193

 

شمول العقد لغير العقود الماليّة:

الأوّل: إنّ تعريف العقد في الفقه الإسلاميّ لا يختصّ بالعقود الماليّة وإن كان بحثنا هذا مخصوصاً بالعقود الماليّة. إلّا أنّ الدكتور السنهوريّ يظهر منه اختصاص العقد في مصطلح الفقه الغربيّ بالعقود الماليّة، حيث كتب يقول:

وليس كلّ اتّفاق يراد به إحداث أثر قانونيّ يكون عقداً، بل يجب أن يكون هذا الاتّفاق واقعاً في نطاق القانون الخاصّ، وفي دائرة المعاملات الماليّة.

فالمعاهدة اتّفاق بين دولة ودولة، والنيابة اتّفاق بين النائب وناخبيه، وتولية الوظيفة العامّة اتّفاق بين الحكومة والموظف، ولكنّ هذه الاتّفاقات ليست عقوداً، إذ هي تقع في نطاق القانون العامّ: الدوليّ والدستوريّ والإداريّ.

والزواج اتّفاق بين الزوجين، والتبنّي في الشرائع التي تجيزه بين الوالد المتبنّي والولد المتبنّى، ولكن يجدر أن لا تدعى هذه الاتّفاقات عقوداً وإن وقعت في نطاق القانون الخاصّ، لأنّها تخرج عن نطاق المعاملات الماليّة.

فإذا وقع اتّفاق في نطاق القانون الخاصّ وفي دائرة المعاملات الماليّة فهو عقد(1).

أقول: إنّ العقد في مصطلحنا وإن كان لا يختصّ بالعقود الماليّة ولكن بحثنا هذا خاصّ بالعقود الماليّة.

 

تقسيم العقد إلى إذني وعهدي:

الثاني: ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ على ما جاء في تقرير بحثه ـ: أنّ العقد على قسمين: عقد إذنيّ، وعقد عهديّ. والعقد الإذنيّ إنّما يكون عقداً باصطلاح


(1) الوسيط 1: 139 الفقرة 39.

194

الفقهاء لا بالمعنى اللغويّ والعرفيّ، فهو عقد بالمسامحة لا بالحقيقة في معناهاللغويّ والعرفيّ، ذلك أنّ العقد الإذنيّ عبارة عمّا يتقوّم بالإذن حدوثاً وبقاءً ويرتفع بارتفاع الإذن.

والعقد العهديّ عبارة عمّا يتقوّم بالعهد والالتزام. والعقد لغةً وعرفاً عبارة عن العهد المؤكّد وهو غير موجود في العقود الإذنيّة كالوديعة والعارية ـ بناءً على أن يكون مفادها الإباحة المجّانية لا التمليك ـ. وهذا القسم من العقد غير مشمول لقوله تعالى ﴿اوفوا بالعقود﴾(1). وتختصّ الآية المباركة بالعقود العهديّة كالبيع وأمثاله.

وأمّا الوكالة فهي على قسمين: فتارةً تكون عبارة عن مجرّد الإذن في التصرّف مثلا وهي تبطل بمجرّد رجوع الموكّل عن إذنه، واُخرى تكون عبارة عن عقد حقيقيّ بين طرفين واجد للشرائط الخاصّة، وهي لا تبطل بمجرّد رجوع الموكّل، بل يتوقّف انفساخها على بلوغ الرجوع إلى الوكيل(2).

أقول: تقسيم الوكالة إلى قسمين غير واضح. والظاهر أنّ الوكالة ليست إلّا عبارة عن الإذن الصادر من الموكّل، أو هو مع رضا الوكيل بالوكالة، فالوكالة عقد إذنيّ. أمّا عدم انفساخها برجوع الموكّل قبل وصول ذلك إلى الوكيل فليس على مقتضى القاعدة، بل هو بدليل خاصّ.

وأمّا كون العقد لغةً وعرفاً عبارة عن العهد المؤكّد فالواقع أنّنا لو سلّمنا أنّ


(1) المائدة: 1.

(2) راجع منية الطالب 1: 33 و 112، وكتاب المكاسب والبيع تأليف الشيخ الآمليّ 1: 81 و 82 و 290.

195

العقد عبارة عن العهد فإنّما نقصد بذلك العهد بمعنى القرار كي يشمل مثل البيع لا العهد بمعنى الميثاق، بينما العقد في الآية الكريمة لو فسّر بمعنى العهد لكان بمعنى الميثاق لا القرار بقرينة التعبير بالوفاء كما مضى، فيلزم من ذلك أجنبيّة العقد بالمعنى المقصود عن الآية الكريمة.

والصحيح ما مضى من أنّ العقد عبارة عن قرار مرتبط بقرار، وأنّ العقد في الآية ليس بمعنى العهد، وتفسيره به في بعض الروايات تفسير بفرد جليّ.

وعلى أيّة حال، فنحن نقصد بالعقد الذي جعلناه موضوع بحثنا في هذا الكتاب ما أسماه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بالعقود العهديّة، ولا يشمل موضوع بحثنا ما أسماه (قدس سره) بالعقود الإذنيّة.

إلى هنا انتهى بحثنا في المقدّمة التي قدّمناها لفقه العقود.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. والآن حان وقت الشروع في صلب البحث عن فقه العقود، وفيه فصول ثلاثة:

 

197

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

 

نظرات فاحصة في إطلاقات أدلّة العقود

 

 

1 ـ كيفيّة إبراز العقد.

2 ـ العقود المستحدثة.

3 ـ أصالة اللزوم في العقود.

