108

أ نّ هذا هو الصحيح، عندئذ فلنتأمّل شيئاً ما لنرى ما هو الذنب الذي صدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقد جاء في جملة من الروايات: أنّ عبدالله بن اُمّ مكتوم أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يُناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطّلب واُبيّاً واُميّة ابني خلف ـ وهم صناديد العرب وكانوا مجتمعين عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ حيث كان يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، وفي تلك الأثناء جاء هذا الرجل ـ ابن اُمّ مكتوم وكان أعمى ولا يدري من كان عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبمن كان الرسول(صلى الله عليه وآله) مشغولاً ـ فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، فجعل يناديه والرسول(صلى الله عليه وآله) كان مشغولاً بصناديد العرب يريد أن يهديهم، ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله) لقطعه كلامه، وقال في نفسه: هؤلاء الصناديد سيقولون: إنّما أتباعه العميان والعبيد. فأعرض وأقبل على القوم الذين يُكلّمهم، فنزلت الآيات: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى...﴾. فلو كان هذا التفسير هو الصحيح، فما هو ذنب الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ لنلقِ نظرةً على طبيعة الذنب المنسوب إليه(صلى الله عليه وآله)، وهل حقّاً هو معصية يستحقّ العقاب عليها؟

كلاّ؛ فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أراد خيراً، أراد هداية جماعة من عَلِيّة القوم ورجا بذلك هداية ناس كثيرين فأعرض عن هذا الرجل. نعم، الله تعالى يُريد أن يُؤدّب رسوله ويُريد أن يجعله في أعلى مستوى من الخُلق، وقد رأى أنّ هذا المستوى لا يليق برسوله(صلى الله عليه وآله)،

109

والمفروض أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله) في مستوى أعلى من هذا، فعاتبه فنزلت الآيات، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، ويقول له: هل لك حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين.

وسواء أصحّ هذا التفسير أو ذاك التفسير، وسواء أكان الخطاب موجّهاً إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو إلى شخص آخر هو عثكن أو غيره، هناك آيات اُخرى في القرآن الكريم تدُلّ على أنّ هذا الجوّ كان يعيشه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أي: أنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان مبتلى بهذه المشكلة؛ إذ إنّ الملتفّين حوله هم الفقراء والمساكين والمستضعفون، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يطمح في هداية الصناديد كبار القوم، وكان يُعاني من هذه المشكلة بحيث لو اتّجه نحو هؤلاء المساكين، فاُولئك يبتعدون عنه، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يُريد أن يُقرّبهم إلى الإسلام، ولو اتّجه إلى اُولئك، فهؤلاء الفقراء يُظلمون؛ باعتبار أنّ هؤلاء المستضعفين هم المؤمنون حقّاً، فمن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْض لِّيَقُولواْ أَهـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾(1)، ولنلاحظ جوَّ الآية، إنّ هناك جماعةً يعتبرون أنفسهم الملأ والعَلِيّة من قومهم،



(1) سورة الأنعام، الآية: 52 ـ 53.

110

وهناك جماعة اُخرى فقراء مستضعفون، هؤلاء المستضعفون كانواملتفّين حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والرسول(صلى الله عليه وآله) ربّما كان يخطر على نفسه الشريفة أن يُبعد المستضعفون قليلاً حتّى يُقرّب رؤساء القوم وكبارهم منه لعلّهم يهتدون، لكنَّ الله تعالى يقول: لا، هؤلاء الفقراء فتنة لاُولئك الملأ، دعهم يقولون: ﴿أَهـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا﴾، دعهم يقولون هكذا، ﴿أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، الله لا ينظر إلى من هو الرئيس وزعيم القبيلة وزعيم العشيرة، فإنّ الرئيس والمرؤوس عنده تعالى سواء؛ لأنّهم جميعاً عبيده، الله ينظر إلى من هو الشاكر، والفقراء كانوا هم الشاكرين، إذن لا تطردهم يا رسول الله ﴿لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.

وآية ثالثة تُعطينا نفس الجوِّ، وتدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يُعاني من هذه المشكلة بين هؤلاء الفقراء وبين اُولئك الزعماء الذين كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يطمع في هدايتهم، والآية هي قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1)، ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، يعني: اهتمّ بهؤلاء الفقراء الذين التفّوا حولك، ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾، أي: لا تنظر إلى اُولئك الكبار الذين



(1) سورة الكهف، الآية: 28.

111

يملكون أموالاً وقصوراً.

وأمّا قوله تعالى: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فما معناه؟ هل يعني ذلك أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يُريد أن يستفيد فائدة شخصيّة من زينة الحياة الدنيا، وعندما يُعرض عليه مُلك الدنيا مع بقائه على منزلته من الله تعالى يقول: «دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً»(1)؟ هل يُريد أن ينتفع من زينة الحياة الدنيا لنفسه؟! طبعاً لا، إذن ما معنى قوله: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؟ معناه: أنّه كان يُريد أن يُقرّب هؤلاء المترفين لعلّهم يهتدون، فيأخذ منهم شيئاً من زينة الحياة الدنيا التي عندهم، ليُنفقها في مصالح الإسلام وتوسيع نطاق دائرة الدولة الإسلاميّة وتثبيت أركانها، هذا هو هدف رسول الله(صلى الله عليه وآله) وليس شيئاً آخر، ومع ذلك يقول له الله تعالى: ﴿اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...﴾.

