271

من الفردين بالخصوص على تقدير خروج الآخر، فتثبت بذلك قضيّتان شرطيّتان: الاُولى: أنّ الفرد الأوّل داخل على تقدير خروج الثاني. والثانية: أنّ الفرد الثاني داخل على تقدير خروج الأوّل. وموضوع كلتا القضيّتين معيّن، فلا يرد على هذا التقريب ما ورد على التقريب السابق، ونحن نعلم إجمالاً بتحقّق شرط إحدى القضيّتين، فنعلم إجمالاً بتحقّق جزاء إحدى القضيّتين فيثبت وجوب إكرام أحد الفردين.

 

تنبيهان:

بقي هنا التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: قد عرفت أنّ المخصّص المجمل مفهوماً بين المتباينين إن كان متّصلاً أوجب انعدام ظهور العامّ رأساً بالنسبة لكلّ واحد من الفردين بالخصوص، وإن كان منفصلاً لم يوجب انعدام ذلك الظهور رأساً لكنّه يوجب سقوطه عن الحجّيّة؛ لأنّه إن بني على حجّيّة ذلك الظهور في كلا الفردين فقد قامت حجّة أقوى على خلافه على ما هو المفروض، وإن بني على حجّيّته في واحد منهما بالخصوص دون الآخر كان ترجيحاً بلا مرجّح، ففرض الاتّصال والانفصال لا يفترقان من حيث النتيجة، أعني: من حيث عدم إمكان التمسّك بذلك الظهور.

نعم، يظهر بالدقّة أنّهما يفترقان في ثمرة، وذلك أنّه لو اتّفق أن علمنا من الخارج ـ مضافاً إلى التخصيص المعلوم بالإجمال ـ بأنّه إمّا أن يكون زيد بن الحسن مثلاً الذي هو أحد الشخصين خارجاً عن هذا العموم، أو يكون عمرو خارجاً عن عموم آخر، فإن كان المخصّص المردّد بين زيدين متّصلاً لم يصلح العامّ الدالّ على وجوب إكرام العلماء إلّا زيداً مثلاً للمعارضة مع العامّ الآخر الذي نحتمل خروج عمرو منه؛ لأنّ العامّ الأوّل صار مجملاً بالمخصّص المتّصل، بل

272

عموم العامّ الآخر الدالّ على شمول عمرو يدلّ بالملازمة على خروج زيد بنالحسن من العامّ الأوّل. وإن كان منفصلاً وقعت المعارضة بين عموم العامّ الأوّل بالنسبة لزيد الأوّل وعمومه بالنسبة لزيد الثاني وعموم العامّ الآخر بالنسبة لعمرو، فهذا هو الفرق بين فرض الاتّصال والانفصال.

وقد طبّقنا هذا البحث على موارد عديدة، منها: ما إذا تعارض أصلان من سنخ واحد، كما لو تعارض استصحابان وتعارض أحد هذين الأصلين مع أصل آخر من سنخ آخر، فإن كان مخصّص السنخ الأوّل متّصلاً استراح الأصل الثالث عن المعارض، وإن كان منفصلاً وقع التعارض بين الاُصول الثلاثة.

الأمر الثاني: لو علمنا بالتخصيص وشككنا في كونه متّصلاً أو منفصلاً فهل يوجب ذلك إجمال العامّ كما لو علم بالاتّصال أو لا؟

هذا مبتن على بحث في باب الظهور، وهو: أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة هل هو كاحتمال قرينيّة الموجود أو لا؟ فإنّهم صرّحوا بأنّ احتمال قرينيّة الموجود يوجب الإجمال، أي: أنّ احتمال كون ما قرنه بالكلام قد جاء به لتأويل الكلام الذي قرنه به يوجب الإجمال، ولهذا لم يجز التمسّك بالعامّ فيما شكّ دخوله في المخصّص المتّصل المردّد مفهوماً بين الأقلّ والأكثر، ولهذا أيضاً كان المخصّص المتّصل المردّد مفهوماً بين المتباينين موجباً لانعدام الظهور بالنسبة لكلّ واحد من الفردين بالخصوص.

وأمّا أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة هل يوجب الإجمال أو لا؟ فقد ذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى أنّه لا يوجب الإجمال، واخترنا في محلّه أنّه يوجب الإجمال على تحقيق وتفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله، وعلى هذا فاحتمال كون المخصّص متّصلاً كاف في حصول الإجمال.

المسألة الرابعة: فيما لوكان المخصّص منفصلاً مردّداً مفهوماً بين الأقلّ والأكثر،

273

كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا تكرم فسّاق العلماء)، وكان هذا الكلام منفصلاً عن الكلام الأوّل وتردّد أمر الفاسق بين أن يكون مطلق فاعل الذنب أو خصوص فاعل الكبيرة، فنقول: لا إشكال في حجّيّة العامّ فيما شكّ في دخوله في المخصّص؛ وذلك لأنّ الظهور ـ على ما هو المفروض من عدم اتّصال المخصّص ـ محفوظ، فهو حجّة في غير ما قامت الحجّة الأقوى على خلافه، وإنّما قامت الحجّة الأقوى على خلافه في خصوص مرتكب الكبيرة، وأمّا مرتكب الصغيرة فلم تقم حجّة أقوى على خلافه؛ إذ المفروض عدم معلوميّة دخوله في قوله: (لا تكرم فسّاق العلماء)، فقوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) ليس حجّة بالنسبة إليه.

إن قلت: إنّ ظهور العامّ وإن كان محفوظاً بالنسبة لمرتكب الصغيرة، بل بالنسبة لمرتكب الكبيرة أيضاً، لكن بعد أن قامت حجّة أقوى على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ينقسم ظهور العامّ إلى قسمين: قسم منه حجّة وهو ظهوره بالنسبة لغير الفسّاق، وقسم منه غير حجّة وهو ظهوره بالنسبة للفسّاق؛ لأنّ هذا القسم هو مورد الحجّة الأقوى، وعلى هذا فنقول: إنّ مرتكب الصغيرة وإن كان داخلاً في ظهور العامّ قطعاً، لكنّا لا ندري هل يكون داخلاً في القسم الذي يكون حجّة منه وهو ظهوره بالنسبة إلى غير الفسّاق، أو يكون داخلاً في القسم الذي ليس حجّة منه وهو ظهوره بالنسبة للفسّاق، فلا مجال للتمسّك بالعامّ.

قلت: إنّ المتكلّم إذا قال: (لا تكرم فسّاق العلماء) فتارةً: يكون مقصوده النهي عن إكرام كلّ مَن يسمّى بفاسق بما أنّه يسمّى بفاسق، بحيث يكون العنوان الملحوظ في موضوع الحكم عنوان مَن يكون مسمّى بفاسق ومدلولاً عليه بفاسق، واُخرى: يكون مقصوده النهي عن إكرام الفاسق، لا بما أنّه مسمّى بفاسق ومدلول له بل بما أنّه واقع الفاسق، فيكون العنوان الملحوظ في موضوع الحكم واقع الفاسق لا ما هو مدلول له بما هو كذلك:

274

فإن كان مراده الأوّل أصبحت الشبهة مصداقيّة لا مفهوميّة؛ إذ العنوان الذي يكون موضوع الحكم هو نفس (ما يكون مدلولاً لفاسق) بما هو كذلك، ومفهوم هذا الكلام واضح، فإنّه لا شكّ في معنى الموصول ولا في معنى صلته، فهذا الفرض خارج عمّا نحن فيه.