198

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة:

نبدأ حديثنا فى فقه العقود بالبحث عن مدى تواجد إطلاقات فى أدلّة العقود بلحاظ ثلاث جهات:

الاُولى: أنّه هل يشترط فى العقد شكل مخصوص زائداً على أصل إبراز المقصود؟ أو يكفي إبراز المقصود الذي هو ربط قرار بقرار بأيّ مبرز عرفيّ؟

والثانية: هل العقد المشروع عبارة عن العقود المسمّـاة عادةً فى الكتب الفقهية أو في المصادر الأوّليّة للفقه؟ أو أنّ أيّ عقد آخر استحدث أو يستحدث جديداً وفق الضوابط العامّة يكون مشروعاً وصحيحاً؟

والثالثة: هل أنّ إطلاقات العقود تقتضي اللزوم وتنفي التزلزل وإمكانيّة الفسخ بحسب الطبع الأوّلي للمعاملة أوْ لا؟

كلّ ذلك يتمّ في مباحث ثلاثة:

 

199

 

 

 

ـ 1 ـ

كيفيّة إبراز العقد

 

الجهة الاُولى: هل العقد يكفي فيه إبراز ربط قرار بقرار بأيّ مبرز عرفيّ؟ أو هناك شكل مخصوص يجب تقيّد العقد به؟

نبدأ بكلام عن الفقه الغربيّ في ذلك، ثمّ نقايس بينه وبين فقه الإسلام، ثمّ نختم البحث بالحديث عن مدى تماميّة الإطلاق في المصادر الأصليّة للفقه الإسلاميّ في ذلك.

 

كيفيّة الإبراز في الفقه الوضعي

ورد فى فقه القانون: أنّ العقد على ثلاثة أقسام: العقد الرضائيّ، والعقد الشكليّ، والعقد العينيّ. ولننقل شيئاً من التفصيل في ذلك عن كتاب الوسيط:

فالعقد الرضائيّ: هو ما يكفي في انعقاده تراضي المتعاقدين، أي اقتران الإيجاب بالقبول بلا حاجة الى شكل مخصوص، فالتراضي وحده هو الذي يكوّن العقد، وأكثر العقود في القانون الحديث رضائيّة كالبيع والإيجار وغيرهما.

والعقد الشكليّ: هو ما لا يتمّ بمجرّد تراضي المتعاقدين، بل يجب لتمامه فوق ذلك اتّباع شكل مخصوص يعيّنه القانون، وأكثر ما يكون هذا الشكل ورقة

200

رسميّة يدوّن فيها العقد. ولم يبق في القانون الحديث إلّا عدد قليل من العقود الشكليّة، الغرض في استبقاء شكليّتها هو في الغالب تنبيه المتعاقدين الى خطر ما يقدمون عليه من تعاقد، كما في الهبة والرهن.

والقانون لم يبلغ مستوى الاعتراف بجعل الأصل في العقود كونها رضائيّة طفرة، بل تطوّر إليها تدرّجاً.

فالقانون الرومانيّ بدأت العقود فيه تكوّن شكليّة تحوطها أوضاع معيّنة من حركات وإشارات وألفاظ وكتابة. أمّا مجرّد توافق إرادتين فلا يكون عقداً ولا يولِّد التزاماً، فكان المدين يلتزم لا لسبب سوى أنّه استوفى الأشكال المرسومة، ويكون التزامه صحيحاً حتى لو كان السببب الحقيقيّ ـ الذي من أجله التزم ـ لم يوجد أو لم يتحقّق، أو كان غير مشروع، أو كان مخالفاً للآداب.

فالعقد الشكليّ كان عقداً مجرّداً، صحّته تستمدّ من شكله لا من موضوعه ولكن الحضارة الرومانيّة ما لبثت أن تطوّرت وتعقّدت سبل الحياة، فكان من ذلك توزيع العمل والحاجة الى كثرة التبادل ووجوب السرعة في المعاملات، واقترن هذا كلّه بتقدّم في التفكير القانونيّ أدّى الى التمييز بين الشكل والإرادة في العقد، وإعطاء الإرادة قسطاً من الأثر القانونيّ، ودعا هذا إلى اعتبار الاتّفاق موجوداً بمجرّد توافق الإرادتين، والشكل ليس إلّا سبباً قانونيّاً للالتزام قد توجد أسباب غيره. ومن ثمَّ ظهر الى جانب العقود الشكليّة العقود العينيّة والرضائيّة والعقود غير المسمّـاة، ولكن القانون الرومانيّ لم يقرّر في أيّ مرحلة من مراحله مبدأ سلطان الإرادة في العقود بوجه عامّ.

أمّا في العصور الوسطى فلم تنقطع الشكليّة وتستقلّ الإرادة بتكوين العقد إلّا تدرّجاً، و قد استمرّت الشكليّة في أوضاعها السابقة الذكر الى نهاية القرن

201

الثاني عشر، ثمّ أخذت تتحوّر واتّجهت الى التناقص، وأخذت الإرادة يقوى أثرها في تكوين العقد شيئاً فشيئاً. أمّا اليوم فأكثر العقود في القانون الحديث رضائيّة كما قدّمنا، والقليل هو الشكليّ.

وتختلف الشكليّة الحديثة عن الشكليّة القديمة في أنّها أكثر مرونة، وتختلف عنها أيضاً وبوجه خاصّ في أنّها لا تكفي وحدها في تكوين العقد، فالشكليّة الحديثة إذا كانت لازمة فهي ليست بكافية، بل لا بدّ أن تقترن بإرادة المتعاقدين، فالإرادة هي التي يقع عليها الشكل. أمّا الشكليّة القديمة فكانت وحدها هي التي تكوّن العقد، لذلك كان لا يجوز الطعن فيها بالغلط أو التدليس أو الإكراه أو غير ذلك من الدفوع الموضوعيّة، فالشكل إذن كان هو العقد لا الإرادة.

والعقد العينيّ: هو عقد لا يتمّ بمجرّد التراضيّ، بل يجب لتمام العقد فوق ذلك تسليم العين محلّ التعاقد، ولا يكاد يوجد في التقنين المدنيّ الجديد المصريّ مثل للعقد العينيّ إلّا هبة المنقول، فهذه قد تكون عقداً شكليّاً إذا تمّت بورقة رسميّة، وقد تكون عقداً عينيّاً إذا تمّت بالقبض، ولكن ليس هناك ما يمنع عن أن يتّفق المتعاقدان في عقد مّا غير عينيّ العينيّة، فتكون العينيّة هنا مصدرها الاتّفاق لا القانون.