وورد في تفسير هذه الآية المباركة: أنّ «المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عُيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء ( يعنون: سلمان وأباذر وفقراء المسلمين ) وروائح صنانهم ـ وكانت عليهم جباب الصوف ـ جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك»(2). فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ



(1) البحار 42: 276.

(2) البحار 69: 2، الباب 94.

112

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1).

وممّا سبق تبيّن أنّ الذنب الذي كان يصدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، كان من هذا القبيل، وليس هو معصية من المعاصي، بل كان بحدّ ذاته خُلُقاً رفيعاً وعملاً صالحاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّه وفق قانون « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين » كان الله تعالى يُريد أن يُؤدِّب رسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لكي يكون أرفع خلقاً من هذا الخلق الرفيع الذي يُسمّيه ذنباً بالنسبة إليه(صلى الله عليه وآله).

وكذلك الحال بالنسبة إلى نبيّ الله يونس(عليه السلام)، فما هو ذنب يونس (عليه السلام) الذي يقول الله تعالى عنه في القرآن: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(2)؟ هل كان ذنبه كبيراً إلى هذا الحدِّ بحيث لو لم يكن من المسبِّحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون حتّى أنّ كثرة تسبيحه(عليه السلام) لم تُعفِه ولم تُنجِه إلّا من العقاب الطويل، فعُوقب بأدنى من ذلك، فما هو ذنبه؟ وقد ذكر الله تعالى ذنبه بقوله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(3)، فمعنى قوله: ﴿ذَهَبَ مُغَاضِباً﴾ أنّه تأذّى من قومه الكفّار الذين تعب من أجلهم وأراد أن يهديهم، لكنّهم أصرّوا على كفرهم وشركهم ولم


(1) سورة الكهف، الآية: 28.
(2) سورة الصافات، الآية: 143 ـ 144.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 87.
113

يعبدوا الله ربّهم، فتأذّى وغضب ودعا عليهم وخرج عنهم بعد أن علم بقرب نزول العذاب بقومه، وتقول الروايات: إنّ عالماً كان موجوداً لم يوافق يونس(عليه السلام) في دعائه على قومه. ومن الواضح أنّ الله عزّ وجلّ إن لم يكن يقبل هذا الأمر، فإنّه لا يستجيب له ولا يُهلك قوم يونس (عليه السلام)، فهذا الدعاء منه (عليه السلام) ليس معصية، ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ بمعنى لن نُضيّق عليه، مثل: ﴿قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾(1)، أي: فظنّ أن لن نُضيّق عليه، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، لاحظوا ما هو الظلم الصادر عن هذا النبيّ؟ الظلم الصادر عنه أنّه لم يكن أرحب صدراً ممّا كان عليه، فهو (عليه السلام)وإن صبر سنين لكن كان عليه أن يصبر أكثر، فهذا هو الذنب الصادر عنه(عليه السلام).

بعد ذلك يُصبح واضحاً جدّاً معنى الذنب الذي يُسند إلى الأنبياء (عليهم السلام)، فإنّه تعبير آخر عمّا يُقال من أنّ «حسنات الأبرار سيّـئات المقرّبين»، هذا هو ذنبهم، يعني ما يصدر عنهم ويُسمّى ذنباً ويستغفرون منه هو وإن كان حسناً في نفسه لكنّه خلاف الأولى بهم وبمقامهم العظيم، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: « إنّه ليغان على قلبي، وإنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرّة »(2)، يعني هذه الحسنة التي تصدر عنه(صلى الله عليه وآله) بالنسبة إليه سيّئة؛ لأنّه من المقرّبين، وحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، هذا هو الذي نفهمه من الآيات المباركات.

 



(1) سورة الطلاق، الآية: 7.

(2) البحار 25: 204.

114

ومن هذا النمط أيضاً قصّة داود(عليه السلام) قال الله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب﴾(1).

فماذا كان ذنب داود الذي أوجب ظنّه بفتنة الله فاستغفر ربّه وخرّ راكعاً وأناب؟! قصّة داود وبكائه وتضرّعه معروفة ومذكورة في القرآن الكريم بقوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ﴾(2).

وخلاصة القصّة: أنّ شخصين أو ملكين بصورة شخصين دخلا على داود(عليه السلام) وتظاهرا أنّهما خصمان بغى بعضهما على بعض، وطلبا منه أن يحكم بينهما بالحقّ ولا يشطط ويهديهما إلى سواء الصراط، فعرض أحدهما القصّة قائلاً: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾(3)، أي: أراد أن يأخذها منّي، فقال له داود(عليه السلام): ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾، ولكن كان ينبغي لداود وفق قانون القضاء أن يسمع دفاع الخصم أيضاً ثُمّ يُطالب المدّعي بالبيّنة، فإن لم تكن له بيّنة، فعليه أن يُطالب الخصم باليمين لو أنكر. فغفل عن هذا الأمر ووقع تحت تأثير المدّعي، فقال له: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾، ولعلّه لم يكن بقوله هذا يُريد



(1) سورة ص، الآية: 24 ـ 25.

