434

يثبت كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ؛ فإنّ التقييد والإطلاق كلاهما أمر وجوديّ مسبوق بالعدم، فكما يجري استصحاب عدم لحاظ القيد كذلك يجري استصحاب عدم لحاظ الإطلاق، وكلّ من الأصلين النافيين لأحد الضدّين لا يثبت الآخر، إلاّ بناءً على الأصل المثبت.

3 ـ ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من تقابل العدم والملكة، فالإطلاق أمر عدميّ مطعّم بالملكة، فأيضاً يأتي إشكال: أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق؛ وذلك لأنّه عدم خاصّ مطعّم بالملكة لا مطلق العدم الذي يثبت باستصحاب عدم شيء، فلا يمكن إثباته باستصحاب العدم، كما أنّ استصحاب عدم البصر في الجسم القابل لا يثبت العمى.

الثالث: مبنيّ على أنّ الإطلاق أمر عدميّ صرف، فيندفع الإشكال السابق لكن يرد هذا الإشكال وهو: أنّ استصحاب عدم أخذ الخصوصيّة لا يجري، لعدم أثر شرعيّ، فإنّ عدم أخذ القيد ليس موضوعاً لحكم شرعيّ وإنّما هو سبب للظهور الذي هو موضوع الحكم الشرعيّ بالحجّيّة، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الناحية. إذن فلا يوجد أصل عمليّ منقّح للمدّعى في المسألة الاُصوليّة.

 

الأصل العمليّ بلحاظ المسألة الفقهيّة:

وأمّا الأصل بلحاظ المسألة الفقهيّة: فتارة يقع الكلام بلحاظ الأصل الموضوعيّ، وهو استصحاب بقاء كونه عالماً مثلاً بعد زوال المبدأ، وهو العلم عنه، واُخرى بلحاظ الأصل الحكميّ:

أمّا الكلام بلحاظ الأصل الموضوعيّ، فقد يقال بجريان استصحاب عنوان العالم بعد انقضاء المبدأ عنه، ويسمّى ذلك بالاستصحاب في الشبهة المفهوميّة.

435

والتحقيق: عدم جريانه كما بيّنّاه مفصّلاً في بحث الاستصحاب، وبيانه إجمالاً بمقدار ما ينطبق على محلّ الكلام: أنّ لدينا في المقام ثلاثة اُمور:

1 ـ فعليّة التلبّس بالمبدأ، وهي مقطوعة الارتفاع، فلا معنى لاستصحابها.

2 ـ الجامع بين التلبّس والانقضاء، وهو مقطوع البقاء، فلا معنى لاستصحابه.

3 ـ عنوان مدلول كلمة «العالم»، وهو مشكوك البقاء؛ إذ لا ندري: هل أنّ مدلولها هو خصوص المتلبّس بالفعل الذي هو مرتفع قطعاً، أو الأعمّ الذي ثابت قطعاً، فبالتالي لا ندري أنّ مدلول كلمة «العالم» هل هو ثابت أو لا؟ فقد يتخيّل جريان الاستصحاب بلحاظه، إلاّ أنّه غير صحيح أيضاً؛ لأنّ مدلول اللفظ بهذا العنوان ليس موضوعاً لحكم شرعيّ بحيث لولا وضع لفظة «عالم» مثلاً لما ثبت هذا الحكم للعالم، وإنّما موضوع الحكم الشرعيّ هو واقع مدلول اللفظ، أي: ما يكون مدلولاً له بالحمل الشائع فإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لموضوعاتها الواقعيّة، ودلالة اللفظ إنّما هي طريق إلى الموضوع لا قيد للموضوع، فالموضوع للحكم: إمّا هو ما نقطع ببقائه، وعليه لا مجال للاستصحاب، أو ما نقطع بارتفاعه، وعليه أيضاً لا مجال للاستصحاب.

وأمّا الكلام بلحاظ الأصل الحكميّ، فتارة نفرض أنّ التكليف تعلّق بصرف الوجود، كما إذا قال: «أكرم عالماً» واُخرى نفرض أنّه تعلّق بمطلق الوجود، كما إذا قال: «أكرم كلّ عالم»:

فإن تعلّق التكليف بصرف الوجود، فالشكّ يكون في إجزاء الامتثال بإكرام المنقضي عنه المبدأ، وبحسب الحقيقة يكون الشكّ من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الشبهات الحكميّة، وفي مثل ذلك يتعيّن القول بالبراءة على ما بيّنّاه في بحث البراءة والاشتغال مفصّلاً، وبيانه إجمالاً بمقدار ما ينطبق على

436

محلّ الكلام: أنّنا تارة نفرض أنّ الجامع الأعمّيّ محفوظ في ضمن المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ، إلاّ أنّ المتلبّس يزيد عليه بزيادة، فالنسبة بينهما كالنسبة بين الرقبة والرقبة المؤمنة، واُخرى يفرض أنّهما مفهومان متباينان في عالم المفهوميّة وإن كانت النسبة بينهما في مقام الصدق والانطباق العموم المطلق. فإن فرضنا الأوّل، كان من الأقلّ والأكثر في نفس عالم عروض الوجوب؛ لأنّ الجامع محطّ للوجوب على أيّ حال، وتقيّده مشكوك، فتجري البراءة عن الزائد. وإن فرضنا الثاني، فبلحاظ عالم الوجوب والواجب يكون الأمر دائراً بين المتباينين، ولكن بحسب عالم الكلفة التي هي نتيجة الوجوب يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ كلفة وجوب الجامع الأعمّيّ أقلّ من كلفة الآخر؛ لأنّ دائرة صدقه أوسع. وقد بيّنّا في محلّه أنّه مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ عالم الكلفة تجري البراءة عن ذي الكلفة الزائدة، فتجري في المقام البراءة عن وجوب إكرام خصوص المتلبّس بالفعل.

وإن تعلّق التكليف بمطلق الوجود كما لو قال: «أكرم العالم» وانقضى المبدأ عن بعض الأفراد، فهنا فصّل صاحب الكفاية بين ما إذا كان الحكم قد حدث بعد انقضاء المبدأ، فيكون الشكّ شكّاً في حدوث الوجوب، فتجري البراءة أو استصحاب عدم الوجوب، وما إذا كان الحكم قد حدث قبل انقضاء المبدأ، فيجري استصحاب الوجوب(1).

أقول: إنّه فيما إذا كان حدوث الحكم بعد انقضاء المبدأ: فتارةً يكون ذلك من باب: أنّ أصل جعل المولى للحكم كان بعد انقضاء المبدأ، فهنا يتمّ ما ذكره صاحب


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 68 بحسب طبعة المشكينيّ.

437

الكفاية(رحمه الله) من الرجوع إلى الاُصول المؤمّنة، واُخرى يكون من باب: أنّ الحكم وإن ثبت جعله قبل انقضاء المبدأ، لكنّه كان مشروطاً بشرط لم يتحقّق بلحاظ هذا الشخص إلاّ بعد انقضاء المبدأ، فليس التأخّر في أصل جعل الحكم، وإنّما التأخّر في فعليّته، كما لو أوجب قبل عيد الفطر إكرام العلماء إذا جاء عيد الفطر، ثُمّ زال المبدأ من بعض العلماء بعد أصل الجعل وقبل تحقّق الشرط وهو مجيء عيد الفطر، فالحكم هنا متأخّر عن انقضاء المبدأ، بمعنى: تأخّر فعليّته عنه، وفي مثل هذا المورد بالإمكان أن يجري الاستصحاب التعليقيّ الحاكم على البراءة، فيقال: هذا الشخص الذي زال علمه كان قبل هذا لو جاء عيد الفطر لوجب إكرامه، والآن كما كان بحكم استصحاب هذه القضيّة الشرطيّة. والاستصحاب التعليقيّ قد التزم به صاحب الكفاية(رحمه الله) في محلّه، ونحن أيضاً أيّدناه في الجملة.

