين الذمّة والعهدة أو قل بين وعاء وجوب الأداء وبين وعاء الأموال الرمزية.

وقد أورد السيد الإمام (رحمه الله) على هذا الوجه بانّه حينما تلفت العين تلف

471

النوع والمالية المتجسّدان فيها وانّما كانت النوعية والمالية داخلتين في العهدة ضمن دخول العين بكل خصوصياتها في العهدة فقد سقط الكل بتلف العين ولم تكن النوعية أو المالية على كلّيتها واستقلالها عن العين داخلة في العهدة(1).

الوجه الثالث ـ انّه بتلف العين دخل في الذمّة النوع والمالية وبانعدام المثل تلف النوع فبقيت المالية في الذمّة وهذا هو معنى ضمان القيمة.

ويرد عليه: انّ المثل الذي هو في الذمّة لا يتلف بعدم وجوده خارجاً وتعذّر أدائه بل يبقى في الذمّة إلى حين الأداء فيؤدّي قيمة يوم الأداء، كما انّ المالية التي ثبتت في الذمّة لا تتلف ولا تسقط بتعذّر أدائها حينما يصبح الضامن مُعدَماً عاجزاً عن الأداء إلى آخر عمره.

اذن فلا وجه عقلائي للتفصيل بين الأمتعة بافتراض بعضها مثلياً يضمن بالمثل وبعضها قيمياً يضمن بالقيمة.

إلّا ان يدعى ابتداءً وبترك كل هذه التفلسفات: انّ الارتكاز العرفي يحكم بضمان المثل فيما له المثل وبضمان القيمة في ما ليس له المثل.

إلّا انّ هذه الدعوى عهدتها على مدّعيها ولعلّ شيئاً من تحليل الأمر يؤدّي إلى الانتباه إلى عدم صحّة هذه الدعوى وذلك بالشرح التالي:

إنّ لكل من المثل والقيمة امتيازاً فالمثل امتيازه انّه يشتمل على الأوصاف التي كانت في العين وقد تكون تلك الأوصاف مطلوبة للمالك ولا يرغب في تحمّل عناء الشراء مثلاً فيطالب الضامن بدفع المثل دون القيمة، والقيمة امتيازها عبارة عن مرونتها فقد يرغب المالك في أخذ القيمة كي يكون حرّاً في تهيئة ما


(1) كتاب البيع 1: 328.

472

يرغب فيه من متاع، وقد يرغب في متاع آخر غير الذي تلف لدى الضامن ولو سلّم إليه المثل لاضطرّ إلى تحمّل عناء بيعه مثلاً وقد لا يوفّق لبيعه بقيمته الحقيقية فيرغب ان يأخذ من الضامن القيمة لا المثل.

فإذا وجد المثل ولو صدفة فيما يفترض كونه قيمياً وأراد الضامن ان يسلّم المثل إلى المالك فالمالك لا يحق له عقلائياً مطالبة الضامن بامتياز القيمة لانّه لم يتلفه عليه ولو أراد المالك المثل فالضامن لا يحق له عقلائياً إرغام المالك على التنازل عن امتياز المثل لانّه أتلفه عليه.

وإذا لم يوجد المثل فعدم وجدانه لا يكون مبرراً عقلائياً لسقوط حقّ المالك بلحاظ تلك الأوصاف ما دامت لضمانها ثمرة كما مضى.

وأمّا إشكال السيد الخوئي (رحمه الله) بانّ الضمان لو كان بالمثل لزم ان يجوز للمضمون له الامتناع من أخذ القيمة رغم تعذّر المثل(1) فمردود بانّه إن كان في ارتكاز العقلاء عدم جواز ذلك كما هو كذلك في فرض اليأس عن حصول المثل فهذا ليس دليلاً على أنّهم يرون استقرار القيمة في يوم التلف مثلاً في الذمّة، إذ لعل كون بقاء الضامن تحت الضمان ضيقاً وحرجاً نفسياً وقد يكون خارجياً أيضاً على الضامن كان حكمة في حكمهم بعدم جواز امتناع المالك من أخذ القيمة رغم أنّ الشيء الثابت في الذمّة هو المثل فيكون عليه قبول تسلّم قيمة يوم الأداء أو إبراء الضامن من ضمانه أي انّهم جعلوا للضامن حقّ إفراغ ذمّته ولكن ذمّته مشغولة بالمثل ويفرغها بأداء قيمة يوم الأداء.

