246

الطبيعيّ إشباع هذه الحالة في اللام بحملها على الإشارة إلى مرتبة معيّنة من الجمع، وليست هي إلّا المرتبة الأخيرة؛ لأنّ أيّ مرتبة اُخرى غيرها ذات مصاديق كثيرة، وهذا أمر يلازم العموم.

بينما على المسلك الأوّل لا نحتاج إلى تقدمة مقدّمة من هذا القبيل، وإنّما يدّعى ابتداءً وضع لام الجماعة للعموم.

ومن هنا أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المسلك الأوّل: بأنّه يستلزم كون استعمال لام الجماعة في مقام معهوديّة جماعة خاصّة مجازاً، مع أنّنا نرى وجداناً عدم وجود أيّ مؤونة في استعمالها في ذاك المقام.

أقول: إنّ هذا المقدار من البيان للاعتراض على المسلك الأوّل قد يمكن لصاحب المسلك الأوّل أن يجيب عليه، بأن يدّعي أنّ اللام مشترك لفظيّ بين العموم والعهد، فحينما يستعمل في العهد لا يكون مجازاً، وحينما لا يوجد عهد بين المتكلّم والمخاطب يفهم منه العموم.

إلّا أنّنا نكمل الاعتراض على المسلك الأوّل ببيان ذوقيّ وليس فنّيّاً، وهو: أنّ الإنصاف أنّ احتمال الاشتراك اللفظيّ في وضع اللام بعيد غاية البعد، وليس هذا إلّا استبعاداً ذوقيّاً.

فلو أنّ صاحب المسلك الأوّل لم يقبل هذا الاستبعاد وأصرّ على دعوى الاشتراك اللفظيّ فنحن لا نملك دليلا فنّيّاً لإقناعه برأينا.

أمّا لو قبلنا هذا الاستبعاد الذوقيّ فقد بطل ـ لا محالة ـ قبول المسلك الأوّل، سواءً وصل استبعادنا هذا إلى حدّ الاطمئنان بعدم الاشتراك أو لا:

أمّا لو وصل الاستبعاد إلى حدّ الاطمئنان بعدم الاشتراك فقد تمّ كلام السيّد الاُستاذ: من أنّه لو كان اللام موضوعاً للعموم للزم الإحساس بمؤونة المجاز في موارد لام العهد، في حين أنّه ليس كذلك.

247

وأمّا لو لم يصل الاستبعاد إلى حدّ الاطمئنان فنفس الاستبعاد كاف في رفع اليد عن المسلك الأوّل؛ إذ المقصود منه هو إثبات دلالة لام الجماعة على العموم ابتداءً بالوضع، ومن المعلوم أنّه إن اُريد إثباته ببرهان عقليّ فغير ممكن، وإن اُريد إثباته بالاستظهار العرفيّ فنفس ما مضى من الاستبعاد يمنعنا عن هذا الاستظهار كما لا يخفى.

وأمّا المسلك الثاني فقد أورد عليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بأنّه كما تكون المرتبة الأخيرة للجمع معيّنة كذلك المرتبة الاُولى أيضاً معيّنة، فلا ترجيح للمرتبة الأخيرة على المرتبة الاُولى(1).

أقول: كأنّه(رحمه الله) حمل التعيّن المدّعى لصاحب المسلك الثاني على التعيّن الماهويّ، وهذا التعيّن ثابت لكلّ مرتبة من المراتب، فالمرتبة الاُولى معيّنة في ثلاثة، والمرتبة الثانية معيّنة في أربعة وهكذا، ولكنّنا لا نظنّ بصاحب المسلك الثاني إرادة التعيّن الماهويّ، بل يقصد التعيّن الخارجيّ المخصوص بالمرتبة الأخيرة؛ لأنّ المرتبة الأخيرة ليس لها خارجاً إلّا مصداق واحد، في حين أنّ كلّ مرتبة من المراتب الاُخرى لها مصاديق كثيرة خارجاً فلا تعيّن لها.

ومن هنا اختار السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ هذا المسلك(2).

إلّا أنّ هذا المسلك أيضاً غير تامّ عندنا؛ إذ لا نمتلك شاهداً على أنّ التعيّن



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 381 بحسب طبعة المشكينيّ في بحث المطلق والمقيّد.

(2) راجع محاضرات الفيّاض، ج 5، ص 360 بحسب الطبعة الثالثة لدار الهادي للمطبوعات بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 445 تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

248

المدلول عليه باللام هو خصوص التعيّن الخارجيّ، بل لا إشكال في أنّ اللام قد يستعمل في غير ذلك من دون إحساس بالمجاز، فمثلا لو قيل: (العلماء أقوى في مقابل العدوّ من عالم واحد)، وقصد به جنس الجمع، أي: أنّ تعدّد العلماء في دحض حجّة الخصم أقوى في الغلبة من عالم واحد، لم يكن في ذلك مجاز ومؤونة أبداً، كما هو الحال فيما لو دخل اللام على التثنية فقيل: (العالمان أقوى في مقام التأثير من عالم واحد)، أو دخل على المفرد واُريد به الجنس كما لو قيل: (العالم خير من الجاهل).

إذن فلام الجماعة لا تدلّ وضعاً على ما يلازم العموم، فإنّ ما يلازم العموم ليس هو مطلق التعيّن بل التعيّن الخارجيّ، في حين أنّ التعيّن الماهويّ ثابت لكلّ المراتب.

نعم، يمكن أن يدّعى ـ ذوقاً لا فنّاً ـ أنّ ظاهر لام الجماعة ـ عند إطلاقها وعدم الإتيان بقرينة على التعيّن الماهويّ ـ هو التعيّن الخارجيّ.

ولعلّ النكتة في ذلك أنّ التعيّن الخارجيّ لا يحتاج إلى مؤونة زائدة على أصل مفاد الجمع، غاية الأمر أنّه عبارة عن حدّ نفس مفاد الجمع؛ إذ المرتبة الأخيرة واستيعاب الجميع بنفسه حدّ للجمع معيّن خارجاً، وهذا بخلاف التعيّن الماهويّ المردّد بين كلّ المراتب، فتعيين أيّ واحدة منها بحاجة إلى مؤونة زائدة، فواقع المطلب هو الرجوع إلى مقدّمات الحكمة لتشخيص أنّ المقصود هو التعيّن الخارجيّ؛ لأنّ التعيّن الآخر بالقياس إلى هذا التعيّن يعتبر ذا مؤونة زائدة منفيّة بمقدّمات الحكمة(1).

