343

 

 

 

 

الفصل الثالث عشر

ا لـورع وا لتــقوى

 

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(1).

وقال عزَّ من قائل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾(2).

وقال عزّوجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ...﴾(3).

وقال عزَّ اسمه: ﴿... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(4).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ


(1) السورة 49، الحجرات، الآية: 13.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 197.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 102.

(4) السورة 5، المائدة، الآية: 27.

344

هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(1).

مضى في فصل الزهد حديث عن هاشم بن البريد، عن أبي جعفر(عليه السلام) «إنَّ رجلاً سأله عن الزهد فقال: الزهد عشرة أشياء، وأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا...»(2).

ونحوه عن هاشم بن البريد عن زين العابدين(عليه السلام)(3).

وقد رُوي عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال: «قال لي: يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت ! فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت: يابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: اُحبّ عليّاً وأتولاّه، ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؛ فلو قال: إنّي اُحبّ رسول الله ـ فرسول الله خير من عليّ(عليه السلام) ـ ثمّ لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّوجلّ ]وأكرمهم عليه [أتقاهم، وأعملهم بطاعته. يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة. مَنْ كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَنْ كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ. وما


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 26 ـ 27.

(2) البحار 70 / 310.

(3) الكافي 2 /62، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا بالقضاء، الحديث 10.

345

تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع»(1).

يبدو لي أنّ المقصود بما في الحديث الأوّل من أنَّ «... أعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع ...» هو الزهد بالمعنى الأوّل من المعنيين الماضيين في ذاك البحث، وهو: ترك المحرمات والمشتبهات، فهذا يكون أدنى درجات الورع، ويشتدّ الورع بإضافة التورّع عن المكروهات والشبهات الجائزة الارتكاب أو المباحات الشاغلة عن الله سبحانه وتعالى. فكلّما توغّل الإنسان في هذا السلّم من الورع اقترب إلى الاطمئنان القلبي والعاطفي بالله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال (عليه السلام): «أعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين...».

وهناك احتمال آخر في تفسير كون «... أعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع ...» وهو أنّ المقصود بالزهد: الزهد عن الحرام والمشتبه الماليّين، في حين أنّ الورع يعني: التورّع في جميع الأبواب لا في خصوص الأموال، ولا تنافي بين التفسيرين.


(1) اُصول الكافي 2 / 74 ـ 75، كتاب الإيمان والكفر، باب الطاعة والتقوى، الحديث 3.

وهذا الحديث يمثّل توصيات للشيعة المتعايشين ضمن أكثرية سُنّية، كي يؤثّر العمل بها في جلب ثقة السُنّة بالشيعة وبأئمّة الشيعة وبمذهبهم. وفي فرض ترك العمل بها يؤدّي ذلك إلى تشويه سمعة الشيعة والأئمّة(عليهم السلام) والمذهب، لكن يمكن تسرية ذلك إلى الفروض المشابهة، وذلك من قبيل توصية طلبة العلوم الدينية أو العلماء بالعمل بهذه الاُمور ضمن الأُمّة المفروض بها اتّباع العلماء، فلو رأوا منهم ما يخالف هذه الآداب لساء ظنهم بالعلماء أو الحوزة العلمية، بل قد يسوء ظنّهم بالإسلام. ويتضاعف بذلك عقاب هؤلاء العلماء أو المتعلمين، ولو رأوا منهم هذه الآداب لاشتدّت ثقتهم بالعلماء وبطلبة العلوم الإسلاميّة وبنفس شريعة الإسلام ومبادئها وآدابها ومن قبيل توصية المتدينين الذين يتعاهدون المساجد والمشاهد المشرفة ومجالس الوعظ والإرشاد بالالتزام بهذه الآداب لجلب عامّة الناس الفاقدين لمثل هذه التعاهدات. ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

شيخى بزن فاحشه گفتا مستى
هر روز بدام دگرى پيوستى
گفتا شيخا هر آنچه گوئى هستم
امّا تو هر آنچه مينمائى هستى؟!
346

والذي يبدو لي أنّ المقصود باليقين: ما قد يُسمّى بيقين الشهود الذي هو فوق ما يُسمّى بالقطع، فالقطع هو: الانكشاف الذي يكفي في تماميته أن لا يشوبه شك، ويكفي في تحصيله البرهان، ولكن اليقين هو: العلم الذي يكون نوراً يقذفه الله في قلب من يشاء، ولا يحصل إلاّ بأعلى درجات الورع والتقوى الموجب لانفتاح بصيرة الإنسان التي تشاهد ما لا يشاهد البصر.

وقد قيل: إنَّ اليقين له درجات: أوّلها علم اليقين، وثانيها عين اليقين، وثالثها حقّ اليقين. ويُمثّل لذلك باليقين بالنار الذي يكون في الدرجة الأُولى بمشاهدة المرئيّات بتوسط نورها، وفي الدرجة الثانية بمشاهدتها مباشرة، وفي الدرجة الثالثة بالاحتراق فيها وانمحاء الهوية بها. وليس وراء هذا غاية، ولا هو قابل للزيادة. لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً(1).