هذا تمام الكلام بلحاظ مقتضى القواعد الأوّلية باعتبار الارتكاز العقلائي


(1) راجع مصباح الفقاهة 3: 173.

473

وإن لم يكن هناك ردع على ذلك أمكن إلباس ذلك ثوب الشرعية إمّا من باب انّعدم الردع دليل الإمضاء أو من باب ان هذا الارتكاز العقلائي قد حدّد الحقوق العقلائية في المقام لكلا الطرفين فمخالفة الحدّ من هذا الطرف أو ذاك الطرف تعتبر ضرراً عقلائياً منفياً بقاعدة لا ضرر.

وأمّا إذا لاحظنا الأدلّة اللفظية للضمان فذاك الارتكاز العقلائي الذي عرفته يؤثّر في صرف ظهورها إلى نفس ما قام عليه الارتكاز.

مقتضى الروايات المتفرقة:

يبقى الكلام في أنّه قد يدّعى انّ قيميّة القيميات ثبتت بالروايات المتفرقة في الأبواب المختلفة.

وقد اختار السيد الخوئي في المحاضرات(1): انّ الانتقال إلى القيمة يختص بفرض فقدان المثل فإذا وجد صدفة المثل عند الضامن مثلاً لم ينتقل إلى القيمة حتى في القيميات، لانّ الارتكاز العقلائي يقتضي ضمان المثل لدى إمكان أدائه والروايات ليس فيها إطلاق فتحمل على فرض تعذّر المثل ولكنه اختار في المصباح(2) انّ الروايات مطلقة وانّ الارتكاز العرفي على ضمان القيمة في القيميات أيضاً مطلق، اذن فالمضمون في القيميات هي القيمة ولو وجد المثل صدفة.

أقول: لو وجدت رواية تذكر ضمان القيمة ويكون مقتضى إطلاقها الأوّلي ضمان القيمة حتى في فرض وجود نادر للمثل فالارتكاز الذي ادعيناه مطلقاً وادّعاه في المحاضرات في خصوص فرض وجدان المثل يصرف ذاك الإطلاق عن هذا الفرض.


(1) راجع المحاضرات 2: 191 و 195.

(2) راجع مصباح الفقاهة 3: 174 ـ 176.

474

ومن هنا يتضح انّ مجرّد وجود رواية تحكم بوجوب دفع القيمة ليس دليلاًعلى قيمية بعض الاُمور لانّه من المحتمل أن يكون المضمون هو المثل وأن يكون الحكم بوجوب دفع القيمة من باب تعذّر المثل فتكون عليه قيمة يوم الأداء.

وعليه فلا يمكننا التمسّك لإثبات قيميّة بعض الاُمور بالروايات إلّا إذا كان مفادها الحكم بقيمة يوم التلف أو يوم الغصب مثلاً فيقال مثلاً: إنّ هذا دليل على قيميّة ذاك الشيء إذ لو كان الثابت في الذمّة هو المثل لكان المترقّب أن يكون عليه أداء قيمة يوم الأداء.

وبعد فالصحيح عدم وجود رواية تامّة السند تدلّ على قيمية بعض الأشياء كما يتضح ذلك بذكر نموذج ممّا تتوهّم دلالته على ذلك:

فمنها ـ روايات عتق أحد الشريكين أو الشركاء نصيبه من العبد الدالّة على ضمان المعتق قيمة حصص الباقين أو استسعاء العبد لتحصيل القيمة(1).

وأكثر هذه الروايات ليس فيها تصريح بغير قيمة يوم الأداء وقد قلنا: إنّ مجرّد ذكر القيمة ليس دليلاً على القيمية خصوصاً انّ في مورد هذه الروايات لعلّه لا يحتمل إمكان تحصيل المثل فمن الطبيعي الانتقال في مقام الأداء إلى القيمة. نعم بعض هذه الروايات ورد فيها التصريح بقيمة يوم العتق فقد يتمسّك بها لإثبات ضمان القيمة لانّه لو كان المثل هو المضمون كان المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء لا قيمة يوم العتق وتلك الروايات المصرّحة بقيمة يوم العتق ما يلي:

1 ـ ما عن محمّد بن قيس بسند تام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من كان شريكاً في عبد أو أمَة قليل أو كثير فاعتق حصّته ولم يبعه فليشتره من صاحبه فيعتقه كله


(1) راجع الوسائل 16: 21 ـ 23، الباب 18 من أبواب العتق.