وإن كان مراده الثاني فواقع الفاسق ـ لا محالة ـ مردّد بين مرتكب الكبيرة ومطلق المذنب على الفرض، فالحجّة الأقوى في الحقيقة لم تقم على خلاف العامّ إلّا في خصوص مرتكب الكبيرة، فما صار من ظهور العامّ غير حجّة هو ظهوره بالنسبة لمرتكب الكبيرة، وأمّا بالنسبة لمرتكب الصغيرة فلم يسقط عن الحجّيّة؛ لعدم حجّة أقوى في قباله، والمفروض أنّ نفس عنوان كون الشخص مسمّى بفاسق ومدلولاً له من حيث هو ليس خارجاً بالتخصيص حتّى تكون الحجّة الأقوى ثابتة بالنسبة لكلّ مَن هو فاسق، ويقع الشكّ في أنّ مرتكب الصغيرة هل هو داخل في الظهور المزاحم بحجّة أقوى أو في الظهور غير المزاحم بذلك.

نعم، بناءً على أنّ العموم بحاجة إلى مقدّمات الحكمة في المدخول، وعلى أنّ إحدى المقدّمات عبارة عن عدم ورود القرينة ولو منفصلة يتوجّه هنا تفصيل، وهو: أنّه إذا كان ترديد الشخص في مفهوم الفاسق ـ الذي هو الخارج بالتخصيص ـ من باب اعترافه بأنّه مجمل عند العرف أمكنه التمسّك بالعموم فيما شكّ في دخوله في المخصّص؛ لأنّ القرينة لم ترد يقيناً، باعتبار أنّ المجمل ليس قرينة(1). وأمّا لو احتمل أنّ الفاسق يكون ظاهراً عند العرف في مطلق المذنب،



(1) لو قلنا بأنّ المنفصل كالمتّصل في هدم الإطلاق ومقدّمات الحكمة أمكن القول بأنّ المجمل كما يهدم الإطلاق لدى اتّصاله ـ لأنّه وإن لم يكن قرينة بالفعل لكنّه صالح للقرينيّة ـ كذلك يهدمه لدى انفصاله.

275

وأن يكون مختصّاً بمرتكب الكبيرة فعندئذ لا مجال للتمسّك بالعامّ؛ لأنّ المفروض توقّف العموم على مقدّمات الحكمة التي إحداها عدم ورود القرينة ولو منفصلةً، وهذه المقدّمة لم تحرز؛ إذ من المحتمل كون قوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) قرينة عند العرف على عدم وجوب إكرام مرتكب الصغيرة، غاية الأمر أنّ القرينة لم تصله؛ لعدم إحرازه لظهور الفاسق في مطلق المذنب.

بل حتّى في هذا الفرض أيضاً بالإمكان أن يقال بجواز التمسّك بالعامّ؛ وذلك لاستصحاب عدم ورود القرينة(1)، وهذا نظير استصحاب وثاقة الراوي.

هذا تمام الكلام في المخصّص المجمل مفهوماً للعامّ، ويأتي نظير ما ذكرناه في المخصّص للعامّ بالنسبة للمقيّد المجمل مفهوماً بالقياس إلى مطلقه:

فإن كان متّصلاً لم يصحّ التمسّك بالمطلق، سواءً كان مردّداً بين الأقلّ والأكثر أو مردّداً بين المتباينين؛ لأنّه مادام متّصلاً فقد هدم أصل الظهور الإطلاقيّ.

وإن كان منفصلاً مردّداً بين المتباينين فرفعه لأصل الظهور الإطلاقيّ أو لحجّيّته مبتن على كون قوام الإطلاق بعدم القرينة المنفصلة أو بخصوص عدم القرينة المتّصلة.

وإن كان منفصلاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر، فإن قلنا بأنّ قوام الإطلاق بعدم القرينة ولو المنفصلة فيأتي ما مضى من صحّة التمسّك بالإطلاق رأساً على تقدير، والاحتياج إلى استصحاب عدم القرينة على تقدير آخر(2).



(1) لا يخفى أنّه بناءً على أنّ أصالة العموم ترجع إلى أصالة الظهور قد يقال: إنّ استصحاب عدم القرينة لا يثبت الظهور إلّا على مبنى الاعتماد على الأصل المثبت. نعم، لو كان الخاصّ متأخّراً زماناً وافترضنا أنّه ينهدم ظهور العامّ من حين صدور الخاصّ أمكن استصحاب الظهور.

(2) وتأتي هنا أيضاً الملاحظتان اللتان بيّنّاهما في التعليقين السابقين.

276

 

الكلام في حجّيّة العامّ المخصَّص بالمجمل مصداقاً

المقام الثاني: في العامّ المخصّص بالمجمل من حيث المصداق، وهذا أيضاً على أربعة أقسام كأقسام المخصّص المجمل مفهوماً، وقد عرفت في المقام الأوّل أنّ العامّ ليس حجّة في الفرد المشكوك إلّا في القسم الرابع، وقد يقال في هذا المقام: إنّ المخصّص المجمل مصداقاً ليس أحسن حالاً من المخصّص المجمل مفهوماً؛ لأنّ القسم الرابع الذي كان العامّ فيه حجّة في المشكوك في المقام الأوّل قد اختير في هذا المقام عدم حجّيّته، فكيف بباقي الأقسام؟

فنحن نتكلّم أوّلاً في هذا المقام في القسم الرابع وهو المخصّص المنفصل المردّد مصداقاً بين الأقلّ والأكثر، فإن ثبت عدم حجّيّة العامّ في المشكوك فلا يبقى مجال لتوهّم حجّيّته في باقي الأقسام. وإن ثبتت حجّيّته فيه انفتح باب احتمال حجّيّته في باقي الأقسام فيقع الكلام في باقي الأقسام، فنقول:

إذا خصّص العامّ بمخصّص منفصل مردّد مصداقاً بين الأقلّ والأكثر، كما لو ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا تكرم فسّاق العلماء) وعلمنا أنّ الفاسق هو مطلق مرتكب الذنب مثلاً، وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو مرتكب للذنب أو لا، فهل يجوز التمسّك بالعامّ فيما شكّ دخوله في المخصّص، أو لا؟

قد ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره): أنّ هذا النزاع مختصّ ببحث العموم والخصوص، وأمّا في بحث المطلق والمقيّد فهم متّفقون على عدم جواز التمسّك بالمطلق في الشبهات المصداقيّة للمقيّد(1).



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 31، ص 441 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 520 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

277

وأورد عليه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بمنع اختصاص هذا النزاع ببحث العموم والخصوص، نعم، بما أنّهم ذكروا ذلك في بحث العموم والخصوص ونقّحوه لم يحتاجوا في بحث المطلق والمقيّد إلى ذكره مرّة اُخرى(1).