والتقوى والورع شيء واحد. وقد بُيّنت مرتبتها في بعض الروايات بلسان آخر غير رواية الورع التي تلوناها عليك، وهي في بعض أسانيدها صحيحة السند، فقد رُوي في الكافي عن الإمام الرضا(عليه السلام)بثلاث وسائط كلّهم في منتهى درجات الوثوق وهم: محمّد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى القمّي الأشعري، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر (وهذا سند قلّ ما نرى مثله) عن الرضا (عليه السلام)قال: «الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة. ولم يقسّم بين العباد شيء أقلُّ من اليقين»(2).

ونحوه في حديث آخر بسند صحيح أيضاً بثلاث وسائط كلّهم ثقات. والراوي المباشر يونس. وزاد في آخره: قلت: « فأيّ شيء اليقين؟ قال: ... التوكّل على


(1) راجع البحار 70 / 142.

(2) اُصول الكافي: 2 / 52، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان، الحديث 6.

347

الله، والتسليم لله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى الله...»(1).

وهذا تفسير لليقين باللوازم والآثار. ولنعم ما قيل في تعريف التقوى:

خلِّ الذنوبَ صغيرَها *** وكبيرها فهو التقى

واصنع كماش فوق أر *** ضِ الشوكِ يحْذرُ ما يرى

لا تحقرنّ صغيرةً *** إنّ الجبالَ من الحصى(2)

والتقوى من الوقاية بمعنى: التوقّي. وفي عرف المتشرّعة يقصد بها: التوقّي من عذاب الآخرة، أو من غضب الرحمن، أو من الابتعاد عن الربّ أو ما إلى ذلك.

وقد قسّمها الشيخ المجلسي(رحمه الله) إلى ثلاث مراتب:

الاُولى: وقاية النفس من العقاب المخلّد بتصحيح العقائد الإيمانية.

والثانية: التجنّب عمّا يؤثم: من فعل أو ترك، قال: وهو المعروف عند أهل الشرع.

والثالثة: التوقّي من كلّ ما يشغل القلب عن الحقِّ، قال: وهذه درجة الخواصّ، بل خاصّ الخاصّ. واستظهر(رحمه الله) أن يكون المقصود بالتقوى في الروايات التي جعلتها فوق الإيمان وجعلت اليقين أعلى منها: المعنى الثاني؛ إذ لو كان المقصود هو الأوّل لمّا صحّ جعلها فوق الإيمان، ولو كان المقصود الثالث لأشكل الفرق عن اليقين وكون اليقين فوقه. ثمّ قال: لكن درجات المرتبة الأخيرة ـ أيضاً ـ كثيرة، فيمكن حمل اليقين على أعلى درجاتها، فيجتمع مع تفسير التقوى بالمعنى الثالث أيضاً(3).


(1) اُصول الكافي: 2 / 52، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان، الحديث 5.

(2) تفسير «نمونه» 22 / 207.

(3) راجع البحار 70 / 136 ـ 137.

348

أمّا ما ورد في آية الحجّ من الأمر بالتزوّد، وأنّ خير الزاد التقوى، فإنّني كنت أفهم منه وفق الفهم الساذج: أنّ المقصود هو الأمر بالتزوّد بالتقوى، فكأنّما يقول: إنّ الذي يحجّ بيت الله فالمفروض به: أن يترك الرفث والفسوق والجدال، وأن يتزوّد ـ أيضاً ـ بالتقوى، إلى أن رأيتُ تفسيراً يروي: أنَّ أُناساً من اليمن كانوا في عصر القرآن يسافرون للحج، ولم يكونوا يصحبون معهم زاداً، وكان دليلهم على ما يفعلون: أنّنا نَفِدُ على زيارة بيت الله، فهل يعقل أنّ الله تعالى لا يستضيفنا، وغافلين عن أنّ الله تعالى قد استضافهم عن طُرُق الوسائل المادّية الموضوعة تحت اختيارهم، فنزلت الآية المباركة تأمرهم بالتزوّد، وتشير ضمناً إلى مسألة معنويّة، وهي: ضرورة زادالتقوى ـ أيضاً ـ التي هي خير زاد(1).

أقول: وكذلك سفرنا إلى عالم الآخرة، فصحيح أنَّنا نَفِدُ في ذلك على الكريم. ولنعم ما قيل:

وفدتُ على الكريمِ بغيرِ زاد *** من الحسناتِ والقلبِ السليمِ

وحملُ الزادِ أقبحُ كلّ شيء *** إذا كان الوفود على الكريم

وحقّاً كُلَّما تزوّدنا بزاد التقوى عجزنا عن تأدية حقّه سبحانه وتعالى، وسيكون اعتمادنا على كرم مَنْ نَفِد عليه، ولكنّنا في نفس الوقت مأمورون بالتزوّد بزاد التقوى،وبدون ذلك سنخسر هنالك خسراناً مبيناً. وقد وردت مخاطبة عليّ (عليه السلام)لأهل القبور بعد رجوعه من صفّين لمّا أشرف عليها بظاهر الكوفة، وفيها: «... أمّا الدور فقد سُكِنت، وأمّا الأزواج فقد نكِحت، وأمّا الأموال فقد قُسِّمت. هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم ؟ ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أمّا لو أُذِنَ لهم في الكلام لأخبروكم: أنّ خير الزاد التقوى»(2).


(1) تفسير «نمونه» 2 / 30.

(2) نهج البلاغة: 680، رقم الحكمة: 130.

