340

أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثله

وأمّا البحث عن إمكان أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثله، كما لو قال: «إن قطعت بحرمة شرب الخمر، حرم ذلك عليك بحرمة اُخرى»، فمرجعه إلى ما مضى من بحث إمكان حرمة التجرّي بعنوان يشمل المتجرّي والعاصي معاً؛ فإنّ ذاك العنوان عبارة عن عنوان العلم بالحرمة مثلاً، فيتّحد مع بحثنا هنا، إلّا أنّ البحث هنا أعمّ منه من حيث شموله لفرض كون متعلّق القطع حكماً غير إلزامىّ بخلافه هناك، والعجب من السيّد الاُستاذ حيث اختار في البحث السابق عدم الإمكان، واختار هنا الإمكان، مع أنّه لا فرق بينهما إلّا بحسب العنوان، ولعلّ السهو من المقرّر.

وما قيل أو يمكن أن يقال في وجه الاستحالة وجوه أربعة:

الأوّل: ما ذكره السيّد الاُستاذ في ذاك البحث: من أنّ القطع بالحرمة لو كان رادعاً للعبد، كفى عن التحريم الجديد، ولو لم يردعه، فلا أثر للتحريم الجديد؛ فإنّه كالتحريم الأوّل المقطوع به.

وقد مضى فيما سبق الإيراد عليه: بأنّ التحريم الثاني له قابليّة للردع حتّى بشأن من لم يرتدع بالتحريم الأوّل؛ إذ ربّ من لا يرتدع بتحريم واحد وعقاب واحد لكن يرتدع بتحريمين وعقابين، وربّ من يستعدّ لمعصية ولا يستعدّ لمعصية أكثر أو أقوى.

الثاني: ما ذكره المحقّق النائينىّ(رحمه الله) هنا وفي بحث التجرّي: من أنّ النسبة بين الحرام الأوّلىّ ومقطوع الحرمة كانت عموماً من وجه، ولكن في نظر القاطع الذي لا يحتمل خطأ قطعه النسبة هي العموم المطلق، ولا يمكن ثبوت حكمين متماثلين على موضوعين بينهما عموم مطلق، وإن أمكن ذلك في العامّين من وجه؛ ذلك لأنّ أثر التعدّد يظهر في العامّين من وجه في مادّتي الافتراق، وإن كان يرجع الأمر في مادّة الاجتماع إلى التأكّد. أمّا إذا كانت النسبة عموماً مطلقاً، فالتأكّد في تمام موارد الخاصّ خلف فرض تعدّد الحكم، والحفاظ على تعدّده يعني اجتماع المثلين، وهو مستحيل، إذن فحينما يعتقد القاطع كون النسبة عموماً مطلقاً لا يستطيع أن يصدّق بالحكم الخاصّ، وبالتالي لا يكون

341

الحكم الخاصّ قابلاً للوصول، فيلغو(1).

وقد مضى في بحث التجرّي ذكر هذا الوجه مع جوابه، وهو منع كون النسبة بينهما عموماً مطلقاً حتّى في نظر القاطع؛ إذ القاطع ـ أيضاً ـ يرى خطأ قطع الآخرين، ويعلم أنّ مادّة الافتراق ثابتة من كلا الجانبين، إلّا أنّه يتخيّل أنّ ما قطع هو به الآن من مادّة الاجتماع.

الثالث: ما لم يذكروه دليلاً على الاستحالة، ولكنّه يتمّ دليلاً عليها بناءً على مبناهم في باب التأكّد: من أنّ اجتماع حكمين متماثلين غير معقول، فيسقط كلا الجعلين في مادّة الاجتماع، ويثبت جعل ثالث متأكّد.

وهو أنّه لو فرض أنّ القطع بثبوت الحكم لولا القطع موضوع لثبوت الحكم عند القطع بذاك الحكم اللولائىّ، فهذا خارج عمّا نحن فيه؛ إذ هما حكمان على موضوعين متباينين. ولو فرض أنّ القطع بثبوت حكم فعلىّ موضوع لثبوت حكم فعلىّ، فهذا هو محلّ الكلام، ونقول: إنّه تارة يفترض أنّ القطع بالحكم الأوّل ليس تمام الموضوع للحكم الثاني، بل نفس الحكم الأوّل ـ أيضاً ـ دخيل في الحكم الثاني وجزء لموضوعه، واُخرى يفترض عدم دخل الحكم الأوّل في الحكم الثاني:

أمّا الفرض الأوّل فمحال؛ إذ لا يعقل فيه التعدّد؛ للزوم اجتماع المثلين، ولا الوحدة والتأكّد؛ لأنّ الحكمين مختلفان رتبة؛ لأنّ أحدهما مأخوذ في موضوع الآخر، ويتوقّف عليه الآخر.

وأمّا الفرض الثاني فإمّا أن نفرض فيه أنّ متعلّق القطع هو الحكم المتأكّد، أو أنّه هو الحكم البسيط، فعلى الثاني لزم اجتماع المثلين في نظر القاطع، وعلى الأوّل لزم الخلف؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم الثاني مترتّب على القطع، فلا يعقل كونه متعلّقاً لذاك القطع، على


(1) لايخفى أنّ التفصيل بين فرض العموم من وجه، وفرض العموم المطلق في المقام ليس إلّا مجرّد بحث لفظىّ غير مشتمل على محتوىً معقول؛ وذلك لأنّ واقع الأمر هو: أنّه بناءً على استحالة اجتماع المثلين حتّى في الاعتباريّات لا يمكن أن يكون العلم بحكم موضوعاً لمثله بالمعنى الحقيقىّ للكلمة، سواء في موارد العامّ والخاصّ المطلقين أو العموم من وجه، ففي مورد الاجتماع قد تساقط الحكمان في كلا الفرضين، وتولّد حكم ثالث مؤكّد في كلا الفرضين. نعم، يمكن أن يعبّر بتعبير: (إنّ العلم بالحكم أصبح موضوعاً لمثله) بشيء من المسامحة، باعتبار أنّ الحكمين كأنّهما اندكّا في مورد الاجتماع، وحقّقا التأكيد، وذلك في كلا الفرضين. إذن فالتفصيل بين الفرضين تفصيل بلا محتوى. وقد ذكرت هذا بمحضر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فصدّقه.

342

ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بيان استحالة كون القطع شرطاً لمتعلّقه.

وهذا الوجه الذي ذكرناه هنا يكون من سنخ ما ذكر في بحث المقدّمة الداخليّة بناءً على تصويرها؛ إذ يقال فيها باتّصافها بالوجوب الغيرىّ كالمقدّمة الخارجيّة.

ويورد على ذلك: أنّ الأجزاء بنفسها متّصفة بالوجوب النفسىّ، فيلزم اجتماع المثلين.

ويجاب عن ذلك بالالتزام بالتأكّد.

ويورد على ذلك استحالة التأكّد؛ لأنّ الحكم الغيرىّ موقوف على ثبوت الحكم النفسىّ؛ إذ لولا الوجوب النفسىّ، لما اتّصفت المقدّمة بالوجوب، فهما حكمان طوليّان، وليسا في رتبة واحدة كي يعقل التأكّد.

وتصوّر السيّد الاُستاذ: أنّ المقصود من هذا الإشكال إثبات أنّ الحكمين ثابتان ومتحقّقان بحالهما من التعدّد، ولا تأكّد في البين، فأورد عليه: أنّ محذور اجتماع المثلين ناشئ من ضيق فم الزمان الثابت هنا، لا من وحدة الرتبة حتّى يدفع بتعدّدها.

وهذا اشتباه منه؛ فإنّ المقصود من الإشكال ليس ما تصوّره، وإنّما المقصود عدم معقوليّة الحكمين لا بنحو التأكّد؛ لتعدّد الرتبة، ولا بنحو التعدّد؛ لضيق فم الزمان.

والجواب عن هذا الوجه هو النقاش في المبنى، فمختارنا في باب التأكّد: أنّ التأكّد إنّما يتحقّق في ملاك الحكم، فيحصل حبّ شديد مثلاً، ولا يعقل التأكّد في الاعتباريّات، ولا مانع من اجتماع المثلين في الاعتباريّات أصلاً، فنفس الحكمين أعني: الجعلين والاعتبارين يبقيان على حالهما من التعدّد.

وهذا الجواب يرد على ما مضى من الوجه الثاني أيضاً (1).


(1) وبالإمكان استيعاب كلّ الشقوق المحتملة في المقام بأن يقال: إذا افترضنا الحكمين من سنخ الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة، فبناءً على الإيمان بمرحلة وسط بين مرحلة الحبّ والبغض ومرحلة الإبراز، وهي: مرحلة الجعل والاعتبار يأتي كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من عدم الاستحالة في اجتماع المتماثلين في الاعتباريّات. وبناءً على عدم الإيمان بذلك ينبغي أن يقصد بكون العلم بالحكم موضوعاً لما يماثله: كون العلم بمرتبة من الحبّ ـ مثلاً ـ موضوعاً لمرتبة إضافيّة، ومن الواضح إمكان ذلك، أمّا لو قصد: كون العلم بالحبّ موضوعاً لحبّ آخر من دون حصول التأكّد، فمن الواضح استحالته.

أمّا لو كان الحكمان عبارة عن الإباحة، فبناءً على الإيمان بمرتبة الجعل والاعتبار في الإباحة، فمن الواضح معقوليّة تعدّده في العامّين من وجه، وكذا العموم المطلق لو كان جعل الحكم الخاصّ قبل جعل العامّ. وبناءً على عدم الإيمان بذلك لا يتصوّر تعدّد أو تأكّد في المقام.