أقول: الحقّ هو ما ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره)، فإنّه في بحث المطلق والمقيّد لا مجال لهذا النزاع؛ وذلك لأنّ الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ الخصوصيّات وإثبات الحكم على كلّ فرد فرد رأساً، بل هو عبارة عن رفض جميع الخصوصيّات ولحاظ ذات الطبيعة بلا أيّ خصوصيّة، فالحكم أوّلاً وبالذات إنّما ثبت على ذات الطبيعة لا على الأفراد، وإنّما يسري إلى الأفراد بعد ذلك بحكم العقل، وليس الموضوع في الكلام المطلق إلّا ذات الطبيعة وبعدم ثبوت القيد يثبت ـ بحكم العقل ـ انطباق الحكم على الأفراد الفاقدة لذلك القيد.



(1) لم أجده بوضوح في الكلمات المنقولة عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، لكنّه مفهوم ممّا قاله السيّد الخوئيّ(رحمه الله)ـ على ما ورد في محاضرات الشيخ الفيّاض، ج 5، ص 210 ـ 211 بحسب طبعة صدر بقم ـ: من مناقشة كلام الشيخ العراقيّ(رحمه الله) الذي ذكره في بيان الفرق بين التخصيص والتقييد، من أنّ التقييد يقلب عنوان الموضوع من كونه تمام الموضوع إلى كونه جزء الموضوع، أمّا التخصيص فهو بمنزلة انعدام بعض الأفراد أو الأصناف بموت ونحوه، فكما أنّ خروج مَن مات لا يوجب تعنون الأفراد الباقية بعنوان وجوديّ أو سلبيّ كذلك التخصيص (نهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 519 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم). وهنا شرح السيّد الخوئيّ(رحمه الله) الفرق بين الموت والذي ليس تخصيصاً أصلاً، وإنّما هو فناء لفرد من أفراد القضيّة الحقيقيّة المجعولة على الموضوع المقدّر الوجود، والتخصيص الذي يقيّد موضوع الحكم ـ لا محالة ـ بقيد، فيكون انتفاء الحكم من باب السالبة بانتفاء المحمول لا السالبة بانتفاء الموضوع كما في الموت.

278

فمثلاً لو قال: (أكرم العالم) ولم يقيّد الحكم بشيء عُرف أنّ الحكم لذات الطبيعة بإطلاقها، فلا محالة يثبت للعادل والفاسق. وإذا ورد بعد ذلك: (لا تكرم الفسّاق من العلماء) علمنا أنّ الحكم ليس ثابتاً للطبيعة بإطلاقها، فإذا شكّ في أنّ زيداً العالم فاسق أو لا بنحو الشبهة المصداقيّة لم يجز التمسّك بالمطلق؛ لفرض العلم بأنّ الحكم ليس ثابتاً لطبيعة العالم بإطلاقها حتّى يحكم العقل بثبوت الحكم لهذا الفرد، فإنّ ثبوت الحكم للفرد يكون في طول إلغاء الخصوصيّة، ومع فرض قيام الدليل على أخذ خصوصيّة في الطبيعة يحتمل فقدان الفرد لها لا يبقى دليل على شمول الحكم للفرد المشكوك حاله.

نعم، لو كان قوله: (أكرم العالم) بنفسه دالّاً على ثبوت الحكم لكلّ فرد فرد أمكن أن يقال: إنّ زيداً موضوع لهذا الحكم بمقتضى قوله: (أكرم العالم)، ولم تقم حجّة أقوى على خلافه فنقول بوجوب إكرامه، لكن قد قلنا: إنّ الإطلاق عبارة عن رفض الخصوصيّات وإثبات الحكم لأصل الطبيعة، فقوله: (أكرم العالم) لا يدلّ على وجوب إكرام هذا الفرد من أفراد العالم من حيث هو حتّى يتمسّك به لعدم قيام حجّة أقوى على خلافه، وإنّما يدلّ على وجوب إكرام طبيعة العالم بإطلاقها المنطبقة على هذا الفرد، والمفروض العلم بخلاف ذلك.

هذا بالنسبة للمطلق والمقيّد. وأمّا العامّ فهو يدلّ على ثبوت الحكم لكلّ فرد فرد ابتداءً، فإنّ أداة العموم تتكفّل لإثبات الحكم على الأفراد رأساً، فيمكن أن يقال: إنّ هذا الفرد داخل في العامّ وقد شككنا في خروجه عن الحكم بالتخصيص فنتمسّك بالعموم.

وبكلمة اُخرى: إنّ الفرق بين المطلق والعامّ هو أنّ المطلق أثبت الحكم على الطبيعة، فلو اُريد التمسّك به في الشبهة المصداقيّة للمقيّد، كما لو شكّ في فسق زيد

279

وقد قيّد قول المولى: (أكرم العالم) بقوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) وقع السؤال عن أنّ التمسّك لإثبات الحكم هل هو بثبوت الموضوع المفهوم من ظاهر قوله: (أكرم العالم)، أو بثبوت الموضوع الذي علمناه موضوعاً للحكم بعد التقييد؟ فإن كان الأوّل، أي: الموضوع المفهوم من ظاهر المطلق، فقد علمنا كذبه، فكيف نتمسّك به؟ وإن كان الثاني، أي: موضوع الحكم الحقيقيّ، فنحن لم نحرز انطباقه على الفرد المشكوك فسقه.

وأمّا العامّ فلو طرح علينا فيه نفس السؤال لقلنا: إنّنا نتمسّك بنفس ما يكون العامّ ظاهراً فيه، وهو ثبوت الحكم على هذا الفرد مباشرةً؛ لأنّنا لم نعلم بكذبه؛ إذ نحتمل بقاء هذا الفرد تحت العامّ ولو بسبب أنّه ليس في علم الله فاسقاً، ولا حجّة أقوى على خلاف ذلك(1).

هذا، ولعلّ ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ هنا ناش من مبنى عدم تفرقته بين العموم والإطلاق من هذه الناحية، أعني: أنّ العموم استيعاب للأفراد، والإطلاق رفض لخصوصيّة الأفراد وباقي الخصوصيّات عن الطبيعة(2).

وبعد هذا نقول: إنّ غالب الأمثلة التي يذكرونها في هذا المقام خارج عن المقام وداخل في باب الإطلاق والتقييد، فمثلاً يذكرون في مقام المثال: (أكرم كلّ عالم) و(لا تكرم فسّاق العلماء)، مع أنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) لا يدلّ بالعموم على شمول الفسّاق حتّى يكون قوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) تخصيصاً له.

وتوضيح ذلك: أنّ الحقّ في أداة العموم أنّها تدلّ على استيعاب الأفراد الجزئيّة



(1) ولا يخفى أنّ هذا الوجه للاستدلال غير الوجه الذي نقلناه.

(2) فكأنّ الفرق بينهما عبارة فقط عن أنّ العموم لفظيّ والإطلاق حكميّ.