349

وهو الذي ورد عنه(عليه السلام) ـ أيضاً ـ أنّه قال: «... إنّ المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك ؟ وقالت الملائكة: ما قدّم ؟ لله آباؤكم فقدّموا بعضاً يكن لكم، ولا تُخلِفُوا كلاًّ فيكون عليكم»(1).

وأمّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿... اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ...﴾ فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال في تفسير حقّ التقاة: «يطاع ولا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يكفر»(2).

وأمّا قوله عزّوجلّ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ...﴾ فهو مِنّة على العباد أوّلاً بإنزال اللباس المادّي عليهم الذي يواري السوأة المادّيّة ويعتبر كرامة، وكذلك زينة للإنسان (وأكبر الظنّ أنّ المقصود بقوله ﴿رِيشاً﴾ هو كون اللباس زينة). وهذا اللباس هو الذي انتزع من آدم وحوّاء بسبب الخطأ الذي صدر عنهما بوسوسة الشيطان؛ نظراً لكون إلباسه إيّاهما إلباساً إلهيّاً لا ينتزع منهما، وليس بحاجة إلى مؤونة اللبس بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى﴾(3). فهذه الكرامة سُلِبت من آدم وزوجه حينما ذاقا من الشجرة، فبدت لهما سوآتهما، واضطرّا إلى سترالسوأة بالفعل المادّيّ المحتاج إلى المؤونة والتعب ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَّرَقِ الْجَنَّةِ ...﴾(4) ثُمّ تشير الآية إلى اللباس المعنوي


(1) المصدر السابق: 435، رقم الخطبة: 203. وقد ورد في نسخة صبحي الصالح «... يكن لكم قرضاً... فيكون فرضاً عليكم».

(2) تفسير البرهان 1 / 304.

(3) السورة 20، طه، الآية: 118.

(4) السورة 20، طه، الآية: 121.

350

الذي هو خير من اللباس المادّي ألا وهو: لباس التقوى. ويحذّرنا من أن يكرّر الشيطان علينا الحيلة التي ارتكبها مع أبوينا. وفي هذه المرّة لا ينزع عنّا لباسنا المادي؛ فإنّه لم يلبس علينا بطابع الإكرام الإلهي البحت (وإن كانت جميع النعم بالمعنى العام إكراماً إلهيّاً لنا)، فإنّ لبس اللباس امر اختياري لنا، ويحمل مؤونة التحصيل واللبس، ولكنّ لباس الكرامة الحقيقيّة لنا ـ والتي هي خير من اللباس المادّي ـ إنّما هو لباس التقوى. وهذا هو اللباس الذي ينزعه منّا الشيطان هذه المرّة إن عصيناه سبحانه وتعالى.

وبهذه المناسبة أُشير إلى بعض أساليب نزع الشيطان عنّا لباس التقوى، وهي ما وردت في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): «لمّا دعا نوح(عليه السلام) ربّه ـ عزّوجلّ ـ على قومه أتاه إبليس لعنه الله فقال: يا نوح إنّ لك عندي يداً ! أُريد أن أُكافيك عليها.

فقال نوح(عليه السلام): إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد فما هي ؟

قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم، فلم يبقَ أحد أُغويه، فأنا مستريح حتّى ينسق قرن آخر وأُغويهم.

فقال له نوح(عليه السلام): ما الذي تريد أن تكافيني به ؟

قال: اذكرني في ثلاث مواطن(1) فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في إحداهنّ:

اذكرني إذا غضبت.

واذكرني إذا حكمت بين اثنين.

واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد»(2).

وفي ختام البحث أقول: إذا اتّضح لك بما شرحنا حتّى الآن فضل التقوى


(1) هكذا وردت، والصحيح: ثلاثة مواطن.

(2) البحار 11 / 318.

351

وأثرها، عرفت أنّه كان حقّاً أن تُجعل المقياس الوحيد للمفاضلة في الآية الاُولى التي فتحنا بها الحديث، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ فهذه الآية قد حصرت التفاضل بالتقوى، ونفت كلَّ التفاضلات المادية التي لم تقم على أساس الأخلاق والمنتشرة فيما بين الشعوب غير المتربية بتربية السماء، وعلى رأسها في ذلك التأريخ: التفاضل بالأنساب والأحساب، وهو المشار إليه صريحاً في هذه الآية المباركة.

والعقل يحكم قبل الشرع ببطلان هذه القيم، وببطلان هذه القيمة بالذات؛ لأنَّ انتساب شخص إلى قبيلة لا يعني إلاّ انتسابه إليها بواسطة ماء قذر يخرج من بين الصلب والترائب، وليس هذا لو نظرنا إليه في ضوء العقل النيّر أمراً شريفاً ومشرِّفاً، وكلُّ الأنساب ترجع إلى آدم وآدم من تراب.

وقد نُقِلَ للآية المباركة عدد من شأن النزول أو مورد التطبيق، كلّها يدخل في مسألة التفاخر بالأحساب والأنساب والألوان أو اللسان وما إلى ذلك، من قبيل:

1 ـ ما رُوِيَ من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ما فتح مكّة عيَّن بلالاً للأذان على ظهر الكعبة، فقال عتّاب بن أسيد: أشكر الله على موت والدي، وأنّه ليس حيّاً في مثل هذا اليوم الذي يكون بلال هو المؤذّن لنا على ظهر الكعبة. وقال حارث بن هشام: ألم يكن لرسول الله أحد غير هذا الغراب الأسود يجعله مؤذِّناً على الكعبة. فنزلت هذه الآية المباركة(1).