أمّا التقنين المدنيّ القديم المصريّ فكان يسير على نهج التقنين الفرنسيّ، ويجعل الى جانب هبة المنقول عقوداً عينيّة اُخرى أربعة: القرض، والعارية، والوديعة، ورهن الحيازة.

قال السنهوريّ: وكلا التقنينين ورث عينيّة هذه العقود الأربعة عن القانون الرومانيّ دون مبرّر، فقد كانت هذه العينيّة مفهومة في القانون الرومانيّ حيث كانت العقود في الأصل شكليّة ثمّ استغنى عن الشكل بالتسليم في بعض العقود،

202

وهذه هي العقود العينيّة، ولم يسلم بأنّ التراضي وحده كاف لانعقاد العقد إلّا في عدد محصور من العقود سمّي بالعقود الرضائيّة. أمّا اليوم فقد أصبح التراضي كقاعدة عامّة كافياً لانعقاد العقد، فلم يعد هناك مقتضىً لإحلال التسليم محلّ الشكل، وقد قلّلت بعض التقنينات الحديثة عدد هذه العقود العينيّة، فاستبقى التقنين المدنيّ الألمانيّ منها القرض ورهن الحيازة، ولم يستبق تقنين الالتزامات السويسريّ إلّا رهن الحيازة وحده(1). انتهى ما أردنا نقله عن الوسيط.

 

الجذور العقلائيّة لاشتراط القبض:

أقول: إنّ العقود الأربعة التي نقل عن القانون المصريّ القديم والقانون الفرنسيّ عينيّتها واعترض عليهما بأنّ هذه العقود لئن كانت قديماً عينيّة كان لذلك ما يبرّره، لأنّ العينيّة كانت تعني تخفيفاً عن الشكليّة. أمّا اليوم فبعد أن أصبح التراضي كقاعدة عامّة كافياً فلا مبرّر لشرط التسليم والقبض في هذه العقود. أقول: إنّ أكثر هذه العقود توجد لعينيّتها جذور عقلائيّة بقطع النظر عمّا ذكره. وتوضيح ذلك:

إنّ العارية ـ بحسب مصطلح المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ عقد إذنيّ، قوامها بالإذن حدوثاً وبقاءً، وفي أيّ لحظة تراجع المعير عن إذنه بطلت العارية، وعندئذ ما معنى انعقاد العارية بلا قبض؟! هل يعني أنّ للمستعير أن يستفيد من العين من دون قبض؟ فمن الواضح أنّ الاستفادة منها لا تنفكّ عن القبض، أو يعني أنّ المعير لا يجوز له التراجع عن إذنه حتى قبل القبض؟ فمن الواضح أنّ العارية عقد إذنيّ قوامها بالإذن حدوثاً وبقاءً، أو يعني أنّ مجرّد إذن المعير في التصرّف الذي


(1) راجع الوسيط 1: الفقرة 42 ـ 49.

203

أوجب إباحة القبض وإباحة التصرّف نسمّيه بالعارية؟ فهذا مجرّد تسميةواصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، والعرف العقلائيّ لا يسمّي هذا عارية.

وكذلك الوديعة عقد إذنيّ ـ بحسب مصطلح المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ. والوديعة متقوّمة بمفهوم الحفظ ولا حفظ قبل القبض. فإن قصد بانعقاد الوديعة قبل القبض وجوب الحفظ على الودعيّ بمجرّد وقوع عقد الوديعة وقبل القبض فهذا لا معنى له، لأنّ الوديعة عقد إذنيّ وبإمكان الودعيّ التراجع عنه في أيّ لحظة.

وكذلك رهن الحيازة قوامه بمفهوم الوثيقة ولا يحصل الوثوق للمرتهن بضمان حصوله على حقّه إلّا بقبض الرهينة.

وأمّا القرض فهو كالهبة. فإن قلنا: إنّ حقيقتهما عرفاً إخلاء المالك بين المال وبين صاحبه كي يمتلكه بالحيازة مضموناً أو مجّاناً إذن فهما متقوّمان بالقبض. وإن قلنا: إنّ حقيقتهما التمليك مع الضمان أو مجّاناً إذن فهما غير متقوّمين في مفهومهما بالقبض، ويكون شرط القبض تعبّداً صرفاً من قبل المشرّع كما هو الحال في شرط القبض في بيع الصرف مثلاً في الشريعة الإسلاميّة.

وأمّا رهن الحيازة فإن قلنا: إنّه يتقوّم عرفاً بحصول الوثوق الخارجيّ المتقوّم بالقبض إذن تتوقّف تماميّة الرهن عقلائيّاً على القبض. وإن قلنا: يتقوّم عرفاً لا بحصول الوثوق الخارجيّ بل بأن يكون للدائن حقّ الحصول على هذا الوثوق إذن فالقبض لا يكون مقوّماً لحقيقة الرهن ولكن يجب على المدين تسليم العين المرهونة لو طالب الدائن بذلك. وإن قلنا: إنّ مفهوم الرهن عرفاً لا يتقوّم لا بهذا ولا بذاك بل يكفي فيه تعلّق حقّ الدَين بالعين المرهونة المانع تشريعاً عن تضرّر الدائن بتأخير الوفاء عند الإعسار بقانون ﴿نظِرة الى ميسرة﴾(1)، إذن


(1) البقرة: 280.

204

لا يكون القبض شرطاً عقلائيّاً في الرهن ولا التسليم واجباً عند مطالبة الدائن إلّاإذا شرط على المدين في ضمن الدَين تسليم العين المرهونة.

ولو لم يكن القبض مقوّماً للرهن ولكن ثبت في الفقه الإسلاميّ شرط القبض تعبّداً بقوله تعالى: ﴿فرهان مقبوضة﴾(1)، أو برواية: «لا رهن إلا مقبوضاً»(2) أمكن التفصيل بين القبض حدوثاً والقبض بقاءً باشتراط الأوّل دون الثاني، وبما أنّ ظاهر الأصحاب القائلين منهم بشرط القبض عدم اشتراطه بقاءً فالظاهر أنّ شرط القبض في الرهن لديهم شرط تعبّدي.