وأمّا إذا كان الحكم ثابتاً قبل انقضاء المبدأ بجعله وفعليّته، فهنا يجري استصحاب الحكم استصحاباً تنجيزيّاً، إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ناقش في هذا الاستصحاب بأمرين(1):

الأوّل: أنّه استصحاب في الشبهة الحكميّة، وهو ـ دامت بركاته ـ لا يبني على الاستصحاب في الشبهات الحكمية. إلاّ أنّ التحقيق في محله وفاقاً للمشهور بين المحقّقين المتأخّرين: جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، فلا إشكال من هذه الناحية.

الثاني: أنّه لو سلّمنا الاستصحاب في باب الشبهات الحكميّة في الجملة، فلا نسلّمه في الشبهات الحكميّة المفهوميّة؛ لعدم العلم فيها بوحدة الموضوع. وما نحن


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 243 ـ 245 بحسب طبعة مطبعة النجف.

438

فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أنّ مفهوم «عالم» مثلاً في قوله: «اكرم العالم» مردّد بين المتلبّس بالفعل والأعمّ، فإذا كان هو المتلبّس بالفعل، فقد تعدّد الموضوع، وارتفع موضوع القضيّة المتيقّنة، وإذا كان هو الأعمّ فالموضوع باق، فنحن لم نحرز بقاء الموضوع حتّى نجري الاستصحاب.

أقول: هذا الإشكال لو تمّ، لما اختصّ بالشبهات الحكميّة المفهوميّة، بل يجري في كلّ الشبهات الحكميّة ولو لم تكن مفهوميّة، كما لو قال: «الماء إذا تغيّر بعين النجس تنجّس» ثُمّ زال التغيّر، وشككنا في بقاء النجاسة لا لإجمال مفهوم الدليل، بل لسكوت الدليل عن حكم ما بعد زوال النجاسة، وعدم بيانه له لا منطوقاً ولا مفهوماً، فأيضاً نقول: إنّ موضوع الحكم مردّد بين المتغيّر بالفعل الذي قد ارتفع، ومطلق ما حصل فيه التغيّر ولو زال التغيّر عنه بعد ذلك، وهذا موجود؛ فأيضاً لا نجزم بوحدة الموضوع. والذي يجيب به السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وغيره على هذا الإشكال في الشبهات الحكميّة: أنّ الاستصحاب إنّما نجريه عند تغيّر ما لم يكن بحسب النظر العرفيّ حيثيّة تقييديّة وركناً في الموضوع على تقدير دخله، وإنّما كان على تقدير دخله حيثيّة تعليليّة. وأنت ترى أنّ نفس هذا الجواب بعينه يأتي في المقام، فيقال: إنّ فعليّة العلم إن كانت دخيلة، فهي حيثيّة تعليليّة للحكم، وليست ركناً وحيثيّة تقييديّة.

والخلاصة: أنّ الميزان في جريان الاستصحاب وعدمه ليس هو كون الشبهة الحكميّة مفهوميّة أو غير مفهوميّة، وإنّما الميزان: أنّ الحيثيّة المفقودة هل هي ركن في الموضوع عرفاً على تقدير دخلها، أو لا؟ فإن كانت ركناً في الموضوع على تقدير الدخل، لم نحرز وحدة الموضوع ولو لم تكن الشبهة مفهوميّة. وإن كانت مجرّد حيثيّة تعليليّة، فالموضوع لم يتعدّد ولو كانت الشبهة مفهوميّة، فالصحيح ما

439

عليه صاحب الكفاية من إجراء استصحاب الحكم خلافاً للسيّد الاُستاذ الذي أجرى البراءة عن الحكم.

بقي في المقام شيء بلحاظ الأصل الحكميّ، وهو: أنّه لو ثبت كلا الحكمين، أعني: الحكم بنحو صرف الوجود والحكم بنحو مطلق الوجود، فورد «أكرم عالماً» وورد «أكرم العادل»، ووجد عندنا شخص زال علمه، ووجد أيضاً شخص زالت عدالته، فهنا نبتلي بعلم إجماليّ بإلزام مردّد؛ لأنّه: إن كان المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس بالفعل، لم يجز لنا امتثال الحكم الأوّل بإكرام من انقضى علمه، وإن كان موضوعاً للأعمّ وجب علينا إكرام من انقضت عدالته، فإن كان الحكم الثاني متأخّراً بجعله وفعليّته مثلاً عن زوال عدالة هذا الشخص، فلا محيص عن الاحتياط لتنجيز العلم الإجماليّ. وإن كان متقدّماً على زوال عدالته، فعلى مبنانا من جريان استصحاب الوجوب في حقّه ينحلّ العلم الإجماليّ بالأصل المثبت للتكليف في أحد طرفيه، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. وعلى مبنى السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من جريان البراءة يتعارض الأصلان، ولابدّ من الاحتياط.

 

أدلّة القولين في وضع المشتقّ

 

وأمّا المقام الثاني: وهو الكلام بلحاظ الأدلّة على الطرفين، فنقول: هناك رأي بأنّ المشتقّ موضوع للمتلبّس بالفعل، ورأي آخر بأنّه موضوع للأعمّ، ورأي ثالث بالتفصيل. وقبل الدخول في أدلّتهم نقول:

إنّ تحليل نفس مدّعى القول بالأعمّ يكفي للالتفات إلى بطلانه بلا حاجة إلى التكلّم في تلك الأدلّة، فإنّ القول بالأعمّ معناه ـ كما عرفت ـ هو القول بوضع المشتقّ للجامع

440

بين المتلبّس بالفعل والمنقضي عنه المبدأ. ولابدّ لصاحب هذا القول من أن يلتزم بأحد جامعين على ما مضى: فإمّا أن يقول بأنّ الجامع هو ذات مقيّدة بالفعل الماضي، فالقائم معناه من قام، وإمّا أن يقول بأنّ الجامع هو ذات غير متلبّسة فعلاً بالعدم الأزليّ للمبدأ. أمّا الثاني فقد عرفت عدم عرفيّته، فإنّ الوجدان حاكم بأنّه لا يفهم من مثل: ضارب أو قائم إلاّ معنىً ثبوتيّ صرف، ولا ينتقل الذهن بنحو التفصيل ولا بنحو الإجمال إلى نفي العدم، بل يفهم منه رأساً المعنى الثبوتيّ، وليس هذا جامعاً عرفيّاً يقع تحت نظر الواضع أوّلاً وتحت نظر المستعمل والسامع ثانياً. وأمّا الأوّل فلازم أخذ الفعل الماضي في مفهوم المشتقّ هو: أن يشترط في كون استعمال المشتقّ حقيقيّاً أن يكون المبدأ ثابتاً للمشتقّ فيما مضى ولو آناً ما؛ إذ لو كان المبدأ ثابتاً في الحال فقط، لم يكن ذلك مفاد الفعل الماضي، وإنّما هو مفاد الفعل المضارع، بينما من الواضح وجداناً كفاية التلبّس الحاليّ، بل يلزم من ذلك في المبادئ الآنيّة كالضرب، أي: الضربة الواحدة كون المشتقّ حقيقة في خصوص المنقضي عنه المبدأ دون المتلبّس؛ لأنّ التلبّس في الآن الحاضر لا يكفي لكونه معنى المضارع لا الماضي، وقد اُخذ الفعل الماضي ركناً في مفهوم المشتقّ، والتلبّس فيما قبل الآن الحاضر قد انقضى؛ لأنّ المبدأ كان آنيّاً، فوجود لوازم فاسدة عرفاً من هذا القبيل يكفي لكونه برهاناً عرفيّاً على عدم صحّة القول بكون المشتقّ موضوعاً للأعمّ، وتعيّن القول بكونه موضوعاً لخصوص المتلبّس، إذن فتحليل نفس المدّعى كاف لإبطاله من دون حاجة إلى الدخول في الوجوه التي تذكر للمُدَّعَيات(1)، إلاّ أنّنا مع ذلك نمرّ بوجوه بعض الأقوال إجمالاً فنقول:

 


(1) لا يخفى: أنّ إبطاله(رحمه الله) لدعوى وضع المشتقّ للأعمّ بتحليل نفس المدّعى بالنحو الذي ذكره مبتن على مبناه من أنّ الجامع الصحيح العرفيّ منحصر في مفاد الفعل الماضي.