2 ـ وروي ـ أيضاً ـ أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بتزويج بنت من بنات العرب من بعض الموالي (والمولى يعني: العبد المعتَق، أو غير العرب ممّن يتولّى أحداً في مصطلح فقهي) فتعجّبوا من ذلك، وقالوا: أتأمرنا يا رسول الله بتزويج بناتنا من


(1) تفسير «نمونه» 22 / 199.

352

الموالي ؟ ! فنزلت الآية المباركة(1).

3 ـ وفي حديث آخر: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة ذات يوم فقال: «يا أيّها الناس إنّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقيّ كريم على الله، وفاجر شقيّ هيّن على الله. والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ »(2).

والتفاضلات المادّية التي يتمسّك بها الناس غير المتديّنين تكون في الغالب راجعة إلى أحد اُمور ثلاثة:

1 ـ التفاضل بالنسب والقبيلة، وهذا ما أشارت إليه هذه الآية.

2 ـ أو بالمال والقدرات الاقتصادية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَْمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّنْ ذَلِكَ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً﴾(3) في حين أنَّ العقل يحكم ـ أيضاً ـ قبل الشرع بأنّ المال أمر عرضيّ يحصل حتّى بالظلم والطغيان، ويزول في لحظة من القَدَر، ولا فضيلة له في ضوء إشعاعات العقل على الإطلاق.

3 ـ أو بالمكانة الاجتماعيّة والسياسيّة أو القدرة والسلطة.

ولعلّه يشير إلى كلّ هذه الامتيازات الوهميّة قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم


(1) المصدر السابق: ص 200.

(2) المصدر السابق: ص 200.

(3) السورة 25، الفرقان، الآيات: 8 ـ 10.

353

مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)، وكأنّ الآية تشير إلى أنّه لولا مخافة أن يكون الناس أُمّة واحدة كافرة لأغنى الله ـ تعالى ـ الكفّار، ورفّه عليهم، إمّا بهدف الإملاء؛ كي يطغوا أكثر، ويحلّ عليهم غضب الربّ، أو بهدف مكافأتهم بالجميل على بعض ما يصدر عنهم أحياناً من أعمال حسنة؛ كي لا يستحقّوا جزاءها الحسن في الآخرة، أو لأيّ سبب آخر مجهول لدينا.

وفي مقابل هذه الامتيازات المادّيّة المزيّفة قد جاءنا القرآن بامتيازات معنويّة من أرقى ما يمكن أن يكون، فقد فضّل الله ـ تعالى ـ العلماء على الجهّال في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ﴾(2). وفضّل الله ـ تعالى ـ المجاهدين على القاعدين في قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَات مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(3). وفضّل الله المؤمنين على غيرهم، والعلماء على غيرهم في قوله تعالى: ﴿... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا


(1) السورة 43، الزخرف، الآيات: 31 ـ 35.

(2) السورة 39، الزمر، الآية: 9.

(3) السورة 4، النساء، الآيتان: 95 ـ 96.

354

الْعِلْمَ دَرَجَات ...﴾(1) وفضّل الله المتقين على غيرهم في قوله تعالى: ﴿... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ...﴾(2).

والذي يجلب الانتباه أنّ التفضيل بالتقوى جُعِلَ تفضيلاً مطلقاً، في حين أنَّ التفضيلات الأُخرى لا يفهم منها أكثر من التفضيل النسبي، ولعلَّ السبب في ذلك ما يلي: إنَّ التقوى لا يمكن أن تخلو من العلم؛ لأنَّ الجاهل لا يستطيع أن يتقي موارد الخطر التي يجهلها، ولكن العلم يمكن أن يخلو من التقوى، فلا يزداد صاحبه من الله إلاّ بُعداً؛ ولهذا فالعلم لم يصبح امتيازاً مطلقاً، ولكنَّ التقوى أصبحت امتيازاً مطلقاً. وكذلك التقوى لا يمكن أن تكون بلا إيمان، في حين أنَّ الإيمان قد يكون بلا تقوى؛ ولهذا لم يصبح الإيمان امتيازاً مطلقاً، ولكنَّ التقوى أصبحت امتيازاً مطلقاً. وكذلك الجهاد ليس إلاّ فخذاً من أفخاذ التقوى. والتقوى في كلِّ مورد بحسبه، فقد تكون التقوى في الجهاد، وأُخرى في التعلم، وثالثة في تبليغ الرسالة الإسلاميّة ... وما إلى ذلك، فالتقوى هي الفضيلة الجامعة المطلقة، وليس الجهاد.

أختم الحديث عن التقوى بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْب مُّنِيب * ادْخُلُوهَا بِسَلاَم ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾(3).


(1) السورة 58، المجادلة، الآية: 11.

(2) السورة 49، الحجرات، الآية: 13.

(3) السورة 50، ق، الآيات: 31 ـ 35.

355

 

 

 

 

الفصل الرابع عشر

التبتل والانقطاع إلى الله تعالى

 

قال عزّ وجلّ: ﴿ بِسْمِ الله الرَحْمن الرَحِيم يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾(1).