343

وأمّا بالنسبة إلى المقدّمة الداخليّة، فبناءً على ما ذكر من الطوليّة بين الوجوب الغيرىّ والنفسىّ يستحيل التأكّد؛ لأنّ هذه الطوليّة بناءً على تسليمها ثابتة في ذلك حتّى بالنسبة إلى الحبّ، فلا يعقل التأكّد في ملاك الحكم، لكنّا أنكرنا في محلّه الطوليّة بين الوجوب الغيرىّ والنفسىّ، فلا يستحيل التأكّد من هذه الجهة.

نعم، هنا وجه آخر لاستحالته: وهو أنّه لايكون هناك ملاكان للحكم حتّى يلتزم بالتأكّد، وإنّما هناك ملاك واحد. وإشكال اجتماع المثلين لا يكون صحيحاً، لا بلحاظ ذات الوجوب النفسىّ والغيرىّ، ولا بلحاظ الملاك:

أمّا الأوّل: فلما ذكرناه: من أنّ الحقّ عدم استحالة اجتماع المثلين في الاعتباريّات.

وأمّا الثاني: فلما ذكرناه: من عدم تعدّد الملاك، وأنّه على فرض تعدّده لا مانع من التأكّد لمنع الطوليّة.

الرابع: ما لم يذكره القوم أيضاً، لكنّه يتمّ على ما عرفت من مبناهم في مسألة التأكّد، وحاصل هذا الوجه: أنّه لو فرض عدم التأكّد، لزم اجتماع المثلين، ولو فرض التأكّد، كان محالاً، مع قطع النظر عمّا مضى من إشكال تعدّد الرتبة.

توضيح ذلك: أنّهم يقولون في مثل قوله: «أكرم العالم، وأكرم الهاشمىّ» بتأكّد الحكم في العالم الهاشمىّ، بمعنى: أنّ ثبوت كلا الجعلين في العالم الهاشمىّ محال؛ للزوم اجتماع المثلين، وسقوط أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيتساقطان، ويتحقّق حكم ثالث مؤكّد في مادّة الاجتماع، فالحكمان الأوّلان لم يبقيا على إطلاقهما، بل اختصّا بغير مادّة الاجتماع، وثبت لمادّة الاجتماع حكم ثالث. وهذا لا يمكن الالتزام به فيما نحن فيه؛ وذلك لأنّه لو قيل بسقوط إطلاق الحكمين، لزم كون الحكم الأوّل مختصّاً بغير فرض القطع به،والحكم الثاني مختصّاً بغير فرض مصادفة القطع للواقع، وكلا هذين الأمرين محال:

أمّا الأوّل: فعلى مبناهم من استحالة كون القطع بالحكم مانعاً عن الحكم.

وأمّا الثاني: فلعدم قابليّة هذا الحكم للوصول؛ لأنّ القاطع ـ دائماً ـ يرى قطعه مصادفاً للواقع، فلا يرى موضوع هذا الحكم متحقّقاً، فلا يصل إليه الحكم حتّى يكون قابلاً

344

للمحرّكيّة، فيلغو(1).

هذا. ولكن قد مضى أنّ الحقّ عندنا عدم استحالة اجتماع المثلين في الجعل والاعتبار، فتحصّل: أنّه لامانع من أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثله.

 

أخذ القطع بالحكم موضوعاً لنفسه

بقي الكلام في إمكان أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمتعلّقه وعدمه.

فنقول: تارة يفرض أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمتعلّقه شرطاً، واُخرى يفرض أخذه موضوعاً لذلك مانعاً. وقد خلط الأصحاب في المقام بين أخذه كشرط في متعلّقه، وأخذه مانعاً عن متعلّقه، وقصدوا بأخذه في متعلّقه: الجامع بين الأمرين؛ ولذا حينما ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ كتعليق على ما يقال ردّاً على الأخباريّين الذين منعوا العمل بالعلم الناشئ من حكم العقل: من أنّ هذا يعني الردع عن حجّيّة العلم، وهو غير ممكن ـ ذكر الشيخ الأعظم أنّ بالإمكان حمل هذا على العلم الموضوعىّ، فلا يعود الردع إلى الردع عن حجّيّة العلم، فليس هذا دعوى لأمر محال(2).

أوردوا عليه(رحمه الله) أنّ هذا يعني: أخذ العلم موضوعاً في متعلّق نفسه، وهو مستحيل، في حين أنّ هذا لا يعني شرطيّة العلم لمتعلّقه، بل يعني: مانعيّة العلم الناشئ من العقل عن متعلّقه.

والأولى هو تفكيك البحثين أحدهما عن الآخر، فأوّلاً نبحث عن مدى إمكان شرطيّة العلم لمتعلّقه، ثُمّ نبحث ما إذا كانت أدلّة استحالة ذلك تسري إلى فرض المانعيّة أيضاً. إذن فالبحث يقع في مقامين:


(1) أمّا بناءً على عدم استحالة كون القطع بالحكم مانعاً عن الحكم، فمن الممكن الالتزام بسقوط الإطلاق من أحد الطرفين، وهو الحكم الأوّل دون كلا الطرفين، ولا يلزم ترجيح بلا مرجّح؛ لاستحالة التقييد في هذا الطرف دون ذاك الطرف.

(2) كأنّ هذا إشارة إلى ما ذكره الشيخ الأعظم في بحث انقسام القطع إلى الطريقيّ والموضوعيّ من التمثيل للقطع الموضوعيّ بقوله: «وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريّين: من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسنّة» راجع فرائد الاُصول ص 23 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

345

أخذ العلم شرطاً في متعلّقه

المقام الأوّل: في أخذ العلم شرطاً في متعلّقه.

قد برهنوا على استحالة ذلك بلزوم الدور؛ لأنّ العلم بشيء متوقّف على متعلّقه، فإذا توقّف متعلّقه عليه،لزم الدور. ولعلّ أوّل من استدلّ بهذا الوجه هو العلّامة(قدس سره) في مقام ردّ المصوّبة من العامّة، وبعد ذلك جاء الإشكال والبحث في هذا الدليل. ومنشأ الإشكال في ذلك عدم صحّة التوقّف الأوّل؛ إذ العلم من موجودات عالم النفس، فهو متقوّم بما في النفس من المعلوم بالذات دون ما في الخارج، فالمتوقّف على العلم غير المتوقّف عليه العلم؛ لأنّ الأوّل هو المعلوم بالعرض، والثاني هو المعلوم بالذات. ويشهد لما ذكرنا من عدم تقوّم العلم بما في الخارج: أنّه ربّما يحصل العلم وليس له ما بإزاء في الخارج أصلاً، ويكون مخالفاً للواقع(1).

ومن هنا غيّر المحقّق النائينىّ(رحمه الله) نمط الاستدلال، واستدلّ بما حاصله: لزوم التهافت بين طبيعة العلم ومتعلّقه.

وتوضيحه: أنّ طبيعة العلم تقتضي الكشف عمّا فرض ثبوته بغضّ النظر عن العلم، وهذه طبيعة ذاتيّة له ككاشفيّته لا تعلّل بشيء، وهذا يتناقض مع طبيعة متعلّقه حيث فرضناه متوقّفاً على العلم ومترتّباً عليه(2).

 


(1) من الملحوظ أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لم يجعل عدم إصابة العلم للواقع في بعض الأحيان دليلاً مباشراً لعدم توقّف العلم على الوجود الخارجيّ للمعلوم، وإنّما جعله شاهداً لعدم تقوّم العلم بالوجود الخارجىّ للمعلوم. والسبب في ذلك ما ذكره(رحمه الله): من أنّه لو جعل هذا دليلاً مباشراً لعدم توقّف العلم على الوجود الخارجىّ للمعلوم، لأمكن أن يورد عليه: أنّ العلم المتعلّق بشخص الحكم يستحيل تخلّفه عنه، وإذا لم يكن في الواقع حكم، فهذا العلم في الحقيقة لم يتعلّق بذاك الشخص من الحكم، والشيء الذي ليس بموجود يستحيل تعلّق العلم بشخص ذاك الشيء.

(2) لايوجد في أجود التقريرات إشارة إلى هذا الوجه أصلاً، لا في بحث القطع، ولا في بحث التعبّديّ والتوصّلىّ، كما أنّ فوائد الاُصول للشيخ الكاظمىّ ـ أيضاً ـ لم يذكر هذا الوجه في بحث القطع، ولا يحضرني الجزء الأوّل من الفوائد فعلاً؛ لكي أرى هل ذكر ذلك في بحث التعبّديّ والتوصّلىّ، أو لا؟

والظاهر: أنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) اعتمد على نفس برهان الدور على ما يبدومن أجود التقريرات، وذكر أنّ هذا الوجه مصبّه الأصلىّ هو مرحلة فعليّة المجعول، فهي تتوقّف على العلم توقّف الحكم على موضوعه، والعلم يتوقّف عليها توقّف العلم على المعلوم، فتستحيل فعليّة المجعول، وإذا استحال المجعول، استحال الجعل؛ فإنّ نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الوجود إلى الإيجاد، وإذا استحال الوجود، استحال الإيجاد. ثُمّ أضاف(رحمه الله) وجهاً


346

وهذا الوجه وجه وجدانىّ، وليس برهانيّاً، وهو وجه متين.

وبالإمكان أن نذكر في المقام وجهين برهانيّين لإثبات عدم إمكان أخذ العلم بالحكم شرطاً في متعلّقه:

الوجه الأوّل: أنّ الهدف من إيجاد المولى لهذا الحكم لو كان هو تحريك العبد: بأن يقع أحياناً في سلسلة علل علم المكلّف به، فيتحرّك به بواسطة العلم، قلنا: إنّ هذا الهدف لن يتحقّق أبداً؛ إذ من المستحيل وقوع وجود هذا الحكم في سلسلة علل علم المكلّف به؛ لأنّ هذا يستلزم الدور؛ إذ هذا يعني توقّف علم المكلّف عليه توقّف المعلول على علّته، في حين أنّه هو متوقّف على علم المكلّف توقّف الحكم على موضوعه.