وقد اختلفوا في أصل القبض حدوثاً في أنّه هل هو شرط لصحّة الرهن أو للزومه؟ أو لا أكثر من وجوب التسليم عند مطالبة الدائن؟ بل قد استشكل البعض حتى في ذلك(3).

وعلى أيّة حال، فالآية لا تدلّ على شرط القبض أو وجوبه، لأنّ أصل الأمر بالرهان المقبوضة ليس إلزاميّاً ضرورة عدم وجوب الرهن في الدين.

 

المقايسة بين الفقه الغربي والإسلامي

وأمّا عن المقايسة بين الفقه الغربيّ والفقه الإسلاميّ في الشكليّة والرضائيّة فنكتفي في ذلك بنقل ما ذكره الاُستاذ مصطفى الزرقاء في المقام، فقد كتب يقول:

قد كان العقد لدى بعض الاُمم قبل الإسلام مطوّقاً ومثقلا بالشكليّات:


(1) البقرة: 283.

(2) الوسائل 13: 123 و 124، الباب 3 من أبواب الرهن، الحديث 1 و 2.

(3) راجع الجواهر 25: 99 - 116.

205

أ ـ ففي التشريع الرومانيّ القديم كان لأنواع العقود من بيع ونكاح وغيرهما مراسم وأشكال لا تعتبر العقود إذا لم تمرّ بها.

فمن ذلك الطريقة المعروفة في البيع عند الرومانيين باسم (مانسيباسيو)، وقد يسمّونها أيضاً (طريقة النحاس والميزان) لأنّهم يوجبون فيها حمل الميزان والضرب بالنقد النحاسيّ عليه، وكان يشترط لديهم في البيع حضور المبيع في مجلس البيع، فلم يكن قابلا للبيع إلّا الأموال المنقولة.

ولمّا سوّغوا بيع الأراضي كان لا بدّ في عقد (المانسيباسيو) في أوّل الأمر من إحضار جزء من تراب الأرض رمزاً الى حضورها في مجلس العقد كالمنقولات. فكانت العقود لديهم خاضعة لصور من الشكليّةّ الماديّة الابتدائيّة.

ب ـ وفي جاهليّة العرب كانت بيوع تطغى فيها الشكليّة على حرّيّة أحد العاقدين وإرادته كبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحجر، فقد تعورف فيها أنّ المشتري إذا لمس المبيع أو ألقى عليه حجراً أو نبذه إليه البائع فقد لزم العقد.

وقد نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن هذه البيوع، وجاء التشريع الإسلاميّ على يديه بإطلاق العقود من القيود السخيفة، وإخضاعها لمجرّد الإيجاب والقبول الصادرين بالتراضي والأهليّة، واعتبر فيها هذا التراضي هو الملزم دون الأشكال والمراسم.

حتى لقد اعتدّ الفقه الإسلاميّ بما يغني عن الإيجاب والقبول في الدلالة على توافق الإرادتين، ذلك التوافق الذي هو الأصل في اعتبار العقود، فسوّغ التعاطي في البيع ونحوه، واعتبر به العقد منعقداً في خسيس الأموال ونفيسها، ولم يفرّق في البيع بين المنقول والعقار، ولا بين حضور المبيع وغيابه.

والتشريع الإسلاميّ لم يتقيّد بشيء من الشكليّات التي لا دخل لها في تحقّق معنى العقد بين طرفيه، إلّا إذا كان لها مساس بالغاية المقصودة من العقد،

206

كاشتراط القبض في عقد التبرّع والرهن، أو إذا كانت تتوقّف عليها مصلحة ذات بال كاشتراط الشهود لصحّة عقد النكاح.

وقد صحّح التشريع الإسلاميّ عقود الصغار المميّزين والأرقّاء إذا أذن لهم الأولياء والموالي في التجارة.

وكذلك سوّى بين الرجل والمرأة في حرّيّة العقود واحترام الإرادة في تصرّفات الإرادة من معاوضات وتبرّعات والتزامات ونكاح.

ولا يعرف تشريع سبق التشريع الإسلاميّ في مضمار تحرير العقود من قيود شكليّاتها المثقلة(1) انتهى.

أقول: كأنّه يشير بفرض مساس القبض بالغاية المقصودة في عقد الرهن الى ما ذكرنا من أنّ الرهن وثيقة، ولا يحصل الوثوق قبل القبض، ولعلّه يشير بفرض مساس القبض بالغاية المقصودة في عقد التبرّع الى ما مضى من الفكرة القائلة: إنّ الهبة مثلا ليست تمليكاً، بل هي إذنٌ في التملُّك بالحيازة. وأمّا شرط الشهود في عقد النكاح فهو غير ثابت على فقه الشيعة، وهو إنّما ينظر في ذلك الى ما يؤمن به من فقه السنّة. نعم، ورد في روايات فقهنا استحباب الإشهاد على النكاح والإطعام(2)، وكأنّ هذا لأجل الإعلان عنه وحفظ المواريث والنسب، وإمكان الشهادة بعد ذلك على تحقّق النكاح.

وأمّا ما أشار إليه من نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن مثل بيع الملامسة والمنابذة فهذا الحديث قد دخل في كتبنا أيضاً، فقد روي في الوسائل عن معاني الأخبار بسند


(1) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد، الجزء 1، الفقرة 135 - 136.

(2) راجع الوسائل 14: 64 و 67، الباب 40 و 43 من مقدّمات النكاح.

207

غير تامّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة(1). وروي في مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام مرسلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه نهى عن الملامسة والمنابذة وطرح الحصى(2). والمنابذة فسّرت تارةً بنبذ الحصاة فهي عين بيع الحصاة، واُخرى بنبذ المتاع فهي غير نبذ الحصاة.

وعلى أيّة حال ففي هذا الحديث احتمالان:

الأول: أن يكون ناظراً الى إبطال تقييد البيع بشكليّة معيّنة من لمس المتاع أو نبذه أو طرح الحصاة عليه، فيكون إشارةً الى خرافيّة الشكليّات التي آمنت بها الجاهليّة، وكذلك آمن بها الفقه الغربيّ ردحاً من الزمن، ولا فرق في الحقيقة بينه وبين الجاهليّة.