وقد فُسِّر التبتّل بمعنى: الانقطاع. وللانقطاع إليه سبحانه وتعالى عدّة معاني، أو عدّة مراتب ودرجات:

الاُولى: الانقطاع إليه في الخوف والأمل والرجاء، فلا يخاف إلاّ الله، ولا يأمّل إلاّ إيّاه، ولا يرجو أحداً غيره.

ويدلّ على ضرورة ذلك العقل قبل النقل؛ ذلك لعلمنا بأنَّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، وأنّ العالم أجمع جلوة من جلواته، وأنّ ما نراه من الأسباب والمسبَّبات والعلل والمعلولات إن هي إلاّ تحت قبضة الله وإرادته، فلو رأينا شجرة نبتت بالإعجاز دفعة واحدة في قفر يابس، ورأينا ـ أيضاً ـ في جانب آخر بستاناً مليئاً بالأشجار والفواكه والأوراد والغلاّت على أثر الغرس والزرع والسقي قد نتعجب من الأوّل، ولا نتعجب من الثاني، ولكن إذا تأمّلنا لرأينا أنّ نسبة الخالق تعالى إليهما على حدٍّ سواء، ودلالة كلِّ شجر أو نبت على وجود الله الواحد الأحد كدلالة


(1) السورة 73، المزّمّل، الآيات: 1 ـ 8 .

356

الآخر من دون فرق بين ما سبق وجودَه عدد ممّا تعوّدنا عليه من العلل كالغرس والسقي، وما لم يسبق وجودَه ذلك، عدا تعوّدنا على الأوّل دون الثاني.

ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

برگ درختان سبز در نظر هوشيار
هر ورقش دفترى است قدرت پروردگار

وأيّ إنسان تفترض أنّه يعطف عليك فإنّما قلبه بين إصبعي الرحمن. وأيّ طعام يضرّك أو ينفعك لا يفعل ذلك إلاّ بإذن الله.

وأ مّا النقل فممّا يدلّ على ذلك الحديث المرويّ عن الإمام الصادق(عليه السلام)، عن بعض الكتب السماوية: «... وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأُقطّعنّ أمل كلِّ مؤمّل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس، ولأُنحّينّه من قربي، ولأُبعّدنّه من فضلي، أيُؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي؟! ويرجو غيري، ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب؟! وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي أمّلني لنوائبه فقطّعته دونها؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه منّي؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي. ألم يعلم مَنْ طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري، إلاّ من بعد إذني، فمالي أراه لاهياً عنّي، أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثمّ انتزعته عنه فلم يسألني ردّه، وسأل غيري، أفيرانيأبدأ بالعطاء قبل المسألة، ثمّ أُسأل فلا أُجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخّلني عبدي أو ليس الجود والكرم لي أو ليس العفو والرحمة بيدي أو ليس أنا محلّ الآمال؟! فمن يقطعها دوني؟! أفلا يخشى المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري؟! فلو أنّ اهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً، ثمّ أعطيت كلَّ واحدمنهم مثل ما أمّل الجميع، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيّمه، فيا بؤساً للقانطين

357

من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني، ولم يراقبني»(1).

وطبعاً ليس تطرّق الأسباب الظاهرية ملوماً عندالشرع، بل مأمور به، ولكن فرق بين تطرّقها اعتماداً عليها، وتطرّقها اعتماداً وتوكّلاً على بارئها، وشتّان ما بين الروحيتين. وفي كثير من الناس قد يدور الأمر بين حالتين، كلتاهما خاطئتان: إمّا إهمال الأسباب الظاهريّة والجلوس في البيت مثلاً من دون سعي من وراء كسب الرزق بحجة أنّ الله هو الرزّاق ذو القوة المتين، ولا سعي من وراء مداواة المرض؛ لأنَّ الله ـ تعالى ـ هو الشافي، وما إلى ذلك؛ وإمّا الاعتماد والاتكاء القلبي على الأسباب الظاهريّة غفلة عن أنّ مسبّب الأسباب هو الله تعالى. وكلتا الحالتين غير صحيحة. والصحيح هو: السعي وراء الأسباب الظاهرية مع حصر التوكّل والاعتماد في مسبّب الأسباب وهو الله تعالى. وتحصيل مقام كهذا من أصعب الأُمور.

نعم، لعلَّه يتّفق لأولياء الله الكمّل أحياناً التعفّف عن السعي وراء الأسباب الظاهريّة، بل حتّى عن الدعاء لله اكتفاءً بعلم الله ـ سبحانه ـ ورضاً بقدره، إلاّ أنّ أمثال هذه الأُمور إن كانت فإنّما هي حالات، وليست اُموراً ثابتة وقارَّة. وممَّا ينقل من مثل هذه الحالات ما عن سيّدنا إبراهيم على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام: من أنَّه لمَّا رُمي به إلى النار تلقَّاه جبرئيل في الهواء، فقال: «... هل لك من حاجة ؟ فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أخمدتُ النار فإنَّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أُريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئتَ طيّرتُ النار، قال: لا أُريد. فقال جبرئيل فاسأل الله ! فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي»(2).


(1) اُصول الكافي 2 / 66، كتاب الإيمان والكفر، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه، الحديث 7.