أمّا لو لم يكن الهدف ذلك، كما لو كان المولى يكتفي بما قد يتّفق من حصول العلم للمكلّف بالحكم من دون أن يقع ذلك الحكم في سلسلة علل حصول العلم، إذن فيلغو إيجاد هذا الحكم؛ إذ ليس هو المحرّك للعبد، وإنّما المحرّك له هو علمه الذي سيحصل حتّى لو لم يوجد المولى ذلك الحكم. ولا يتأتّى هنا الإشكال الذي ذكرناه على السيّد الاُستاذ فيما سبق: من فرض حرمة التجرّي، حيث قلنا: إنّ هذه الحرمة تؤكّد الحرمة التي يعتقد بها المتجرّي، فقد توجب ردعه عن المعصية على الرغم من أنّ الحرمة الاُولى لم تكف لردعه؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الحكم المتوقّف على العلم هنا ليس حكماً جديداً يؤكّد أثر الحكم الأوّل المعتقد به في تحريك العبد، بل المفروض أنّه هو نفس الحكم الذي تعلّق به العلم.

هذا هو الوجه الأوّل من الوجهين البرهانيّين اللذين يمكن ذكرهما في المقام، إلّا أنّ


آخر صبّه رأساً على مرحلة الجعل: وهو أنّه يلزم من أخذ العلم في متعلّقه ما هو روح الدور في مرحلة الجعل: من تقدّم الشيء على نفسه، وليس الدور، وتعبير الأصحاب بالدور مبنىّ على المسامحة؛ وذلك لأنّ الجاعل على وجه القضايا الحقيقيّة يرى بمنظار الجعل الموضوع مفروض الوجود ومفروغاً منه، فإذا كان الموضوع هو العلم بالحكم، فهو يرى العلم بالحكم بمنظار الجعل مفروض الوجود ومفروغاً منه سابقاً، وبالتالي يرى الحكم كذلك؛ فإنّ العلم بالحكم بعد الحكم؛ إذ انقسام الحكم إلى العلم به وعدمه من الانقسامات اللاحقة، والجاعل الذي يرى الحكم بمنظار الجعل مفروغاً منه سابقاً كيف يجعله مرة اُخرى؟!

أقول: إنّ هذا التقريب الثاني: وهو تقريب روح الدور بالبيان الذي ذكره المحقّق النائينىّ(رحمه الله)يبطل ـ أيضاً ـ بما أورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على تقريب الدور: من أنّ العلم إنّما يتقوّم بالمعلوم بالذات، ولا يتقوّم بالمعلوم بالعرض، فليس العلم بالحكم بعد الحكم.

347

هناك إشكالاً يرد على هذا الوجه سيأتي ذكره ـ إن شاء الله ـ عن قريب.

الوجه الثاني: هو أنّه لا إشكال في أنّ العلم بفعليّة الحكم متوقّف على العلم بموضوعه، وليس من قبيل العلم بالمعلولات التكوينيّة الاُخرى التي قد يكون العلم بها هو المولّد للعلم بالعلّة على طريقة الإنّ؛ فإنّ الحكم الذي هو أمر اعتبارىّ لا يعقل الإحساس به مباشرة ثُمّ الانتقال منه إلى موضوعه، بل المعقول هو العكس: بأن يعلم العبد بموضوعه، فيعلم به، ولو فرض أنّ نبيّاً من الأنبياء أخبره بفعليّة الحكم في شأنه، نقلنا الكلام إلى علم النبىّ ـ مثلاً ـ بذاك الحكم، فهو يتوقّف على علمه بموضوعه(1)، فإذا اتّضح: أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه، قلنا: إذن لو كان العلم بنفسه داخلاً في موضوع الحكم، لكان هذا يعني: أنّ العلم بالحكم يتوقّف على العلم بالعلم بالحكم، والعلم بالعلم هو عين العلم؛ لأنّ العلم من المعلومات الحضوريّة لدى النفس، فيستحيل تعلّق علم آخر به؛ إذ ما هو منكشف بذاته لامعنىً لانكشافه بواسطة الصورة؛ لاستحالة انكشاف المنكشف، إذن فتوقّف العلم بالحكم على العلم به يعني توقّف الشيء على نفسه. ولو تنزّلنا وافترضنا إمكانيّة تعلّق العلم الحصولىّ بما هو منكشف لدى النفس حضوراً، قلنا: إنّ العلم بالعلم متوقّف على العلم الأوّل؛ إذ كما أنّ العلم بالمحسوسات الخارجيّة فرع الإحساس بها كذلك العلم بالوجدانيّات فرع وجدانها، وبهذا يثبت الدور؛ لأنّ العلم بالحكم توقّف على العلم بهذا العلم، في حين أنّ العلم الثاني متوقّف على العلم الأوّل، إذن فحكم من هذا القبيل غير قابل للوصول؛ لأنّ قابليّته للوصول تستبطن الدور، والحكم الذي لا يقبل الوصول يلغو.

إلى هنا اتّضح: أنّ أخذ العلم بشيء في متعلّقه بمعنى اتّحاد ما تعلّق به العلم وما ترتّب على العلم بالمعنى الدقيق لكلمة الاتّحاد مستحيل.

يبقى الكلام في أنّه لو اتّفق للمولى كون غرضه متعلّقاً بجعل حكم بحيث يختصّ بدائرة العالمين بالحكم، أفهل يوجد له طريق للوصول إلى هذا الهدف من دون الابتلاء بالمحاذير السابقة، أو لا؟


(1) بل لا يمكن في المقام حصول العلم بالحكم عن طريق إخبار النبىّ؛ لأنّ النبىّ لا يخبر بفعليّة الحكم إلّا إذا تحقّق موضوعه، والمفروض أنّ علم المكلّف بالحكم داخل في موضوعه، إذن لا يخبر النبىّ بفعليّة الحكم إلّا وقد فرض علم المكلّف سابقاً، ومعه يلغو الإخبار.

348

والواقع: أنّ البراهين الماضية ما تمّ منها لا يثبت عدا استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع متعلّقه بنحو يتّحد بالدقّة ما تعلّق به العلم مع ما توقّف على العلم. ولدينا وجهان لعلاج الموقف بشكل لا يعود أخذ العلم بالحكم في موضوع متعلّق الحكم إلى الاتّحاد الحقيقىّ بين ما تعلّق به العلم وما توقّف عليه:

الوجه الأوّل: أنّ بإمكان المولى أخذ العلم بالجعل في مرتبة المجعول، فلم يكن ما تعلّق به العلم عين ما ترتّب على العلم بالدقّة حتّى يلزم محذور، وفي نفس الوقت قد توصّل المولى إلى غرضه من اختصاص حكمه بدائرة العالمين.

ولافرق في ذلك بين أن نتصوّر الفرق بين الجعل والمجعول بالشكل المتعارف ذكره، أو نختار معنىً أدقّ وأعمق يأتي بيانه في محلّه إن شاء الله.

ولننهج هنا في مقام البيان المنهج المتعارف ذكره حيث يقال: إنّ الشارع لمّا جعل وجوب الحجّ على المستطيع مثلاً ـ ولنفرض أنّه في ذلك الحين لم يكن أحد مستطيعاً ـ فلاإشكال في أنّه وجد بذلك في عالم التشريع حكم لم يكن موجوداً قبله، وهذا هو المسمّى بالجعل، ولكنّا لو وجّهنا سؤالاً إلى أىّ إنسان في ذلك الزمان عن أنّه هل يجب عليك الحجّ ـ والمفروض بشأنه عدم الاستطاعة ـ لأجاب بالنفي، ولو سألناه عن ذلك بعد استطاعته، لأجاب بالإيجاب، إذن قد تحقّق بشأنه بعد تماميّة الجعل وجوب عند اتّصافه بالاستطاعة، وهذا الوجوب لم يكن موجوداً بشأنه قبل استطاعته، وهذا هو المسمّى بالمجعول.

إذن فالمجعول غير الجعل، وعليه فلا مانع من أخذ العلم بالجعل شرطاً لتحقّق المجعول. وقد ذكرنا للسيّد الاُستاذ هذا العلاج، أعني: أخذ العلم بالجعل موضوعاً للمجعول، فأجاب عنه بما ذكر في (الدراسات): من أنّ جعل الحجّ ـ مثلاً ـ على المستطيع ليس جعلاً بشأن زيد، إلّا إذا استطاع زيد، والجعل إنّما يكون جعلاً بشأن شخص ما حينما يكتمل بشأن ذاك الشخص كلّ شرائط المجعول، والمقصود من أخذ العلم بالحكم في متعلّق الحكم ليس هو أخذ العلم بحكم أحد في متعلّق حكم شخص آخر، وإلّا فإمكانه بمكان من الوضوح، وإنّما المقصود هو: أخذ العلم بحكم شخص في متعلّق حكم ذلك الشخص، وعليه فقد عاد المحذور؛ لأنّ جعل وجوب الحجّ ـ مثلاً ـ لا يكون جعلاً لهذا

349

الشخص إلّا باستطاعته، واستطاعته مساوقة لتحقّق المجعول في حقّه(1).

ويرد عليه: أنّنا نقصد بأخذ العلم بالجعل في متعلّق المجعول: أخذ العلم بجعل (لم يقع فاصل بينه وبين كونه جعلاً بشأن زيد عدا العلم به) في متعلّق المجعول، أو قل: أخذ العلم بجعل لو علم به لكان جعلاً بشأنه في متعلّق المجعول. وبهذا ينتهي المحذور(2).