475

وإن لم يكن له سعة من المال نظر قيمته يوم اعتق ثم يسعى العبد في حساب ما بقى حتى يعتق(1).

إلّا انّ هذا الحديث وإن ذكر قيمة يوم العتق إلّا انّه لم يجعلها على عاتق المُتلف أو من هو بمنزلة المُتلف وهو الذي اعتق حصّته، وانّما حكم على المُعتق بشراء باقي الحصص وهذا إن لم يكن منصرفاً إلى شرائه بقيمة يوم الشراء فليس منصرفاً إلى شرائه بقيمة يوم العتق، امّا العبد الذي يستسعى فليس ضامناً أصلاً فالرواية اجنبية عمّا نحن فيه اللهم إلّا ان يدّعى مجرّد إشعارها بالمقصود بدعوى انّه لو لم يكن ضمان العبد بقيمة يوم العتق لما كان يبدو للذهن وجه في استسعائه بقيمة يوم العتق.

2 ـ ما عن محمّد بن قيس بسند تام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في عبد كان بين رجلين فحرّر أحدهما نصفه وهو صغير وأمسك الآخر نصفه حتى كبر الذي حرّر نصفه قال يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل وأمر المحرَّر ان يسعى في نصفه الذي لم يحرّر حتى يقضيه(2).

وهذا أيضاً يأتي فيه نفس النقاش الذي ذكرناه في الحديث الأوّل فانّ قيمة يوم العتق لم يجعلها على عاتق المعتق بل جعلها مبلغ استسعاء العبد، والعبد ليس ضامناً كما هو واضح فلو فرضت في الحديث رائحة الدلالة على المقصود فليست بأكثر من الإشعار.

3 ـ ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم ورثوا عبداً جميعاً فاعتق بعضهم نصيبه منه كيف يصنع بالذي اعتق نصيبه منه؟ هل


(1) الوسائل 16: 21، الباب 18 من أبواب العتق، الحديث 3.

(2) نفس المصدر، الحديث 4.

476

يؤخذ بما بقي؟ فقال: نعم يؤخذ بما بقي منه بقيمته يوم اعتق(1) وهذا فرقه عن الحديثين السابقين انّه جعل قيمة يوم العتق على المعتق الذي هو بمنزلة المتلف إلّا انّ جملة «منه بقيمته يوم اعتق» انّما وردت في نسخة الكافي(2)، وسند الكافي ضعيف بـ (معلى) بن محمّد ولم ترد في نسخة التهذيب(3) الذي يكون سنده تامّاً، على أنّ نصّ الكافي أيضاً يبدو وجود الخلاف بين نسخه فإنّ صاحب الوسائل الذي نقل النص عن الكافي اقتصر على قوله: «نعم يؤخذ بما بقي منه» ثم قال في هامش المخطوط: في نسخة زيادة: «بقيمته يوم اعتق»(4).

ومنها ـ ما عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ان أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) يقوّم ما فيها ثم يؤكل لانه يفسد وليس له بقاء فان جاء طالبها غرموا له الثمن فقيل: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ فقال: هم في سعة حتى يعلموا(5) والحديث ظاهر في إرادة قيمة يوم الأكل.

إلّا انّ الظاهر اجنبية الحديث عمّا نحن فيه لانّ الظاهر انّ المقصود بالتقويم ثم الأكل انّهم يتملّكون الطعام بقيمته ثم يأكلون لا انهم يأكلون مال الناس فيضمنون فتكون عليهم قيمة يوم الإتلاف.

 


(1) الوسائل 16: 22، الباب 18 من أبواب العتق، الحديث 6.

(2) 6: 183، باب المملوك بين شركاء يعتق أحدهم نصيبه أو يبيع، الحديث 6.

(3) الجزء 8، الحديث 784.

(4) راجع الهامش في نسخة آل البيت.

(5) الوسائل 17: 372 ـ 373، الباب 23 من أبواب اللقطة.

477

ومنها ـ روايات نكاح الأمَة المسروقة الدالّة على أداء قيمة الولد(1).

ولكن يمكن تطبيقها على قيمة يوم الأداء إن لم نقل بانصرافها إلى ذلك كما لا يتصوّر عادة إمكانيّة أداء المثل فمن الطبيعي الانتقال إلى أداء القيمة، فهذه الروايات أيضاً أجنبيّة عن المقام.