 


(1) أقول ـ لحفظ الأمانة ـ: إنّ التقريب الذي ذكرته هنا في المتن لإبطال المسلك

249

 

وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي:

وممّا عدّ من أدوات العموم وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي.

وقد ذهب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) إلى أنّ ذلك لا يدلّ على العموم وضعاً، بل يدلّ عليه عقلا؛ لحكم العقل بأنّه لا تنتفي الطبيعة ولا يحصل الانزجار عنها إلّا بانتفاء جميع أفرادها أو الانزجار عن جميع أفرادها، وهذا بخلاف ما لو كانت النكرة في سياق الإثبات أو الأمر، فإنّه تثبت الطبيعة ويحصل الانبعاث إليها بمجرّد ثبوت فرد واحد منها أو الانبعاث إلى فرد واحد منها، ولذا لا يستفاد العموم من وقوع النكرة في سياق الإثبات أو الأمر ولكن يستفاد من وقوعها في سياق النفي أو النهي، ولكن تتوقّف استفادته من ذلك إلى إجراء مقدّمات الحكمة؛ إذ لو


الثاني وإثبات الدلالة الذوقيّة فيه نوع من التصرّف والتبدّل عن كتابتي النجفيّة؛ وذلك لما أحسست في تلك الكتابة بعدم رجوعها إلى مطلب معقول وقابل للقبول، فاتّهمتُ نفسي بالخطأ في الفهم لكلام اُستاذنا(رحمه الله) حين التقرير المباشر وحدستُ أنّ المقصود هو ما بيّنته هنا.

وعلى أيّ حال فلعلّ أوضح ما يمكن أن يقال في إبطال دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم: ما اتّضح في المقام الأوّل من استحالة استيعاب مفهوم واحد لمصاديق نفسه، بعد ضمّ ذلك إلى عدم معهوديّة إعطاء الهيئة للمعنى الاسميّ، فلعلّه من الواضح أنّ لا هيئة الجمع ولا هيئة الجمع المحلّى باللام ولا اللام التي هي حرف أيضاً يعطي شيء منها معنىً اسميّاً.

(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 334 بحسب طبعة المشكينيّ.

250

فرض إرادة نفي المقيّد لما حكم العقل إلّا بلزوم انتفاء أفراد ذلك المقيّد، فلابدّ منأن يثبت بمقدّمات الحكمة كون المراد نفي الطبيعة المطلقة حتّى يحكم العقل بلزوم انتفاء تمام أفراد الطبيعة المطلقة.

أقول: لا ينبغي الإشكال في أنّه ليس في اللفظ شيء يدلّ على الاستيعاب وضعاً، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة لإثبات كون المراد نفي الطبيعة المطلقة، ولم يستشكل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في شيء من هذين الأمرين، لكنّه قال: إنّ العقل يحكم بعد إجراء مقدّمات الحكمة بالعموم.

ويرد عليه: أنّه إن كان مراده بالعموم هو نفس إرادة الإطلاق من تلك النكرة فهذا مستفاد من مقدّمات الحكمة في الرتبة السابقة على حكم العقل على ما هو المفروض، فما الذي يدركه العقل بعد ذلك؟ وهذا الإطلاق كما يوجد في النكرة بعد النفي أو النهي كذلك يوجد في النكرة بعد الإثبات أو الأمر.

وإن كان مراده بالعموم كون موضوع الحكم نفس الأفراد بخصوصيّتها الفرديّة فكون وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي موجباً لحكم العقل بذلك ممنوع.

وإن كان مراده بالعموم هو كون المنفيّ أو المنهيّ عنه تمام الأفراد في عرض واحد لا فرد واحد على البدل، بخلاف فرض وقوع النكرة في سياق الأمر ـ كما هو مقتضى ما ذكره من الدليل بعد فرض صحّته ـ فهذا ليس عموماً، وإنّما يثبت بذلك الفرق بين الأمر والنهي بالبدليّة والعرضيّة لا بالعموم وعدمه، فهذا خلط بين بحث العموم وعدمه وبحث البدليّة والعرضيّة.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي لا يدلّ على العموم لا وضعاً ولا عقلا.

هذا تمام الكلام فيما كان ينبغي البحث عنه في أدوات العموم. وبهذا تمّ بحثنا في العموم.

251

 

 

 

 

 

 

 

التخصيص

وفيه جهات من البحث:

 

حجّيّة العامّ بعد التخصيص في تمام الباقي وعدمها

الجهة الاُولى: في حجّيّة العامّ بعد التخصيص في تمام الباقي وعدمها، بعد فرض كون تقديم الخاصّ على العامّ مفروغاً عنه.

أمّا أصل تقديم الخاصّ على العامّ وما هي النكتة في ذلك فقد جرت سيرة الأصحاب على ذكره في مباحث التعادل والتراجيح، وهنا نشير إجمالا إلى أنّهم قد اختلفوا هناك في وجه تقديم الخاصّ على العامّ:

فمنهم: مَن ذهب إلى أنّ الخاصّ يرفع موضوع العموم بدعوى توقّف العموم على مقدّمات الحكمة وأنّ من مقدّمات الحكمة عدم ورود القيد ولو منفصلا.

ومنهم: مَن ذهب إلى أنّ الخاصّ لا يرفع موضوع العموم ـ إمّا لأنّ العموم لا يتوقّف على مقدّمات الحكمة، أو لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة هي عدم ورود القيد المتّصل لا عدم وروده مطلقاً ـ بل الخاصّ يقدّم على العامّ لنكتة اُخرى، واختلف في تلك النكتة: فمنهم: مَن جعل تلك النكتة أظهريّة الخاصّ من العامّ،

252

ومنهم: مَن جعلها كون الخاصّ قرينة للعامّ، والقرينة تقدّم على ذي القرينة وإن كانت أضعف ظهوراً منه. وتظهر الثمرة بينهما فيما لو فرض العامّ أظهر من الخاصّ، كما لو ورد: (لا يجب إكرام أيّ عالم)، وورد: (أكرم الفقهاء)، فإنّ ظهور الأوّل في العموم أقوى من الظهور الإطلاقيّ للثاني في الوجوب، بناءً على أنّ الصيغة تدلّ على الوجوب بالإطلاق، وأنّ الظهور اللفظيّ أقوى من الظهور الإطلاقيّ، فعلى الأوّل لا يقدّم الخاصّ على العامّ؛ لعدم أظهريّته، وعلى الثاني يقدّم وإن لم يكن أظهر بل كان العامّ أظهر، كما هو الحال أيضاً بناءً على أنّ الخاصّ يعدم موضوع العامّ. وتحقيق هذا المطلب يأتي ـ إن شاء الله ـ في مبحث التعادل والتراجيح.