 


(1) لا ندري هل المقصود بذلك إرجاع الأمر إلى المحذور بلحاظ المجعول والفعليّة، أي: أصبح في الحقيقة العلم بالحكم الفعليّ، أو قل بالمجعول موضوعاً للحكم الفعليّ أو المجعول، أو المقصود بذلك إبقاء المحذور في دائرة الجعل، بأن يقال: إذا اُخذ العلم بجعل وجوب الحجّ على زيد ـ مثلاً ـ في موضوع الوجوب الفعليّ للحجّ على زيد، لم يعد المتوقّف على العلم بالجعل هو المجعول فحسب كي يخلو من المحذور، بل أصبح نفس الجعل بشأن زيد متوقّفاً عليه؛ لأنّ كون الجعل جعلاً بشأن زيد متوقّف على تحقّق كامل أجزاء موضوع الجعل التي منها علمه بالجعل؟

(2) أقول: إنّ هذا الوجه وهو أخذ العلم بالجعل شرطاً في موضوع المجعول صحيح أنّه كاف لعلاج مشكلة الدور، ومشكلة التهافت بين طبيعة العلم وطبيعة المعلوم، ومشكلة عدم قابليّة الحكم للوصول لتوقّف العلم به على العلم به، ولكنّه لا يكفي لعلاج ما مضى نقله عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من محذور لزوم تقدّم الشيء على نفسه في منظار الجعل، فالجاعل الذي يفرض العلم بالجعل مفروغاً منه سابقاً وبالتالي يفرض نفس الجعل مفروغاً منه كيف ينشئ الجعل مرة اُخرى؟!

نعم، قد عرفت أنّ هذا الوجه في ذاته غير صحيح؛ إذ الفراغ من العلم بالجعل لا يستلزم عدا الفراغ من المعلوم بالذات، وهو وجود الجعل في نفس العالم، لا الفراغ من المعلوم بالعرض، وهو ذات الجعل.

بقي علينا شرح الحال فيما أشار إليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ هذا الوجه ـ وهو حلّ الإشكال بأخذ العلم بالجعل شرطاً في المجعول ـ يمكن إسراؤه إلى مبناه هو(قدس سره) في تصوير الجعل والمجعول.

فنقول: إنّنا تارة ننساق مع التصوّر المعروف عن المحقّق النائينىّ(رحمه الله): من قياس القضايا التشريعيّة بالقضايا التكوينيّة، فكما أنّ في قولنا: النار محرقة تكون القضيّة الحقيقيّة الراجعة إلى القضيّة الشرطيّة صادقة من أوّل الأمر، ولكن فعليّة الجزاء تتأخّر إلى حين فعليّة الشرط، كذلك وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة يثبت على شكل القضيّة الحقيقيّة والشرطيّة، ويصبح الوجوب فعليّاً عند تحقّق الشرط؛ ولذا نرى أنّه حينما يقول المولى: ﴿لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾ يثبت الحكم، وفي نفس الوقت لا وجوب على الأفراد غير المستطيعين، وعند ما تتمّ الاستطاعة بشأن أحد يثبت الوجوب له، فالثاني نسمّيه بالمجعول، والأوّل نسمّيه بالجعل. وحينئذ من الواضح صحّة الحلّ الذي قام به اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام: من افتراض أنّ العلم بالجعل اُخذ في موضوع المجعول.

واُخرى لا نقبل هذا البيان، ونرى قياس المقام بالاُمور التكوينيّة قياساً مع الفارق، ففي الاُمور التكوينيّة يتحقّق الجزاء في لوح الخارج بتحقّق الشرط، أمّا في باب الأحكام، فلايتحقّق بتحقّق الشرط شيء، لا في لوح الخارج، ولا في لوح نفس المولى، على مستوى الحبّ والبغض، أو على مستوى الاعتبار والجعل: أمّا عدم تحقّق شيء في لوح الخارج، فواضح؛ لأنّ الأحكام ليست من الاُمور الخارجيّة كالاحتراق، وأمّا عدم تحقّق اعتبار آخر، فأيضاً واضح؛ إذ معنى تحقّقه تعدّد الجعل، وهو خلاف المفروض، وأمّا عدم تحقّقه في عالم الحبّ ←

350


والبغض ـ بأن ينقدح حبّ وبغض للفعل يعتبر فعليّة لحبّه أو بغضه للقضيّة الشرطيّة ـ فلوضوح أنّ فعليّة الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة غير مشروطة بعلم المولى بتحقّق الشرط، ووضوح عدم انقداح حبّ أو بغض جديدين عند عدم علم المولى بتحقّق الشرط.

نعم، قد يقال: إنّ هناك قضيّة تكوينيّة شرطيّة يتحقّق جزاؤها عند تحقّق شرطها، وهي: إنّه لو علم المولى بتحقّق الأمر الفلاني، لأحبّ تحقّق العمل الفلاني، فمتى ما حصل الشرط، وهو علم المولى بتحقّق ذاك الأمر، تحقّق الجزاء.

إلّا أنّ هذا خروج عن المقصود؛ فإنّ الحكم في عالم الحبّ والبغض عبارة عن حبّ القضيّة الشرطيّة حبّاً فعليّاً سواء تحقّق الشرط أو لا، وسواء علم المولى بتحقّق الشرط أو لا، وليس عبارة عن قضيّة شرطيّة شرطها هو العلم بذاك الشرط، وجزاؤها هو الحبّ.

إذن فالذي يتحقّق في باب التشريع عند فعليّة الشرط إنّما هو فاعليّة الحكم وطرفيّة المكلّف لذاك الحكم، لا فعليّة الحكم بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن صحّ التعبير عن ذلك بفعليّة الحكم بنوع من المسامحة، أو بافتراض مصطلح خاصّ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.

أمّا المجعول بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو لا ينفكّ من الجعل؛ فإنّه بالقياس إلى الجعل كالوجود بالقياس إلى الإيجاد، وكما أنّ الإيجاد والوجود خارجاً متّحدان كذلك الجعل والمجعول كما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

وعلى هذا الأساس قد يقال: إنّ الحلّ الذي ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يتمّ على مبنى مدرسة المحقّق النائينىّ رضوان الله عليه، ولكنّه لا يتمّ على مبناه هو(رحمه الله) ؛ إذ الجعل والمجعول ـ بحسب مبناه ـ أحدهما عين الآخر خارجاً، فلا اثنينيّة في المقام كي نفترض أنّ العلم بالجعل اُخذ في موضوع المجعول، ونتخلّص من محاذير وحدة متعلّق العلم وما يترتّب على العلم، كما لا نستطيع أن نفترض أنّ العلم بالجعل اُخذ في موضوع فاعليّة الحكم وطرفيّة المكلّف للحكم؛ إذ ليس هذا مجعولاً للمولى كي يستطيع أن يدخل في موضوعه بيد التشريع شيئاً.

والجواب: أنّ الجعل والمجعول صحيح أنّهما متّحدان خارجاً، وليس الفرق بينهما إلّا بلحاظ جهة الانتساب إلى الفاعل أو القابل تماماً كالإيجاد والوجود، إلّا أنّ هذا لا يضرّ بتماميّة الحلّ الذي تبنّاه اُستاذنا الشهيد.

توضيح ذلك: أنّه يتصوّر لربط المولى للحكم بالعلم به معنيان:

المعنى الأوّل: أن يقصد بذلك توقيف الجعل ابتداءً على العلم بالمعنى الحقيقىّ لكلمة التوقيف، وهذا يستحيل صدوره عن الجاعل بما هو جاعل حتّى لو غضّ النظر عن المحاذير السابقة؛ فإنّ الجعل عمل للجاعل، والعامل يستحيل أن يجعل عمله بنفس هذا العمل متوقّفاً (بالمعنى الحقيقىّ للتوقّف التكوينىّ) على شيء، فقد يكون عمل فاعل ما متوقّفاً على شيء ابتداءً، كتوقّفه على مقدّمات لولاها لما كان قادراً على ذاك العمل، أو متوقّفاً عليه بسبب تعجيز معجّز له عن ذاك العمل في فرض عدم ذاك الشيء ولو كان المعجّز نفس الفاعل، ولكن لا يعقل كونه معجّزاً لنفسه عن ذلك بنفس هذا العمل، كما هو واضح. إذن فهذا المعنى خارج عن محلّ الكلام أساساً.

المعنى الثاني: أن يقصد بذلك تضييق دائرة الحكم، فبدلاً من أن يجعل وجوب الحجّ على مطلق المستطيع يجعله على المستطيع العالم، وهذا ليس ابتداءً توقيفاً للجعل على العلم، بل تضييق وتحصيص للمفاد

351

بقي علينا أن نشير هنا إلى أنّه يتّضح بالالتفات إلى مسألة الجعل والمجعول ما يرد على ما مضى من الوجه الأوّل من الوجهين البرهانيّين لاستحالة أخذ العلم شرطاً لمتعلّقه: من أنّه إن كان الحكم دخيلاً في حصول العلم به، لزم الدور، وإلّا لزم اللغويّة.

فإنّ هذا يرد عليه: أنّنا نختار الشقّ الثاني، أي: عدم دخل الحكم ـ أعني المجعول ـ في حصول العلم به، فلا يلزم الدور، ولكنّنا نفرض دخل الجعل في تحقّق العلم؛ فلا تلزم اللغويّة أيضاً، فقد تصورّنا بهذا أخذ العلم بالمجعول شرطاً للمجعول بلا لزوم محذور الوجه الأوّل من الوجهين البرهانيّين.

الوجه الثاني: أن يؤخذ العلم بإبراز الحكم شرطاً في الحكم، كما يتّفق ذلك في الموالي العرفيّة، فيقول المولى العطشان ـ مثلاً ـ: من سمع كلامي فليأتني بماء. وهذا الوجه لاحاجة فيه إلى تصوير تعدّد الجعل والمجعول(1).