ومنها ـ روايات وقوع التهاتر بين الدين والرهن التالف عن تقصير(2)، فلولا كون الرهن قيميّاً لكان المترقّب عدم التهاتر واسترجاع الدين وإرجاع مثل العين المرهونة.

وبطلان الاستدلال بهذه الروايات واضح جدّاً ; إذ لو فرضت دلالة هذه الروايات على القيميّة لدلّت على قيميّة كلّ شيء ; لأنّ العين المرهونة غير مشخّصة في هذه الروايات، فقد تكون ممّا يكثر مثلها كما قد تكون ممّا لا مثل لها.

والواقع أنّ مفاد هذه الروايات هو أنّه كما كانت العين المرهونة رهناً في مقابل الدين، أي: أنّه إذا لم يؤدّ الدين اُقتصّ من العين المرهونة كذلك الدين رهن في مقابل العين المرهونة، أي: أنّها لو تلفت بتقصير اقتصّ من الدين، فالتهاتر يكون في المقام على أساس التراهن المفروض شرعاً في المقام لا على أساس قيميّة العين المرهونة.

ومنها ـ صحيحة أبي ولاّد(3)، حيث جاء فيها: قلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته. فيقال: إنّ هذا يعني


(1) الوسائل 14: 590، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) الوسائل 13: 125 ـ 130، الباب 5 و 7 من أبواب الرهن.

(3) الوسائل 13: 255 ـ 257، الباب 17 من أبواب الإجارة، الحديث 1. وبحسب طبعة آل البيت: 19: 119 ـ 120.

478

وجوب أداء قيمة يوم الغصب، وهذا يدلّ على كون البغل قيميّاً؛ إذ لو كان مثليّاً لكان المترقّب أن يكون عليه قيمة يوم الأداء لا قيمة يوم الغصب.

إلّا أنّ هناك نكتتين تثيران الانتباه في هذه الرواية:

الاُولى ـ أنّ المترقّب على تقدير قيميّة البغل أن تكون العبرة بقيمة يوم التلف ; لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة، فياترى لماذا فرض في الحديث أنّ العبرة بقيمة يوم الغصب؟!

والثانية ـ لماذا جعلت العبرة في الحديث في قيمة التالف بقيمة يوم الغصب وفي الارش بقيمة يوم الأداء حيث قال: عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه؟! فأيّ فرق بين فرض التلف وفرض العيب؟! وجعل يوم الردّ قيداًلخصوص العيب مع فرض كون العبرة بقيمة يوم الغصب، أي: قيمة العيب الثابت في يوم الردّ بلحاظ سوق يوم الغصب، بعيد.

وبالإمكان أن يقال: إنّ اختلاف قيمة البغل خلال خمسة عشر يوماً ـ وهي المدّة المفروضة في الحديث حيث قال: (وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً) ـ على أساس التضخّم أو على أساس قوانين العرض والطلب بعيد ; لأنّ التضخّم في ذاك الزمان وبحسب الوضع الاقتصادي المبسّط وقتئذ لا يحتمل عادة في هذا الوقت القصير، كما أنّ اختلاف العرض والطلب في هذه المدّة القصيرة أيضاً بعيد ; لأنّ البغل ليس كالفاكهة مثلاً يفترض أنّه بعد خمسة عشر يوماً راج على الأشجار فكثر استيراده في الأسواق أو انتهى وقته فقلّ وجوده فيها، وإنّما الشيء المترقّب هو اختلاف قيمة البغل باختلاف أوصافه سمناً وهزالاً وصحّةً وسقماً وكسلاً ونشاطاً، فالمقصود بقيمة البغل يوم المخالفة قيمة البغل في أوصافه التي ثبتت في يوم المخالفة.

 

479

وإطلاق الحديث لفرض اختلاف القيمة السوقيّة باعتبار التضخّم أو تبدّل وضع العرض والطلب غير ثابت لا لمجرّد كون هذا فرضاً نادراً حتّى يقال: إنّ الندرة لا توجب الانصراف إلّا الانصراف البدوي، بل لما مضى منّا من دعوى ارتكازيّة ضمان المثل مطلقاً ونستفيد من الندرة مساعدتها على سهولة الانصراف، أي: أنّ هذا الارتكاز إن صعب فرضه موجباً للانصراف عن حالة شائعة فلا صعوبة في فرضه موجباً للانصراف عن حالة نادرة.