280

لا على استيعاب الأصناف، سواءً كانت أداة العموم مثل كلمة (كلّ)، أم كانت لام الجمع بناءً على دلالتها على العموم لتعيينها للجمع في المرتبة الأخيرة:

أمّا الثاني: فواضح، فإنّ المرتبة الأخيرة تستوعب تمام الأفراد الجزئيّة، فإنّ الجمع جمع للأفراد لا للأصناف، فلو قيل: (أكرم ثلاثة رجال) كان معناه: أكرم ثلاثة أفراد من الرجال، لا: أكرم ثلاثة أصناف من الرجال.

وأمّا الأوّل: فليس لنا برهان فنّيّ على أنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب الأفراد الجزئيّة لا الأصناف، كما كان لنا ذلك في خصوص لام الجمع، لكن نقول ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ: إنّ الظاهر من قوله: (أكرم كلّ عالم) هو إرادة كلّ فرد فرد من الأفراد الشخصيّة، ولا يرى العرف فرقاً بين إفادة العموم بكلمة (كلّ) وإفادته بلام الجمع.

والخلاصة: أنّ أداة العموم إنّما تكون ظاهرة في استيعاب الأفراد لا الأصناف إلّا إذا عدّ الصنف فرداً، فعندئذ تدلّ على استيعاب الأصناف من باب أنّه ـ على الفرض ـ استيعاب للأفراد.

إذا ظهر لك ذلك تبيّن لك أنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) إنّما يدلّ بالعموم على أنّ موضوع الحكم ليس هو هذا الفرد بالخصوص أو ذاك الفرد بالخصوص، بل كلّ فرد من أفراد العلماء يكون موضوعاً لهذا الحكم حتّى لو كان فاسقاً. نعم، يدلّ بالإطلاق على أنّ حالة العدالة والفسق ليست دخيلة في الحكم ولا يدلّ بالوضع على عموم أحواله، فإنّه لم يقل: (أكرم كلّ عالم في كلّ حال)، وإنّما قال: (أكرم كلّ عالم)، فإذا ورد بعد ذلك: (لا تكرم فسّاق العلماء) فليس ذلك تخصيصاً للعامّ وإنّما هو تقييد للمطلق؛ لأنّ هذا الكلام لا يخرج فرداً من الأفراد حتّى الفاسق منهم بما هو عن تحت العموم، بحيث لا يكون ذاك الفاسق بعدُ موضوعاً للحكم،

281

وإنّما يخرج حالاً من الأحوال عن الحكم وهو حال الفسق، غاية الأمر أنّ عالماً مّا قد يجعل نفسه متلبّساً بهذا الحال إلى آخر العمر، وهذا غير خروج فرد بما هو عن العموم، ولو أصبح ذاك العالم في نهاية عمره عادلاً لأ كرمناه.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّه لابدّ من فرض ما خرج عن حكم العامّ شيئاً لا يعقل رجوعه إلى التقييد، بأن لا يكون أحد حالين يمكن طروّهما على فرد واحد حتّى يكون ذلك تخصيصاً، وذلك كمثال ورود عامّ يحدّد حيض كلّ امرأة بخمسين سنة، وورود مخصّص يخرج المرأة القرشيّة عن حكم العامّ، فإنّ القرشيّة وعدم القرشيّة ليسا حالين يعرضان على فرد واحد، بأن تكون امرأة واحدة تارةً قرشيّة واُخرى تميميّة مثلاً.

 

تحقيق الكلام في المسألة:

بقي الكلام في تحقيق أصل المطلب فنقول: يمكن أن يقال بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل؛ وذلك لأنّ المخصّص المنفصل لا يصادم أصل الظهور، والمفروض أنّ العامّ يدلّ على ثبوت الحكم رأساً على الأفراد، فقوله: (أكرم كلّ عالم) دلّ على وجوب إكرام زيد العالم؛ لفرض انحفاظ ظهوره في ذلك بعد التخصيص، والظهور حجّة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه، والمفروض أنّ قوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) مثلاً ـ الذي نفرض أنّه تخصيص لا تقييد ـ لا يكون حجّة على الخلاف بالنسبة لزيد العالم؛ لأنّه لم يعلم فسقه فيكون ظهور العامّ فيه حجّة.

هذا هو التقريب البدائيّ لإثبات حكم العامّ للشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل، وإذا دقّقنا النظر أزيد من ذلك ظهر لنا ما هو الذي ينبغي أن يكون دعوى

282

لمن يريد إثبات حجّيّة العامّ في ذلك، توضيح ذلك: أنّ كون زيد العالم واجب الإكرام يتصوّر بنحوين: أحدهما: أن يكون واجب الإكرام حتّى على تقدير كونه فاسقاً. وثانيهما: أن يكون واجب الإكرام لعدم كونه فاسقاً. ولا يصحّ التمسّك بالعامّ لإثبات الحكم لزيد العالم بالنحو الأوّل؛ لأنّ المفروض هو القطع بخلافه؛ لأنّ الشبهة ليست حكميّة، وإنّما يتمسّك بالعامّ لإثبات ما هو مشكوك لا لإثبات ما قطع بخلافه، فإن صحّ التمسّك بالعامّ فيما نحن فيه فإنّما يصحّ التمسّك به لإثبات الحكم المحتمل بالنحو الثاني، أي: في قبال الشبهة الموضوعيّة لا الشبهة الحكميّة، فالذي ينبغي أن يدّعيه مَن يريد إثبات حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل هو أن يقول بكون العامّ مثبتاً للحكم بالوجه الثاني، وفي قبال الشبهة الموضوعيّة لا في قبال الشبهة الحكميّة حتّى يثبت وجوب إكرام زيد حتّى على تقدير كونه فاسقاً، وبالنتيجة ينبغي أن يدّعى أنّ العامّ يدلّ على أنّ زيداً ليس بفاسق؛ لحجّيّة مثبتات الأمارات.

إذا عرفت ما ينبغي أن يكون هو محلّ النزاع فيما نحن فيه، وهو ثبوت الحكم بالنحو الثاني وفي قبال الشبهة الموضوعيّة ببركة العامّ وعدمه لا ثبوته بالنحو الأوّل وعدمه، قلنا: إنّ هناك أمرين ينبغي أن ينقّحا في المقام:

الأوّل: أنّ العامّ الدالّ على ثبوت الحكم لكلّ فرد هل يدلّ على أنّ العنوان المأخوذ لتلك الأفراد في العموم هو تمام العنوان الذي يجب أن تكون الأفراد أفراداً له، أو لا يدلّ على شيء من هذا القبيل؟ فمثلاً: (أكرم كلّ عالم) هل يدلّ على أنّ كلّ فرد من أفراد العلماء يجب إكرامه بما هو فرد للعالم فحسب، أو لا يدلّ إلّا على ثبوت الحكم لكلّ أفراد العالم من دون نظر إلى أنّ الوصف العنوانيّ هو تمام المقياس لثبوت الحكم على الفرد، فالعموم ـ كعموم ـ لا يدلّ إلّا على وجوب إكرام جميع أفراد

283

العلماء، أمّا أنّ ذلك كان بوصف كونهم أفراد العالم فقط فلا يكمن في معنى العموم؟

الذي يظهر من مطاوي كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو الأوّل(1) وإن لم يصرّح به.