(2) سورة ص، الآية: 21 ـ 22.

(3) سورة ص، الآية: 23.

115

القضاء بينهما، بل قال بعنوان تقييم الوضع: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾(1)، قال ذلك قبل أن يُجري الحكم القضائي، ثُمّ التفت داود إلى خطئه كما قال الله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾، انتبه داود(عليه السلام) إلى قوله: ﴿ظَلَمَكَ﴾ الذي لم يكن في محلّه بل سابق لأوانه، وكان عليه أن يُطالب بالبيّنة ويُجري أحكام القضاء، ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب﴾.

فعندما نقرأ هذا النمط من الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن صدور أخطاء عن الأنبياء(عليهم السلام) ونتفحّص تلك الأخطاء نرى أنّها ليست ذنوباً بالمعنى المتعارف وحتّى بغضّ النظر عن آيات العصمة، فهي ليست أخطاء بمستوى المعاصي، بل هي إمّا غفلة كما في قصّة داود(عليه السلام)، أو هي من قبيل « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ».

ومن هذا القبيل طلب يوسف (عليه السلام) من صاحبه في السجن أن يذكره عند ربّه، وليست الآية صريحة بتخطئة يوسف(عليه السلام) إلّا أنّ فيها إشعاراً بالخطأ، والآية الكريمة هي: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾(2)، أي: طلب من أحد السجينين اللذَين كانا معه في السجن ـ بعد أن أوّل لهما رؤياهما وظنّ أنّه سينجو من السجن ـ أن يذكره عند الملك، ويذكر له أمره، لعلّ الملك يعطف عليه ويُفرج



(1) سورة ص، الآية: 24.

(2) سورة يوسف، الآية: 42.

116

عنه ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ﴾، فكأنّ الآية ناظرة إلى هذا المعنى، وهو أنّه لماذا لم يفعل يوسف(عليه السلام) كما فعل إبراهيم(عليه السلام) عندما أراد قومه أن يوقعوه في النار حيث قال له جبرائيل: « ألك حاجة؟» فقال: «أمّا إليك فلا »(1)، لماذا لم يصنع يوسف(عليه السلام) هكذا وقال: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾، ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾؟

ومن ذلك قول زين العابدين(عليه السلام): « لَيْتَ شِعْرِي أَلِلشقاءِ وَلَدَتْنِي اُمّي أَمْ لِلْعَناء رَبَّتْنِي فَلَيْتَها لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ تُرَبِّنِي »(2).

فهل الإمام(عليه السلام) لا يدري أنّه معصوم وأنّه ولد للسعادة لا للشقاء؟! هنا عدّة إجابات:

منها: أنّ هذا كان تعليماً لنا، وهو احتمال وارد لقسم من الأدعية، ولا يمكن تفسير جميع الروايات والأدعية من هذا القبيل بذلك.

ومنها: أنّ العصمة التي كانت لهم(عليهم السلام) إنّما نتجت عن هذا الخوف والوجل الشديد وحالة التضرّع والخشية المتواجدة فيهم، الخشية من النار من ناحية، والتضرع أمام عظمة الله جلّ وعلا من ناحية اُخرى، فهذه الاُمور هي التي عصمتهم وجعلتهم لا يأبهون بمغريات الدنيا ولو اجتمعت أمامهم، ولا يبقى هناك سبب للمعصية.

فمن غير الصحيح أن نقول: إنّ الأئمّة(عليهم السلام) إذا كانوا معصومين فلماذا يوجلون ويتضرّعون ويبكون؟ أوليس هذا التضرّع والخشوع


(1) البحار 12: 5، الحديث 12.
(2) البحار 91: 143 مناجاة الخائفين.
117

هو سبب عصمتهم؟

ومنها: أنّهم لعلّهم كانوا يخافون ويبكون تائبين إلى حدّ الإغماء لأجل ما قد صدر عنهم ممّا يكون بحدّ ذاته حسنةً من الحسنات، إلّا أنّه بالنسبة إلى اُولئك المقرّبين يُعتبر سيّئة.

وكثيراً ما ورد في القرآن الكريم التعبير بالتوبة أو بالمغفرة وما شابه ذلك فيما لا يكون معصيةً بالمعنى الذي نفهمه منها، وهذا متعارف في القرآن الكريم، وليس غريباً في لغته.

فهذه الآية الشريفة تذكر التوبة في القتل فتقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلَّا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوّ لَّكُمْ﴾، أي: من الكافرين كالمسيحيين واليهود ﴿وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة﴾، وهنا تسقط الدية عن القاتل؛ لأنّها إنّما تُعطى لأهل المقتول، وهم هنا كفّار لا يستحقّونها، فلا يبقى إلّا تحرير رقبة مؤمنة ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾، يعني: أنّهم كانوا كفّاراً إلّا أنّ بينهم وبين المسلمين ميثاقاً كالذمّيّين والمعاهدين، فلابدَّ من الوفاء بذمّتهم وعهدهم، فعندئذ ﴿فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ﴾(1).