441

أدلّة وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالفعل:

أمّا القول بالاختصاص بخصوص المتلبّس بالفعل، فقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: دعوى تبادر خصوص المتلبّس. واُشكل عليه من قبل الأعمّيّ بأنّه لعلّ التبادر ليس ناشئاً من الوضع، بل من الانصراف القائم على أساس غلبة الاستعمال في المتلبّس.

وأجاب على ذلك صاحب الكفاية(1) بأنّ الغالب في موارد استعمال المشتقّ هو الانقضاء، فكيف يمكن دعوى الانصراف إلى المتلبّس على أساس الغلبة في الاستعمال؟ إلاّ أنّ صاحب الكفاية رأى أنّ هذا الكلام أوقعه بين محذورين: فإن ادّعى: أنّ الغالب في استعمال المشتقّ هو التلبّس بالفعل، وقع في مشكلة: أنّ


أمّا لو بنينا على ما مضى من فرض وجود جامع التحقّق في مقابل الترقّب، فهذا جامع يثبت فيما انقضى عنه المبدأ، ويثبت أيضاً في المتلبّس بالحال ولو كان مبدؤه آنيّاً، أو كان تلبّسه في الحال فحسب، أي: الماضي، فهذا البيان لا يتمّ.

ويؤيّد فرض وجود جامع حقيقيّ بين المنقضي عنه المبدأ والمتلبّس من أوّل آنات تلبّسه ـ سواء أمكننا التعبير عن ذاك الجامع بما ذكرناه من عنوان تحقّق المبدأ أو خاننا التعبير عنه ـ هو ما نُحسّ به وجداناً وعرفاً من أنّ زيداً الذي ضرب سابقاً مع من هو ضارب بالفعل ولم يكن ضارباً سابقاً بينهما شبهٌ، أو سنخيّة، أو تماثل مفقود في من لم يضرب حتّى الآن، كما أنّ بينهما وبين من سيضرب مستقبلاً أيضاً شبه وتماثل مفقود في من لم يضرب ولن يضرب، فبناءً على أنّ الشبه والتماثل يكشف عن الجامع الحقيقيّ يثبت هنا وجود الجامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ، كما يثبت وجود جامع آخر أوسع بينهما وبين من سيتلبّس بالمبدأ.

(1) لا يخفى: أنّ هذا البحث في الكفاية لم يرد في ذيل دليل التبادر، بل ورد في ذيل دليل ارتكاز التضادّ.

442

الانصراف لعلّه على أساس غلبة الاستعمال، وليس تبادراً دالاًّ على الحقيقة، وإن ادّعى: أنّ الغالب فيه هو الانقضاء، قيل له: إذن فكيف تدّعي: أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس، بينما هذا معناه: غلبة الاستعمال في المعنى المجازيّ الكاشفة عن غلبة الحاجة إليه، مع أنّ الوضع يتّبع الحاجات، واللفظ إنّما يوضع لذاك المعنى الأكثر حاجة إليه، فهذا خلاف حكمة الوضع؟

وتخلّص صاحب الكفاية عن كلا المحذورين بأن قال: إنّ أكثر موارد استعمال المشتقّ هو مورد الانقضاء، إلاّ أنّه يمكن حملها على الاستعمال في المتلبّس، وذلك بأن يكون الجري بلحاظ زمان التلبّس، ويمكن حملها على الاستعمال في المنقضي عنه المبدأ، وذلك بأن يكون الجري بلحاظ الحال. وعليه: فبناءً على أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس تحمل تلك الاستعمالات على الجري بلحاظ زمان التلبّس عملاً بأصالة الحقيقة، فلم تلزم غلبة الاستعمال في المعنى المجازيّ. وبناءً على أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ لا تجري أصالة الحقيقة لإثبات الاستعمال في المتلبّس؛ لأنّ الاستعمال في المنقضي أيضاً حقيقة، بل تحمل هذه الاستعمالات على الاستعمال بلحاظ حال النطق تمسّكاً بأصالة الإطلاق التي توجب أنّ زمان الجري هو زمان النطق، فإنّ الإطلاق وعدم تعيين الزمان يقتضي ذلك، وزمان النطق هو زمان الانقضاء، إذن لم يصحّ دعوى الانصراف إلى المتلبّس لكثرة الاستعمال(1)، فارتفع كلا الإشكالين.

أقول: إنّنا لا نسلّم أنّ أكثر الاستعمالات في المنقضي عنه المبدأ حتّى على


(1) لا يخفى: أنّ الموجود في الكفاية ليس هو فرض الانصراف إلى المتلبّس لكثرة الاستعمال بل فرض انسباق التلبّس من الإطلاق من دون اشتراط التلبّس من قبل الواضع ولكنّنا لا نفهم سبباً لهذا الانسباق من الإطلاق إلاّ كثرة الاستعمال.

443

القول بالأعمّ. وبيان ذلك: أنّ استعمالات المشتقّ قد تكون في جملة تطبيقيّة: وأقصد بها: أنّ هناك ذاتاً مشخّصة نطبّق عليها عنوان المشتقّ، كما في «زيد عالم»، واُخرى تكون غير تطبيقيّة، أي: لم يطبّق فيها عنوان المشتقّ على ذات معيّنة، كما إذا قيل: «أكرم العالم». أمّا في الثاني فالمستعمل لم يلحظ ذاتاً معيّنة، وأجرى عليها المشتقّ ليقال: إنّ مقتضى الإطلاق: أنّ زمان الجري هو زمان النطق، وفي زمان النطق قد انقضى المبدأ عن الذات. وأمّا في الأوّل فالجملة التطبيقيّة: إمّا إسناديّة كـ «رأيت العالم»، أو «ضرب العالم»، أو حمليّة كـ «زيد عالم» فإن كانت إسناديّة، فمن الواضح: أنّ مقتضى الإطلاق فيها: أنّ الجري والتطبيق على الذات إنّما هو بلحاظ زمان صدور الفعل، لا بلحاظ زمان النطق حتّى يقال بأنّ زمان النطق قد انقضى فيه المبدأ، فيتعيّن كونه مستعملاً في المنقضي، بل في زمان النطق لعلّ ذاته أيضاً غير موجودة. وإن كانت حمليّة: فتارةً نفرض أنّ الذات منقضية كما في قولنا «الشيخ المفيد عالم»، واُخرى نفرض عدم انقضائها كما في قولنا «زيد عالم»، وكان زيد بعدُ حيّاً، ففي الأوّل من الواضح: أنّ الجري لا يكون بلحاظ زمان النطق، بل بلحاظ زمان وجود الذات حتّى على رأي الأعمّيّ؛ إذ عند زمان النطق لا ذات أصلاً حتّى يجري عليها الوصف الاشتقاقيّ، وفي الثاني نسلّم: أنّ مقتضى أصالة الإطلاق أن يكون الجري بلحاظ زمان النطق، ولكن لا نسلّم في خصوص هذا القسم من القضايا، أي: القضايا التطبيقيّة الحمليّة الموجود فيها الذات أنّ الغالب هو التلبّس حال النطق، إذن فكلام صاحب الكفاية غير صحيح.