والثاني: أنّ إخراج بعض الأفراد تخصيصاً هل يوجب تعنون الباقي بعنوان ضدّ عنوان الخاصّ، فيصير موضوع الحكم مركّباً من جزءين ـ كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره)(2) ـ أو لا يوجب ذلك كما ذهب إليه المحقّق العراقيّ(قدس سره)؟ وقد شَبّه خروج بعض الأفراد بالتخصيص بموت بعض الأفراد(3).

والوجه في ارتباط هذين الأمرين بما نحن فيه هو: أنّه إن اخترنا في الأمر الأوّل المبنى الأوّل وفي الأمر الثاني المبنى الأوّل كان عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل في غاية الوضوح؛ إذ العامّ إنّما يدلّ على وجوب إكرام زيد العالم بما هو عالم بدون دخل شيء آخر غير العلم في الحكم، وهذا مقطوع الكذب؛ لما عرفت من أنّ الشكّ في كون زيد واجب الإكرام إنّما هو على النحو الثاني لا الأوّل، فنحن نعلم أنّ زيداً ليس واجب الإكرام بما هو عالم فقط؛ لأنّ العامّ صار بسبب التخصيص معنوناً بعنوان خاصّ، فإن كان زيد واجب الإكرام فإنّما يكون واجب الإكرام بما هو عالم عادل أو بما هو عالم غير فاسق، وهذا العنوان غير محرز فلا يحرز الحكم.



(1) هذا ظاهر عبارة فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 525 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)،ص 459، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 525 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 31، ص 440 ـ 441 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 519 ـ 520.

284

وإن اخترنا في الأمر الأوّل المبنى الأوّل وفي الأمر الثاني المبنى الثاني فلدعوى حجّيّة العامّ في ذلك مجال؛ وذلك لأنّ العامّ يدلّ على وجوب إكرام زيد بما هو عالم، وهذه الدلالة لم يعلم كذبها؛ لأنّ المفروض أنّ العامّ لم يعنون بسبب التخصيص بعنوان خاصّ.

وإن اخترنا في الأمر الأوّل المبنى الثاني كان لدعوى حجّيّة العامّ في ذلك مجال، سواءً اخترنا في الأمر الثاني المبنى الأوّل أو الثاني؛ لأنّ المفروض أنّ العامّ يدلّ على وجوب إكرام زيد العالم، وهذا غير معلوم الكذب ولو فرض تعنون العامّ بعنوان خاصّ؛ لأنّ العامّ لم يدلّ على وجوب إكرامه بما هو عالم حتّى يقال: إنّا نعلم بأنّ زيداً غير واجب الإكرام بما هو عالم، وأنّه لو كان واجب الإكرام فإنّما هو كذلك بما هو عالم عادل أو بما هو عادل غير فاسق.

وبما أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) اختار في الأمر الأوّل المبنى الأوّل وفي الأمر الثاني المبنى الأوّل ادّعى بداهة عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل.

والآن يجب أن ندخل في بحث هذين الأمرين فنقول:

الأمر الأوّل: أنّه هل العامّ يثبت الحكم للأفراد من دون دلالة على أنّ مناط الحكم فيها عنوان العامّ فقط أو مع الدلالة على ذلك؟ والحقّ هو الأوّل، ولا يصحّ قياس العامّ بالمطلق، فإنّه في المطلق يكون الحكم ثابتاً للأفراد بما هي أفراد لذلك العنوان ويكون مناط الحكم فيها هو ذلك العنوان فقط؛ وذلك لقيام برهان فنّيّ عليه، وهو: أنّ الإطلاق ـ على ما هو الحقّ ـ عبارة عن تعرية الخصوصيّات، فالحكم إنّما عرض أوّلاً وبالذات على ذات الطبيعة المعرّاة عن الخصوصيّات ثُمّ يحكم العقل بسريانه إلى كلّ فرد ببركة انطباق الطبيعة على الأفراد، فلا محالة

285

يكون مناط الحكم في الأفراد نفس عنوان المطلق، وأمّا في باب العموم فأداة العموم تتكفّل لإسراء الحكم إلى الأفراد رأساً، فلا يأتي فيه هذا البرهان الفنّيّ كما هو واضح، فلا يبقى في البين إلّا دعوى الاستظهار العرفيّ من العامّ بما هو عامّ لكون الحكم ثابتاً للأفراد بمناط ذلك العنوان فقط، لكن هذا الاستظهار ممنوع عندنا جدّاً. نعم، مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة ذلك، ومجيء التخصيص قرينة على خلاف هذا الإطلاق.

الأمر الثاني: أنّه هل التخصيص يوجب تعنون الباقي بعنوان خاصّ أو لا؟ ذهب المحقّق العراقيّ(قدس سره)إلى الثاني والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى الأوّل واستدلّ على مدّعاه ـ من تعنون الباقي ـ بأنّ الطبيعة في قوله مثلاً: (أكرم كلّ عالم) إمّا لوحظت مطلقة أو مقيّدة أو مهملة: أمّا الاحتمال الثالث فمنفيّ بعدم معقوليّة الإهمال في عالم الثبوت، وأمّا الاحتمال الأوّل فمنفيّ بأنّها لو كانت لوحظت مطلقة لكان يجب إكرام العادل منهم والفاسق معاً وهو خلف، فيثبت الاحتمال الثاني وهو التقييد والتعنون، وهذا هو المطلوب.

هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1). وقد وافق عليه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حتّى تعجّب عن ذهاب المحقّق العراقيّ(قدس سره) إلى عدم التعنون وغفلته عن هذا الأمر الواضح(2).



(1) لم أرَ هذا الاستدلال في كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) صريحاً، ولعلّ هذا انتزاع لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من كلماته. نعم، رأيته صريحاً في كلمات السيّد الخوئيّ(رحمه الله) فيما نقل عنه الشيخ الفيّاض في المحاضرات، ج 5، ص 194 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 5، ص 194 و210 بحسب الطبعة التي أشرنا إليها.

286

أقول: إنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ لعلّه ناش من الخلط بين الإطلاق والعموم، وقد قلنا: إنّ العموم عبارة عن شمول الأفراد، فالحكم إنّما يثبت رأساً على الأفراد، والمولى كما يمكنه جعل الحكم على تمام الأفراد كذلك يمكنه جعله على بعضها بدون أن يعنون ذلك البعض بعنوان، وهذا الكلام إنّما يتمّ في باب المطلقات، فيقال: إنّه لو قال المولى: (أعتق رقبة) وقال أيضاً: (لا تعتق الكافرة)، يصير المطلق معنوناً بعنوان خاصّ؛ لأنّ الإهمال غير معقول، والإطلاق يستلزم كفاية عتق الكافرة وهي خلف.

واستدلّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) على مختاره بوجهين: أحدهما برهان نقضيّ، والآخر برهان حلّيّ:

أمّا الأوّل: فهو قياس إخراج بعض العلماء بالتخصيص بموت بعضهم، فإنّه لا إشكال في أنّه بموت بعضهم لا يتعنون الباقي بعنوان خاصّ، ولا فرق بين الموت التكوينيّ والموت الحكميّ وهو الخروج عن دائرة الحكم بالتخصيص الذي هو كالخروج عنها بالموت.