فالقاتل كان عليه أن يفعل ذلك كي يتوب الله عليه، بينما نحن نعلم أنّه لم تصدر عنه معصية يستحقّ العقاب عليها، فهو قتل خطأ،


(1) سورة النساء، الآية: 92.
118

والقتل الخطأ غير المقصود ليس بمعصية.

وقد يقال: إنّ هناك آيات قرآنيّة اُخرى قد يصعب توجيهها، فهي تدلّ نوعاً ما على صدور ذنب عن بعض الأنبياء الكرام، كقوله تعالى في معصية يوسف (عليه السلام): ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وإذا أردنا بحث هذه الآية علينا أن نلحظ مجموع الآيات الواردة في ذلك الموقف، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(1).

إنّ عبارة ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ في القرآن الكريم وردت بمعنيين:

المعنى الأوّل: بلوغ سنّ التكليف كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾(2)، أي: يبلغ سنّ التكليف والرشد.

المعنى الثاني: هو بلوغ سنّ الأربعين؛ إذ إنّ الإنسان في ذلك السنّ يبلغ عادةً آخر مدارج كماله من ناحية القوّة والمزاج ثُمّ ينتقل بعده إلى النقص، أو أنّه يتوقّف في سنّ الأربعين حتّى الخمسين ثُمّ يبدأ بالنقص بعد الخمسين يوماً بعد آخر، وهذا المعنى الثاني ورد في


(1) سورة يوسف، الآية: 22 ـ 24.
(2) سورة الإسراء، الآية: 34.
119

القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾(1).

أمّا ما ورد في قصّة يوسف(عليه السلام) من قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، فهو في أغلب الظنّ بالمعنى الأوّل، أي: بلغ سنّ التكليف بقرينة قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾، فهي لا تنتظر أن يبلغ أربعين سنةً حتّى تراوده عن نفسه، بل كان ذلك ـ كما في العادة ـ في أوّل شبابه وبلوغه سنّ التكليف.

وهذا يدلّ أيضاً على أنّ يوسف(عليه السلام) قد بلغ مرتبة النبوّة بل المرتبة الأعلى منها ـ وهي مرتبة الحكم ـ في أوائل سنّ التكليف، أي: أنّه لم يكن مجرّد نبيٍّ يُوحى إليه ورسول يُبلغ الحكم الإلهي، بل كان في مرتبة أعلى من مرتبة النبوّة والرسالة، وهي مرتبة الحكم أو مرتبة الإمامة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ يوسف(عليه السلام) كان من أوّل بلوغه سنّ التكليف نبيّاً ورسولاً وإماماً وحاكماً، فإن كان بالإمكان الشكّ في عصمة الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) قبل النبوّة وقبل الإمامة، واحتملنا صدور الخطأ والمعصية عنهم في تلك المرحلة، فإنّنا لا نحتمل ذلك لمن هو نبيّ أو إمام بالفعل بالغاً مرتبة الحكم والإمامة.

إلّا أنّ إخواننا العامّة: يُعطون الخلافة والإمامة معنىً باهتاً، فيُجوِّزون أن يكون الخليفة فاسقاً ومع ذلك يكون خليفة المسلمين،



(1) سورة الأحقاف، الآية: 15.

120

أمّا في مدرستنا ـ مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ـ فلو احتمل أحدٌ أنّ النبيّ أو الإمام يمكن أن يعصي قبل بلوغه هذه المرتبة وهذا المقام، فلا يحتمل أبداً أنّه يعصي حينما يكون متلبِّساً بهذا المقام، فمن غير المعقول أن يزني أو يهمَّ بالزنا من جعله الله حاكماً وإماماً حاملاً لعهده تعالى، فلابدّ من تفسير آخر لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، ولو لم يرد في صدر الآية أنّ يوسف(عليه السلام) بلغ مستوى الحكم، لأمكن لقائل أن يقول: إنّ يوسف(عليه السلام) لم يكن نبيّاً في أوائل بلوغه، ولا إماماً عندما همّت به وهمّ بها، ثمّ أصبح نبيّاً وإماماً، إلّا أنّ الآية ظاهرة في أنّ وقوع القصّة والحادثة كان بعد إمامته لقوله: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾.

ولقد وردت عدّة تفاسير لتلك الآية في روايات الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) كما عن الإمام الرضا(عليه السلام): أنّها همّت به لأجل الزنا، وهمَّ بها ليقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله؛ إذ تقول الآية بعد ذلك: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء﴾، فالسوء بمعنى القتل، والفحشاء بمعنى الزنا، أي: لنصرف عنه القتل والفحشاء(1)، فعلى هذا التفسير لا يكون همّه بها للزنا وإنّما لقتلها تخلّصاً منها.

وفي رواية اُخرى: أنّ همّه بها كان موقوفاً على عدم رؤيته برهان ربّه، أي: لولا أن رأى برهان ربِّه لهمَّ بها كما همّت به، ولكن



(1) تفسير نور الثقلين 2: 419، الحديث 41.

121

برؤيته له لم يهمَّ بها(1).

