426

تعقّل جامع على القولين:

المقدّمة الثالثة: لابدّ من تحقيق الكلام في تعقّل جامع على القولين، فعلى القول بكونه حقيقة في المتلبّس نريد جامعاً ينطبق على كلّ متلبّس، ولا ينطبق على المنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بكونه حقيقة في الأعمّ نريد جامعاً ينطبق على المنقضي عنه المبدأ أيضاً انطباقاً حقيقيّاً. وأمّا إذا لم يمكن تصوير الجامع على أحد القولين، فقد بطل ذلك القول ثبوتاً، ولم نحتج بعد ذلك إلى البحث الإثباتيّ؛ ولأجل ذلك كان هذا من مقدّمات المطلب، فنقول:

أمّا الجامع على القول بكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، فلا إشكال في ثبوته كما ظهر من المقدّمة الثانية؛ فإنّ الذات المتلبّسة بالمبدأ مفهوم ينطبق على المتلبّس دون المنقضي، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ المشتقّ مفهوم تركيبيّ أو مفهوم بسيط، أي: أنّه نفس المبدأ، غاية الأمر: أنّه اُخذ لا بشرط، فصحّ فيه الحمل. أمّا على التركيب(1) من ذات ونسبة ومبدأ، فالجامع هو ما قلناه، أي: ذات لها التلبّس بالعلم مثلاً في كلمة «عالم» فينطبق على المتلبّس دون المنقضي عنه المبدأ. وأمّا على البساطة وأنّ مفاد «عالم» هو مفاد علم، وإنّما الفرق بينهما من ناحية أنّ أحدهما اُخذ بشرط لا، والآخر لا بشرط على ما يأتي تفسيره إن شاء الله،


(1) لا يخفى: أنّه ليس المقصود بالتركيب التركيب الحقيقيّ؛ إذ لا ريب أنّ مفهوم المشتقّ ليس مركّباً من مفاهيم تفصيليّة، وهي مفهوم ذات ثبت لها المبدأ، وإنّما المقصود: التركيب والبساطة بحسب التحليل العقليّ، فالقائل بالبساطة يقول مثلاً: إنّ مفاده نفس المبدأ، لكنّه يحمل على الذات باعتباره اُخذ لا بشرط، والقائل بالتركيب يقول مثلاً: إنّ المشتقّ موضوع للذات، لكن لا على إطلاقها، بل للحصّة المنتسبة إلى المبدأ، وهذه الحصّة بالتحليل ترجع إلى ذات ومبدأ ونسبة بينهما.

427

فالجامع نفس العلم، فإنّه محفوظ في تمام موارد ثبوت التلبّس، وليس محفوظاً بعد الانقضاء.

وأمّا على الأعمّ فتصوير الجامع لا يخلو من إشكال. وتوضيحه: أنّه إن بنينا على بساطة المفهوم الاشتقاقيّ، وأنّه نفس الحدث، فتصوير الجامع غير معقول أصلاً؛ لأنّ مدلول كلمة «عالم» ليست الذات دخيلة فيه وإنّما مدلوله العلم، إلاّ أنّه اُخذ لا بشرط، ومن المعلوم: أنّ العلم غير محفوظ في المنقضي عنه المبدأ، ولا يعقل تطبيقه حقيقة عليه، فإنّه على أساس ثبوت نوع اتّحاد بينهما، ومع الانقضاء لا اتّحاد بينهما.

وأمّا إن بنينا على التركيب، فيمكن تصوير الجامع بأحد وجوه:

الأوّل: أن يقال: إنّ الجامع هو الذات في أحد الزمانين، أي: زمان التلبّس وزمان الانقضاء في مقابل زمان ما قبل التلبّس.

وهذا الجامع وإن كان في نفسه أمراً معقولاً، إلاّ أنّه يستلزم أخذ الجامع بين الزمانين في مفهوم المشتقّ، وقد فرغنا فيما سبق عن أنّ الزمان غير مأخوذ في مفهوم المشتقّ، إذن فهذا الوجه باطل.

الثاني: أنّ الجامع هو الذات المتلبّسة بتلبّس قبل الجري أو بعده، أي: الذات المتلبّسة بتلبّس ليس بعد الجري. وهذا الجامع أيضاً غير صحيح؛ إذ اُخذت فيه المقارنة بين التلبّس والجري، فلوحظ فيه التلبّس غير المتأخّر عن الجري، أي: الجامع بين المقارن والسابق عليه. وقد فرغنا سابقاً عن أنّ التلبّس المأخوذ في المشتقّ غير مأخوذ فيه الجري، وإنّما المأخوذ فيه نفس التلبّس مطلقاً، والمشتقّ قد يستعمل ولا جري أصلاً: لا قبله ولا حينه ولا بعده، كما لو استعمل لفظ «عالم» وحده لا في جملة تامّة؛ فإنّ الجري من شؤون الجملة التامّة.