والثاني: أن يكون ناظراً الى المنع عن بيع الغرر، وبيان سلطان الإرادة بمعنى النهي عن الاكتفاء عن رؤية المتاع وفحصه باللمس أو النبذ، أو أن يبيع أحد أفراد المتاع الموجودة عنده ثمّ يعيّن المبيع بمثل رمي الحصاة. وعلى هذا الاحتمال أيضاً يكون دالّاً على خرافيّة ما قام عليه الفقه الغربيّ ردحاً من الزمن من عدم إقامة وزن للإرادة في المعاملات والاكتفاء بالشكليّات(3).

ويمكن تطبيق أحد الاحتمالين على بعض فقرات الحديث ـ أعني الملامسة أو المنابذة أو بيع الحصاة ـ وتطبيق الاحتمال الآخر على البعض الآخر منها.


(1) الوسائل 12: 266، الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 13.

(2) مستدرك الوسائل 13: 238، الباب 10 من عقد البيع وشروطه، الحديث 3.

(3) ذكر في مفتاح الكرامة 4: 160 كتاب المتاجر احتمالات ثلاثة في تفسير بيع الحصاة، وأوّلها إشارة الى ما مضى منه في الصفحة 154 من مفتاح الكرامة، فراجع.

208

 

إطلاقات أدلّة العقود

وبعد، فالآن نريد أن نبحث عن أنّه هل يوجد لدينا إطلاق في الكتاب أو السنّة يقتضي كفاية مجرّد إبراز المقصود في العقود وعدم اشتراط شكليّة معيّنة نرجع إليه في جميع الموارد إلّا أن يخرج قيد مّا بدليل خاصّ، أوْ لا؟ وهنا تذكر عدة إطلاقات لا بدّ من تمحيصها كي نرى هل يصحّ منها شيء أوْ لا؟

 

آية الوفاء بالعقد:

(أوّلا) قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾(1)، وكون هذه الجملة معقّبة بقوله تعالى: ﴿اُحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم...﴾ لا تكون قرينة على صرف الآية الى العقود الإلهيّة. ولو سلّمت قرينيّة ذلك فإنّما هي قرينة على شمول الآية للعقود الإلهيّة، وهي التكاليف، حيث إنّ التكاليف كما تعتبر عهوداً بمعنى الوصيّة كما قال تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان﴾(2)كذلك تعتبر مواثيق مأخوذة من البشر في عالم الذرّ أو الفطرة كما قال تعالى: ﴿وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين﴾(3) فيصّح تعلّق الوفاء بذلك، ولكنّ هذا لا يعني اختصاص الآية بالعقود والمواثيق الإلهيّة، بل مقتضى إطلاقها شمولها للعقود التي تكون بين الناس. وما مضى من الرواية التي فسّرت العقود في الآية بالعهود(4) (والمقصود


(1) المائدة: 1.

(2) يس: 60.

(3) الأعراف: 172.

(4) تفسير عليّ بن إ براهيم 1: 160، الوسائل 16: 206، الباب 25 من أبواب النذر والعهد، الحديث 3 عن العيّاشيّ.

209

بها المواثيق بقرينة الوفاء) محمولة على التفسير بفرد بارز، لا على الحصر كييخرج مثل البيع لعدم كونه ميثاقاً، فإنّ هذا اللحن وهو التفسير بفرد بارز شايع في الروايات الواردة في تفسير القرآن من قبيل ما ورد من تفسير الصادقين في قوله تعالى: ﴿كونوا مع الصادقين﴾(1) بالأئمة (عليهم السلام)(2). وما ورد من تفسير اُولي الأمر في قوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم﴾(3) بعليّ والحسن والحسين (عليهم السلام)(4).

وهذه الآية هي أكمل إطلاق ورد في المقام، حيث تشمل كلّ العقود حتى التي لا تكون ماليّة والتي هي خارجة ـ كما مضى ـ عن بحثنا.

هذا، والشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) لم يذكر هذه الآية المباركة في عداد أدلّة صحّة المعاطاة، ولكنّه ذكرها في عداد أدلّة اللزوم، ولعلّ السرّ في ذلك النقاش في دلالة هذه الآية على صحّة العقود وحملها على خصوص اللزوم إمّا بدعوى أنّ الوفاء بالعقد عبارة عن الوفاء بآثار العقد، وآثار العقد إنّما تترتّب على العقد الصحيح، فصحّة العقد يجب أن تكون مفروغاً عنها في رتبة الموضوع، أو بدعوى أنّ عدم صحّة العقد يعني عدم انعقاد العقد، وعدم انعقاده يعني فقدانه، فالشكّ فيه شكّ في الموضوع. إلّا أنّ هذا كلّه واضح البطلان، فإنّ انعقاد العقد ليس إلّا عبارة عن ارتباط قرار بقرار سواء نفذ شرعاً أوْ لا، والوفاء بالعقد يعني الوفاء بالأثر الذي قصده المتعاقدان من قرارهما، لا الأثر الشرعيّ. وكلّ هذا حاصل حتى في العقد


(1) التوبة: 119.

(2) راجع تفسير البرهان 2: 169 و 170.

(3) النساء: 59.

(4) اُصول الكافي 1: 286، باب ما نصّ الله عزّ وجلّ ورسوله على الائمة الحديث 1.

210

الباطل شرعاً، إذن فإطلاق الآية يدلّ على صحّة العقد الذي هو ربط قرار بقراربأيّ مبرز عرفيّ ونفوذه شرعاً.