أقول: إنّ ما مضى من تعجّب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من المحقّق العراقيّ(قدس سره) لم يكن هناك في محلّه ولكن هنا محلّ التعجّب، فإنّ قياسه للتخصيص بالموت في غاية الغرابة، وهو خلط بين عالم الجعل والمجعول بحسب مصطلحات القوم، وخلط بين عالم الجعل وطرف الجعل بحسب مصطلحاتنا، فإنّه بالموت لا يتحقّق ضيق في دائرة الجعل كما لا تتحقّق سعة فيها بالتولّد، وإنّما يحصل الضيق أو التوسعة في دائرة المجعول أو طرف الجعل، وأمّا التخصيص فيوجب الضيق في دائرة الجعل وكم فرق بينهما.

وأمّا الثاني: فهو أنّ التخصيص تحديد في دائرة الحكم؛ إذ من الواضح أنّ قوله:

287

(لا تكرم فسّاق العلماء) إخراج لبعض العلماء عن الموضوع بما هو موضوع ويترتّب عليه الحكم، لا أنّه إخراج لهم عن كونهم علماء، وبما أنّ الحكم متأخّر رتبة عن الموضوع فلا يعقل أن يصير التحديد الثابت في دائرة الحكم سبباً لتعنون الموضوع؛ إذ التحديد في مرتبة متأخّرة لا يعقل سريانه إلى مرتبة متقدّمة.

ويرد عليه: أ نّا لا ندّعي كون التحديد في دائرة الحكم سبباً لتعنون الموضوع بعنوان خاصّ حتّى يرد عليه ما ذكره، بل ندّعي أنّ التحديد في دائرة الحكم كاشف عن تعنون الموضوع بعنوان خاصّ في رتبة سابقة.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه بطلان استدلال كلا المحقّقين على مدّعاهما.

والحقّ هو ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) من تعنون العامّ بعنوان خاصّ لكن لا بما أفاده من البرهان العقليّ، بل ببرهان عرفيّ توضيحه: أنّ التخصيص بإخراج فسّاق العلماء مثلاً تارةً: يكون ناشئاً من أنّ ملاك الحكم مختصّ بالعالم العادل، كما لو فرض أنّ الملاك هو ترويج الدين ولا يحصل ذلك بإكرام العالم الفاسق، واُخرى: يكون ناشئاً من ملاك في نفس التخصيص مع أنّ ملاك أصل الحكم عامّ، كما لو فرض أنّ الملاك هو ترويج العلم ويحصل ذلك بإكرام العالم وإن كان فاسقاً ولكن اُعطي المولى مثلاً مال بإزاء رفع الحكم عن العالم الفاسق:

فإن كان من قبيل الأوّل: فلا محالة يتعنون الموضوع ـ ببرهان تبعيّة الأحكام للملاكات ـ بعنوان العادل أو غير الفاسق على حسب اختلاف القرائن وخصوصيّات الكلام.

وإن كان من قبيل الثاني: فمن الممكن أن يخصّص المولى الحكم بدون أن يجعل الموضوع معنوناً بعنوان.

ولا إشكال في كون كلمات الشارع في الأحكام ـ بمقتضى الغلبة ـ ظاهرة في

288

ثبوت الملاك في المتعلّقات لا في نفس الحكم والتخصيص ونحو ذلك، فبالنتيجة يثبت تعنون العامّ بعنوان خاصّ.

هذا تمام الكلام في البحثين، وقد عرفت أ نّا وإن اخترنا في البحث الثاني تعنون العامّ لكنّا لم نختر في البحث الأوّل دلالة العامّ على ثبوت الحكم للأفراد بالمقدار المنظور به إليها بذلك العنوان فقط، ومَن يختار ذلك أيضاً يكون عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة عنده من البديهيّات ولا حاجة إلى التعمّق أزيد من ذلك في مقام إبطال التمسّك به فيها.

وما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومَن تبعه في مقام الاستدلال على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لو اُريد توجيهه بوجه فنّيّ لابدّ من إرجاعه إلى ما عرفت من اختيار إثبات العامّ الحكم للأفراد بالمقدار المنظور به إليها بذلك العنوان، واختيار كون التخصيص موجباً لتعنون الباقي.

وتوضيح الأمر: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أفاد في مقام الاستدلال على المدّعى: أنّ ظهور العامّ وإن لم ينثلم بالنسبة للفرد المتيقّن خروجه فضلاً عن انثلامه بالنسبة للفرد المشكوك؛ لأنّ المفروض كون المخصّص منفصلاً، لكنّه قد انثلمت حجّيّته بالنسبة للفسّاق وصار الموضوع ـ لا محالة ـ مركّباً من جزءين؛ لتعنون العامّ بعنوان خاصّ ويكون الجزء الثاني مشكوكاً، وكأنّ لسان الدليل هكذا: (أكرم كلّ عالم غير فاسق) ولا يعقل إحراز الحكم بدليل لم يحرز موضوعه(1).



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 459 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وأيضاً نفس الوجه موجود في كفاية الاُصول، ج 1، ص 342 ـ 343 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

289

وقد أصبح هذا الاستدلال على المدّعى في زماننا من المسلّمات، ولكن لو بقي هذا الاستدلال على بساطته كان إشكاله أنّنا نسلّم تركّب الموضوع من جزءين، ونسلّم وقوع الشكّ في الجزء الثاني، ونسلّم عدم معقوليّة إحراز الحكم بدليل لم يحرز موضوعه، لكن يدّعى أنّ الموضوع نحرزه فيما نحن فيه بدليل العامّ وهو: (أكرم كلّ عالم) بعد فرض عدم انثلام ظهوره واحتمال صدقه، وكون صدقه متوقّفاً على عدالة الفرد المشكوك، فذلك من قبيل ما لو صرّح المولى بوجوب إكرام زيد وعلمنا من الخارج أنّه لا يجب إكرام أحد سوى العالم العادل، فإنّه يكشف هذا الكلام ـ لا محالة ـ عن كون زيد عالماً عادلاً، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ العامّ دلّ بعمومه على وجوب إكرام زيد، وهذه الدلالة لم تنثلم؛ لفرض كون المخصّص منفصلاً، ولم تقم حجّة أقوى على خلافها؛ لأنّ الخاصّ ليس حجّة في الفرد المشكوك، فنأخذ بها ونقول: إنّ المولى حكم بوجوب إكرام زيد، ونحن نعلم أنّ زيداً لا يجب إكرامه إلّا إذا كان عادلاً، فيثبت أنّ زيداً عادل ويجب إكرامه.

نعم، لا يمكن التمسّك بالعامّ بروح النظر إلى الشبهة الحكميّة؛ إذ لا شكّ لنا في الحكم بهذا اللحاظ، فإنّا نعلم أنّ ظهور العامّ في وجوب إكرام كلّ عالم انقسم إلى قسمين: أحدهما: وجوب إكرام العلماء العدول، وهذا القسم لا شكّ في حجّيّته، وثانيهما: وجوب إكرام العلماء الفسّاق، وهذا القسم لا شكّ في عدم حجّيّته، وليست هنا حصّة اُخرى للظهور بلحاظ الشبهة الحكميّة كما كان الأمر كذلك في الشبهة المفهوميّة، وإنّما شككنا في أنّ زيداً داخل في الحصّة الاُولى أو في الحصّة الثانية.