ولكن إشكال الأعمّيّ بأنّ التبادر لعلّه انصرافيّ نشأ من كثرة الاستعمال غير وارد، فإنّه حتّى لو سلّم كون التبادر انصرافيّاً نشأ من كثرة الاستعمال، لا يضرّنا ذلك؛ إذ معنى ذلك: صيرورة اللفظ بكثرة الاستعمال موضوعاً بالوضع التعيّنيّ في

444

خصوص المتلبّس بالنقل من الأعمّ مثلاً، وتمام همّ الفقيه إنّما هو إثبات ظهور اللفظ في معنىً، وهذا يثبت بثبوت الوضع والتبادر من دون فرق بين كون الوضع تعيينيّاً أو تعيّنيّاً، ولم يكن الهدف إثبات خصوص الوضع التعيينيّ مثلاً.

الوجه الثاني: أنّه على الأعمّ يلزم عدم التضادّ بين الأوصاف الاشتقاقيّة المأخوذة من المبادئ المتضادّة، كالعالم والجاهل؛ لأنّه يكفي في صدق كلّ منهما تلبّسه في وقت من الأوقات الماضية بمبدئه، فإذا تلبّس في وقت بمبدأ، وفي وقت آخر من الأوقات الماضية أو في الوقت الحاضر بالمبدأ الآخر، صدق الوصفان معاً، بينما هما متضادّان بلا إشكال كما هو واضح.

وهذا الوجه إذا اُريد جعله دليلاً حقيقيّاً على المدّعى، فهو غير تامّ، فإنّه إن اُريد جعل تضادّ المبادئ برهاناً على تضادّ الصفات، فهذا غير صحيح؛ لأنّ التضادّ بين المبدءين لا يلزم منه التضادّ بين مدلولي الهيئتين الاشتقاقيّتين؛ إذ قد تطعّم الهيئة الاشتقاقيّة بما يخرج المعنيين عن التضادّ، كما هو الحال على الأعمّ؛ إذ طعّم المشتقّ بمفاد الفعل الماضي على ما سبق، فيكون مدلول «عالم» من علم، ومدلول «جاهل» من جهل، وطبعاً لا تضادّ بينهما، وإن اُريد جعل وضوح التضادّ وارتكازه في أنظار العرف دليلاً على التضادّ، فهذا الارتكاز إنّما هو في طول معرفة المعنى، فالإنسان حيث إنّه يفهم من كلمة «العالم» المتلبّس بالعلم فعلاً، ومن كلمة «الجاهل» المتلبّس بالجهل فعلاً ارتكز في ذهنه التضادّ، ومن لا يعرف معنى كلمة العالم والجاهل لا يرتكز في ذهنه التضادّ، فارتكاز التضادّ في طول ارتكاز كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، فلا يصلح هذا دليلاً حقيقيّاً على المدّعى. نعم، يصلح أن يكون منبّهاً حين الغفلة، لا أن يكون معطياً للعلم بالمطلب لمن لا يعلم به حقيقةً.

445

الوجه الثالث: صحّة السلب، فيصحّ سلب «عالم» عن زيد المنقضي عنه المبدأ، وصحّة السلب علامة المجاز.

واعترض على ذلك بأنّه: هل يراد صحّة سلب «عالم» بالكلّيّة، أو صحّة سلب «عالم» مقيّداً بأن يكون عالماً بالعلم الفعليّ؟ فإن اُريد صحّة سلب عالم بالكلّيّة، فهو خلاف الوجدان، فإنّ زيداً عالم بعلم سابق يقيناً. وإن اُريد أنّه ليس بعالم بعلم فعليّ، فهذا صحيح، لكن صحّة سلب المقيّد لا تدلّ على مجازيّة العالم بقول مطلق.

وهذا الإشكال نشأ من الخلط بين تقييد الوصف الاشتقاقيّ وتقييد مبدأ الاشتقاق، أي: العالم والعلم فتارةً نقول: «زيد ليس بعالم الآن»، واُخرى نقول: «زيد ليس بعالم بعلم الآن». فالثاني إن صحّ لا يستلزم مجازيّة المشتقّ في المنقضي عنه المبدأ، لكن الأوّل يستلزم مجازيّته فيه، ويساوق بطلان قول الأعمّيّ، فإنّ النزاع كلّ النزاع في أنّه: هل هو عالم الآن، أو لا؟

نعم، أصل صحّة السلب وصحّة الحمل ليس من أدلّة الحقيقة والمجاز كما بيّنّا في بحث علائم الحقيقة والمجاز. فهذا الوجه حاله حال الوجه السابق في أنّه يستعمل فقط من أجل التنبيه على أمر معلوم سابقاً، لا لإعطاء علم جديد.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1)، وهو مركّب من أمرين:

الأوّل: قيام البرهان على بساطة معنى المشتقّ، ومعناه هو معنى المبدأ، إلاّ أنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا، والمشتقّ مأخوذ لا بشرط؛ ولهذا لا يقبل المبدأ الحمل بخلاف المشتقّ.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 106 ـ 121 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 63 ـ 76 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ.

446

الثاني: أنّه بناء على بساطة المفهوم الاشتقاقيّ، وكون معناه هو معنى المبدأ لا يعقل الوضع للأعمّ؛ إذ لا يتصوّر الجامع الأعمّيّ، فإذا كان «عالم» مثلاً بمعنى العلم، فالعلم ليس جامعاً بين المتلبّس والمنقضي عنه، إذن فيثبت بذلك أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس.

أقول: أمّا الأمر الثاني، وهو أنّه بناءً على البساطة(1) لا يعقل الجامع الأعمّيّ، فقد تقدّم الكلام عنه في المقدّمات، وقلنا: إنّه صحيح. وأمّا الأمر الأوّل، وهو بساطة المفاهيم الاشتقاقيّة، وكونها نفس مفاهيم المبادئ، فهذا لا نقبله، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في خاتمة المسألة، فالأحسن تبديل هذا البيان بما مضى بأن يقال: إنّ المفهوم الاشتقاقيّ: إمّا أن يقال ببساطته، فلا يعقل الأعمّ؛ لعدم تصوّر الجامع، أو يقال بتركّبه، فالجامع معقول ثبوتاً، لكن مضى أنّه لو حلّلناه لرأيناه يستلزم محاذير عرفيّة لا يقبلها الوجدان العرفيّ، فالجامع غير صحيح عرفاً، فعلى كلا التقديرين لا يصحّ الأعمّ، وهذا هو العمدة في إثبات المدّعى.

وبما ذكرناه ظهر وجه الخلل في الأدلّة التي استدلّ بها للأعمّ بنحو الموجبة الكلّيّة، فلا حاجة إلى التعرّض لها(2).

 


(1) بمعنى كون معنى المشتقّ هو معنى المبدأ، أمّا البساطة بمعنى كونه عنواناً انتزاعيّاً بسيطاً ينتزع من الذات بلحاظ اتّصافه بالمبدأ، فهي ملحقة في إمكان تصوير الجامع وعدمه بالتركيب.