(2) البحار 71 / 156. ويمكن توجيه الرواية بأن جبرئيل وميكائيل وملك الريح لم يكونوا من الأسباب الظاهرية المادّية التي اُمرنا في هذه الدنيا المادّية بالاستعانة بها في ظاهر الحال في دائرة نظم الطبيعة بل هم جميعاً من الأسباب خارج الطبيعة فلم لا يكتفي إبراهيم(عليه السلام)بالله من دون توسيطها؟!

358

والثانية: أن يكون هدفه لقاء الله ورضوانه، لا الدنيا ولا الجنّة، فمن كان يريد من الله الدنيا فهو منقطع إلى الدنيا لا إلى الله، ومن كان يريد من الله الجنّة بمعناها المادِّي فحسب، فهو منقطع إلى الجنّة لا إلى الله. وقد اشتهر عن الحسين (عليه السلام) أنَّه كان يقول في آخر لحظة:

تركت الخلقَ طرّاً في هواكا
وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ إرباً
لما مالَ الفؤادُ إلى سواكا

والثالثة: أن ينسى كلّ شيء من نفسه وما عداه، إلاّ الله تعالى، ويذوب فيه ويفنى، ويراه وحده ولا يرى الجمع. وطبعاً هذا يكون في حالات خاصّة كحالة العبادة كما أشارت إليه الآية الشريفة ضمن تهجّد الليل، بقوله: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾(1)، وإلاّ فليس المفروض بالسالك الواصل إلى الله أن يغفل دائماً عن الجمع، بل المفروض سهولة بقائه بالله في الجمع، وإن كان يرى الجمع ـ أيضاً ـ تجلِّياً من تجلّيات الله سبحانه وتعالى. وأقوى مقامات العارفين في التبتّل والانقطاع بهذا المعنى الثالث هو: أن يصبح قادراً على الرجوع إلى عالم التبتّل في أيّ لحظة أراد، وعارفاً طريقة الرجوع إلى الجمع ـ أيضاً ـ في أيّة لحظة، أو قل: أن يكون باقياً بالله في الجمع وجامعاً بين عالمي التوحيد والجمع. أمّا ذاك الاضمحلال الذي يعني: الغفلة الفعليّة عن الجمع، فليس دائميّاً، ولكنّه يكون باختياره في أيّة ساعة، فإن كنّا عاجزين عن ذلك فلابدّ لنا ـ في الأقلّ ـ من تحصيل هكذا حالة في ساعات العبادة أو في بعضها ـ في أقلّ تقدير ـ كساعة التهجّد في جوف الليل.


(1) السورة 73، المزّمل، الآية: 8 .

359

 

 

 

 

الفصل الخامس عشر

ا لــر جــــــا ء

 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(1).

ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم(2) بسند صحيح عن عبدالرحمن بن الحجاج، عن الصادق(عليه السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «... إن آخر عبد يؤمر به إلى النار فإذا أُمر به التفت، فيقول الجبّار: ردّوه، فيردّونه، فيقول له: لم التفتّ فيقول: يا ربّي لم يكن ظنّي بك هذا، فيقول: وما كان ظنّك بيّ ؟ فيقول: يا ربّ كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي، وتسكنني جنّتك، قال: فيقول الجبّار: يا ملائكتي لا وعزّتي وجلالي وآلائي وعلويّ وارتفاع مكاني ما ظنّ بي عبدي ساعة من خير قط، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه، فأدخلوه الجنّة، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس من عبد يظنّ بالله خيراً إلاّ كان عند ظنّه به، وذلك قوله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾»(3).

قال بعض العرفاء المنحرفين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام): «الرجاء أضعف منازل


(1) السورة 39، الزمر، الآية: 53.

(2) تفسير القمّي 2 / 264 ـ 265.

(3) السورة 41، فصّلت، الآية: 23.

360

المريدين؛ لأنّه معارضة من وجه، واعتراض من وجه، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة، إلاّ ما فيه من فائدة واحدة، ولها نَطَقَ باسمه التنزيل والسُنّة، ودخل في مسالك المحققين، وتلك الفائدة هي.: كونه يفثأ حرارة الخوف حتّى لا تعدو إلى الأياس»(1).

ويقصد بذلك: أنّ الرجاء يكون من ناحية معارضةً للربّ تعالى؛ لأنّ العبد يريد من الله الجنّة مثلاً، في حين أنّ المولى المالك لرقّه قد يريد له النار، فعارض إرادة الله بإرادة أُخرى في مقابلها. ويكون من ناحية اُخرى اعتراضاً على الله؛ لأنّه يقول له: يا ربّ أنت غنيّ عن عذاب عبادك، فعليك أن تعفو عنهم، فلماذا تعذّب. وهذا كلُّه يعني: وقوع العبد في الرعونة، أي: الوقوف مع حظوظ النفس لا مع ما يريده المولى تعالى، إلاّ أنّه مع ذلك أصبح الرجاء مطلوباً في الكتاب والسنّة، ومسلكاً من مسالك المحقّقين لما فيه من مداواة ما قد ينجم من الخوف لولم يقابل بالرجاء، وهو الانتهاء إلى اليأس.