نعم، البطلان الذي يأتي من قِبل عدم مشروعيّة متعلّق العقد لا ينفيه إطلاق ﴿اوفوا بالعقود﴾. فالعقد على المحرّم لا يشمله هذا الإطلاق، لا أنّه خرج بالمخصّص، وذلك إمّا ببيان أنّ مثال هذه النظم الثانويّة كنظام الوفاء بالعقد أو الشرط أو اليمين أو النذر في أيّ شريعة شرّعت تنصرف عرفاً بالمناسبات الى نُظم ضمن إطار تلك الشريعة، ولا يفهم منها نظام يحلّل مخالفة النظم الأوّليّة للشريعة، أو ببيان أنّ المفهوم من هذه النظم كونها أحكاماً حيثيّة، أيّ أنّ العقد من حيث كونه عقداً صدر من الطرفين يجب احترامه من قبل الطرفين، أو أنّ الشرط أو اليمين أو النذر من حيث هو واجب الاحترام. أمّا لو حكم المولى تعالى بنقضه بفرض حرمة متعلّقه فهذا لا ينافي احترام العقد كعقد، أو الشرط والنذر كشرط ونذر.

هذا، وقدجاء في مصباح الفقاهة(1) توجيه آخر لإغفال الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله)لهذه الآية في عداد أدلّة صحّة المعاطاة، ولا يظهر من عبارته نسبة هذا التوجيه الى السيّد الخوئي، لأنّه ذكره تحت الخط لا في متن التقرير.

وذلك التوجيه هو: أنّ الآية إنّما دلّت بالمطابقة على لزوم العقد؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالعقد إنّما يكون إرشاداً الى لزومه وعدم انفساخه بالفسخ. وهذا يدلّ بالملازمة على صحّة العقد، إذ لا معنى للزوم العقد الفاسد، والدلالة الالتزاميّة تسقط عن الحجّيّة إذا سقطت المطابقيّة عن الحجّيّة. وبما أنّ الشيخ الأنصاري (رحمه الله)ذكر قيام الإجماع على عدم لزوم المعاطاة إذن لم يبق عنده مجال للتمسّك بهذه الآية لصحّة المعاطاة لأنّه بسقوط المطابقيّة سقطت الالتزاميّة. وهذا بخلاف آيتي حلّ البيع والتجارة عن تراض، فإنّهما تدلاّن بالمطابقة على صحّة البيع.


(1) مصباح الفقاهة 2: 105.

211

أقول: إنّ دلالة الآية على اللزوم والصحّة في عرض واحد، فالآية تدلّبالمطابقة على وجوب الوفاء وبالالتزام على الصحّة واللزوم، لأنّ وجوب الوفاء لا يكون إن فسد العقد، وكذلك لا يكون إن لم يكن العقد لازماً، فلعلّ الأولى في تقريب النتيجة المقصودة أن يقال: إنّنا إذا قطعنا بعدم اللزوم بسبب الإجماع فقد قطعنا بعدم وجوب الوفاء، فقد سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة، وبسقوطها تسقط الدلالة الالتزاميّة على الصحّة(1).


(1) لا يخفى أنّ الاستدلال بمثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ على صحّة مثل البيع لا يخلو من إشكال، فإنّ البيع ليس عقداً على الالتزام بعمل كي يتصوّر فيه الوفاء وعدم الوفاء مباشرةً، وإنّما الذي يتصوّر فيه مباشرةً هو النفوذ وعدم النفوذ. نعم يتصوّر فيه الوفاء وعدم الوفاء بمعنى الوفاء بآثاره أو عدم الوفاء بها، فقد يقال: إنّ وجوب الوفاء بآثاره المقصودة من قِبل المتعاقدين يدلّ بالالتزام على نفوذه، إذ لو لم يكن نافذاً لما وجب الوفاء بآثاره من تسليم العوضين ونحو ذلك، ولكنّ الجواب على ذلك هو: أنّ الأمر بالوفاء بالعقود أمرٌ حيثيّ أي بيان لكون العقد بما هو عقد محترماً وواجب الوفاء، فلكي تثبت فعليّة هذا الأمر لا بدّ من ثبوت كون المتعلّق مشروعاً، فلو كان المتعلّق غير مشروع ولذلك لم يجب الوفاء به لم يكن ذلك تخصيصاً في الأمر بالوفاء بالعقد، لأنّ هذا لا ينافي كون العقد من حيث هو عقد محترماً والعقد إذا كان عقد فعل كما لو تعاقدا على الاجتماع في مكان مّا كانت مشروعيّة متعلّقه عبارة عن إباحته، فالتعاقد على الاجتماع في الحرم الشريف نافذ ولكنّ التعاقد على الاجتماع في مجلس المنادمة على مائدة الخمر ليس نافذاً لحرمة متعلّقه. وإذا كان عقد نتيجة كالبيع كانت مشروعيّة متعلّقه عبارةً عن نفوذه فلا يعقل دلالة الأمر بالوفاء بالعقد على النفوذ، لأنّ مشروعيّة المتعلّق يجب أن تكون أمراً مفروغاً عنه مسبقاً. نعم بعد ثبوت نفوذه ومشروعيّته يدلّ الأمر بالوفاء على حرمة مخالفة الآثار وعلى اللزوم. ومن هنا يظهر أيضاً الإشكال في الاستدلال ببعض الإطلاقات الآتية كآية الميثاق أو رواية: المؤمنون عند شروطهم.

212

وعلى أيّة حال، فلعلّه يأتي في المستقبل بيان منع تحقّق إجماع حجّة على عدم اللزوم في المقام.

 

أحلّ الله البيع:

(وثانياً) قوله تعالى: ﴿أحلّ الله البيع﴾(1). وهذا وإن كان خاصّاً بالبيع إلّا أنّه يتعدّى من البيع الى كلّ ما لا يحتمل الفرق بينه وبين البيع، فمثلا لو كان المقصود تصحيح المعاطاة ولم يحتمل الفرق بين البيع وسائر المعاملات الماليّة في صحّة المعاطاة وعدمها صحّ التمسّك بهذه الآية لإثبات صحّة المعاطاة في المعاملات الماليّة على الإطلاق على أنّه لو عثرنا في كلّ معاملة ماليّة على نصّ لإمضاء تلك المعاملة من سنخ هذا النصّ في البيع جرى فيه بلحاظ تلك المعاملة نفس البحث الذي يجري في ﴿أحلّ الله البيع﴾ بلحاظ عقد البيع.