(2) لا بأس بالتعرّض هنا لدليل واحد من أدّلة القول بالأعمّ، وهو الاستدلال بما ورد في بعض الروايات (راجع تفسير البرهان، ج 1، ص 149 ـ 151) من استدلال المعصوم(عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية: 124) على عدم صلاحيّة من كان مشركاً في أوّل أمره للإمامة، حيث يقال: إنّه لو لم يكن عنوان الظالم ←

447


اسماً لما يشمل المنقضي عنه المبدأ، لما صحّ استدلال الإمام(عليه السلام)بهذه الآية المباركة لإبطال خلافة الخلفاء الأوائل في مقابل أهل السنّة؛ لأنّهم لا يعترفون بأنّ خلفاءهم كانوا ظالمين في وقت تقمّصهم قميص الخلافة، وإنّما يعترفون بظلمهم قبل إسلامهم.

وقد تضاف إلى ذلك آيتا حدّ السرقة والزنا (سورة المائدة، الآية: 38، وسورة النور،الآية: 2)؛ لوضوح: أنّ الحدّ عادة يتمّ بعد انتهاء عمليّة السرقة والزنا، فهذا شاهد على أنّ اسم الزاني والسارق يشمل من انقضى عنهما المبدأ.

والواقع: أنّ إلحاق آيتي السرقة والزنا في المقام في غير محلّه، فإنّه لو فرض توقّف تطبيق الآيتين على مورد الانقضاء حال إجراء الحدّ على حمل عنوان السارق والزاني فيهما على الأعمّ، إذن تصبح إرادة الأعمّ في الآيتين مقطوعاً بها؛ إذ لا شكّ فقهيّاً في إيقاع الحدّ عليهما بعد انقضاء المبدأ، وعندئذ يدخل التمسّك بالآيتين لإثبات كون المشتقّ حقيقةً في الأعمّ في إجراء أصالة الحقيقة لدى الشكّ في الاستناد، وقد ثبت في محلّه: أنّ أصالة الحقيقة إنّما تكون حجّة لدى الشكّ في المراد، لا الاستناد.

فينحصر الاستدلال على الأعمّ في آية:﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، ويكون هذا الاستدلال بلحاظ الروايات التي طبّقت الآية على من كان مشركاً قبل الإسلام إن تمّت سنداً.

وقد أجاب السيّد الخوئيّ(رحمه الله) (على ما ورد في المحاضرات للفيّاض، ج 1، ص 256 ـ 264 بحسب طبعة مطبعة النجف) عن الاستدلال بذلك وبآيتي حدّ الزنا والسرقة بأنّنا حتّى لو آمنّا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ فاستعماله في القضايا الحقيقيّة ـ ومنها هذه الآيات ـ لا يصحّ في المنقضي عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء؛ وذلك لأنّ القضيّة الحقيقيّة لم يلحظ فيها تطبيق المشتقّ الذي أصبح موضوعاً لتلك القضيّة على شخص ما حتّى يفترض أنّ المبدأ قد انقضى عن ذاك الشخص، وإنّما الموضوع في القضيّة الحقيقيّة يكون مقدّر الوجود، أو قل: إنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة،

448


ويكون تحقّق الشرط ـ لا محالة ـ بفعليّة المبدأ، فإذن لا يمكن أن يقصد بموضوع القضيّة الحقيقيّة وكذلك متعلّقها إلاّ المتلبّس، والظاهر الأوّليّ من القضيّة الحقيقيّة هو دوران الحكم مدار عنوان موضوعه حدوثاً وبقاءً، إلاّ أن تقوم قرينة داخليّة أو خارجيّة على كفاية حدوث ذاك العنوان لثبوت الحكم وبقائه بعد زوال ذلك. ومن هنا يتّضح: أنّ النزاع في كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس أو الأعمّ ليس له أثر مهمّ، فإنّ الأحكام الشرعيّة هي عادة تكون بنحو القضايا الحقيقيّة، فلو بقينا نحن والظهور الأوّليّ لها كان مقتضى ذلك دوران الحكم مدار بقاء العنوان المقدّر حدوثاً وبقاءً حتّى لو فرضنا أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، فلا يشكّ أحدٌ أنّ حكم الجنب أو الحائض مثلاً يبقى مدّة بقاء الجنابة أو الحيض، ويرتفع بارتفاعهما، وهذا واضح حتّى لدى من يرى المشتقّ حقيقةً في الأعمّ، بل لم يحتمل أحد ابتناء هذه المسائل وما شاكلها على النزاع في المشتقّ، وليس هذا إلاّ لأجل ما قلناه من أنّ العنوان المأخوذ في موضوع قضيّة حقيقيّة يدلّ على المتلبّس لا محالة، وظهورها في دوران الحكم مدار ذاك العنوان حدوثاً وبقاءً يقتضي ارتفاع الحكم بمجرّد انقضاء المبدأ، ولو دلّت قرينة على أنّ ذاك العنوان يكون بحدوثه موضوعاً للحكم حتّى بقاءً، فلا محالة يحكم ببقاء الحكم بعد انقضاء المبدأ حتّى عند من يرى أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، وبما أنّ الظاهر في قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾هو دخل العنوان حدوثاً فحسب، وذلك بسبب مناسبة الحكم والموضوع باعتبار جلالة شأن الإمامة وعظمته، وخاصّة: أنّ كلمة (لا ينال) جيئت بصيغة المضارع التي تدلّ بإطلاقها على بقاء الحكم في المستقبل؛ ولهذا يصحّ الاستدلال بهذه الآية على عدم لياقة من كان مشركاً للإمامة حتّى بعد فرض توبته وصلاح حاله.

أقول: إنّ الاستفادة من صيغة المضارع لم تكن في محلّها في المقام؛ فإنّه لولا فرض اقتضاء مناسبة الحكم والموضوع لكفاية حدوث العنوان لبقاء الحكم حتّى بعد زواله، لكان مقتضى إطلاق المضارع بقاء هذا الحكم على هذا العنوان حتّى في المستقبل، أي: أنّ

449


الظالم مادام ظالماً لا ينال عهد الله، لا في الحاضر ولا في أيّ زمان مستقبل. وهذا لا علاقة له بعدم نيل عهد الله لدى ارتفاع الظلم، فإنّ صيغة المضارع وإن كانت تشمل المستقبل ولكنّ شمولها للمستقبل إنّما يوجب شمول الحكم بما له من القيود للمستقبل، فلو كان الحكم مقيّداً بالمقارنة المستمرّة للعنوان لم يكن ذلك منافياً لشمول صيغة المضارع للمستقبل.

وعلى أيّ حال، فأصل استدلاله(رحمه الله) على كون المشتقّ في موضوع القضيّة الحقيقيّة ملحوظاً بنحو التلبّس ـ ولو قيل بوضعه للأعمّ بأنّ الموضوع مقدّر الوجود ـ غريب، فإنّه وإن كنّا لا نشكّ في أنّ موضوع القضيّة الحقيقيّة مقدّر الوجود، أو أنّ موضوعها ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة، إذن فلابدّ من فرض فعليّة الشرط أو الموضوع، ولكن الكلام إنّما يقع في أنّ ذاك الشرط أو الموضوع الذي قدّر وجوده ما هو؟ هل هو المتلبّس بالفعل بالمبدأ، أو الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ؟ وكيف يعقل أن يكون فرض الموضوع مقدّر الوجود أو مشروط التحقيق دليلاً على تعيّن ذاك الموضوع في المتلبّس؟!

ويمكن توجيه كلامه(رحمه الله) بالإلفات إلى نكتة غير واضحة من عبارة تقرير بحثه، وهي: أنّ القضيّة الحقيقيّة تدلّ على شرط فعليّة التلبّس ولو آناً ما؛ لأنّه لولا فعليّة التلبّس ولو آناً ما يكون الموضوع منتفياً على الرأيين، أي: سواء قلنا بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالفعل أو الأعمّ، فأصل التلبّس ولو في أوّل الآنات دخيل في الحكم، وأمّا بقاء الحكم وعدمه فهو رهين استظهار كون ذاك التلبّس علّةً للحكم حدوثاً فحسب، أو حدوثاً وبقاءً.