ولنفرض هنا تقدّم الخاصّ على العامّ مفروغاً عنه كي نبحث عن أنّه هل العامّ حجّة في تمام الباقي بعد التخصيص أو لا؟

وهذا البحث يمكن طرحه بنحوين:

الأوّل: أن نفرض أنفسنا شاكّين في حجّيّة العامّ في تمام الباقي بعد التخصيص وعدمها، ونطلب بالبحث دليلا على حجّيّته رافعاً لشكِّنا. ولا يخفى أنّ هذا الشكّ إنّما يمكن أن يطرأ بناءً على غير مذهب مَن يرى أنّ التخصيص يرجع إلى التخصّص.

والثاني: أن لا نشكّ في حجّيّة العامّ في تمام الباقي بعد التخصيص ولكن نطلب بالبحث تصوير وجه فنّيّ يمكن أن يكون هو النكتة لما هو ظاهر عند العرف من حجّيّة العامّ المخصّص في الباقي.

وهذا الطرح هو الذي ينبغي بناء البحث عليه عقلائيّاً؛ لدلالة السيرة العقلائيّة على أصل حجّيّة العامّ في تمام الباقي بعد التخصيص، ولا يشكّ عاقل في أنّه لو قال المولى لعبده: (أكرم كلّ عالم)، وخرج بعض العلماء تخصيصاً من هذا العموم فترك العبد إكرام بعض آخر منهم بحجّة عدم ثبوت حجّيّة العامّ في تمام الباقي بعد

253

التخصيص، كان هذا العبد مذموماً لدى العقلاء. فلا ينبغي الشكّ في أصل حجّيّة العامّ في تمام الباقي بعد التخصيص وإن صدر القول بعدم حجّيّته من بعض السابقين من الاُصوليّين(1).

وعلى أيّة حال فلو طرح البحث على النهج الأوّل بأن بُني على غير مبنى مَن يرجع التخصيص إلى التخصّص ووقع السؤال عن الدليل على الحجّيّة فالوجه الصحيح في الاستدلال على حجّيّة العامّ في الباقي هو سيرة العقلاء.

ولو شكّ أحد في هذه السيرة لم يمكن رفع شكّه في حجّيّة العامّ في الباقي بوجه صحيح؛ إذ بعد فرض إثبات عدم انثلام دلالة العامّ على الباقي بالتخصيص لا توجد لدينا كبرى نرجع إليها في المقام؛ فإنّ كبريات حجّيّة الظهور لابدّ من أخذها من سيرة العقلاء وبنائهم.

ونحن نطرح البحث هنا على النهج الثاني الذي هو الطرح العقلائيّ ونقول:

 

نكتة حجّيّة العامّ بعد التخصيص في تمام الباقي:

ما هي النكتة الفنّيّة في حجّيّة العامّ في تمام الباقي بعد التخصيص؟ مع أنّ العامّ بعد عدم إرادة العموم منه يكون مجازاً، والمجاز المتصوّر فيه يكون متعدّداً، ولا مرجّح لأحدها على الآخر، وتعيّن أقرب المجازات إنّما يراد به الأقربيّة



(1) وأمّا فائدة البحث عن كشف نكتة الحجّيّة بعد تسليم أصل الحجّيّة فهي: أنّه لو شككنا في مورد مّا في سعة الحجّيّة وضيقها فقد نستطيع رفع الشكّ بالنكتة التي كشفناها، فمثلا لو وقع الشكّ في خروج شخص واحد إضافيّ لا أكثر ولم يكن يحسّ بالنسبة لخروج أو عدم خروج شخص واحد بذاك الفهم العرفيّ ـ لضآلة مقدار الفرق ـ أمكنت الاستفادة من تلك النكتة لو كشفت.

254

بحسب الظهورات العرفيّة لا الأقربيّة بحسب الكمّ، واختلاف الكمّ بمقدار فرد واحد مثلا لا يؤثّر في الأقربيّة من حيث الظهور.

هذا هو الإشكال في المقام.

ويمكن الجواب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ التخصيص مرجعه إلى التخصّص، فالعامّ في الحقيقة لم يخصّص، ولا إشكال في حجّيّة العامّ غير المخصّص.

ولهذه الدعوى ـ أعني: دعوى رجوع التخصيص إلى التخصّص ـ مسلكان:

المسلك الأوّل: البناء على أنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد المدلول الجدّيّ، سواءً قلنا بأنّها تحتاج عندئذ في إفادة العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول، مع القول بأنّ من تلك المقدّمات عدم ورود القيد ولو منفصلا، أو قلنا باحتياجها إلى المقدّمات مع القول بكفاية عدم القيد المتّصل في تحقّق الإطلاق، أو قلنا بأنّها لا تحتاج إلى المقدّمات؛ لإمكان استيعاب أفراد الطبيعة المهملة:

أمّا على الأوّل: فرجوع التخصيص إلى التخصّص في غاية الوضوح؛ لأنّ وجود المخصّص المنفصل يمنع عن أصل انعقاد مقدّمات الحكمة.

وأمّا على الثاني: فلأنّه وإن لم يكن المخصّص المنفصل مانعاً عن انعقاد الإطلاق ومقدّمات الحكمة لكنّه يكشف ـ لا محالة ـ عن أنّ المراد الجدّيّ لم يكن شاملا للمورد المستثنى بالتخصيص المنفصل، والمفروض أنّ الأداة تدلّ على استيعاب أفراد المراد الجدّيّ، فلا إشكال في رجوع التخصيص عندئذ إلى التخصّص(1).

 


(1) وغاية الأمر أنّه لزم كذب الإطلاق وكذب دلالة مقدّمات الحكمة، ولم تلزم

255

ومن هنا يظهر الكلام على الثالث، فإنّه وإن لم تكن أداة العموم محتاجة إلى مقدّمات الحكمة لكنّها إنّما تستوعب أفراد المراد الجدّيّ على الفرض، والمراد الجدّيّ غير شامل لمورد التخصيص، فالتخصيص رجع أيضاً إلى التخصّص.