 


الذي جعله بالعلم، وهذا هو محلّ الكلام، وهذا التضييق والتحصيص يؤدّي قهراً إلى توقّف المجعول على العلم ـ بناءً على تصوّرات مدرسة المحقّق النائينىّ: من افتراض مجعول يولد عند تماميّة الموضوع ـ وإلى توقّف طرفيّة المكلّف لهذا الحكم، أو فاعليّة الحكم بالنسبة إليه، بناءً على تصوّرات اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ ما يولد بتماميّة الموضوع إنّما هو طرفيّة المكلّف للحكم، أو فاعليّة الحكم بالنسبة إليه، وليست فعليّة الحكم. ومن هنا يتّضح: أنّه لافرق جوهرىّ ـ في خصوص ما نحن فيه ـ يترتّب على الاختلاف بين المبنيين:

فعلى مبنى مدرسة المحقّق النائينىّ(رحمه الله) يكون المجعول أو فعليّة الحكم قد توقّف قهراً على ما ضيّق المولى دائرة الحكم به. فإذا فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بالمجعول، وردت المحاذير السابقة، وإذا فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بالجعل، لم يكن هناك محذور.

وعلى مبنى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تكون طرفيّة العبد للحكم أو فاعليّة الحكم قد توقّفت قهراً على ما ضيّق المولى دائرة الحكم به، فإن فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بطرفيّة العبد للحكم وفاعليّة الحكم، وردت المحاذير السابقة، وإن فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بالجعل، لم يكن هناك محذور.

ولا يجعل المولى ابتداءً فاعليّة الحكم أو طرفيّة المكلّف للحكم متوقّفة على العلم كي يقال: إنّ فاعليّة الحكم أو طرفيّة المكلّف له أمر قهرىّ، وليس تشريعيّاً تناله يد المشرّع بما هو مشرّع، وإنّما الذي يصنعه المولى هو تضييق دائرة حكمه وتحصيصه، ويترتّب على ذلك قهراً توقّف فاعليّة الحكم أو طرفيّة المكلّف له على ما ضيّق المولى دائرة الحكم به.

(1) أقول: قد عرفت أنّ المعتمد في مقام الإشكال على فرض وحدة متعلّق العلم وما يترتّب على العلم أمران:

أحدهما: التهافت بين طبيعة العلم ـ التي تتطلّب النظر إلى المتعلّق وكأنّه مستقلّ عن العلم ـ وبين طبيعة المتعلّق الذي ربط بحسب الفرض بالعلم، وأوقف عليه.

والثاني: عدم قابليّة الحكم للوصول؛ لأنّ العلم به متوقّف على العلم بموضوعه، فإذا كان موضوعه هو العلم

352

هذا تمام كلامنا في بيان وجهين للهروب من إشكالات أخذ العلم بالحكم في متعلّق الحكم.

فلو اتّفق في الشريعة في بعض الموارد اختصاص الحكم بالعالمين بالحكم كما في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام ـ بناءً على أنّ المستفاد من روايات الإجزاء فيها هو اختصاص الحكم بالعالم ـ يحمل ذلك على أحد هذين الوجهين.

 

مسلك متمّم الجعل

إنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) سلك في بيان المهرب من إشكال استحالة موضوعيّة العلم بالحكم لمتعلّقه مسلكاً آخر، وهو مسلك متمّم الجعل.

 


به، توقّف العلم به على العلم بالعلم به، وهذا ما يعود إلى الدور، أو إلى روح الدور، أعني: توقّف الشيء على نفسه.

ولا إشكال في أنّ الوجه الثاني المذكور في المتن باستطاعته أن يحلّ المحذور الثاني، بلا حاجة إلى رجوعه إلى الوجه الأوّل، أو إلى روح الوجه الأوّل: من التمييز بين الجعل والمجعول، أو الجعل وفاعليّة الحكم، فحتّى لو فرضنا أنّ الإبراز الذي يكون العلم به شرطاً في الحكم متعلّق بنفس ما يترتّب على العلم، فالمجعول ـ مثلاً ـ يترتّب على العلم بإبراز المولى للمجعول، أو فاعليّة الحكم تترتّب على العلم بإبراز المولى لفاعليّة الحكم، كان المحذور الثاني مرتفعاً؛ إذ لا يلزم من أخذ العلم بإبراز الحكم في موضوع الحكم عدا توقّف العلم به على العلم بالعلم بإبرازه الراجع إلى توقّف العلم به على العلم بإبرازه، وهذا غير توقّف الشيء على نفسه، وكثيراً ما يتّفق توقّف العلم بشيء على العلم بإبرازه، فمثلاً فيما يخبر المخبر الثقة بقضيّة لا سبيل لنا إلى معرفتها غير إخباره يكون علمنا بتلك القضيّة متوقّفاً على علمنا بإبراز المخبر لها.

إلّا إنّه قد يقال: إنّ هذا الوجه لا يحلّ المحذور الأوّل إلّا بنفث روح الوجه الأوّل فيه: من التمييز بين الجعل والفعليّة، أو الجعل والفاعليّة؛ ذلك لأنّه لو غضّ النظر عن هذا التمييز، لأمكن أن يقال باستحالة توقّف الحكم على العلم بإبراز المولى للحكم؛ لأنّ العلم بشيء يقتضي بطبيعته النظر إلى ذاك الشيء وكأنّه مستقلّ عن العلم وغير متوقّف عليه، فإبراز الحكم يجب أن يفرض مستقلّاً عن العلم وغير متوقّف عليه، وهذا يعني: ثبوت إبراز المولى للحكم بغضّ النظر عن العلم بهذا الإبراز، وطبعاً إبراز المولى للحكم فرع ثبوت الحكم واقعاً، إذن هذا يعني: ثبوت الحكم واقعاً بغضّ النظر عن العلم بهذا الإبراز، في حين أنّ المفروض هو توقّف الحكم على العلم بهذا الإبراز.

وبتعبير آخر: أنّ توقّف الحكم على العلم بالإبراز يستدعي توقّف معلوله، وهو الإبراز على العلم بالإبراز، فقد أصبح متعلّق العلم وهو الإبراز متوقّفاً على العلم، وقد افترضنا استحالته؛ للزوم التهافت بين طبيعة العلم الذي يقتضي النظر إلى المعلوم وكأنّه مستقلّ عنه، وطبيعة المعلوم.

إذن نحن بحاجة إلى نفث روح الوجه الأوّل: من التمييز بين الجعل والفعليّة، أو الجعل والفاعليّة في هذا الوجه؛ كي نقول: إنّ فعليّة الحكم أو فاعليّته توقّفت على العلم بإبراز المولى للجعل.

353

وحاصل رأيه في ذلك: أنّ الجعل ربّما لا يكون مطابقاً لغرض المولى ووافياً بتمام الغرض، وذلك كما فيما نحن فيه؛ إذ لا إشكال في أنّ الغرض: إمّا أن تعلّق بصدور الفعل عن خصوص العالم بالحكم، أو تعلّق بصدور الفعل عن مطلق العالمين والجاهلين، ولكنّ جعله لا يفي باختصاص الغرض بالعالم ولا بالإطلاق: أمّا الأوّل فلما مضى من استحالة أخذ العلم بالحكم شرطاً لذاك الحكم، وأمّا الثاني فلما مضى من عدم تفرقة القوم (ومنهم المحقّق النائينىّ(رحمه الله)) بين أخذ العلم شرطاً أو مانعاً، فيستحيل تقييد الحكم بالجهل أيضاً، وبالتالي يستحيل الإطلاق باستحالة التقييد؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في نظره(قدس سره): تقابل العدم والملكة، فهذا الجعل مهمل لا مطلق ولا مقيّد، ومن هنا احتجنا إلى جعل آخر متمّم للجعل الأوّل لإفادة غرضه، فيجعل وجوب ذاك الفعل مرّة اُخرى مقيّداً بالعلم بالجعل الأوّل أو مطلقاً، فتحصل نتيجة تقييد الجعل الأوّل أو إطلاقه بتقييد الجعل الثاني أو إطلاقه، وهذان الجعلان لبّاً وروحاً جعل واحد؛ لأنّهما مسوقان لغرض واحد. هذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

ولنا في هذا الكلام بحثان: أحدهما بلحاظ الجعل الأوّل، وثانيهما بلحاظ الجعل الثاني:

البحث الأوّل: في الكلام في الجعل الأوّل، وقد أورد السيّد الاُستاذ على ما مضى نقله في ذلك عن المحقّق النائينىّ(رحمه الله) إيرادين:

أحدهما: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد صحيح أنّه تقابل العدم والملكة، ففي جانب العدم اُخذت مرتبة من قابليّة الوجود بانتفائها ينتفي ذلك العدم الخاصّ، لكن ليست القابليّة المأخوذة عبارة عن القابليّة الشخصيّة حتّى ينتفي بانتفائها العدم الملحوظ في باب العدم والملكة، بل هي قابليّة كلّيّة؛ ولذا ترى أنّه يصدق على العبد كونه جاهلاً بحقيقة الباري تعالى مع أنّ التقابل بين العلم والجهل تقابل العدم والملكة، ويستحيل علم العبد بحقيقة الباري عزّ اسمه، والسبب في صدق الجهل في المقام هو كفاية مطلق قابليّته للعلم لصدق عنوان الجهل عليه، ولا حاجة في صدقه عليه إلى قابليّته للعلم بشخص هذا الأمر، فكذلك نقول فيما نحن فيه بكفاية القابليّة الكلّيّة للتقييد في صدق الإطلاق، فإذا امتنع في مورد ما التقييد، لم يمتنع الإطلاق، بل تعيّن الإطلاق.