فإن كان هذا هو المقصود كما هو غير بعيد برغم قصور عبارة التقرير، ورد عليه: أنّه وإن كان دخل أصل التلبّس في الحكم واضحاً على كلا الرأيين، ولكنّنا نقول: هل المدّعى عندئذ عدم صحّة استعمال المشتقّ في القضايا الحقيقيّة في خصوص المنقضي عنه المبدأ وإن صحّ استعماله في الأعمّ، أو المدّعى عدم صحّة استعماله حتّى في الأعمّ، وضرورة

450


استعماله في خصوص حال التلبّس؟

فإن قصد الأوّل، أي: عدم صحّة استعمال المشتقّ في القضايا الحقيقيّة في خصوص المنقضي عنه المبدأ، فلنسلّم بذلك موقّتاً من باب: أنّ دخل التلبّس ولو آناً ما في الحكم لا شكّ فيه على كلا الرأيين، ولكن يكفي في جريان النزاع في المشتقّ المستعمل في القضايا الحقيقيّة إمكان استعماله في الأعمّ تارةً، وفي المتلبّس بالفعل اُخرى.

وإن قصد الثاني، أي: عدم صحّة استعمال المشتقّ فيها إلاّ بلحاظ حال التلبّس، لا بلحاظ حال الانقضاء، ولا في الأعمّ، فهذا ما لا يقتضيه هذا الدليل؛ لأنّ دخل التلبّس ولو آناً ما يبقى قابلاً للانحفاظ حتّى في فرض الاستعمال في الأعمّ.

أمّا دعوى عدم الثمرة، فهذا أيضاً لا يتمّ؛ فإنّه تظهر الثمرة فيما لو كان مفاد القضيّة الحقيقيّة التقارن حدوثاً وبقاءً بين الحكم والعنوان المأخوذ في الموضوع، وقد اعترف هو(رحمه الله) بأنّ الظهور الأوّليّ للقضيّة الحقيقيّة هو ذلك لولا قرينة تقتضي حمل العنوان على كونه علّةً حدوثاً فحسب للحكم حدوثاً وبقاء، وهذا الاعتراف في محلّه؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة ينحلّ موضوعها إلى جملة الشرط، والشرط يدلّ بظهوره الأوّليّ على الاقتران الكامل بين الشرط والجزاء، أو قل: إنّ القضيّة الحقيقيّة موضوعها مقدّر الوجود، أي: قدّر وجوده كي يحمل عليه المحمول، وهذا ظاهر في التقارن حدوثاً وبقاءً، فلو كان الموضوع عبارة عن المبدأ لأنتج ذلك اشتراط بقاء المبدأ في بقاء الحكم، ولكن المفروض: أنّ الموضوع عبارة عن العنوان الاشتقاقيّ، وهو الظالم مثلاً، فإذا كان ذاك العنوان مستعملاً في خصوص المتلبّس بالفعل، فالنتيجة: اشتراط بقاء التلبّس الفعليّ في بقاء الحكم. وإن كان مستعملاً في الأعمّ فالتقارن بين الحكم والعنوان الاشتقاقيّ بقاءً محفوظ حتّى بعد زوال المبدأ؛ لأنّ عنوان الظالم مثلاً صادق حتّى بعد انتهاء الظلم.

بل إنّنا لا نسلّم عدم إمكان استعمال المشتقّ في القضايا الحقيقيّة في خصوص من انقضى عنه المبدأ؛ وذلك لأنّه صحيح: أنّ التلبّس آناً ما لابدّ منه في صدق الشرط أو

451

أدلّة وضع المشتقّ للأعمّ بنحو الموجبة الجزئيّة:

نعم يبقى هناك بحث معقول في دعوى الأعمّيّة بنحو الموجبة الجزئيّة في مشتقّات الحِرَف والصناعات، وأسماء الآلات، وبعض أسماء الأماكن كمذبح، فقد يقال في بعض هذه المشتقّات بنحو الموجبة الجزئيّة: إنّها موضوعة للأعمّ، وهذا يستحقّ نحواً من الالتفات، فقد يتراءى أنّ المشتقّ في أمثال هذه الاُمور حقيقة في


الموضوع المقدّر الوجود، ولكن بالإمكان أن يكون زمان هذا التلبّس قبل زمان الحكم، كما لو قال: «يجب في يوم الفطر إكرام العلماء» وقصد بذلك خصوص من انقضى عنه المبدأ، أي: العلماء الذين نسوا علمهم من قبل الفطر، فإنّ هذا كما يمكن تخريجه على لحاظ الحال السابق، فيكون معنى الكلام: يجب في الفطر إكرام من كان عالماً فيما سبق، وهذا خلاف ظهور القضيّة في ذاتها في التقارن بين العنوان والجزاء، وإن كان موافقاً لأصالة الحقيقة بناءً على كون المشتقّ حقيقةً في خصوص المتلبّس بالفعل، كذلك يمكن تخريجه على لحاظ حال الانقضاء، وهذا موافق لظهور القضيّة في ذاتها في التقارن بين الشرط والجزاء.

وقد ثبت بهذا العرض: أنّ الصحيح في الجواب على الاستدلال بروايات التمسّك بالآية لنفي خلافة الخلفاء الأوائل بعد فرض تماميّة السند هو طريقة صاحب الكفاية(رحمه الله)، من أنّ التمسّك بالآية لإبطال خلافة من كان مشركاً يتمّ في حالتين: الاُولى ما لو كان المشتقّ حقيقة في الأعمّ، والثانية ما لو كان مقتضى القرينة كمناسبات الحكم والموضوع كفاية حدوث العنوان لتحقّق الحكم حدوثاً وبقاءً. وبما أنّ النكتة الثانية موجودة فيما نحن فيه؛ لأنّ عظمة منصب الإمامة تصرف الكلام إلى الظهور في كفاية حدوث الظلم؛ لعدم قابليّة هذا المنصب حتّى بعد انتهاء الظلم، فاستدلال الإمام(عليه السلام) بالآية المباركة لنفي قابليّة من أشرك في أوّل أمره للإمامة لا يصلح دليلاً على حقّانيّة النكتة الاُولى، وهي كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالفعل ومن انقضى عنه المبدأ؛ لأنّ وجه الاستدلال لم يكن منحصراً بذلك (راجع الكفاية، ج 1، ص 74 ـ 76 بحسب طبعة المشكينيّ).

452

الأعمّ؛ إذ الصائغ مثلاً يصدق على وجه الحقيقة وجداناً على من حرفته الصياغة حتّى حينما يذهب إلى بيته ليأكل الطعام، أو يذهب إلى الصلاة مثلاً بالرغم من أنّ المبدأ قد انقضى عنه، وكذلك المذبح اسم للمكان المعدّ للذبح في البلد وإن لم يكن فيه ذبح بالفعل، وهكذا.

وما يمكن أن يجاب به على ذلك هو: أن يقال: إنّ هناك وجوهاً خمسة لتفسير صحّة إطلاق مثل الصائغ مع عدم التلبّس الفعليّ، أحدها يناسب القول بالأعمّ دون الباقي، فإذا عيّن بعض الباقي أو لم يثبت تعيين ذاك الوجه المناسب للقول بالأعمّ، لا يتمّ هذا الدليل.