وإذا فسّرت الرواية بهذا التفسير كان الفرق العقلائي بين فرض التلف ومسألة الأرش واضحاً، فقد جعلت العبرة في ضمان التالف بلحاظ حالات البغل سمناً وهزالاً وصحّةً ومرضاً بيوم المخالفة باعتباره يوم الغصب، وجعلت العبرة في الأرش بمدى سعة وضيق الجرح أو الكسر يوم الردّ؛ لأنّه لو توسّع الجرح أو الكسر يوم الردّ كان مضموناً، ولو تضيّق فقد خرج من ضمان ذاك المقدار من الصحّة بالتسليم، وكذا أصبحت النكتة العقلائيّة لجعل الضمان مرتبطاً بما في يوم المخالفة دون يوم التلف واضحة؛ لأنّه إن تدهور وضع الحيوان من بعد يوم المخالفة كان التدهور مضموناً على الغاصب، وإن تحسّن وضعه ثمّ تراجع مرّة اُخرى، فهذا التحسّن كان تحت رعايته فمن المعقول أن لا يكون مضموناً عليه.

ولنا تقريب آخر لإبطال دلالة هذه الرواية على المقصود، وهو أنّ من المحتمل صحّة النسخة التي لم يدخل فيها اللاّم على البغل ولعلّها هي النسخة المشهورة، فيكون النصّ هكذا: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» لا «قيمة البغل يوم خالفته»، وعلى هذا التقدير من المحتمل كون كلمة البغل غير منوّنة بأن تكون مضافة إلى يوم المخالفة، وعلى هذا التقدير من المحتمل أن تكون القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة لا مضافة إلى البغل مع كون مجموع المضاف والمضاف إليه

480

مضافاً إلى يوم المخالفة، والفرق بينهما واضح كما يقال في «هذا بيض دجاج زيد»: إنّنا تارة نفترض أنّ البيض مضاف إلى الدجاج والدجاج مضاف إلى زيد، وهذا يعني أنّ زيداً له دجاج، ودجاجه قد بيّضت. واُخرى نفترض أنّ بيض الدجاج مضاف إلى زيد، وهذا لا يستلزم كون زيداً مالكاً للدجاج، بل قد يكون مالكاً لبيض الدجاج وقد اشترى البيض من السوق مثلاً فأصبح مالكاً للبيض من دون امتلاكه للدجاج، وكذلك الحال في المقام فقد نفترض أنّ قيمة البغل مضافة إلى يوم المخالفة، وهذا يشمل بالإطلاق مثلاً فرض اختلاف القيمة على أساس التضخّم أو على أساس قانون العرض والطلب، وقد نفترض أنّ القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة، فالاختلاف ابتداء بين يوم المخالفة ويوم آخر إنّما هو في البغل واختلاف القيمة يكون بتبع اختلاف البغل، فلا إطلاق له لفرض اختلاف القيمة على أساس التضخّم أو قانون العرض والطلب، وإنّما النظر يكون إلى اختلاف القيمة بلحاظ اختلاف أوصاف نفس البغل ومع وجود هذا الاحتمال لا يتمّ الإطلاق.

وقد تقول: إنّ الاحتمال الآخر أيضاً ثابت، وذلك بأن يكون البغل مع اللاّم أو منوّناً أو تكون قيمة البغل مضافة إلى يوم المخالفة فيتمّ الإطلاق، فيكون ردعاً عن الارتكاز، وهذا وإن لم يزد على مستوى الاحتمال ولكن احتمال الردع كاف في عدم ثبوت الإمضاء، كما أنّ احتمال الردع في ما مضى من روايات عتق الشريك لحصّته من العبد وارد خصوصاً في الرواية الثالثة التي دلّت على نسخة الكافي على ضمان المعتق لقيمة يوم العتق، وسند الكافي وإن كان ضعيفاً لكنّه يكفي لاحتمال الردع المانع عن القطع بالإمضاء.

ولكنّنا نقول: إنّ هذا المقدار لو كان كافياً للردع عن مثل هذا الارتكاز فإنّنا لسنا بحاجة في المقام لإثبات ضمان المثل دائماً أو قل ضمان قيمة يوم الأداء إلى