وهناك احتمالات تفسيريّة اُخرى بهذا الصدد من قبيل أن نقول: إنّ أصل الهمِّ لا يعدو أن يكون خاطراً يطرق القلب واشتياقاً نفسيّاً، وهذا الشوق والميل الخارج عن الاختيار لا يكون له مقام الفعل والعمل الاختياري الذي تكون المحاسبة عليه ويكون ظلماً، والآية لم تدلّ على صدور بعض المقدّمات عن يوسف(عليه السلام) وإن كانت بعض الروايات الواردة عن غير طريق أهل البيت(عليهم السلام)، تشير إلى شيء من ذلك، أمّا روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فخالية منها تماماً، ونفس عبارة ﴿هَمَّ بِهَا﴾ لا تدلّ على صدور بعض المقدّمات، بل تدلّ على حصول ميل نفسي، وهو ـ كما قلنا ـ خارج عن القدرة ولا يخضع للتكليف.

ومن الآيات التي يصعب توجيهها شيئاً ما قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(3).

ففي هذه الآيات ما يدلّ على نفي العصمة عن آدم(عليه السلام) والتي ثبتت بقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فهل ظلم آدم(عليه السلام) نفسه وعصى ربّه فغوى، أو نسي ولم يكن له عزم؟

وللجواب عن ذلك طريقان:

الطريق الأوّل: أن ننكر أنّ آدم(عليه السلام) قد صدرت عنه معصية عمديّة


(1) راجع المصدر السابق، الحديث 42.
(2) سورة طه، الآية: 121.
(3) سورة طه، الآية: 115.
122

بقرينة قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾(1). ففي إحدى الروايات أنّ آدم وحواء لم يكونا يعرفان إلى ذلك الوقت أنّ من المعقول والممكن أن يحلف شخص بالله تعالى كاذباً ولم يخطر ذلك ببالهما أبداً، فاستطاع الشيطان أن يُقنعهما بأ نّ النهي الإلهي الصادر لم يكن نهياً مولويّاً واجب الطاعة، وإنّما كان نهياً إرشاديّاً باعتبار أنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلق آدم لكي يكون خليفةً على وجه الأرض، لا أن يبقى في الجنّة(2)، كما يشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(3)، فلم يقُل: إنّي جاعل في الجنّة خليفة، بل خلقه للأرض من أوّل الأمر، فكأنّما أراد إبليس أن يُفهِمَ آدم وحواء بأنّ الله عزّ وجلّ إنّما نهاكما عن أكل هذه الشجرة نهياً إرشاديّاً لا نهياً تحريميّاً أو مولويّاً يصدر عن مولى لعبده؛ بل ليُبيّن لكما طريق الخروج من الجنّة والانحدار إلى الأرض، فإن كنتما تحبّان البقاء في الجنّة كملكين، فكُلا من هذه الشجرة ﴿قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾، فلو أكلتما من الشجرة، فستصبحان خالدين فيها، ولا تخرجان منها، وتكونان من ملائكتها ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾.

 



(1) سورة الأعراف، الآية: 20 ـ 21.

(2) راجع البحار 11: 164، الحديث 8.

(3) سورة البقرة، الآية: 30.

123

وكما في الرواية المشار إليها أنّ آدم وحواء لم يكونا يتوقّعان أن يجرأ أحدٌ على الحلف بالله كذباً، فاقتنعا بكلامه وأكلا.

فلو صحَّ هذا التفسير والتوجيه لم يكن آدم(عليه السلام) قد خالف نهياً يعتقد أنّه نهي تشريع، ونهي مولى لعبده، وإنّما كان يعتقد أنّه نهي إرشاد، وهذه أيضاً معصية؛ لأنّ المعصية لغة المخالفة، وعصى بمعنى خالف، فقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾ بمعنى خالف آدم ربّه، وحتّى المريض لو خالف الطبيب لقلنا عنه: إنّه عصى الطبيب على الرغم من أنّ أمر الطبيب أمر إرشادي وليس أمراً مولويّاً تجب طاعته، فمخالفة آدم النهي الإلهي كان معصية إلّا أنّها ليست بالمعنى المصطلح عليه شرعاً وما يستحقّ عليه العقاب.

الطريق الثاني: ما ورد في بعض الروايات من أنّ هذه المعصية إنّما صدرت عن آدم، وآدم لم يكن نبيّاً حينها، إنّما أصبح نبيّاً أو خليفة في الأرض بعد ذلك. وما كانت معصية سوى صغيرة من الصغائر، ومثلها موهوبة للأنبياء قبل نبوّتهم(1).

فإن أردنا التسليم بهذه النصوص والعمل وفقها، فعندئذ سنقول بالتفصيل والتفريق بين مقام النبوّة ومقام الإمامة، باعتبار أنّ آدم(عليه السلام)لم ترد بشانه آية ولا رواية تقول: إنّه كان بمستوى الإمامة كما هو الحال في إبراهيم(عليه السلام) ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فيكون المقصود بقوله: ﴿لاَ يَنَالُ


(1) راجع البحار 11: 164، ذيل الحديث الثامن.
124

عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ هو عهد الإمامة، وليس مجرّد النبوّة المستلزمة للوحي فقط، بل عهد الإمامة الذي يستلزم عصمة صاحبه حتّى قبل إمامته عن كلّ صغيرة وكبيرة.