إذن، فلتكميل هذا الدليل لابدّ من إبطال الوجوه الاُخرى حتّى ينحصر الأمر في الوجه المناسب للقول بالأعمّ، فنقول دفاعاً عن القول بالأعمّ في هذه المشتقّات (ولو موقّتاً إلى أن نأتي بعد ذلك إلى الجواب): إنّه لا إشكال في شهادة الوجدان بوجود فرق كبير بين مثل «صائغ» ومثل «ضارب» فلئن صحّ: أنّ كلمة «ضارب» لا تصدق على من انقضى عنه الضرب، لا ينبغي الشكّ في صدق كلمة «صائغ» حقيقةً على هذا الصائغ الذي يكون بالفعل مشغولاً بالصلاة، أو تناول الطعام، أو نحو ذلك، والذي يمكن أن تفسّر به هذه الظاهرة أحد وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: هو ما يدّعيه القائل بالأعمّ في هذه المشتقّات، وهو: أنّ المشتقّ في هذه الموارد موضوع للأعمّ من المتلبّس بالفعل وممّا انقضى عنه المبدأ خلافاً لسائر المشتقّات. إذن فمن الطبيعيّ أن يصدق «صائغ» على هذا الإنسان حتّى في وقت الاستراحة أو أكل الطعام؛ لما اُخذ من التوسّع في مدلول الهيئة الموجب للصدق في غير وقت التلبّس بالمبدأ.

الوجه الثاني: أن يقال بالتوسّع في مدلول المادّة، فيقال: إنّ كلمة «صائغ» وإن

453

كانت حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ بالفعل، لكن مبدأها ليست هي ذات الصياغة، بل حرفتها وصناعتها، فما دام متلبّساً بالحرفة يصدق عليه أنّه صائغ وإن لم يكن مشغولاً بالصياغة بالفعل.

وما يمكن للأعمّيّ أن يبطل به هذا الوجه هو: أن يقال: إنّنا نرى بالوجدان أنّ مادّة الصياغة في مثل «صاغ» و«يصوغ» تدلّ على الحدث لا الحرفة، ونضمّ إلى ذلك: أنّ وضع المادّة في جميع صيغ تلك المادّة وضع واحد نوعيّ، ولا يكون متعدّداً باختلاف الصيغ، إذن فلو كانت المادّة في «صائغ» بمعنى الحرفة والصناعة، للزم أن تكون كذلك في «صاغ» و«يصوغ» أيضاً، بينما ليس الأمر كذلك.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّ الهيئة في «صائغ» موضوعة للمتلبّس الشأنيّ، لا الفعليّ، فالتوسّع يكون في الهيئة، لكن لا بحملها على الأعمّ من المتلبّس وغيره، بل بحملها على التلبّس الأعمّ من التلبّس الفعليّ والشأنيّ، والتلبّس الشأنيّ محفوظ في المقام.

وقد يقال في مقام إبطاله أيضاً: إنّ هذا لازمه كون هيئة «صائغ» موضوعة بوضع شخصيّ للتلبّس الأعمّ من الفعليّ والشأنيّ، بينما هيئة «فاعل» موضوعة بوضع واحد نوعيّ، لا بأوضاع متعدّدة، فإن فرض: أنّ هذا الوضع النوعيّ الواحد عبارة عن الوضع للأعمّ من التلبّس الفعليّ والشأنيّ، فهذا خلف ما فرض من أنّ مثل «ضارب» لا يصدق على غير المتلبّس الفعليّ بالضرب، وبعد انقضاء الضرب عنه ليس ضارباً. وإن فرض: أنّه عبارة عن الوضع للذات المتلبّسة بالتلبّس الفعليّ، بطل هذا الوجه، إلاّ أن يلتزم بالوضع الشخصيّ وبأوضاع متعدّدة في صيغة «فاعل»، وليس كذلك.

الوجه الرابع: أنّ التصرّف ليس في مدلول مادّة «صائغ»، ولا في مدلول هيئته

454

حتّى ترد الإشكالات السابقة، وإنّما التصرّف في مدلول جملة «زيد صائغ» الدالّة على الجري والهوهويّة، وأنّ المحمول عين الموضوع، فنقول: إنّه بقرينة كون الصياغة حرفةً وصناعةً يكون مدلول الجملة هو الهوهويّة والجري الشأنيّ لا الفعليّ، أي: هذا هو ذاك شأناً لا فعلاً، فالتصرّف إنّما هو في مدلول الجملة بقرينة قضيّة خارجيّة، وهي وجود أشخاص جالسين في دكاكينهم مثلاً بعنوان: أنّ حرفتهم الصياغة مع عدم الانشغال فعلاً بالصياغة.

ويمكن الإشكال على ذلك بأنّ الوجدان قاض بأنّ كلمة «صائغ» في نفسها حينما نلحظها بما هي مدلول كلمة أفراديّة نرى أنّ مفهومها أوسع من مفهوم «ضارب»، وليس المتبادر منه (بلا فرض جملة) هو خصوص المتلبّس بالفعل، بل أعمّ من ذلك، فالوجدان حاكم بأنّ السعة المدّعاة إنّما هي بلحاظ نفس المشتقّ، بينما هذا الوجه يفرض أنّها بلحاظ الجملة.

الوجه الخامس: أن يكون التصرّف في أمر خارجيّ، فالعرف باعتبار تكرّر الصياغة منه يُعمل عناية ارتكازية بحيث يرى كأنّ الصياغة مستمرّة منه، والفترات المتخلّلة تلغى بالنظر العرفيّ، فهذا إعمال عناية في أمر خارجي، أي: في حال هذا الرجل، فكأنّه يُرى أنّه يصوغ دائماً ويحرّك يديه بالصياغة دائماً، فبعد إعمال هذه العناية ينطبق عليه صائغ بلا تصّرف في المادّة، أو الهيئة، أو مدلول الجملة.

وهذا أيضاً يمكن للأعمّيّ أن يبطله؛ إذ لو صحّت هذه العناية العرفيّة الارتكازيّة، إذن لصدق عرفاً أن نقول حينما يكون زيد الصائغ مشغولاً بالصلاة مثلاً: إنّ زيداً متلبّس بالصياغة فعلاً، بينما لا نقول كذلك، فإذا بطلت كلّ هذه الوجوه تعيّن الوجه الأوّل، وهو الوضع للأعمّ.

هذا أحسن ما يمكن أن يقال في تقريب التفصيل.

455

ولكن مع ذلك يرد على القول بالتفصيل:

أوّلاً: أنّه وإن صدق وجداناً الصائغ على من رَفع يده عن العمل فعلاً لأجل الاستراحة أو غيرها، إلاّ أنّ هذا يمكن تفسيره بافتراض التوسّع في مدلول الهيئة بوضعها للمتلبّس الأعمّ من الفعليّ والشأنيّ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الماضية، وليس من حقّ القائل بالتفصيل أن يبطل هذا الوجه بدعوى: كون هيئة «فاعل» موضوعة بوضع نوعيّ واحد لا أكثر؛ لأنّ هذا المفصّل مضطرّ إلى الالتزام بتعدّد الوضع في هيئة «فاعل»؛ إذ هو يسلّم أنّ كلمة «ضارب» ونحوها موضوعة للمتلبّس بالفعل، ولكن كلمة «صائغ» موضوعة للأعمّ. وهذا معناه: أنّ الهيئة في مثل «ضارب» موضوعة للمتلبّس بالفعل، وفي مثل «صائغ» موضوعة للأعمّ، فقد تعدّد الوضع، فلماذا يستوحش من افتراض: أنّ الهيئة في «ضارب» موضوعة للتلبّس الفعليّ، وفي «صائغ» للأعمّ من التلبّس الفعليّ والشأنيّ؟ وكيف يُبطل هذا الوجه بلزوم تعدّد الوضع؟!