اللّهمّ إلّا أن يقال بناءً على الثاني والثالث: إنّه من المحتمل كون المخصّص ناظراً إلى أداة العموم لا إلى إثبات أنّ المراد الجدّيّ من المدخول لم يكن هو المطلق أو المهمل.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا خلاف الظاهر؛ لأنّ ذلك يستلزم عدم مطابقة الموجود في عالم الإثبات لعالم الثبوت، في حين أنّه لو كان ناظراً إلى إثبات أنّ المراد الجدّيّ ليس هو المطلق أو المهمل فإنّما يلزم من ذلك عدم مطابقة العدم للعدم، أي: أنّ هناك قيداً في عالم الثبوت لم يأت في عالم الإثبات، والكلام في تطابق الوجود للوجود أظهر منه في تطابق العدم للعدم.

وعلى أيّ حال فهذا المسلك باطل من أساسه؛ لأنّ أداة العموم تكون لاستيعاب أفراد المراد الاستعماليّ لا الجدّيّ(1).

المسلك الثاني: البناء على أنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد المراد الاستعماليّ، لكنّها وضعت لاستيعاب خصوص الأفراد غير الخارجة بالتخصيص، فأداة العموم تغنينا عن إحدى مقدّمتي الحكمة وهي كون المتكلّم في مقام البيان؛


مجازيّة العموم كي يقال مثلا: لا ترجيح بالأقربيّة الكمّيّة للمجاز، ومن الواضح أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة أمر انحلاليّ بعدد القيود المحتملة، فلو سقط عن الحجّيّة بلحاظ قيد مّا ـ لورود مقيّد منفصل ـ لم يسقط عن الحجّيّة بلحاظ قيد آخر.

(1) على ما مضى بيانه.

256

لكونها بنفسها بياناً، ولكن لا تغنينا عن المقدّمة الاُخرى وهي عدم ورود القيد؛لأنّ ذلك مأخوذ في موضوع استفادة العموم.

وامتياز هذا المسلك عن المسلك الأوّل هو: أنّ إشكال لغويّة العموم لو احتاج إلى مقدّمات الحكمة ـ التي لو تمّت لم نحتج إلى العموم، ولو لم تتمّ لم يثبت العموم ـ لو اعترفنا بوروده على القول باحتياج العموم إلى الإطلاق فبطل بذلك مسلك الشيخ النائينيّ(رحمه الله)، لا يرد على هذا المسلك؛ لأنّ فائدة العموم ستكون هي الاستغناء عن إحدى مقدّمتي الحكمة.

وعلى أيّ حال فبناءً على هذا الوجه أيضاً لا إشكال في رجوع التخصيص إلى التخصّص.

ولكن هذا الوجه أيضاً غير صحيح، فإنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد المراد الاستعماليّ مطلقاً، لا استيعاب خصوص الأفراد غير الخارجة بالتخصيص(1).

على أنّه لو قيل باختصاص استيعاب الأداة بالفرد غير الخارج بالتخصيص ففي الحقيقة إمّا أنّه لم ينحلّ الإشكال أو توجّه إشكال آخر.

وتوضيحه: أنّه لو قيل باختصاص استيعاب الأداة بالفرد غير الخارج بالتخصيص، فإمّا أن يراد بالتخصيص مطلق التخصيص، أو يراد به خصوص التخصيص الواصل إلى الكلّ، أو التخصيص الواصل ولو إلى بعض:

فلو اُريد الأوّل: لزم أنّه مهما شكّ في ورود التخصيص لا يجوز التمسّك بالعامّ؛



(1) على ما مضى بيانه من عدم احتياج أداة العموم في شمولها إلى مقدّمات الحكمة؛ إذ لا فرق فيما مضى من إشكال بين أن تحتاج إلى كلتا مقدّمتي الحكمة أو إلى واحدة منهما.

257

لأنّ عدم ورود التخصيص مأخوذ في موضوع العموم على الفرض، فمع الشكّ في التخصيص يشكّ في الدلالة على العموم.

ولو اُريد الثاني: تكلّمنا في التخصيص الواصل إلينا غير الواصل إلى الكلّ، ونقول: ما هو الوجه في حجّيّة العامّ في الباقي بعد وصول التخصيص إلينا مع فرض عدم الوصول إلى الكلّ في حين أنّ هذا كان تخصيصاً ولم يرجع إلى التخصّص؟

ولو اُريد الثالث: لزم أنّه مهما شكّ في تخصيص مع احتمال أنّ ذاك التخصيص ـ على فرض ثبوته ـ قد وصل إلى بعض الأشخاص كزرارة وأمثاله لا يجوز التمسّك بالعامّ؛ لأنّ عدم ورود تخصيص واصل إلى البعض مأخوذ في موضوع العموم.

الوجه الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) وأوضحه السيّد الاُستاذ دامت بركاته، بيانه: أنّ للكلام ظهورين طوليّين:

الأوّل: ظهوره في أنّ مقصود المتكلّم بكلّ واحد من أجزاء الكلام تفهيم السامع لمعناه الحقيقيّ الموضوع له دون معنى آخر، وحجّيّة هذا الظهور هي المسمّاة بأصالة الحقيقة.

الثاني: ظهوره بحسب الغلبة في أنّ المتكلّم إنّما هو في مقام الجدّ وأنّ كلّ ما أراد تفهيمه للسامع كان مطابقاً لما هو الثابت في عالم نفسه من الحكم أو الحكاية مثلا، ولم يكن بداع آخر كالاستهزاء وغيره. وحجّيّة هذا الظهور هي المسمّاة بأصالة تطابق عالم الثبوت والإثبات.

وكلّ واحد من هذين الظهورين ما لم يحصل العلم بخلافه يكون حجّة عند العقلاء. وبورود التخصيص لا يحصل العلم بخلاف الظهور الأوّل، بل يحتمل مع

258

ذلك أنّ مراد المتكلّم كان هو تفهيم نفس المعاني الوضعيّة لما قاله من الألفاظ فنتمسّك بأصالة الحقيقة. نعم، حصل العلم بأنّ بعض ما فهمه السامع من المعنى الوضعيّ لم يكن مراداً جدّيّاً، فمثلا حينما قال: (أكرم كلّ عالم)، وقال بعد ذلك: (لا تكرم الفسّاق من العلماء) علمنا من ذلك أنّ خصوص العالم الفاسق لم يكن مراداً في عالم الجدّ، وأمّا بالنسبة للباقي فلا نعلم بالخلاف فنتمسّك ـ بالنسبة للباقي ـ بأصالة التطابق.

والخلاصة: أنّ الظهور الثاني إنّما يسقط عن الحجّيّة بخصوص المقدار منه الذي ثبت خلافه بالدليل الأقوى وهو الخاصّ، وأمّا الباقي فلا وجه لسقوطه عن الحجّيّة. وقد عرفت أنّه ليس في البين مجازيّة، وأساس الإشكال كان هو المجازيّة. هذا هو الجواب الذي ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ والسيّد الاُستاذ وغيرهما(1).