وربّما تذكر على التمسّك بهذا الإطلاق عدة إشكالات:

إشكال التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة:

الإشكال الإوّل: انّ أسامي المعاملات لو كانت اسماً للأعمّ صحّ التمسّك بإطلاق أدلّة المعاملات. أمّا لو كانت اسماً للصحيح فالتمسّك بإطلاقها مشكل، لأنّ الشكّ في الصحّة يعني الشكّ في موضوع العامّ، فيصبح التمسّك به تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ، وهذا لا يجوز قطعاً.

ولعلّ هذا الإشكال يسري الى مثل الإطلاق الماضي، وهو: ﴿أوفوا بالعقود﴾، أو الإطلاق الآتي وهو: ﴿إلّا أن تكون تجارة عن تراض﴾ بدعوى أنّ العقد أيضاً اسم للعقد الصحيح، أو أنّ التجارة تعني المعاملات الصحيحة.


(1) البقرة: 275.

213

ولكنّي أحسّ بفطرتي العرفيّة أنّ عدم اختصاص العقد بخصوص الصحيح أوضح من عدم اختصاص البيع بخصوص الصحيح، فالعقد ليس عدا قرار مرتبط بقرار، أو ربط قرار بقرار، أمّا نفوذ ذاك القرار شرعاً أو عرفاً ووجوب الوفاء به شرعاً أو عرفاً فخارج عن مفاد العقد، فحتى لو تعاقدا مثلا على أعظم المناكير الشرعيّة والعرفيّة والتي لم يرَ الشرع ولا العرف مصلحة في إمضاء التعاقد عليها لم يكن ذلك خارجاً عن معنى العقد.

وعلى أ يّة حال، فالذي يبدو أنّ الإشكال في الإطلاق بفرض عناوين المعاملات أسماء للصحيح كان بحاجة الى نوع من التعميق، إذ يتبادر الى الذهن الجواب عليه ـ لولا التعميق ـ بأنّ المعاملات ليست كالعبادات التي هي من مخترعات الشارع حتى يأتي احتمال كون أساميها أسام للصحيح، بل هي ثابتة لدى العرف قبل الشرع الإسلاميّ، وجاء الشرع الإسلاميّ فأدخل في شروطها بعض التعديلات، وهذا لا يوجب انتقال الوضع من معناه اللغوي والعرفي الى وضع جديد.

وكأنّه لهذا حاول الشيخ الأنصاري (رحمه الله) تعميق صيغة الإشكال ببيان(1)يرجع بعد إدخال شيء من التعديل عليه بأنّ البيع يمكن افتراضه من أوّل الأمر اسماً للصحيح، لكنّ الصحيح في نظر الشرع يختلف عن الصحيح في نظر العرف، فما يكون صحيحاً عرفاً وباطلا شرعاً يكون بيعاً عرفاً ولا يكون بيعاً شرعاً، فالتمسّك لدى الشكّ في ذلك بدليل ﴿أحلّ الله البيع﴾ يعود عليه إشكال التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ.


(1) راجع المكاسب: 80 و 81.

214

وأجاب الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على هذا الإشكال ـ بناءً على فرض حمل﴿أحلّ الله البيع﴾ على هذا المعنى ـ بأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف يحمل هذا الكلام بالإطلاق المقامي على إرادة ما هو الصحيح المؤثّر عند العرف، فلدى الشكّ في شرط جديد يرجع الى إطلاق الدليل لنفيه.

وقد فسّر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) كلام الشيخ الأنصاري في المقام إشكالا وجواباً ـ على ما جاء في تقرير الشيخ الآملي (قدس سره)(1) ـ بتفسير غريب، وهو: أنّ الإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات راجعة الى إمضاء المسبّبات لا الأسباب، إذ لا معنى مثلا لحمل ﴿أحلّ الله البيع﴾ على حلّيّة مجرّد إنشاء الإيجاب والقبول، وإنّما المقصود حلّيّة المسبب، فإذا شككنا في تحقّق المسبّب للشكّ في دخل شيء شرطاً أو شطراً في السبب كان التمسّك فيه بالعامّ تمسّكاً في الشبهة المصداقيّة للعامّ. ومن هنا عمّم المحقّق النائينيّ (رحمه الله) الإشكال على مثل ﴿اُوفوا بالعقود﴾ حيث يقول: إنّ هذا أيضاً راجع الى ناحية المسبّب ضرورة أنّ العقد عبارة عن العهد الموثَّق الحاصل بالإيجاب والقبول لا نفس الإيجاب والقبول. هذا تفسير الإشكال.

وأمّا تفسير الجواب الذي ذكره الشيخ الأنصاري فقد نقله ببيان أنّ الدليل وإن كان ناظراً الى إمضاء المسبّبات لكن إمضاء المسبّبات يدلّ بالملازمة على إمضاء أسبابها، إذ لا يتحقّق المسبّب من دون السبب. وعندئذ أورد عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بأنّ إمضاء المسبب إنّما يقتضي إمضاء السبب في الجملة، إذ يكفي في تحقّق المسبّب تحقّق السبب في الجملة، ولا يقتضي إمضاء السبب بقول مطلق كي نتمسّك لدى الشكّ بالإطلاق.


(1) راجع الجزء الأوّل من تقريره: 111 ـ 115.

215

ثمّ تصدّى هو (رحمه الله) لحلّ الإشكال بما حاصله: أنّ ترتّب الـمُنشأ على ألفاظالعقود والإيقاعات ليس من قبيل ترتّب المسبّبات على أسبابها، كترتّب الإحراق على الإلقاء في النار، أو كترتّب حصول السنبل على إلقاء البذر، فمثل هذين المثالين يكونان من ترتّب المسبّب على السبب، بفرق أنّ السبب في المثال الأوّل سبب تامّ، ويكون المسبّب فعلا لفاعل السبب حقيقة، إلّا أنّه فعل غير مباشر، وفي المثال الثاني مقدّمة إعداديّة، ويفصل بينه وبين المسبّب ما يكون خارجاً عن قدرة فاعل السبب واختياره، فلا ينسب المسبّب حقيقة الى فاعل السبب.