فإبراهيم(عليه السلام) لم تصدر عنه أيّ معصية حتّى الصغيرة، كما يُستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ﴾، أي: لم تصدر عنه أيّ مخالفة، وعندها استحقّ مقام الإمامة، فقال له تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، أي: أنّ الإمامة لا تُعطى لإنسان صدر عنه أيّ ظلم ولو بمستوى المعصية الصغيرة قبل الإمامة.

أمّا بالنسبة إلى النبوّة المجرّدة، فبحسب بعض الروايات التي لا تصلح لدينا سنداً قد تصدر الصغائر الموهوبة عن الأنبياء قبل نبوّتهم(1).

وبالمقارنة بين الطريق الأوّل والطريق الثاني نجد أنّ المنهج والتفسير الأوّل هو الأوفق لما ذهب إليه علماؤنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ من أنّ هذه المعصية لآدم لم تكن معصية ولا صغيرة.

وهناك بعض الآيات التي يظهر منها عدم عصمة الأنبياء(عليهم السلام)، والجواب عنها واضح كلّ الوضوح، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾(2).

فقد تُذكر هذه الآية بعنوان صدور الذنب عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّها



(1) المصدر السابق.

(2) سورة الفتح، الآية: 1 ـ 2.

125

واضحة في كونها أجنبيّة عن المقام، فالذنب في هذه الآية لا يُقصد به المعصية؛ إذ لا علاقة له بالفتح، يقول تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ بفتح مكّة أو فتح العالم أو فتح باب السلطة على الناس، فأيّ علاقة لذلك بمغفرة الذنب؟! فيكون المقصود من قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ﴾ الذنوب التي كانت له أمام الناس حيث كانوا يَعُدّون عليه الذنوب، أمّا حين انتصر عليهم، فسيتحوّل حديث الناس، وستتحوّل هذه الذنوب إلى حسنات في نظرهم، كما هوالمشروح في بعض الكتب.

وأيضاً قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَضَالّاً فَهَدَى﴾(1)، فقوله: ﴿وَجَدَكَ ضَالّاً﴾ لا يدلّ على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان قد صدرت عنه المعاصي قبل النبوّة، إنّما المقصود هو الإشارة إلى مستوى الهداية التي وصل إليها النبيّ(صلى الله عليه وآله) لو قسنا بينها قبل نزول الوحي وبعد نزوله، فهو قبل الوحي لم يكن يملك ذاك المستوى من الإيمان الذي فهمه بالوحي، كما قال تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الاِْيمَانُ﴾(2)، إنّما بلغ ما بلغ من مستوىً بالوحي والذي نزل عليه بعد سنّ الأربعين ﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً﴾ يعني الضلال بالنسبة إلى هذا المستوى الرفيع من الإيمان والعلم والمعرفة التي نزلت عليه بالوحي، ولا يعني ذلك صدور معصية عنه قبله.

 



(1) سورة الضحى، الآية: 6 - 7.

(2) سورة الشورى، الآية: 52.

126

وأيضاً قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾(1).

قد يقول القائل: إنّ قوله تعالى: ﴿وَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ ـ والوزر بمعنى المعصية ـ يدلّ على صدور المعصية عنه(صلى الله عليه وآله)، وهي ليست معصية صغيرة بدلالة قوله: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، فلابدّ أن تكون من جنس المعصية الكبيرة التي تنقض ظهر الرسول(صلى الله عليه وآله).

ولكنّ الوزر لا يعني المعصية، بل يعني ـ لغةً ـ الحمل الثقيل، وإنّما سُمّيت المعصية وزراً بمناسبة أنّها حمل يكون على ظهر ابن آدم حتّى يرد ساحة الحساب يوم القيامة، فالوزر لا يعني المعصية، وإنّما الحمل، ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ أي: الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرك، فأكبر الظنّ أنّ المقصود به أعباء هداية الناس، وهذه الآية على ما يبدو من ظاهرها واردة في أواخر أ يّام الرسول(صلى الله عليه وآله)، وليست في أوائل أيّامه(صلى الله عليه وآله) بقرينة قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾؛ فإنّ هذا الرفع للذِكر لم يكن في أوائل أيّامه(صلى الله عليه وآله)، بل كان العكس، معاداة الناس وأذاهم له، ثُمّ رفع الله له ذكره بالتدريج حتّى كانت أواخر أيامه حيث وفّقه الله تعالى لهداية المجتمع الذي كان يعيش فيه، ووضع عنه عِبء هدايتهم الذي أنقض ظهره وما أثقله من عِبء!

إلى هنا قد اتضح لنا أنّ عصمة من جعله الله تعالى للناس إماماً



(1) سورة الانشراح، الآية: 1 ـ 6.

127

عن الذنب أمر ثابت في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام).

كما أنّ الآيات التي تكون ظاهرة في نسبة الذنب إلى بعض الأنبياء (عليهم السلام)، بل إلى بعض اُولي العزم منهم، وحتّى إلى شخص الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قد اتضح أنّها تتحدّث عن حسنات الأبرار التي هي سيّئات المقرّبين، وليست هي الذنوب التي يترتّب عليها العقاب، بل هي من باب ترك الأولى.