أقول: إن أرادوا بذلك إثبات المقصود على الطرح الأوّل من البحث ورفع الشكّ في الحجّيّة بهذا التقريب ـ كما هو الظاهر من عباراتهم بل المنصوص في عبارات بعضهم، وهو الذي يقتضيه ذكرهم لذلك في قبال مَن قال بعدم الحجّيّة لا فيما بين أنفسهم القائلين بالحجّيّة ـ ورد عليهم:

أوّلا: أنّ ما ذكروه من التبعيض في حجّيّة ظهور الكلام في المراد الجدّيّ أمر لابدّ أن يثبت بسيرة العقلاء، ولا تظهر سيرة العقلاء إلّا من عملهم، ولا يتّفق هذا



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 336 بحسب طبعة المشكينيّ، وراجع أجود التقريرات، ج 1 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، تحت الخطّ، ص 446 ـ 448، وص 452. وراجع المحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 168 ـ 172.

259

التبعيض إلّا في باب تخصيص العامّ وما اُلحق به، فإن اُريد إثبات ذلك بسيرة العقلاء المنكشفة من عملهم في هذا الباب فمعناه هو إحراز عمل العقلاء بالعامّ بعد التخصيص في الباقي، ومع فرض إحراز ذلك قد ثبت المطلوب بلا حاجة إلى هذا الإتعاب(1).

وثانياً: أنّ أصالة الحقيقة إنّما ثبتت بسيرة العقلاء فيما لو كان إثبات إرادة الحقيقة بحسب عالم المدلول الاستعماليّ مقدّمة لإثبات كون ذلك مراداً جدّيّاً، وأمّا فيما نحن فيه فالمفروض هو العلم بعدم كونه مراداً جدّيّاً، ومع هذا الفرض لم تثبت أصالة الحقيقة من سيرة العقلاء؛ لأنّ كشفها من سيرتهم يتوقّف على ثبوت ثمرة لذلك حتّى تستكشف من عملهم بتلك الثمرة، ولا ثمرة لذلك إلّا مسألة حجّيّة العامّ المخصّص للباقي التي هي لازم أعمّ؛ لإمكان كون نكتتها غير هذا الوجه، فلعلّ أصالة الحقيقة غير جارية في المقام عندهم، ويبقى احتمال كون التخصيص موجباً لمجاز العموم مُثَبّتاً ومع ذلك يتمسّكون بالعامّ في الباقي لنكتة اُخرى كما سيأتي إن شاء الله.

وإن أرادوا بذلك ذكر نكتة لحجّيّة العامّ في تمام الباقي وتصوير وجه فنّيّ لما



(1) كأنّ المقصود: أنّ هناك فرقاً بين أصالة الجدّ ومقدّمات الحكمة، وهو: أنّ مقدّمات الحكمة لا تختصّ بباب العموم ونحوه بل لها عرضها العريض في موارد الإطلاق، فبالإمكان أن يقال: إنّنا جرّبنا العقلاء في باب الإطلاق فرأيناهم يفكّكون بين القيود المختلفة، فمقدّمات الحكمة تنفي كلّ قيد من القيود على حدة ولو فرض ثبوت قيد آخر بمقيّد منفصل. وأمّا أصالة الجدّ فلا مورد لها إلّا نفس موارد أصالة العموم أو أصالة الحقيقة، أي: أنّ موارد فرض التبعيض في أصالة الجدّ هي نفس موارد تعدّد المجازات واختلافها في القرب والبعد من الحقيقة لا غير، إذن فعطف النظر إلى ذلك لا يصنع لنا شيئاً.

260

هو مسلّم عندهم وعند العرف من الحجّيّة فما أوردناه من الإشكالين لا يرد عليهم، ولكن يبقى عليهم:

أوّلا: أنّ الوجه الآتي الذي هو للشيخ الأعظم(قدس سره) أيضاً وجه يصلح للقيام بهذه الوظيفة، أعني: تصوير وجه فنّيّ لما هو مسلّم عند العرف من الحجّيّة، فلماذا أشكلوا عليه؟

وثانياً: أنّ هذا لا يتمّ في العامّ المجموعيّ، وتوضيح الأمر: أنّهم قد فرضوا أنّ التخصيص يخدش أصالة الجدّ ولا يخدش العموم أو استعماله في معناه الحقيقيّ والموضوع له، معتقدين بأنّه لو كان يخدش في العموم واستعماله في معناه الحقيقيّ لم يكن هناك وجه فنّيّ للحجّيّة في تمام الباقي؛ لأنّ العموم معنىً وحدانيّ قد انخدش ولا نكتة للتبعيض فيه، أو قل: إنّ أصالة الحقيقيّة قد انخرمت ولا نكتة لتعيين أقرب المجازات كمّيّةً، أمّا أصالة الجدّ فإذا انخدشت كان الوجه الفنّيّ لحجّيّة العموم في تمام الباقي هو افتراض أنّها أصل انحلاليّ انخدشت في جزء وبقيت في الباقي.

وأنت ترى أنّ هذا الكلام لو تمّ في العامّ الاستغراقيّ لا يتمّ في العامّ المجموعيّ؛ لأنّه في العامّ المجموعيّ يكون كلّ واحد من الأفراد مدلولاً ضمنيّاً مقيّداً بالباقي، أي: أنّ الموضوع ليس هو مطلق وجود هذا الفرد وذاك الفرد بل وجوده المنضمّ إلى باقي الأجزاء، وبعد التخصيص يتبدّل الموضوع ولم نعرف نكتة للحمل على تمام الباقي، وانقلب الأمر إلى المغايرة بين الموضوع في مرحلة المدلول الاستعماليّ والموضوع في مرحلة المراد الجدّيّ، فكيف تبعّضت حجّيّة الظهور في الإرادة الجدّيّة؟

الوجه الثالث: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره) على ما في تقريرات بحثه،

261

وهو: أنّ العامّ له دلالة ضمنيّة بالنسبة إلى كلّ فرد من الأفراد، كما أنّه له دلالة مطابقيّة بالنسبة إلى الجميع، وقد علمت المجازيّة وظهر خلاف الدلالة المطابقيّة والدلالة التضمّنيّة بالنسبة لبعض الأفراد، لكن بقيت الدلالة التضمّنيّة بالنسبة للباقي.

وقد أورد عليه في الكفاية: بأنّ الدلالة التضمّنيّة كانت في ضمن الدلالة المطابقيّة المفروض انتفاؤها(1).