وهذا الكلام من السيّد الاُستاذ (الذي جاء ذكره في تعليقته على المجلّد الأوّل من

354

أجود التقريرات(1) وفي الدراسات) كان مبنيّاً على مبناه السابق: من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وقد عدل بعد ذلك عن هذا المبنى إلى القول بأنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ، وإنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد، والتقييد عبارة عن لحاظ دخل القيد، فهما أمران وجوديّان متباينان.

وعلى أىّ حال، فهذا الكلام منه في المقام خلط بين مبحثين لا علاقة لأحدهما بالآخر، فأحدهما بحث اصطلاحيّ صرف، والآخر بحث علمىّ واقعىّ.

توضيح ذلك: أنّ للفلاسفة اصطلاحاً في باب التقابل حيث سمّوا قسماً منه بتقابل التضادّ، والقسم الآخر بتقابل السلب والإيجاب، والثالث بتقابل التضايف، والرابع بتقابل العدم والملكة. وقد ذكر في كلمات القدماء تقابل العدم والملكة. ووقع البحث بين المتأخّرين في فهم مراد القدماء من هذا المصطلح، فذهب بعض إلى أنّ القابلية المأخوذة في باب العدم والملكة قابليّة شخصيّة، وبعض آخر أنّها قابليّة كلّيّة. وليس هذا إلّا بحثاً في المصطلح لا في أمر واقعىّ؛ إذ من الواضح الذي لم يشكّ فيه أحد: أنّ العدم المطلق، والعدم المقيّد بالقابليّة الكلّيّة، والعدم المقيّد بالقابليّة الشخصيّة، كلّها مقابل للوجود، ولا يمكن اجتماع واحد منها مع الوجود. وإنّما الكلام والبحث فيما هو المصطلح عليه في باب العدم والملكة، فلو وردت آية أو رواية تدلّ على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة بالمعنى المصطلح عند الفلاسفة، كان للتفتيش عن معنى هذه الكلمة، والاستشهاد على كون الملكة المأخوذة ملكة كليّة بمثال العلم والجهل؛ لإطلاق هذا المصطلح عليهما في كلمات الفلاسفة، مجال.

ولكنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما ينبغي البحث العلميّ بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد عن أمر واقعىّ: وهو أن نرى أنّه ما هي النكتة التي توجب سريان الطبيعة إلى تمام أفرادها؟ هل هي العدم المأخوذ فيه القابليّة الكلّيّة، أو الشخصيّة، أو غير ذلك؟ وقد مضى منّا في بحث المطلق والمقيّد أنّ نكتة السريان إنّما هي ذات عدم التقييد، وأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب.

الثاني: أنّ الإهمال في الحكم محال، بل هو إمّا مطلق أو مقيّد، وقد استنتج ذلك في تعليقته على المجلّد الأوّل من أجود التقريرات(2): من أنّ شوق المولى لا محالة: إمّا أن


(1) ص 104.

(2) ص 103.

355

يكون متعلّقاً بخصوص صدور الفعل عن العالم مثلاً، أو بالمطلق، لا بقسم خاصّ.

وهذا الكلام منه خلط بين باب الشوق وباب الحكم.

توضيح ذلك: أنّ الحكم غير الشوق، كما اعترف به السيّد الاُستاذ في إيراده على الشيخ الأعظم(قدس سره)، حيث استدلّ الشيخ الأعظم على رجوع قيد الهيئة إلى المادّة بأنّ المولى إذا تصوّر شيئاً: فإمّا أن لا يشتاق إليه، ولا كلام لنا في ذلك، أو يشتاق إليه، وعلى الثاني: فإمّا أن يشتاق إلى مطلق ذاك الشيء، أو إلى حصّة خاصّة منه، فعلى الأوّل يكون الحكم مطلقاً، وعلى الثاني يكون الحكم مقيّداً، لكنّ القيد رجع إلى متعلّق الاشتياق.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ: أنّ هذا الكلام لا يثبت المقصود من رجوع قيد الهيئة في الأحكام إلى المادّة؛ لأنّ الحكم غير الشوق، وهذا التشقيق كان تشقيقاً في الشوق.

فإذا بنينا على أنّ الحكم غير الشوق، قلنا في المقام: إنّ استحالة الإهمال بما هو إهمال في باب الشوق لا تقتضي استحالة الإهمال بما هو إهمال في باب الحكم، ففي باب الشوق يكون الإهمال محالاً في ذاته ولو فرض التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضادّ بخلاف باب الحكم، فإنّ الشوق والحكم كلاهما مشتركان في كونهما من موجودات عالم النفس، إلّا أنّ الفرق بينهما: أنّه في باب الحكم يمكن أن يفرض الإهمال وعدم الإطلاق والتقييد والالتزام بلازم ذلك من عدم الانطباق على ما في الخارج، بعد قطع النظر عن إشكال اللغويّة، أمّا في باب الشوق فالانطباق على ما في الخارج ذاتىّ له، ولا يعقل تعلّق الشوق بالصورة الذهنيّة إلّا باعتبار انطباقها في نظر المشتاق على ما في الخارج، إذن فلا يعقل فيه الإهمال.

نعم، بناءً على ما حقّقناه في بحث المطلق والمقيّد: من أنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب لا يعقل الإهمال، لكن لا لاستحالته هو، بل لاستحالة ارتفاع النقيضين وعدم تصوير الإهمال. أمّا بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من كون التقابل بينهما تقابل التضادّ، فلدعوى إمكان الإهمال في الحكم مجال واسع.

وعلى أىّ حال، فيرد على ما أفاده المحقّق النائينىّ(رحمه الله) في الجعل الأوّل من الإهمال ما عرفته: من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التناقض دون العدم والملكة، فلا يتحقّق الإهمال.

البحث الثاني: في الكلام في الجعل الثاني. قد عرفت ما ذهب إليه المحقّق النائينىّ(رحمه الله):

356

من أنّ المولى يتوصّل إلى مطلوبه ـ من أخذ قيد العلم أو الإطلاق ـ بجعل ثان مقيّد بالعلم بالجعل الأوّل أو مطلق. ونورد على ذلك أمرين:

الأوّل: أ نّا إذا التفتنا إلى أنّ الذي يؤخذ في متعلّق الحكم هو العلم بالجعل، لم نحتج إلى متمّم الجعل؛ لما عرفت: من أنّ هذا ممكن في الجعل الواحد، أمّا لو لم نلتفت إلى ذلك، وتخيّلنا أنّ المجعول يتوقّف على العلم بالمجعول، أو قل: الحكم الفعلىّ يتوقّف على العلم بالحكم الفعلىّ، فتعدّد الجعل لا يحلّ المشكل؛ وذلك لأنّ الجعل الأوّل كيف يصبح فعليّاً كي يكون العلم بفعليّته سبباً لفعليّة الجعل الثاني؟ هل يصبح فعليّاً حينما نعلم به، فالمهملة في قوّة الجزئيّة؟، أو يصبح فعليّاً مطلقاً، أي: حتّى لو لم نعلم به، فالمهملة في قوّة المطلقة؟، أو لا يصبح فعليّاً أصلاً؟

فإن فرض الأوّل فهو غير معقول؛ إذ الجعل إنّما يصبح فعليّاً بفعليّة موضوعه، بمعنى تحقّق القيد المأخوذ فيه، أو انطباقه بالإطلاق، والمفروض عدم شيء منهما، على أنّه لو صحّ ذلك إذن لم نحتج لحصر الفعليّة في دائرة العلم إلى متمّم الجعل.

وإن فرض الثاني فهو ـ أيضاً ـ غير معقول؛ إذ مع فرض عدم الإطلاق الذي هو نكتة السريان لا يعقل الانطباق على تمام الأقسام، على أنّه لو صحّ ذلك لم نحتج في نتيجة الإطلاق إلى متمّم الجعل.

وإن فرض الثالث لم يمكن حصول العلم بمجعول الجعل الأوّل كي يتحقّق موضوع الجعل الثاني.

الثاني: أنّه لو أراد المولى تخصيص الحكم بالعالم بالحكم بما لهذه الكلمة من معنى، لم يصل إلى هدفه عن طريق تقييد الجعل الثاني ـ بطريقة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ بالعلم بالجعل الأوّل؛ لأنّ هذا الجعل الثاني ـ أيضاً ـ يكون بالقياس إلى نفسه مهملاً لا مقيّداً بالعلم به ولا مطلقاً، فهو بحاجة إلى جعل ثالث مقيّد بالعلم بالجعل الثاني، وهكذا إلى أن يتسلسل.

نعم، افترضنا أنّ عدم تقييد الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأوّل دلّ على إطلاق الشوق والملاك لكلّ الناس؛ لأنّه لو كان الشوق والملاك مختصّين بشأن العالم، لكان إطلاق الجعل الثاني لفرض الجهل بالجعل الأوّل لغواً؛ لأنّ من كان جاهلاً بسابقه فلا شوق ولا ملاك في نظر المولى بالنسبة إليه، فلا داعي لجعل يحقّق نتيجة الإطلاق للجعل الأوّل.

357

ونحن قد فرغنا من أنّ اختصاص الغرض والملاك والشوق بدائرة العالمين أمر ممكن وجداناً، بل برهنّا على ذلك بالبيانين اللذين مضيا منّا لطريق الوصول إلى الغرض، أمّا وصول المولى إلى غرضه في اختصاص الحكم بدائرة العالمين عن طريق هذا البيان المرويّ عن الشيخ النائينيّ(قدس سره)، فأمر غير ممكن.