لكنّا نتمسّك بالعامّ بروح النظر إلى الشبهة الموضوعيّة؛ إذ للعامّ ظهور فعليّ في وجوب إكرام زيد، ووجوب إكرامه يمكن بنحوين: أحدهما: وجوب إكرامه ولو

290

كان في الواقع فاسقاً، وثانيهما: وجوب إكرامه لكونه غير فاسق أو لكونه عادلاً.

والنحو الأوّل لا يمكن إثباته؛ لما عرفت من أنّه ليس في البين شبهة حكميّة، بل إنّ قسماً من الظهور حجّة يقيناً وقسماً آخر منه غير حجّة يقيناً، لكنّ النحو الثاني يمكن إثباته، والشكّ في خروج زيد من العموم شكّ في التخصيص الزائد فنرجع إلى أصالة العموم، فإنّ الحكم لم يكن منصبّاً من أوّل الأمر على الطبيعة. وليس قوله: (لا تكرم الفسّاق من العلماء) ـ على ما هو المفروض ـ تقييداً للمطلق حتّى يقال: إنّ الثابت هو قيد واحد وبازدياد الفسّاق لا يزداد القيد، بل الحكم منصبّ على الأفراد والتخصيص مُخرِج للأفراد، فبازدياد الفسّاق يزداد التخصيص، فالشكّ في فسق زيد شكّ في تخصيص زائد فندفعه بأصالة العموم ونثبت بذلك عدالة زيد.

وهذه المغالطة ـ كما ترى ـ لا تنحلّ بما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)، إلّا أن يرجع كلامه إلى ما مرّ من اختيار مبنيين من بحثين: أحدهما: كون الحكم بمقتضى العموم ثابتاً للأفراد بما هي فرد لعنوان العامّ، وهذا أحد المبنيين من المبحث الأوّل، وثانيهما: كون التخصيص موجباً لتعنون الباقي، وهذا أحد المبنيين من المبحث الثاني. وبالجمع بين هذين المبنيين يتبرهن عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ العامّ لا يدلّ إلّا على وجوب إكرام زيد بما هو عالم وهذا مقطوع الكذب، لكنّا لم نقبل المبنى الأوّل، فلابدّ من استيناف البحث.

والتحقيق في إثبات عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة أن يقال: إنّه لو اُريد التمسّك بالعامّ فيها بروح النظر إلى الشبهة الحكميّة فقد ظهر من كلماتنا السابقة بما لا مزيد عليه أنّ هذا خلف فرض كون الشبهة مصداقيّة لا مفهوميّة.

ولو اُريد التمسّك بروح النظر إلى الشبهة الموضوعيّة فمعناه إثبات وجوب

291

إكرام زيد من حيث إنّه عادل، بحيث يثبت بذلك ـ بناءً على حجّيّة مثبتات الأمارة ـ أنّ زيداً عادل، وهذا يمكن تقريبه بثلاثة أنحاء:

الأوّل: أنّ قول المولى: (أكرم كلّ عالم) تكون دلالته المطابقيّة إنشاء وجوب إكرام زيد مثلاً، ودلالته الالتزاميّة إخباراً عن عدالة زيد؛ لما نعلم من أنّ زيداً لو لم يكن عادلاً لم يجب إكرامه.

ويرد عليه: أنّ الشارع عند بيانه للأحكام بنحو القضايا الحقيقيّة ليس في مقام الإخبار عن مثل عدالة زيد، فإنّه لا يعلم بعدالة زيد حتّى يخبر عنه إلّا من باب علم الغيب، وليس البناء على إعمال علم الغيب في مقام بيان الأحكام.

وبكلمة اُخرى: إنّ المولى بما هو متكلّم بهذا الكلام لا يمتاز عنّا في تشخيص الموضوعات حتّى يكون كلامه ظاهراً في الإخبار عن الموضوعات.

والخلاصة: أنّ وجوب إكرام زيد يتصوّر بنحوين: أحدهما: وجوب إكرامه حتّى على فرض فسقه، وهذا مقطوع العدم، وثانيهما: وجوب إكرامه لكونه عادلاً، وهذا الوجوب لا يمكن للشارع بيانه إلّا من باب الإخبار عن الموضوعات الخارجيّة بعلم الغيب(1)، وليس هذا من شغله عند بيان الأحكام.

 


(1) على أنّ هذا غير محتمل حينما تكون القضيّة حقيقيّة لا خارجيّة.

ثُمّ إنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نقل عن المحقّق العراقيّ وجهاً لإبطال التمسّك بالعامّ لإثبات عدم العنوان الخاصّ في الفرد المشكوك بالملازمة، أي: إثبات عدم الفسق في المثال الذي فرضناه، وهو: أنّه كما يكون الفرد المشكوك فسقه مثلاً محتمل الخروج عن دائرة الحكم لأجل الفسق من باب الشبهة الموضوعيّة، كذلك من المحتمل عدم وجوب إكرامه ولو كان عادلاً. فهنا شبهتان: شبهة حكميّة بسبب احتمال عدم وجوب إكرامه حتّى لو كان عادلاً،

292


وشبهة موضوعيّة بسبب احتمال فسقه.

وحجّيّة العامّ في قبال الشبهة الموضوعيّة تكون متأخّرة رتبة عن حجّيّته في قبال الشبهة الحكميّة؛ إذ لابدّ أن يعيّن أوّلاً مَن يجب إكرامه بالعامّ حتّى تصل النوبة إلى إثبات وجوب إكرام مشكوك الحال، في حين أنّ دليل حجّيّة العامّ لا يتكفّل بالنسبة لكلّ فرد إلّا حجّيّة واحدة، فلا يمكن أن يتمسّك بالعامّ لهذا الفرد مرّتين: مرّة بلحاظ الشبهة الحكميّة، واُخرى بلحاظ الشبهة الموضوعيّة، بل لابدّ من التمسّك به مرّة واحدة، فلو اختير التمسّك به في مقابل الشبهة الحكميّة لم يبق مجال لرفع الشبهة الموضوعيّة بإثبات عدالته. ولو اختير التمسّك به في مقابل الشبهة الموضوعيّة من دون التمسّك به في مقابل الشبهة الحكميّة لم يكن ذلك معقولاً؛ لما قلناه: من أنّ التمسّك به بلحاظ الشبهة الموضوعيّة يكون في طول التمسّك به بلحاظ الشبهة الحكميّة.

قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): وذكر الشيخ العراقيّ في مقالاته: أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناءً على تفسير الحجّيّة بجعل الحكم المماثل، وأمّا لو فسّرناها بتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف فلا يتمّ هذا الكلام، فإنّ لنا احتمالين طوليّين: أحدهما: احتمال عدم وجوب إكرامه لما نعلم به من أنّه نحويّ، وهذا ما نلغيه أوّلاً بدليل حجّيّة العامّ، ثُمّ تصل النوبة إلى احتمال فسقه المانع عن وجوب إكرامه، وهذا ما نلغيه ثانياً بدليل حجّيّة العامّ. وهذا من قبيل ما يقال في باب الإخبار مع الواسطة: من أنّنا نثبت إخبار فلان بحجّيّة خبر مَن أخبر عنه، فيتمّ لنا موضوع ثان لحجّيّة خبر الثقة وهو إخبار فلان، ولا مانع من كون التمسّك بمقتضى الحجّيّة موجداً لفرد آخر لدليل الحجّيّة والتمسّك به ثانياً.

قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): لا فرق في المقام بين أن نفسّر الحجّيّة بمعنى جعل الحكم

293

الثاني: أنّ الشارع وإن لم يكن ـ بما هو متكلّم بهذا الكلام ـ مطّلعاً على عدالة زيد حتّى يخبر عنها، لكن يمكنه جعل أمارة تعبّديّة على عدالته، وجعل أمارة تعبّديّة على الموضوعات يكون من شغله كجعل اليد أمارة على الملكيّة والسوق أمارة على التذكية، فنقول: إنّ الشارع جعل ظهور كلامه في وجوب إكرام زيد أمارة تعبّديّة على كونه عادلاً.

ولايرد على هذا الوجه ما ورد على الوجه السابق، فإنّ إعمال علم الغيب لم يكن من شأنه في مقام بيان الأحكام ولكن من شأنه جعل أمارة على الموضوعات.

 


المماثل أو بمعنى تتميم الكشف، فعلى كلا التقديرين نقول: إنّ التمسّك بعموم العامّ بلحاظ الأفراد لا يثبت إلّا أمراً واحداً، فعلى مبنى إلغاء احتمال الخلاف نقول: لا يوجد إلّا احتمال واحد نلغيه، وهو احتمال عدم وجوب إكرام هذا الفرد، غاية الأمر أنّ لهذا الاحتمال منشأين: أحدهما: احتمال عدم وجوب إكرامه ولو كان عادلاً، والآخر: احتمال الفسق، ونحن نلغي احتمال عدم وجوب إكرام هذا الفرد بمقتضى دليل حجّيّة العامّ. وعلى مبنى جعل الحكم المماثل نقول أيضاً: لا نثبت بالعامّ إلّا جعل وجوب إكرام هذا الفرد الذي كان يحتمل عدم وجوب إكرامه، وكان لهذا الاحتمال منشآن.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ الجواب الذي ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) عن هذا الكلام ـ بناءً على كون الحجّيّة بمعنى تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف ـ غير صحيح، وأنّ أصل هذا الكلام غير صحيح.

أقول: وبإمكانك مراجعة كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات، ج 1، المقالة: 31،ص 442 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

294

ويرد عليه: أنّ ظهور كلامه في وجوب إكرام زيد لا يعقل أن يثبت أماريّته على عدالة زيد بنفسه، بل لابدّ من قيام دليل آخر على أماريّته عليها، ولم ترد آية ولا رواية تدلّ على ذلك، ولا تدلّ السيرة العقلائيّة في حجّيّة الظهورات على ذلك، فإنّ السيرة العقلائيّة إنّما قامت على حجّيّة الظهورات بالنسبة لما تقتضي الكشف عنه لا بالنسبة لما لا تقتضي الكشف عنه.

وليس ظهور كلام المولى في وجوب إكرام زيد كاشفاً عن عدالته، وإلّا لتمّ التقريب الأوّل، وقد قلنا بعدم تماميّته لعدم بناء الشارع على إعمال العلم بالغيب.

الثالث: أن يقال أيضاً: إنّ للشارع جعل أمارة على عدالة زيد، لكن لا نقول بكون ظهور كلامه في وجوب إكرام زيد أمارة على ذلك حتّى يرد عليه ما عرفت، بل نقول بأنّ الشارع جعل علمه أمارة على عدالته، وهذا الجعل أيضاً يحتاج إلى دليل، لكن قد ورد الدليل عليه وهو نفس ظهور كلام الشارع في وجوب إكرام زيد.

توضيحه: أنّه لا إشكال في أنّ كلام الشارع ظاهر في وجوب إكرام زيد بالفعل، فلو كان مراده هو الوجوب الواقعيّ بالفعل لزم من ذلك إعماله للعلم بالغيب، وقد مضى أنّ هذا خلاف دأبه وديدنه، ولكنّنا نقول: إنّ مراده هو الوجوب الظاهريّ، وهذا يكشف بالملازمة عن أنّ الشارع جعل في الرتبة السابقة العلم أمارة على العدالة، وإلّا لم يكن له الحكم بوجوب الإكرام وجوباً ظاهريّاً.

ويرد عليه: أنّه لو قيل بدلالة كلام الشارع على الوجوب الظاهريّ فإمّا أن يقال بدلالة كلامه على وجوبين طوليّين: الأوّل وجوب واقعيّ ثابت على فرض كونه عادلاً، والثاني وجوب ظاهريّ ثابت في فرض الشكّ، فلو اتّفق كونه في الواقع عادلاً كان إكرامه واجباً بوجوبين: واقعيّ وظاهريّ. أو يقال بعدم دلالته على الوجوب الواقعيّ ولوكان في الواقع عادلاً.

295

فإن قيل بالأوّل ورد عليه: أنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) لا يحتمل إلّا بيان وجوب واحد لكلّ فرد لا وجوبين. وإن قيل بالثاني انهدم موضوع الوجوب الظاهريّ، فإنّه إنّما يثبت وجوب إكرام زيد ظاهراً بقيام الأمارة على عدالته لو فرض أنّه على تقدير العدالة يجب إكرامه واقعاً، وأمّا لو فرض عدم وجوب إكرامه واقعاً حتّى على تقدير العدالة فلا معنى لوجوب إكرامه ظاهراً عند الشكّ في العدالة(1).

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا يرد على التقريب الثاني، فإنّ العامّ على التقريب الثاني لا يدلّ على حكمين وإنّما يدلّ على الحكم الواقعيّ، وإنّما يستفاد الحكم الظاهريّ من دليل جعل ظهور العامّ أمارة على العدالة لو كان.

وقد تحقّق بكلّ ما ذكرناه عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر.

 

موارد الاستثناء من عدم الحجّيّة في المقام:

نستثني من عدم الحجّيّة في المقام موردين:

الأوّل: ما إذا كان العامّ قضيّة خارجيّة وكانت الأفراد محدودة بنحو لا يكون علم المولى بحالها خلاف المتعارف، كما لو قال: (أكرم كلّ علماء البلد)، وعلمنا من الخارج أنّه لا يجب إكرام عالم فاسق، وكان علماء البلد محدودين بمقدار



(1) ويرد أيضاً على هذا الوجه: أنّ الظاهر من دليل حكم وجوب الإكرام مثلاً هو إرادة الحكم الواقعيّ فحسب، كما هو الأصل في جميع أدلّة الأحكام ما لم ينصّ على أخذ الشكّ في الحكم الواقعيّ في موضوعها، فلا دلالة للكلام على حكم ظاهريّ كي نكتشف من ذلك جعل العلم أمارة على العدالة أو عدم الفسق.