أقول: إن كان المراد تصوير وجه فنّيّ لما هو مسلّم عند العرف من حجّيّة العامّ في الباقي فلا بأس بهذا الوجه، وهذا في الحقيقة تصوير للتبعيض في حجّيّة الظهور الأوّل، أعني: الظهور في كون المدلول الاستعماليّ المعنى الحقيقيّ، كما أنّ الوجه الذي ذهب إليه صاحب الكفاية كان عبارة عن التبعيض في حجّيّة الظهور الثاني، أعني: الظهور في التطابق بين المدلول الاستعماليّ والمراد الجدّيّ.

والخلاصة: إنّا نرى أنّ العقلاء يحكمون بحجّيّة العامّ في الباقي، فلا محالة نعلم أنّ النكتة هي صحّة التبعيض عندهم في مورد من الموارد، لكنّه هل هو التبعيض في حجّيّة الظهور الأوّل، أو التبعيض في حجّيّة الظهور الثاني، أو التبعيض في غير ذلك، فغير معلوم.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ هذا البحث ساقط رأساً؛ إذ لو كان المراد الاستدلال على الحجّيّة فليس الدليل عليه إلّا سيرة العقلاء، ولو كان المراد بيان نكتة فنّيّة لما عليه سيرة العقلاء فالتبعيض يتصوّر بوجوه عديدة(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 338 بحسب الطبعة المعروفة بطبعة المشكينيّ.

(2) ولعلّ منها افتراض ظهورات طوليّة بعدد المجازات، الأقرب فالأقرب.

262

 

تنبيهان:

وأخيراً ينبغي التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ ما ذكرناه إلى الآن إنّما كان في المخصّص المنفصل، وأمّا المخصّص المتّصل فلا يوجب التبعيض في شيء أصلاً؛ لوضوح أنّ التخصيص بالمتّصل يرجع إلى التخصّص سواء كان بطريق تضييق المدخول بالتوصيف ونحوه كقوله: (أكرم كلّ عالم عادل)، أو كان بغير ذلك كما لو أتى بجملة على حدة كقوله: (أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفسّاق منهم)، أو أتى بأداة الاستثناء كقوله: (أكرم كلّ عالم إلّا الفسّاق):

أمّا القسم الأوّل: فرجوع التخصيص فيه إلى التخصّص واضح؛ إذ العموم عبارة عن استيعاب المدخول، والمفروض تضييق دائرة المدخول.

وأمّا القسم الثاني ـ بكلا شكليه ـ : فيمكن أن يدّعى فيه عدم رجوع التخصيص إلى التخصّص؛ لأنّ المدخول لم يضيّق فاستوعب العموم جميع أفراده ثُمّ خرج بعض بالتخصيص.

لكنّ التحقيق أنّ هناك احتمالين:

الأوّل: أنّ أداة العموم وضعت لاستيعاب ما يستفاد من المدلول الاستعماليّ من مجموع الكلام الذي بعده، أو قل: إنّ أداة العموم وضعت لاستيعاب أفراد المدخول غير الخارجة بالتخصيص المتّصل، فكلمة (كلّ) في قولنا مثلاً: (أكرم كلّ عالم إلّا زيداً) لا تستوعب بحسب المدلول الاستعماليّ إلّا غير زيد من العلماء، وذلك بأن يقال: إنّه لا يشترط في صحّة الاستثناء الشمول الفعليّ حتّى يكون الاستثناء في الرتبة المتأخّرة عن دخول (كلّ)، بل تكفي للاستثناء القابليّة للانطباق على

263

الأفراد، ولذا يصحّ الاستثناء من المطلق كقولك: (أكرم العالم إلّا زيداً)، مع أنّ المطلق لا يرى به إلّا الطبيعة وليس شاملاً للأفراد.

والثاني: أنّ أداة العموم وضعت لاستيعاب أفراد المدلول الاستعماليّ من المدخول، لكنّ الحكم المذكور في الكلام لا يشمل ابتداءً سوى الأفراد غير الخارجة بالتخصيص المتّصل، فنقول مثلاً: إنّ الهيئة في قولنا: (أكرم كلّ عالم إلّا الفسّاق) إنّما وضعت لإفادة النسبة الإضافيّة بين الإكرام وكلّ فرد من الأفراد المتحصّل من مجموعة ما بعد الصيغة.

والبرهان على تعيّن أحد هذين الاحتمالين: أنّه لولاهما للزم الإحساس بمؤونة المجاز أو مؤونة عدم كون تمام المراد الاستعماليّ مراداً جدّاً، في حين أنّنا لا نحسّ في مثل هذه الأمثلة بمؤونة من هذا القبيل.

مضافاً إلى ما يرد على الأخير ـ أعني: فرضيّة التبعيض في المراد الجدّيّ في استثناءات من هذا القبيل ـ: من النقض بموارد الهزل التي تصحّ فيها هكذا استثناءات مع أنّه لم يكن فيها مراد جدّيّ أصلاً، حتّى يخرّج الاستثناء بالتبعيض في المراد الجدّيّ.

الأمر الثاني: أنّ مقصودنا ممّا مضى من كلمة: (ما اُلحق بالعامّ) هو ما وضع لمفهوم مركّب ذي أجزاء، كأسماء الأعداد وكسائر المركّبات كالكاتب والدار وغيرهما.

ونقول هنا: لو ورد في باب المركّبات ما يشبه العامّ والخاصّ المتقابلين، كما لو قال: (أكرم هؤلاء العشرة)، وورد: (لا تكرم زيداً) وكان زيد أحد العشرة فهل يخصّص الأوّل بالثاني ويكون الأوّل حجّة في الباقي، بناءً على أنّ العامّ يخصّص بالخاصّ ويكون حجّة في الباقي أو يتعارضان؟ مقتضى الفهم العرفيّ هو

264

التعارض؛ لاستهجان مثل هذا التخصيص عرفاً.

ولكن مقتضى الاستدلال على حجّيّة العامّ في الباقي بمسألة التبعيض في الظهور الثاني القول هنا بالتخصيص والحجّيّة في الباقي، فإنّ عين ذاك التقريب يأتي هنا.

وأمّا الاستدلال بالتبعيض في الظهور الأوّل أو برجوع التخصيص إلى التخصّص فلا يأتيان هنا، كما أنّه بناءً على ما هو المختار في الدليل على حجّيّة العامّ في الباقي ـ وهو سيرة العقلاء ـ يكون فرق واضح بين المقامين يظهر من ملاحظة السيرة ومراجعة الوجدان.