أقول: لا أعرف كيف فرض العيبين في صدر كلامه في الرجاء، في حين أنّ الرجاء لا يعني إرادة رحمة الرب ولو على خلاف إرادة الرب، أي: فيما لو كانت إرادته هي الغضب، بل يعني: الأمل في أن تكون إرادة الربّ هي الرحمة، وذلك على مستوى الأمل لا على مستوى الاعتراض. فالعبد المؤمن مسلّم للعذاب لو أراد الله عذابه، ولكن أحد أسباب رجائه للرحمة وعدم العذاب علمه بأنّ عذابه لن يزيد في مُلك الله تعالى. وهذا غير جعل ذلك إشكالاً واعتراضاً على الله.

ولنعم التعبير الوارد عن إمامنا موسى بن جعفر سلام الله عليه في محراب عبادته: «... إن تعذّبني فإنّي لذلك أهل، وهو يا ربّ منك عدل، وإن تعف عنّي


(1) منازل السائرين قسم الأبواب، باب الرجاء طبق نسخة شرح منازل السائرين للكاشاني: 57 ـ 58.

361

فقديماً شملني عفوك...» إلى أن يقول(عليه السلام): «وليس عذابي ممّا يزيد في ملكك مثقال ذرّة، ولو أنّ عذابي ممّا يزيد في مُلكك لسألتك الصبر عليه، وأحببت أن يكون ذلك لك، ولكن سلطانك اللَّهم أعظم، وملكك أدوم من أن تزيد فيه طاعة المطيعين، أو تنقص منه معصية المذنبين فارحمني يا أرحم الراحمين، وتجاوز عنّي يا ذا الجلال والإكرام، وتب عليّ إنّك أنت التّواب الرحيم»(1).

هذه هي لهجة إمامنا موسى بن جعفر(عليه السلام) في بيان الرجاء، وأين هي عن لهجة الاعتراض ؟ ! لكن أ نّى لمن انحرف عن خطّ أهل البيت أن يدرك حقيقة العرفان ؟ ! ! ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّور﴾.

وكذلك ممّا يبعث بالرجاء علمنا بأنّ في عذابنا سرور عدوّ الله، وفي إدخالنا الجنّة سرور نبيّ الله، كما ورد عن سيّد العارفين وزين العابدين إمامنا السجّاد(عليه السلام)قوله: «... إلهي إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوّك، وإن أدخلتني الجنّة ففي ذلك سرور نبيّك، وأنا والله أعلم أنَّ سرور نبيّك أحبّ إليك من سرور عدوّك...»(2).

على أنّ المقصود بالرجاء هو: الرجاء الباعث إلى العمل لما يرجوه الراجي (وهذا ليس معارضة لإرادة الربّ، ولا اعتراضاً عليه) لا الرجاء الباعث إلى ترك المبالاة وعدم السعي فيما يرجوه. فعن ابن أبي نجران، عن الصادق(عليه السلام)قال: «قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأمانيّ، كذبوا ليسوا براجين، من رجا


(1) راجع حاشية مفاتيح الجنان طبعة طاهر خوشنويس: 592 ـ 594.

(2) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.

362

شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه»(1).

فالعبد إذا بثّ بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، ورجى الربّ تعالى، كان هذا رجاءً حقيقياً محموداً. وكذلك لو كان منهمكاً في المعاصي، ثُمّ أقبل على التوبة راجياً قبولها من الربّ، كان ذلك رجاءً حقيقياً محموداً. أمّا من ينهمك في المعاصي بحجة الرجاء فهو مشمول لقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ...﴾(2).

وإن شئت مثلاً عرفياً لما قلناه مثّلنا لك بمن يملك تربة صالحة للزرع ولاستثمارها في شتّى الأثمار والغلاّت والورود والنّعم، فزرع فيها، وسقاها، وحافظ على نظافتها، وعلى إيصال نورالشمس إليها وما إلى ذلك، وقال: إنّني أرجو هذه التربة الصالحة أن تنفعني كذا وكذا من النّعم الإلهيّة، فأنت ترى أنّ هذا رجاء معقول ومقبول. أمّا لو ضيّع التربة، وسيّبها، ولم يعتن بها، وذلك بترك الزرع، أو بترك السقي، أو بسائر أنحاء التسييب والإضاعة ثمّ قال: أنا أرجو من هذه التربة الصالحة أن تنفعني، لرأيت أن هذا ليس رجاءً، بل هو سفهٌ وخبال. والآية المباركة التي بدأنا بها الحديث يبدو أنّها ظاهرة في نفس المعنى، وأنّ قوله: ﴿... لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ لا يقصد الوعد بالغفران، بلا سبب صالح من قبل العبد، بل يقصد الغفران بسبب التوبة (ولذا لم يستثن حتّى الشرك). والشاهد على أنّ المقصود هو الغفران بالتوبة: الآيات اللاحقة لها، وهي قوله: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(3).


(1) الوسائل 15 / 16، الباب 13 من جهاد النفس، الحديث 2. وقد مضى هذا الحديث في فصل الخوف.

(2) السورة 7، الأعراف، الآية: 169.

(3) السورة 39، الزمر، الآية: 54.

363

وما ذكرناه من أنّ الراجي إنّما هو من يعمل لما يرجوه واضح في رجاء الجنّة والمغفرة، وأوضح في رجاء رضا الربّ، وأوضح منهما في رجاء لقاء الرب بالمعنى الوارد في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(1) وفي مقابل المعنى الوارد في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾(2).