وثانياً: أنّ الصحيح هو الوجه الثالث، وهو وضع الهيئة للتلبّس الأعمّ من الشأنيّ والفعليّ بلاحاجة إلى فرض وضع شخصيّ لهيئة «صائغ»، وتعدّد الوضع في هيئة «فاعل»، وذلك بأن يقال: إنّ هيئة «فاعل» مطلقاً موضوعة للتلبّس الأعمّ من الفعليّ والشأنيّ حتّى في مثل «ضارب»، إلاّ أنّ المقصود من التلبّس الشأنيّ هو التلبّس الاحترافيّ، أي: اتّخاذ المبدأ حِرفةً أو ديدناً وطريقةً لا مجرّد إمكان التلبّس وقابليّته، غاية الأمر: أنّ هذا النحو من التلبّس ليس له مصداق في مثل «ضارب» و«قائم»؛ لأنّ الضرب أو القيام لم يتّخذ حرفة في السوق، لكن له مصداق في «صائغ»؛ لأنّ الصياغة اُتّخذت حرفة في السوق، وفي مذبح؛ لأنّ مكاناً معيّناً في البلد اُعدّ للذبح وهكذا. فهذا نوع من التلبّس إن ثبت في «ضارب»

456

صدق أيضاً عنواب «ضارب» ولو مع عدم وجود الضرب فعلاً خارجاً، فالتفاوت إنّما هو في المصداق لا في المفهوم.

وثالثاً: أنّ تفسير ظاهرة صدق «صائغ» على المستريح ساعةً مثلاً بالوجه الأوّل وهو الوضع للأعمّ غير صحيح؛ لأنّه لو كانت نكتة صحّة الإطلاق: أنّ كلمة «صائغ» موضوعة للأعمّ من المتلبّس وممّن انقضى عنه المبدأ، لزم صحّة الإطلاق بلا عناية حتّى لو ترك الحرفة والصناعة وأصبح عطّاراً أو بقّالا، مع أنّه لا إشكال بحسب الوجدان في أنّ إطلاق «صائغ» عليه بعد تركه للحرفة يكون تماماً كإطلاق «ضارب» عليه بعد انتهاء الضرب، وأيضاً كلمة «صائغ» لو كانت موضوعة للأعمّ، للزم: أنّ غير المحترف إن صاغ صدفةً مرّة واحدة وأنهى العمليّة صدق عليه «صائغ» مدى عمره، مع أنّه لا إشكال في عدم الصدق إلاّ بالعناية إن كان لا يصدق «ضارب» على من ترك الضرب إلاّ بالعناية كما هو المفروض، وليس ذلك إلاّ لما قلناه من أنّ التلبّس شرط، لكنّه بمعنىً يشمل التلبّس المنهجيّ والديدنيّ.

وقد تلخّص من كلّ ما ذكرناه: أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس.

 

خاتمة

 

بقيت هنا خاتمة للبحث وهي: أنّه إذا كان المشتقّ اسماً للأعمّ، فمن الواضح الفرق بينه وبين المبدأ؛ إذ يصدق حتّى عند زوال المبدأ، لكن بعد أن ثبت الوضع لخصوص المتلبّس يقع تشابه بينهما حيث إنّه بمجرّد زوال المبدأ يزول الوصف الاشتقاقيّ، فيقع الكلام في أنّه: هل هناك فرق بين المدلولين، أو هما معنىً واحد

457

ومفهوم واحد، وإنّما الاختلاف في خصوصيّات هذا المفهوم وطوارئه؟ ومن هذا البحث يكون النزاع في بساطة المفهوم الاشتقاقيّ وتركّبه، فمن يقول بالعينيّة يقول بالبساطة، ومن يقول بعدمها يمكن أن يقول بالتركّب، ومن أجل أن نعرف الفرق بين المبدأ والوصف الاشتقاقيّ يجب أن نعرف مقدّمة معنى المبدأ، أي: المصادر وأسماء المصادر، ونرى بعد ذلك أنّ مدلول المشتقّ هل هو متّحد معه أو مغاير؟

 

معنى المبدأ:

فنقول: قد قيل: إنّ المصدر أصل الكلام، أي: أصل المشتقّات، وليس المقصود: أنّه بوجوده اللفظيّ مصدر للمشتقّات بوجوداتها اللفظيّة؛ لوضوح: أنّ له وجوداً لفظيّاً خاصّاً مبايناً للوجودات اللفظيّة للمشتقّات، باعتبار أنّ كلاّ منها متقوّم بهيئة مباينة لهيئة الصيغ الاُخرى، ولا يشذّ المصدر عن باقي الصيغ في ذلك، فهو أيضاً متقوّم بهيئة خاصّة به، بل المقصود: الأصالة بلحاظ المعنى والمدلول، بمعنى: أنّ مفاد المصدر هو مادّة مفادات سائر المشتقّات، وهو المعنى المحفوظ والساري فيها، فإنّ هذا هو الذي يمكن ادّعاؤه في المقام.

وهذا الكلام إنّما يتمّ لو آمنّا بأنّ المصدر يكون دائماً أو أحياناً ـ على أقلّ تقدير ـ بمعنى ذات الحدث من دون أخذ أيّ عناية زائدة في معناه بواسطة الهيئة، وإلاّ أصبح المصدر في عرض باقي الصيغ.

ومن هنا وقع الكلام في أنّ هيئة المصدر هل هي موضوعة لعناية زائدة كأن تكون مفيدة لمعنىً نسبيّ تُحصِّص ذلك الحدث كما هو الحال في هيئة سائر المشتقّات، أو أنّ هيئة المصدر إنّما جيء بها لحفظ المادّة في قالب ما، ولا تدلّ على أيّة عناية زائدة؟

458

والمعروف بين المحقّقين المتأخّرين: أنّ هيئة المصدر موضوعة لمعنىً، وهذا له وجهان:

الوجه الأوّل: ما هو المعروف بين المحقّقين المتأخّرين من أنّ هيئة المصدر موضوعة لنسبة ناقصة تقييديّة بين مدلول المادّة، أي: الحدث وبين فاعل ما أو مفعول ما على نحو الإبهام والإجمال، وبذلك اختلف المصدر عن أسماء المصادر وعن الجوامد حيث إنّه لم يؤخذ في هيئتها أيّ مدلول نسبيّ.

ولكن يمكن الاستشكال في أخذ النسبة الناقصة التقييديّة في مدلول هيئة المصدر بعدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) من أنّه لو كانت النسبة الناقصة التي هي معنىً حرفيّ مأخوذة في المصدر، للزم كونه مبنيّاً؛ لأنّ أحد أسباب البناء في لغة العرب تضمّن الاسم للمعنى الحرفيّ وشبهه به.

وهذا جوابه واضح؛ فإنّ ما عدّ سبباً للبناء هو كون الاسم بمادّته متضمّناً للمعنى الحرفيّ، وعليه قيل: إنّ اسم الإشارة والموصول من المبنيّات؛ لأنّه متضمّن (أي: بمادّته) للمعنى الحرفيّ؛ لأنّه يدلّ على معنىً متقوّم بغيره، وغير متحصّل في نفسه، وأمّا المصدر فمادّته ليست هكذا. ولا ينبغي توهّم كفاية تضمّن هيئة الكلمة للمعنى الحرفيّ للبناء بدليل بناء الفعل المتضمّن للمعنى الحرفيّ بهيئته لا بمادّته. والجواب: أنّ الفعل مبنيّ بالأصالة لا لتضمّنه للمعنى الحرفيّ.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّه يلزم من وضع هيئة المصدر لنسبة الحدث إلى ذات ما


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 63 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).