 

265

 

هل العامّ حجّة فيما لم يُعلم دخوله في المخصّص المجمل؟

الجهة الثانية: في أنّه لو خصّص العامّ بمخصّص مجمل فهل يكون العامّ حجّة فيما لم يعلم دخوله في المخصّص أو لا؟

والكلام يقع في مقامين؛ لأنّ المخصّص إمّا مجمل مفهوماً أو مصداقاً:

 

الكلام في حجّيّة العامّ المخصَّص بالمجمل مفهوماً

المقام الأوّل: في العامّ المخصّص بالمجمل مفهوماً، وذلك على أربعة أقسام: لأنّ المخصّص إمّا أن يكون متّصلاً أو منفصلاً، وعلى كلا التقديرين إمّا أنيكون مفهومه مردّداً بين الأقلّ والأكثر أو بين المتباينين، فيقع الكلام فيمسائل أربع:

المسألة الاُولى: في المخصّص المتّصل المردّد مفهوماً بين الأقلّ والأكثر، فهل يجوز التمسّك فيه بالعامّ فيما شكّ في دخوله في الخاصّ وعدمه أو لا؟

والتحقيق: عدم جواز التمسّك بالعامّ سواء قيل بأنّ أصالة العموم أو أصالة الحقيقة أصل برأسه في مقابل حجّيّة الظهور، أو قيل بأنّ حجّيّتهما ليست إلّا من باب حجّيّة الظهور.

أمّا على الثاني: فالأمر واضح؛ لأنّ الإجمال قد سرى من المخصّص المتّصل إلى العامّ ولم يبق ظهور تصديقيّ للكلام في مورد الشكّ.

وأمّا على الأوّل: فالمحقّق العراقيّ(رحمه الله) بنى على جواز التمسّك بالعامّ لو قيل بهذا المبنى؛ إذ المفروض عدم العلم بخروج الأكثر، ففي المشكوك نتمسّك بأصالة العموم والحقيقة وإن كان الظهور منتفياً؛ وذلك لأنّ المفروض أنّه أصل برأسه في

266

قبال حجّيّة الظهور(1).

ويرد عليه: أنّ أداة العموم إنّما تدلّ على استيعاب المدخول، والمخصّص المتّصل يضيّق المدخول، فأصل كون العموم والحقيقة بعد ثبوته شاملاً لما شكّ في دخوله في المخصّص غير معلوم، فكيف يتمسّك بأصالة العموم والحقيقة؟

وبكلمة اُخرى: إنّ أصالة العموم إنّما يتمسّك بها على فرض أنّه لو ثبت العموم والحقيقة لكان شاملاً للمشكوك وقد وقع شكّنا في إرادة العموم، أمّا فيما نحن فيه فحتّى مع فرض القطع بالعموم نشكّ في شموله للمشكوك.

هذا فيما لو كان التخصيص بالتوصيف ونحوه. أمّا لو كان بالاستثناء مثلاً، كـ (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم) فقد مضى في آخر الجهة الاُولى في التنبيه الأوّل من التنبيهين اللذين ختمنا بهما بحث الجهة الاُولى أنّ هناك احتمالين:

أحدهما: كون أداة العموم دالّةً على استيعاب أفراد المراد الاستعماليّ المستفاد من مجموع ما بعدها. وعلى هذا فمن الواضح أيضاً أنّ الشكّ في أصل العموم.

وثانيهما: أنّ أداة العموم وإن وضعت لأفراد المراد الاستعماليّ من نفس المدخول، لكنّ الحكم لا يثبت ابتداءً إلّا لأفراد المراد الاستعماليّ من مجموع متعلّقه ومتعلّقات متعلّقه كالاستثناء ونحوه، فالاستثناء مثلاً ليس موجباً للمجاز ولا لعدم كون المراد الجدّيّ مطابقاً للمراد الاستعماليّ حتّى يرجع إلى أصالة الحقيقة أو أصالة الجدّ، بل هو اقتطاع من الموضوع بلحاظ الحكم ومانع عن عروض النسبة الإضافيّة على ما استثني.



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 31، ص 438 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، قال(رحمه الله): لو بنينا على مرجعيّة أصالة العموم والحقيقة تعبّداً بلا انتهائهما إلى الظهور أصلاً كان للتمسّك بالعموم بالنسبة إلى الزائد المشكوك وجهٌ.

267

المسألة الثانية: في المخصّص المتّصل المردّد مفهوماً بين المتباينين، كما لو قال: (أكرم العلماء إلّا زيداً) وكان فردان من العلماء مسمّيين بزيد، ولم نعرف مَن هو المقصود منهما بالاستثناء.

ولا إشكال في أنّه لا يمكن التمسّك بالعامّ في إثبات الحكم لهذا الفرد بالخصوص ولا لذاك الفرد بالخصوص، لا بالتمسّك بالظهور ولا بأصالة العموم والحقيقة لو فرض أصلاً برأسه.

أمّا الأوّل: فلعين ما مرّ بالنسبة للمسألة الاُولى من مضرّيّة احتمال قرينيّة المتّصل.

وأمّا الثاني: فلعين ما مرّ أيضاً في المسألة الاُولى من الشكّ في أصل كون العموم ـ بعد فرض القطع بثبوته ـ مقتضياً لثبوت الحكم لهذا الفرد.

هذا مضافاً إلى أنّ البرهان الذي سنبيّنه ـ إن شاء الله ـ في المسألة الثالثة لعدم صحّة التمسّك بالعامّ يأتي في هذه المسألة أيضاً.

يبقى في المقام شيء، وهو: أنّه هل يمكن أن يثبت بالعامّ أنّ غير ذاك الفرد الواحد داخل في العموم حتّى يتشكّل علم إجماليّ بدخول أحد الفردين في العموم أو لا؟ ونوكل تحقيق ذلك إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في المسألة الثالثة.

المسألة الثالثة: فيما لوكان المخصّص منفصلاً مردّداً بين المتباينين.

ولا إشكال في هذا الفرض أيضاً في عدم صحّة التمسّك لإثبات شمول هذا الفرد بالخصوص أو ذاك بالخصوص، لا بحجّيّة الظهور ولا بأصالة العموم أو الحقيقة بناءً على كونهما أصلاً مستقلاًّ عن حجّيّة الظهور.

وذلك لأنّه لو اُريد بذلك إثبات وجوب إكرام كليهما، بأن يتمسّك في خصوص كلّ واحد من الفردين بالظهور أو العموم والحقيقة فهذا محال؛ لفرض العلم بعدم

268

وجوب إكرام كليهما. وإن اُريد إثبات وجوب إكرام خصوص واحد منهما دون الآخر كان ترجيحاً بلا مرجّح.