ومن المؤسف أنّنا نجد بعض الروايات القليلة في كتب الشيعة فضلاً عن كتب أهل السنّة تحمل روحاً مخالفة لذلك، وهي روايات ينبغي أن نضربها عرض الحائط، كما أمرنا بذلك أئمّتنا(عليهم السلام) حين قالوا: إنّ كلّ رواية تخالف كتاب الله عزّ وجلّ يجب أن تضرب عرض الحائط ويُقطع بكذبها، وأن يعلم أنّ هناك من أخطأ في روايتها على خلاف ما كانت عليه، أو تعمّد التحريف، فليس من شأنهم أن يصدر عنهم خلاف الكتاب الكريم الذي هو كتاب الله الصامت، وهم كتاب الله الناطق.

وما ورد من قول المعصوم: « لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى »(1) لا يعني نفي المعارضة للنصّ القرآني الصريح فحسب، كأن يأمر القرآن الكريم بالصلاة وترد عنهم رواية تنهى عنها، فهكذا خلاف لا يرد عادة، وليس هناك كذّاب يضع الحديث عنهم يجرأ أن



(1) البحار 2: 250، الحديث 62.

128

يكذب بهذا الوضوح، بل المراد بقوله(عليه السلام): « لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى » كلّ أنواع المخالفة سواء كانت نصّاً أو مضموناً وروحاً، فكلّ ما خالف روح القرآن الكريم والمعنى العامّ المفهوم من مجموع الآيات الشريفة لم نقله.

ولنذكر لذلك مثالاً يتعلّق بعصمة الأنبياء(عليهم السلام)، حيث ورد في تفسير القمّي(1) في قصّة داود ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ أنّه: نادى ربّه فقال: يا ربّ، قد أنعمت على الأنبياء بما أثنيت عليهم ولم تُثنِ عليَّ. فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: هؤلاء عبادٌ ابتليتهم فصبروا وأنا اُثني عليهم بذلك. فقال: يا ربّ، فابتلِني حتّى أصبر. فعيّن الله تعالى له يوماً للبلاء والامتحان، فلمّا كان اليوم الذي وعده الله عزّ وجلّ اشتدّت عبادته، وخلا في محرابه، وحجب الناس عن نفسه وهو في محرابه يصلّي، فإذا طائر قد وقع بين يديه، جناحاه من زبرجد أخضر ورجلاه من ياقوت أحمر ورأسه ومنقاره من لؤلؤ وزبرجد، فأعجبه جدّاً، ونسي ما كان فيه، فقام ليأخذه، فطار الطائر، فوقع على حائط بين داود وبين اُوريا بن حنّان ـ وكان داود قد بعث اُوريا في بعث ـ فصعد داود(عليه السلام) الحائط ليأخذ الطير وإذا امرأة اُوريا جالسة تغتسل، فلمّا رأت ظِلّ داود نشرت شعرها وغطّت به بدنها، فنظر إليها داود فافتتن بها ورجع إلى محرابه.

ولا تكتفي هذه الرواية بنسبة العمل القبيح إلى داود(عليه السلام)، بل تذكر



(1) اُنظر تفسير القمّي 2: 229 ـ 231.

129

ما هو أعظم من ذلك، حيث تقول: إنّه أخذ يفكّر بتحقيق غرضه الشهواني، فماذا يصنع واُوريا كان قد ذهب إلى الجهاد والقتال في سبيل الله بأمره هو؟!

لقد كان مع الجيش وقتئذ تابوت السكينة، وكان هذا التابوت يُجعل أمام جيش بني إسرائيل فيغلب جيش الكفر، وكلّ من يتقدّم التابوت يُقتل ومن يتأخّر عنه ينجو ويسلم من القتل.

فكتب داود إلى صاحبه الذي بعثه: أن ضع التابوت بينك وبين عدوّك وقدّم اُوريا بين يدي التابوت، فقدّمه وقُتل. وكان لداود تسع وتسعون زوجة، وهنا جاءت قصّة الملكين اللذين تمثّلا بمثال بشرين، وبدءا بالتخاصم بينهما، فقال أحدهما: إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، وطلب منّي نعجتي إلى نعاجه، فقال داود: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فضحك المستعدى عليه من الملائكة وقال: قد حكم الرجل على نفسه.

فقال داود: أتضحك وقد عصيت، لقد هممت أن اُهشَّم فاك. قال: فعرجا وقال الملك المستعدى عليه: لو علم داود أنّه أحقّ بهشم فيه منّي، ففهم داود الأمر وذكر الخطيئة، وعرف أنّها كانت إشارة إلى قصّته، فهو الذي كان يملك تسع وتسعين زوجة وأخذ زوجة اُوريا.

ولكن أين هذه الرواية من قوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾؟! وحتّى لو لم نؤمن ـ لا سمح الله ـ بعصمة الأنبياء والأئمّة، وافترضنا أنّ الذنب الصغير يمكن أن يصدر عنهم قبل النبوّة وقبل الوحي، ولكن كيف نقبل أنّه نبيّ وخليفة وإمام ثُمّ يصدر عنه

130

هذا النوع من المعاصي الكبيرة التي تهتزّ لها السماوات والأرض؟! فهذا أمر غير مقبول أبداً وينبغي طرح ورفض هكذا روايات.