وأمّا ما نحن فيه فليس من هذا القبيل، وإنّما هو من باب إيجاد ذي الآلة بالآلة كالتكلّم باللسان، أو الكتابة بالقلم، وهذا يكون فعلا مباشراً للفاعل لا مسبّباً توليديّاً وفعلا غير مباشر. نعم، هذه المنشآت تارةً ينظر إليها باعتبار ذاتها من حيث هي هي بقطع النظر عن انتسابها الى الفاعل، واُخرى ينظر إليها باعتبار انتسابها الى الفاعل، وإن شئت فعبّر عن الأول بالمعنى الاسم المصدري، وعن الثاني بالمعنى المصدري.

ودليل إمضاء هذه المنشآت إن كان ناظراً إليها بالمعنى المصدري، فإمضاء المنشأ بالإنشاء عين إمضاء إنشائه بالآلة المعدّة لإنشائه، فإنّ إمضاء الكتابة بمعناها المصدري عين إمضاء إيجادها بالقلم، وإن كان ناظراً إليها بالمعنى الاسم المصدري فكذلك. لأنّ التغاير بين المعنى المصدري والمعنى الاسم المصدري ليس إلّا بالاعتبار.

أقول: إنّ هذا البيان ـ إشكالا وجواباً ـ يشتمل على خلط غريب بين الـمُنشأ والثمرة التي تثبت بالشرع أو القانون أو عرف العقلاء، وذلك لأنّ تصوير الإشكال ـ بكون الشكّ في المسبّب شبهة مصداقيّة للعامّ ـ يتوقّف على كون المراد

216

بالمسبّب تلك الثمرة القانونيّة أو الشرعيّة، أو على تخيّل كون ما يثبت بإمضاء القانون هو عين الـمُنشأ بالإيجاب والقبول وتصوير الجواب ـ بأنّ ما نحن فيه من قبيل الآلة وذي الآلة ـ يتوقّف على كون المراد بالمسبّب هو الـمُنشأ. والواقع أنّ المنُشأ هو غير الثمرة القانونيّة، فكلاهما أمران اعتباريّان، لكنّ الاول أمر اعتبره الناقل، ونسبته الى اعتباره نسبة الوجود الى الإيجاد. والثاني أمر اعتبره المقنّن، ونسبته الى اعتبار المقنّن له نسبة الوجود الى الإيجاد، وليس هذا نسبته الى فعل الناقل نسبة ذي الآلة الى الآلة، وإنّما هي نسبة الحكم الى الموضوع.

ومع الالتفات الى أنّ الثمرة القانونيّة غير المنُشأ وإنّ عدم إمضاء القانون للمنُشأ لا يعني عدم تحقّق المنُشأ يتّضح أنّ فرض البيع أو العقد اسماً للمنُشأ لا يصوّر إشكالا في المقام بلزوم كون التمسّك بالعامّ تمسّكاً به في الشبهة المصداقيّة حتى يجاب عليه بالجواب الذي نسبه الى الشيخ الأنصاري، أو الجواب الذي اختاره هو.

أمّا لو فرضنا أنّ المقصود الواقعي للشيخ الأنصاري (رحمه الله) هو تصوير الإشكال ـ بناءً على فرض كون البيع اسماً لما يثمر الثمرة القانونيّة ـ فهنا اختلاف في تصوير تلك الثمرة القانونيّة المقصود للشيخ بالنحو الذي يؤدّي الى تصوير الإشكال في المقام.

فالسيّد الخوئيّ (رحمه الله) نسب الى الشيخ أنّه يفسّر فرض كون البيع اسماً للصحيح بمعنى كونه اسماً لما هو المؤثّر واقعاً أثر الملكيّة والانتقال، وما يقع أحياناً من مخالفة الشرع للعرف في صحّة بعض المعاملات مرجعه الى تخطئة العرف في تشخيصه للواقع، وعندئذ أورد عليه بمنع كون الملكيّة أمراً واقعيّاً،

217

وإنّما هو أمر اعتباري صرف(1).

إلّا أنّ المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) فسّر كلام الشيخ (قدس سره) بتفسير آخر وهو أن يكون معنى فرض البيع اسماً للصحيح فرضه اسماً للبيع المؤثّر على ما هي عليه كلمة المؤثّر من معنى متقوّم بالاعتبار المختلف باختلاف الأنظار، ومخالفة الشرع للعرف ليست بمعنى تخطئته في تشخيصه للواقع، بل بمعنى كون اعتبار أحدهما مغايراً لاعتبار الآخر(2).

وهذا الكلام يمكن أن يذكر كتقريب لتماميّة الإطلاق في ﴿أحلّ الله البيع﴾بدعوى أنّ البيع اسم لجامع المؤثّر ولا يختصّ بالمؤثّر الشرعي حتى يكون الشكّ في التأثير الشرعي شكّاً في المصداق، ويمكن أن يذكر كتقريب للإشكال على الإطلاق بدعوى أنّ البيع لئن كان اسماً للمؤثّر فالمؤثّر لدى كلّ متكلّم يختلف عن المؤثّر لدى متكلّم آخر، فإذا شككنا في ثبوت التأثير لدى الشارع يكون التمسّك بإطلاق كلامه تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، وعندئذ نكون بحاجة الى الجواب بمثل دعوى الإطلاق المقامي، وإنّ خطاب الشارع المتوجّه الى العرف ينصرف الى إرادة ما هو المؤثّر لدى العرف مثلا.

إلّا أنّ السيّد الخوئي (رحمه الله) لم يقبل صلاحيّة هذا التقريب كبيان للإشكال على الإطلاق، فهو يرى أنّ التقريب الوحيد لفرض البيع اسماً للصحيح بنحو يصلح تقريباً للإشكال هو أن نتخيّل أنّ الملكيّة والانتقال من الاُمور الواقعيّة. أمّا إذا اعترفنا بأنّ تأثير البيع ليس عدا أمر اعتباري بحت ولا وجود واقعيّ للملكيّة فلا


(1) راجع مصباح الفقاهة 2: 80، والمحاضرات 2: 40.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 1: 21 و 22.