نعم، بقي في البين أنّه هل يمكن أن يثبت بالعامّ أنّ غير الفرد المعلوم إجمالاً عدم وجوب إكرامه يجب إكرامه، فيتشكّل علم اجماليّ بوجوب إكرام أحد الزيدين، أو لا؟ وهذا البحث يأتي في المسألة السابقة أيضاً.

وقد ذهب المحقّق العراقيّ(قدس سره) في المقام بالنسبة إلى كلّ من المسألتين إلى تفصيل بيانه:

أنّ الحكم الثابت في العامّ تارةً يكون طلبيّاً، واُخرى لا يكون طلبيّاً:

فإن كان طلبيّاً صحّ التمسّك بالعامّ لإثبات وجوب إكرام الفرد الآخر غير المعلوم إجمالاً خروجه، أو استحبابه مثلاً إن كان الحكم استحبابيّاً، وأثره هو أنّ العبد يمتثل ذلك الطلب لزوماً أو رجحاناً بإكرام كلا طرفي العلم الإجماليّ.

وإن كان غير طلبيّ كما لو قال المولى: (لا يجب إكرام عالم إلّا زيداً)، وكان هناك عالمان مسمّيان بزيد، فلا يصحّ التمسّك بالعامّ لإثبات عدم وجوب إكرام الفرد الآخر غير الفرد المعلوم بالإجمال خروجه تخصيصاً؛ وذلك لعدم ترتّب أثر عليه، فإنّ إثبات إباحة شيء مردّد لا يكون مثمراً لثمرة وليس كإثبات إباحة شيء معيّن المثمر لتوسعة للعبد في مقام العمل من ناحيته، فلا يصحّ القول بحجّيّة العامّ؛ لعدم الأثر(1).

أقول: إنّ في موارد الأحكام غير الطلبيّة أيضاً ربما يتّفق ترتّب الثمرة على التمسّك بالعامّ، وذلك كما في قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» بناءً على



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 31، ص 439 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

269

أنّ الغاية تشمل العلم الإجماليّ، فإذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد ثوبين كانت نتيجة التمسّك بالعامّ لإثبات عدم نجاسة الثوب الآخر جواز الاكتفاء بالصلاة مرّتين، مرّة في هذا الثوب ومرّة اُخرى في الثوب الآخر(1).

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن يقال: إنّه لو لم يترتّب أثر على حجّيّة العامّ في إثبات الحكم للفرد الآخر فلا معنى للحجّيّة، ولو ترتّب عليها الأثر فهنا تفصيل حاصله أنّه:

لو فرض القطع بعدم خروج الفرد الآخر عن الحكم بمخصّص آخر فلا كلام لنا في المسألة ولا معنى للتمسّك بأصالة العموم؛ لأنّ الحكم مقطوع به.

ولو فرض عدم القطع بذلك، كما لو احتملنا صدور مخصّص آخر لم يصلنا فعندئذ لو عرفنا أنّ المعلوم خروجه بالإجمال له تعيّن في متن الواقع بنحو من أنحاء التعيّن، كما لو ورد التخصيص في رواية ونحن نعلم أنّ ما ينطبق عليه علمنا الإجماليّ هو زيد المذكور في هذه الرواية وهو معيّن عند الله، فهنا سيكون زيد الآخر ـ غير المنطبق عليه علمنا الإجماليّ ـ أيضاً معيّناً في متن الواقع، ولا مانع من إثبات الحكم لذلك الفرد المعيّن في متن الواقع بالعامّ وإن لم يكن معيّناً عندنا.

وأمّا لو احتمل عدم تعيّن المعلوم بالإجمال في الواقع، كما لو ثبت التخصيص



(1) وأيضاً لو قال: (لا يجب إكرام أيّ عالم إلّا زيداً) وترك إكرامهما معاً، وكان في الواقع إكرام كلّ منهما واجباً فهل يستحقّ عقابين أو لا؟ فهنا لا إشكال في أنّ عموم العامّ للفرد الآخر ينفي عنه استحقاق العقاب.

ولا يقال: لا حاجة إلى ذلك؛ لكفاية البراءة، فإنّه يقال: إنّ هذا وارد حتّى في موارد إثبات إباحة شيء معيّن، والواقع أنّ تعدّد المؤمّن لا يعني اللغويّة المسقطة للحجّيّة، وإنّما الأمن عندئذ يستند إلى مجموعهما أو إلى الحاكم منهما على الآخر لو كان.

270

بقيام الإجماع على أنّه لا يجب إكرام كلا هذين المسمّيين بزيد، أو قامت قرينة اُخرى على ذلك سواء كانت تعدّ متّصلة أو منفصلة، فاحتمل أن لا يكون علمنا الإجماليّ منطبقاً على أحد الشخصين بالخصوص حتّى في متن الواقع وفي علم الله، بأن يكون كلاهما في الحقيقة خارجين عن الحكم، وكان انطباق علمنا الإجماليّ على أحدهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجّح، وعلى كليهما غير ممكن، فعندئذ نقول: كما لا يكون تعيّن للفرد المعلوم بالإجمال حتّى في متن الواقع، فلا محالة لا يكون تعيّن للفرد الآخر غير المعلوم بالإجمال في متن الواقع حتّى يثبت له الحكم بالتمسّك بالعامّ، وإثبات الحكم لفرد ليس له تعيّن في متن الواقع غير معقول(1).

فتحقّق ممّا ذكرناه: أنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره): من إثبات الحكم بالعامّ للفرد الآخر غير معقول في فرض احتمال عدم تعيّن للمعلوم بالإجمال خروجه ولذلك الفرد الآخر في الواقع.

نعم، يمكن إثبات العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحد الشخصين مع احتمال عدم تعيّن ما علم خروجه من قوله: (أكرم كلّ عالم) ولا الفرد الآخر في متن الواقع بتقريب آخر، وهو: أن يقال: إنّ كلّ واحد من الفردين يلحظ بحالين؛ إذ تارةً يلحظ على تقدير خروج الفرد الآخر عن تحت العامّ، واُخرى يلحظ على تقدير عدم خروج الفرد الآخر عن تحت العامّ، ويتمسّك بالعامّ لإثبات دخول كلّ واحد



(1) قد يقال: هذا تدقيق عقليّ لا يعتني به العرف، فتثبت في نظر العرف نتيجة شمول العامّ لأحدهما، أي: يتعامل معه معاملة العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحدهما، وليس هذا محالاً.