 

موعظة وعبرة

 

وهنا لابدّ أن نعتبر بما ورد عنهم (عليهم السلام)، فنقول: لئن كان نبيّ من الأنبياء كيونس(عليه السلام) قد أفنى عمره في سبيل الله وهداية الخلق إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وجلب مرضاته، ولم يصدر عنه ذنب إلّا ترك أولى حين ضاق صدره ودعا على قومه لمّا رأى من كفرهم وعتوّهم، وكان ينبغي منه سعة الصدر والصبر، فكان عقاب الله عزّ وجلّ حيث يقول: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، إذن ما حالنا نحن؟! وما موقفنا أمام الله تبارك وتعالى؟!

إنّ نبيّاً من الأنبياء لم تصدر عنه معصية، بل ترك أولى، فعاقبه الله عزّ وجلّ بهذا العقاب الشديد، إذن ماذا نستحقّ نحن من عقاب في الدنيا وفي الآخرة على ما صدر عنّا من ذنوب صريحة، ومعاصي كبيرة وصغيرة، وممّا لا يُحصيه إلّا الله تبارك وتعالى؟! وكلّ ذلك سنراه كما قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ﴾(1).

 


(1) سورة الزَلزَلة، الآية: 7 ـ 8.
131

نحن نعلم أنّ ذلك الحساب الدقيق الذي حاسب الله به يونس(عليه السلام)سوف لا نحاسب به، فإنّ الله عزّ وجلّ يغفر لنا من الخطايا والذنوب ومن صغائر أعمالنا، فليس حالنا حال يونس(عليه السلام)، وما فعله الله به كان تأديباً لنبيٍّ من أنبيائه بلحاظ مستوى النبوّة، وهذا الفارق لا يوجب سرورنا بل يكشف عن قلّة قدرنا، وصغر خطرنا، وخسّة أمرنا، فنحن لا نستحقّ هذا التأديب وهذه الرعاية الدقيقة الكاشفة عن علوّ قدر المؤدّب بها، وشدّة الاعتزاز به، فأنت تحرص على تأديب ولدك أكثر من حرصك على تأديب صبي آخر؛ وذلك لأنّ ابنك أعزّ لديك وأحبّ إليك. إنّ يونس(عليه السلام) كان من الأجلاّء عند الله تبارك وتعالى، وعزيزاً عليه، فلا يتركه على خطأ ولو كان ترك أولى، أمّا نحن فنعصي الله ليل نهار دون أن يعاقبنا مباشرة، فهذا السكوت عنّا كاشف عن قلّة قدرنا، وهذا لطف من الله بنا ورعاية لحالنا أيضاً؛ إذ إنّنا لا نتحمّل أكثر من ذلك.

إنّ الله عزّ وجلّ لو أحبَّ مؤمناً فهو يعاقبه وينبّهه حين صدور الزلّة عنه فوراً، ويوجب له عثرة تكون في طريقه كي ينتبه ويرتدع عن خطئه ومعصيته.

إنّ هناك اُموراً أربعة تؤثّر في الارتداع عن الذنوب والمعاصي وردت في القرآن الكريم والروايات:

 

الأمر الأوّل ـ العذاب:

عذاب يوم القيامة الذي لا تقوم له السماوات والأرض، نار

132

جهنّم، أعاذنا الله منها، وقد ورد في وصفها: أنّ نار الدنيا هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم، وأنّها غُسلت سبعين مرّةً بماء الجنّة ثُمّ اُنزلت إلى الدنيا، ونحن نعرف أنّ عذاب النار في الدنيا هو أشدّ أنواع العذاب، أمّا ما يقوم به الطواغيت من تعذيب سجنائهم بألوان العذاب الاُخرى، فليس لأنّها أشدّ من النار؛ بل لأنّ التعذيب بالنار قد يؤدّي إلى قتل السجين بسرعة، فلا يصلون إلى مآربهم وينتهي التعذيب، أمّا عذاب الله تبارك وتعالى بالنار يوم القيامة، فقال تعالى عنه: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾(1)، وهذا أشدّ العذاب، وهو يكفينا ردعاً عن الذنوب والمعاصي، أعاذنا الله تعالى من كلِّ ذلك.

 

الأمر الثاني ـ الجنّة ومراتبها:

وقد قارن الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم بين وضع الآخرة ووضع الدنيا، فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض﴾(2)، أي: كانت الفوارق في الدنيا كبيرة بين إنسان وإنسان آخر من حيث النِعم الدنيويّة، فهذا يصعب عليه تحصيل الخبز وذاك إلى جنبه يملك القصور والأموال وما لا يحصى من النِعم، ونحن هنا لا نتكلّم عن الجانب التشريعي لهذا التفاوت وهل هو مقبول أو مرفوض، وإنّما الحديث عمّا هو قائم فعلاً ولو نتيجةَ ظلم الظالمين.

 


(1) النساء، الآية: 56.
(2) سورة الإسراء، الآية: 21.