428

الثالث: أن يقال بأنّ المشتقّ مركّب من ذات وفعل ماض، فالعالم يعني: من علم، والضارب يعني: من ضرب، والقائم يعني: من قام وهكذا. ومن الواضح: أنّ من قام يصدق على من استمرّ قيامه إلى الحال، وعلى من تلبّس بالقيام وانقضى عنه، وبذلك نحصل على جامع ينطبق على المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ دون ما لم يتلبّس بعدُ بالمبدأ، من دون أخذ قيد الجري ولا مفهوم الزمان بناءً على عدم اشتمال الفعل على مفهوم الزمان. وهذا جامع معقول عرفيّ صحيح، ولا يرد عليه لزوم دخول الفعل الماضي في المشتقّ، وهو بديهيّ البطلان كما ذكر بعض المستشكلين؛ فإنّه إن اُريد بذلك: أنّ الفعل الماضي بما هو محصّل لنسبة تامّة، يصحّ السكوت عليها غير مأخوذ في مفهوم المشتقّ، فهو صحيح، وإلاّ لكان «قائم» جملة تامّة، ولكن المقصود: أخذ الفعل قيداً كما يجعل قيداً لأداة الشرط أو الموصول، فكما أنّ الفعل في «من قام» اُخذ قيداً، وتحوّلت نسبة الجملة إلى النسبة الناقصة كذلك في المقام. وإن اُريد دعوى: بداهة بطلان دخول الفعل فيه ولو بنحو القيديّة وقلب نسبة الجملة إلى النقصان، فهي ممنوعة.

ولا يرد عليه أيضاً: أنّه بناءً على ذلك يلزم أن يكون معنى «زيد قائم غداً»: زيد من قام غداً بينما هذا غير صحيح؛ فإنّ معنى الفعل الماضي لا ينسجم مع كلمة «غد» مع أ نّا نرى أنّ «زيد قائم غداً» صحيح.

والجواب: أنّ «غداً» في «زيد قائم غداً» ليس قيداً للقيام، وإنّما هو قيد وتوقيت للنسبة الحمليّة بين الموضوع والمحمول. وان شئت فقل: إنّ زيداً قائم بمعنى: زيد من قام، فهناك نسبة اتّحاديّة حمليّة بين زيد واسم الموصول، وهناك نسبة للقيام إلى اسم الموصول، وكلمة «غد» ترجع للاُولى دون الثانية. وأحياناً تكون كلمة «غد» قيداً لنسبة ناقصة قائمة في نفس المشتقّ كما في قولنا: «الشفيع

429

محمّد(صلى الله عليه وآله) في يوم القيامة»، فيوم القيامة ليس قيداً لمادّة شفع، بل للنسبة الناقصة بين لام الموصول والذات الاشتقاقيّة.

الرابع: ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1)، وهو أنّ الجامع هو انتقاض عدم المبدأ بالوجود، فإنّ هذا ثابت في المتلبّس بالفعل والمنقضي عنه المبدأ. أمّا غير المتلبّس إلى الآن، فعدم المبدأ لم ينقضِ فيه بالوجود.

وهذا الوجه يحتاج إلى تمحيص، فنقول: نحن إنّما نتكلّم بناءً على كون المشتقّ مفهوماً تركيبيّاً؛ إذ عرفت: أنّه بناءً على البساطة لا معنى لافتراض الجامع في الأعمّ، وعليه نقول: إنّه بناءً على هذا الوجه يكون مفهوم المشتقّ عبارة عن ذات لها هذه الصفة، وهي صفة انتقاض عدم المبدأ فيها بالوجود، وعندئذ نتساءل: أنّه كيف نصف الذات بهذه الصفة؟ فإن كان ذلك بالوصف الاشتقاقيّ، فقلنا: الجامع هو الذات المنتقض عدم المبدأ فيه بالوجود، فإذن يعود الإشكال مرّة اُخرى، فإنّنا ننقل الكلام إلى كلمة «المنتقض» في هذه الجملة التي هي مشتقّ، فإن اُريد بها الأعمّ من المنتقض فعلاً والمنتقض فيما مضى، تساءلنا عن الجامع لذلك. وإن اُريد بها خصوص المنتقض فعلاً، فإذن لم يصبح المشتقّ موضوعاً للأعمّ. وإن كان ذلك بالوصف بالماضي، أي: قلنا: إنّ الجامع هو ذات انتقض عدم المبدأ فيها بالوجود، فالضارب مثلاً معناه: ذات انتقض عدم الضرب فيها بالضرب، إذن فرأساً قولوا في مقام التوصيف بالماضي: إنّ الضارب هو ذات ضربت بلا حاجة إلى هذا اللفّ والدوران. وهذا رجوع إلى الوجه الثالث، وإن كان ذلك بإضافة كلمة «ذو» أو «له» أو نحو ذلك بأن يقال: إنّ الضارب هو ذو الضرب أو له ضرب مثلاً، فظاهر ذلك


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 250 ـ 251 بحسب طبعة مطبعة النجف.