 

أخذ العلم مانعاً عن متعلّقه

المقام الثاني: في أخذ العلم بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وجعل عدمه موضوعاً لذلك الحكم، وقد خلطوا بينه وبين أخذ العلم شرطاً في متعلّقه، فساقوهما بمساق واحد، وبرهنوا في كليهما ببرهان واحد، واختاروا الاستحالة. ومن هنا اتّجه الإشكال في أمرين:

الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في مقام توجيه كلام الأخباريّين القائلين بعدم جواز اتّباع القطع الحاصل من طريق العقل، حيث ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله): أنّه من الممكن للأخباريّين أن يدّعوا كون القطع الحاصل من طريق العقل مانعاً عن الحكم، فبحصول هذا القطع ينتفي الحكم، ولا يلزم من ذلك الردع عن حجّيّة القطع الطريقىّ الذي هو محال.

والثاني: رواية أبان المعروفة في ديّة أصابع المرأة حيث ورد أنّه قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون. قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة، فإذا بلغت الثلث، رجعت إلى النصف. يا أبان، إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست، محق الدين»(1).

فظاهر هذه الرواية: أنّ أباناً كان قاطعاً بأنّ قطع الإصبع الرابع لا يوجب تخفيف الديّة؛


(1) الوسائل ج 19 باب 44 من أبواب ديّات الأعضاء ح 1 ص 268.

358

ولذا قال: إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فالإمام(عليه السلام) ردعه عن هذا القطع بكونه حاصلاً من القياس، وأنّ السنّة إذا قيست، محق الدين، فهذا الحديث ـ أيضاً ـ نظير كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) في جعل القطع مانعاً عن الحكم.

ووجّه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) هذه الرواية وكلام الشيخ الأعظم(قدس سره) بمسلكه الذي مضى: من التقييد بواسطة متمّم الجعل.

والسيّد الاُستاذ سجّل الإشكال على الشيخ الأعظم، وأمّا الرواية فردّها بضعف السند، وبالنقاش في دلالتها: بأنّ من المحتمل أنّ أباناً لم يكن حصل له القطع بالحكم، وإنّما حصل له الظنّ(1).

أقول: التحقيق: أنّ هذه الرواية أجنبية عمّا نحن فيه: من مانعيّة القطع عن الحكم؛ فإنّ كون القطع مانعاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الحكم ثابتاً في الواقع، لكنّه كان مقيّداً بعدم القطع عن هذا الطريق. وأمّا في مورد الرواية، فالمفروض فيها عدم ثبوت الحكم الذي تخيّله أبان سواء قطع هو بثبوته، أوْ لا ؛ فإنّ المرأة ـ بحسب ما في هذه الرواية ـ تعاقل الرجل في الديّة إلى الثلث، وبعد ذلك ترجع ديّتها إلى النصف، وببالي ـ إن لم تخنّي الذاكرة ـ أنّي ذكرت هذا البيان للسيّد الاُستاذ، فعدل عن فرض كون الرواية واردة فيما نحن فيه.

وعلى أىّ حال، فهذه الرواية لا تنطبق على مسألة أخذ القطع مانعاً عن متعلّقه


(1) جاء في مصباح الاُصول النقاش في هذه الرواية:

أوّلاً: بضعف السند.

وثانياً: بأنّه لادلالة على كون أبان قاطعاً بذلك، فلعلّه كان مطمئنّاً به، وتعجّبه الذي كان يبرزه بقوله: (كنّا نقول من جاء به شيطان) لا يدلّ على أكثر من ذلك.

وثالثاً: بأنّ الإمام(عليه السلام) (على تقدير فرضه قاطعاً) قد أزال قطعه ببيان الواقع، لا أنّه ردعه عن العمل بقطعه مع فرض بقاء القطع على حاله.

أقول: إشكال ضعف السند غريب في المقام؛ فإنّ سنده واضح الصحّة، وهو كما جاء في الوسائل مايلي: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وعن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبان بن تغلب. ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد ابن أبي عمير. ورواه الصدوق بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله.

359

أصلاً،(1) وإنّما تنطبق على الردع عن حجّيّة القطع الطريقىّ، أو سلب القطع من نفس أبان تكويناً، أو بيان أنّه لم يكن ينبغي له حصول القطع بذلك؛ لأنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وأنّ القياس يمحق الدين.

وأمّا كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) فتصحيحه يكون بتحقيق أصل المطلب، وبيان عدم استحالة أخذ القطع بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وأنّ قياسه بأخذ القطع شرطاً لمتعلّقه قياس مع الفارق. وشرح الكلام في ذلك: أنّ أخذ القطع بالحكم مانعاً عن متعلّقه يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أخذ القطع بالجعل مانعاً عن المجعول، وقد عرفت أنّ أخذ القطع بالجعل شرطاً للمجعول ممكن فضلاً عن أخذه مانعاً.

الثاني: أخذ القطع بالمجعول مانعاً عنه.

والتحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ ممّا لااستحالة فيه، ولا يأتي هنا شيء من الإشكالات التي مضى ذكرها في أخذ القطع بالحكم شرطاً لمتعلّقه، وهي أربعة:

الأوّل: الدور ببيان أنّ العلم بالحكم متوقّف على الحكم، فلو اُخذ في موضوعه، وتوقّف الحكم عليه، لزم الدور.

وأنت ترى أنّ هذا الإشكال لا يرد في المقام؛ إذ لو سلّم توقّف العلم بالحكم على نفس


(1) لايخفى أنّ من يحمل هذه الرواية على أخذ القطع القياسىّ مانعاً عن متعلّقه، ليس مقصوده كون القطع القياسىّ ـ دائماً ـ مطابقاً للواقع في حدّ ذاته، إلّا أنّه يمنعه ويفنيه؛ فإنّ هذا واضح البطلان، وإنّما مقصوده من مانعيّة القطع القياسىّ هو: أنّه لو كان الحكم الذي قطع به ثابتاً في نفسه، لزال بهذا القطع، وصدق هذه القضيّة الشرطيّة في مورد الرواية لا ينافي عدم صدق الشرط فيه كي يجعل انتفاء الحكم من أصله في مورد الرواية دليلاً على كون الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

ولعلّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): مجرّد بيان أنّ الرواية لا دلالة فيها على مانعيّة القطع القياسىّ عن الحكم ما دمنا نعلم أنّ المفروض في مورد الرواية انتفاء الحكم من أصله، ولعلّ حمل المحقّق النائينىّ(رحمه الله) للرواية على مانعيّة القطع من الحكم كان لأجل علاج ما قد يفهم منه من الردع عن القطع الطريقىّ الناشئ من القياس، فبما أنّ الردع عن القطع الطريقىّ مستحيل كان هذا قرينة عند المحقّق النائينىّ على إرادة مانعيّة القطع القياسىّ التي يمكن تحقيقها في رأي المحقّق النائينىّ بمتمّم الجعل.

ولكن يرد عليه عندئذ: أنّ صرف الرواية عن الردع عن القطع الطريقىّ لا يحصر أمر الرواية بالحمل على مانعيّة القطع القياسىّ، ولا يوجب ظهورها في ذلك، بل يمكن حملها على إرادة إفناء قطع أبان تكويناً، أو مجرّد بيان أنّ هذا القطع لم يكن في محلّه.

360

الحكم، فمن الواضح: أنّ عدم العلم بالحكم لا يكون متوقّفاً عليه(1).

الثاني: لزوم التهافت بين طبيعة العلم وطبيعة المعلوم؛ إذ العلم إنّما يكشف عمّا فرض ثبوته بقطع النظر عنه، في حين أنّ الحكم المشروط بالعلم ليس ثابتاً بقطع النظر عن العلم.

ومن الواضح: أنّ هذا الوجه ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام؛ إذ الحكم مشروط هنا بعدم العلم لا بالعلم، فإذا علمنا بهذا الحكم المشروط، كان هذا الحكم ثابتاً بقطع النظر عن العلم، ولا تكون طبيعته متنافية مع طبيعة العلم.

الثالث: ثبوت المحرّك المولوىّ بقطع النظر عن ثبوت الحكم؛ لأنّ موضوعه هو العلم بالحكم، وهذا العلم كاف في التحريك سواء ثبت الحكم، أو لا، ولو ثبت الحكم لم يزد في التحريك شيئاً؛ إذ هو نفس الحكم الذي اُخذ انكشافه مفروغاً منه في مرحلة موضوعه لا حكم آخر.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ لا إشكال في عدم جريانه في المقام؛ لأنّ موضوع الحكم هنا عدم العلم، وليس العلم حتّى تتمّ المحركيّة المولويّة في مرحلة الموضوع.

الرابع: لزوم الدور في مرحلة الوصول؛ لأنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه الذي هو العلم بالحكم على الفرض، فالعلم بالحكم يتوقّف على العلم بالعلم بالحكم، وهذا يوجب الدور، أو ما هو روح الدور من توقّف الشيء على نفسه؛ لأنّ العلم بالعلم: إمّا هو عين العلم الأوّل كما هو الصحيح، أو متوقّف عليه كما مضى بيانه.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام كما هو واضح؛ لأنّ موضوع الحكم هنا هو عدم العلم به عن طريق العقل مثلاً، وهو غير العلم، وغير متوقّف على العلم، فلا يلزم الدور، ولا توقّف الشيء على نفسه.


(1) وبهذا يبطل ـ أيضاً ـ إشكال تقدّم الشيء على نفسه في منظار الجعل المنقول عن المحقّقالنائينىّ(رحمه الله). ونحن لا نقبل فكرة كون النقيضين في رتبة واحدة، وكون انقسام الحكم إلى فرض العلم به وعدمه من الانقسامات اللاحقة لو استلزم كون العلم بالحكم متأخّراً عن الحكم لا يستلزم كون عدم العلم به ـ أيضاً ـ متأخّراً عنه؛ فإنّ تأخّر الانقسام لا يستلزم تأخّر كلا القسمين.