وأختم الحديث بهذه الأبيات الطريفة:

وما في الخلق أشقى من محبٍّ
وإنْ وجدَ الهوى حلوَ المذاقِ
تراه باكياً في كلِّ حين
مخافةَ فرقة أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم
ويبكي إن دنوْا خوفَ الفراقِ(۳)

وأمّا ما ذكره من أنّ الرجاء يمنع من المفسدة التي قد تترتب على الخوف فهو صحيح، كما مضى منّا بيانه في فصل الخوف.

 


(1) السورة 75، القيامة، الآيتان: 22 ـ 23.

(2) السورة 83، المطففين، الآية: 15.

(3) شرح منازل السائرين للكاشاني: 59.

365

 

 

 

 

الفصل السادس عشر

ا لحــــر مــــة

 

قيل: لمّا انفتحت أبواب الغيب على العبد بإشراق نور الحقِّ على القلب وانعكاسه إلى النفس على أثر العمل بنتائج أبحاث البدايات، ثُمّ أبحاث الأبواب، اطّلع القلب على الحضرة الإلهيّة بانفتاح عين البصيرة، وتمرّنت النفس بالطاعة، فكأنّ القلب يأخذ في المعاملة مع الحقِّ لقوّة اليقين وظهور آثار الأُنس بطلوع أنوار القدس(1) فمن هنا إلى الفصل الحادي والعشرين قد تسمّى بقسم المعاملات ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(2).

قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(3).

وقال عزّوجلّ: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ...﴾(4).

وقال عزّ اسمه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ


(1) راجع شرح منازل السائرين للكاشاني: 61.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 111.

(3) السورة 22، الحج، الآية: 32.

(4) السورة 22، الحج، الآية: 30.

366

اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(2).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَات طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الاَْرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾(3).

قد يلتزم العبد بترك المخالفة لله في ساعات عدم توافر المغريات الملحّة على المخالفة، كإنسان مستغن عن الزنا بما لديه من زوجة أو زوجات، فيترك الزنا، أو مستغن عن السرقة بما لديه من الرفاه الاقتصادي، فلا يقترب من السرقة، أو ما شابه ذلك. وهذا له شيء من الفضيلة، فقد توقّى ـ على أيّة حال ـ النار، بل حصل ـ أيضاً ـ على شيء من الثواب، لكن هذا ليس هو الذي قدر الله حقَّ قدره، أو عظّم شعائر الله، أو عظّم حرمات الله. فالعبد ينبغي له أن يكون تعامله مع مولاه تعامل المعظّم والمقدّر لمولاه حقّ قدره. وهذا له درجتان:

الأُولى: تعظيمه لثواب الله وعقابه بحيث حتّى لو اشتدّت المغريات إلى الشهوات النفسانيّة والملذّات المحرّمة يتركها طمعاً بالثواب وخوفاً من العقاب على أساس أنّهم والجنّة كمن رآها فهم فيها منعّمون، وأنّهم والنار كمن رآها فهم فيها معذّبون. فمن تكون هذه حالته فمن الطبيعي أنّ كثرة المغريات لا تفعل في


(1) السورة 22، الحج، الآيتان: 73 ـ 74.

(2) السورة 39، الزمر، الآية: 67.

(3) السورة 71، نوح، الآيات: 13 ـ 20.

367

نفسه شيئاً.

والثانية: أن يكون معظّماً لرضا الله سبحانه وتعالى ومتهيّباً من سخطه، فالمهمّ عنده ليس الثواب والعقاب المادّيين، بل رضا الله سبحانه وسخطه. ومنطق أصحاب هذا المقام هو: انّنا لو عملنا لأجل الثواب ففي الحقيقة قد عملنا لأنفسنا لا لله سبحانه وتعالى؛ لأنّنا لم نعمل إلاّ بروح التجارة والأُجرة، ولو عملنا خوفاً من العقاب فقد عملنا ـ أيضاً ـ لأنفسنا، فالعمل حقّاً لله لا يكون إلاّ بالعمل لمرضاته بغضّ النظر عن الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب. وعليه، فتعظيم شعائر الله، أو تقدير الله حقَّ قدره، أو تعظيم حدوده لا يكون إلاّ بطلب رضاه والتجنّب عن سخطه بما هو رضاه وسخطه، لا بما هو مقدّمة للثواب والعقاب.

ومطلوبية رضا الله مستقلاًّ لا تعني سلب مطلوبية الجنّة، أو نفي الخوف من العقاب (حتّى يقال: إنّ حبّ اللذائذ النفسانية أو بغض الآلام النفسية من لوازم ذات الإنسان، ولا ينفكّ عن الإنسان ما لم يبدّل إلى مخلوق آخر) وإنّما تعني: أنّه حتّى لولا الثواب والعقاب لكان يكفي في التزام هذا العبد الخالص في العبودية كون المولى سبحانه وتعالى أهلاً للعبودية، أو قلْ: حبّه لله تعالى.

وممّا روي عن مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) قوله: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التّجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»(1).

وكذلك روي عنه أنّه(عليه السلام)قال: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك...»(2).

وحكي عن الأصمعي: أنّه رأى ببعض السواحل جماعة من الفقراء يبكون،


(1) نهج البلاغة: 702، رقم الحكمة: 237.

(2) البحار 70 / 186.