361

وهنا وجهان آخران لتوهّم الاستحالة يختصّان بفرض مانعيّة العلم عن الحكم، ولا يشملان فرض شرطيّته له.

الأوّل: أنّ الحكم إنّما يجعل لكي يكون محرّكاً بالوصول، وفيما نحن فيه قد خنق وصوله ومحرّكيّته في مهده؛ لأنّ موضوعه هو عدم العلم به، فبمجرّد وصوله ينتفي بانتفاء موضوعه.

وهذا الإشكال إنّما يتوهّم وروده فيما لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعاً عنه دون علم خاصّ به، كالعلم الناشئ عن طريق العقل مثلاً، وإلّا لكان الحكم قابلاً للوصول بغير ذاك الطريق.

والواقع أنّه حتّى لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعاً عنه، لا يرد هذا الإشكال؛ وذلك لإمكان وصول الحكم بحجّة شرعيّة غير علميّة(1). نعم، لو اُخذ مطلق وصوله ولو بحجّة شرعيّة مانعاً عنه،ثبت الإشكال.

الثاني: أنّه لو اُخذ عدم حصول العلم عن طريق العقل ـ مثلاً ـ موضوعاً للحكم، لزم عدم إمكان وصول هذا الحكم إلى من علم بالحكم عن هذا الطريق، فيكون جعل هذا الحكم بشأن هذا الشخص مستحيلاً، نظير استحالة جعل الحكم في حقّ المتجرّي بما هو متجرّ؛ لاستحالة وصوله إليه.

والجواب: أوّلاً: أنّ الحكم إنّما يشترط فيه قابليّة الوصول إلى من جعل في حقّه، ويكون موضوعاً له، ومن علم بالحكم عن طريق العقل ليس موضوعاً له بحسب الفرض، وإنّما جعل الحكم بشأن غيره، وهو قابل للوصول إلى من جعل له هذا الحكم، وهذا بخلاف الحكم المجعول على المتجرّي بعنوان التجرّي؛ فإنّ موضوعه هو نفس المتجرّي المفروض عدم إمكان وصول الحكم إليه.

وثانياً: أنّه إذا اُخذ العلم بشخص الحكم مانعاً عن ذلك الحكم، استحال تحقيق المانع


(1) طبعاً من دون أن تقوم تلك الحجّة مقام القطع الموضوعىّ في مانعيّته عن الحكم.

362

في الخارج، فلا يبقى مورد للإشكال بعدم إمكانيّة وصول الحكم إلى من جعل في حقّه؛ وذلك لأنّ شخص هذا الحكم متقوّم بعدم العلم به، وعدم العلم به لا يجتمع مع العلم به كما هو واضح(1).

لايقال: إذا كان حصول هذا المانع مستحيلاً في الخارج، فلا فائدة في أخذه مانعاً.

فإنّه يقال: إنّ استحالة حصوله في الخارج إنّما نتجت من أخذه مانعاً، وهذا بنفسه هو فائدة المانعيّة.

هذا تمام الكلام في معقوليّة أخذ القطع بالحكم مانعاً عنه. أمّا إنّ مقالة الأخباريّين يمكن توجيهها بالحمل على هذا الوجه، أو لا، فهذا ما سنبحثه في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله.

 


(1) أمّا لو لم يفرض أنّ المانع هو العلم بشخص هذا الحكم، بل فرض أنّ المانع هو العلم بالجامع بين الحكم المقيّد بعدم العلم وغير المقيّد به، فهذا خروج عمّا نحن فيه من أخذ العلم بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وهذا الفرض ـ أيضاً ـ معقول، ولا يرد عليه لزوم عدم وصول شخص الحكم المقيّد بعدم العلم إلى من جعل في حقّه؛ وذلك لمكان الجواب الأوّل فحسب، وهو: أنّ اللازم في الحكم إنّما هو قابليّته للوصول إلى من جعل في حقّه، لاإلى غيره، وتلك القابليّة ثابتة هنا.

363

 

خاتمة في أقسام الظنّ

 

وفي ختام البحث عن أقسام القطع التي عرفتها نبحث عن مدى تصوّر تلك الأقسام في الظنّ:

إنّ التقسيمات الماضية للقطع كانت باعتبارات ثلاثة:

الأوّل: انقسامه إلى طريقىّ وموضوعىّ على وجه الصفتيّة وعلى وجه الكاشفيّة، وقد عرفت الوجوه الصحيحة لتصوير هذا التقسيم للقطع. أمّا الظنّ فلا إشكال في تصوّر طريقيّته، وكذلك فرض أخذه موضوعاً بما هو صفة. أمّا موضوعيّته بنحو الكاشفيّة، فتتصوّر ـ أيضاً ـ بناءً على تفسير تقسيم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ، باعتبار عنوان (له) وعنوان (فيه)؛ فإنّ الظنّ ـ أيضاً ـ مشتمل على هذين العنوانين كالقطع. وأمّا بناءً على التفسير الآخر: وهو كون الموضوعىّ الصفتىّ ما لوحظ فيه بعض لوازمه، والموضوعىّ الطريقىّ ما لم يلحظ فيه ذلك، فهذا التقسيم متصوّر في الظنّ الذي يكون حجّة شرعاً، ولا يجري بالنسبة إلى الظنّ الذي لا يكون حجّة شرعاً إلّا بتأويل.

توضيح ذلك: أنّه إن اُريد بأخذ الظنّ الذي ليس حجّة موضوعاً لحكم بما هو كاشف أخذه موضوعاً بما له من الكشف الشرعىّ، فهذا خلف فرض عدم حجّيّته، وإن اُريد بذلك أخذه موضوعاً بما له من الكشف التكوينىّ الناقص، قلنا: هل المراد أخذ كشفه الناقص موضوعاً بما له من الحدّ العدمىّ، أي: بشرط لا عن المرتبة الأعلى من الكشف، وهي مرتبة القطع، أو المراد أخذ هذا المقدار من الكشف من دون دخل الحدّ العدمىّ في الحكم، فيكون الحكم مترتّباً على القطع أيضاً؛ لأنّ ذاك المقدار من الكشف موجود فيه وإن كان في ضمن كشف أقوى؟

فإن اُريد الأوّل، رجع هذا إلى الظنّ الصفتىّ؛ لأنّ الموضوع لم يكن متمحّضاً في ذات الكشف، وقد اُخذ فيه بعض الصفات المقارنة، وهو الحدّ العدمىّ.

وإن اُريد الثاني، لم يكن ذلك أخذاً للظنّ موضوعاً، بل كان أخذاً للجامع بين الظنّ والقطع موضوعاً، وهذا ما قصدناه بكلمة التأويل.

364

أمّا إذا كان الظنّ حجّة شرعاً، فأخذه موضوعاً بما هو كاشف من دون أن يرجع إلى أخذ الجامع بين القطع والظنّ بمكان من الإمكان؛ وذلك بأن يكون الموضوع الحجّيّة التعبّديّة، ومن المعلوم: أنّ القطع ليس حجّة تعبّداً (1).

الثاني: انقسام الموضوعيّ منه إلى كونه تمام الموضوع، أو جزء الموضوع. وهذا التقسيم كان متصوّراً في باب القطع. أمّا في الظنّ فلا إشكال في أخذه تمام الموضوع، كما لا إشكال في أخذه جزء الموضوع عند ما يكون الجزء الآخر شيئاً آخر غير متعلّقه. أمّا إذا فرض الجزء الآخر عبارة عن متعلّقه وجوداً أو عدماً، فهناك فرق بين الظنّ الذي يكون حجّة شرعاً، والظنّ الذي لا يكون حجّة:

ففي الظنّ الذي يكون حجّة نقول: إنّ من الممكن كون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه وجوداً، فالجزء الأوّل من الموضوع ثابت بالوجدان، والجزء الثاني ثابت بالتعبّد، ولكن لا يمكن تركّب الموضوع منه ومن متعلّقه عدماً؛ لأنّ هذا الموضوع يستحيل وصوله إلى المكلّف؛ إذ لو كان الظنّ حجّة، فكيف يتصوّر ثبوت عدم متعلّقه عند المكلّف؟! ولو فرض قيام حجّة شرعيّة لدى المكلّف غير هذا الظنّ على عدم متعلّقه، وقع التعارض بينها وبين هذا الظنّ، وخرج هذا الظنّ عن كونه حجّة.

وفي الظنّ الذي لا يكون حجّة نقول: من الممكن كون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه وجوداً أو عدماً؛ لإمكان وصول الموضوع بكلا جزئيه إلى المكلّف: أمّا الجزء الأوّل وهو الظنّ، فبالوجدان، وأمّا الجزء الثاني، فإن كان عبارة عن متعلّق الظنّ وجوداً، فيمكن أن يصل بأحد أمرين:

الأوّل: قيام حجّة شرعيّة على طبق ذلك الظنّ.

والثاني: ثبوت حكم شرعىّ على فرض مخالفة ذلك الظنّ للواقع، فيتشكّل ـ عندئذ ـ علم إجمالىّ بفعليّة ذلك الحكم، أو الحكم المترتّب على الظنّ.

وإن كان عبارة عن متعلّق الظنّ عدماً، فدائماً يتشكّل علم إجمالىّ بصحّة متعلّق الظنّ، أو فعليّة الحكم المترتّب على الظنّ، فإن قامت حجّة شرعيّة على خلاف ذلك الظنّ، ثبت


(1) وأمّا إذا فسّرنا الموضوعىّ الطريقىّ بما اُخذ موضوعاً بوصفه داخلاً في جامع الحجّة، والموضوعىّ الصفتىّ بما اُخذ موضوعاً بخصوص ذاته، فمن الواضح: أنّ هذا التقسيم إنّما يجري في الظنّ الحجّة، ولا يجري في غيره.