430

الفعليّة(1)، أي أنّ حاله أيضاً حال المشتقّ، إلاّ أن يقال: إنّ الضارب هو ذو ضرب في أحد الزمانين، أو إنّ الضارب هو ذات لها الضرب في أحد الزمانين، فرجع إلى بعض الأوجه السابقة.

الخامس: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) أيضاً، وهو: أنّه إن أعوزنا الجامع فليكن عنوان (أحدهما) وهو جامع انتزاعيّ، ولا بأس به.

ويرد عليه: أنّ عنوان (أحدهما) إطلاقه بدليّ، ويستحيل أن يكون شموليّاً،


(1) التعبير الوارد في المحاضرات هو: أنّ الجامع بين المتلبّس والمنقضي اتّصاف الذات بالمبدأ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتّصف به بعد. فقد يورد عليه بناءً على كون مقصوده بذلك: أنّ المشتقّ يدلّ على من هو ذو اتّصاف بالمبدأ، فكلمة «ذو اتّصاف» ككلمة المتّصف تعني معنىً اشتقاقيّاً لا زلنا محلّ كلامنا في أنّها: هل تعطي معنى التلبّس، أو الأعمّ؟ وإذا كانت تعطي معنى الأعمّ، فما هو الجامع المفترض في الأعمّ حتّى تعطي معناه؟ إذن فتبديل كلمة «المتّصف بالمبدأ» والتي هي مشتقّ داخل في محلّ البحث بمثل (ذو الاتّصاف) لا يحلّ لنا مشكلاً.

أقول: أظنّ أنّ مقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ سواء صحّ تعبيره أو خانه التعبير ـ هو: أنّ المشتقّ يدلّ على من انتسب إليه تحقّق المبدأ بالمعنى المقابل لترقّب المبدأ، فالترقّب يكون للمستقبل، والتحقّق يكون للحال والماضي، فالجامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ لا نشير إليه بكلمة «ذو» حتّى يقال: إنّ حالها حال المشتقّ، بل نشير إليه بكلمة ذو التحقّق باعتبار أنّ ما اُضيف إليه ذو وهو تحقّق المبدأ موجود في المتلبّس بالمبدأ والمنقضي عنه المبدأ، أو قل: إنّ الضارب يعني المتحقّق منه الضرب، والجامعيّة لم تأتِ من قبل الاشتقاق حتّى يقال: هذا هو أوّل الكلام، بل من قبل المادّة وهي التحقّق، فقول: «الضارب» يعني: الذات المتحقّق منها الضرب، ونقصد به التحقّق الحاليّ، لكن التحقّق الحاليّ نقصد به ما يقابل الترقّب، فمن تحقّق منه الضرب في الماضي يكون في الحال متحقّقاً منه الضرب في مقابل أن يترقّب منه الضرب.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 251 بحسب طبعة مطبعة النجف.

431

فإذن يلزم أن لا يتصوّر الإطلاق الشموليّ الشامل للمتلبّس والمنقضي عنه المبدأ في المشتقّ بأن يقال: «أكرم العالم» ويقصد ـ بناءً على الأعمّ ـ وجوب إكرام العالم بنحو الشمول، سواء كان متلبّساً بالفعل أو منقضياً عنه المبدأ، بينما ليس الأمر هكذا(1).

السادس: أنّ الجامع هو الذات غير المتلبّسة فعلاً بالعدم الأزليّ للمبدأ. وهذا جامع معقول في نفسه كالجامع الثالث الذي اخترناه، ويشمل المتلبّس بالفعل والذي تلبّس به المبدأ وانقضى عنه، فإنّه في كليهما لا تكون الذات متلبّسة بالعدم الأزليّ للمبدأ، ولا يشمل ما لم يتلبّس بعدُ بالمبدأ؛ لأنّه متلبّس فعلاً بالعدم الأزليّ، إلاّ أنّ هذا الجامع عيبه عدم عرفيّته، فإنّ هذا الجامع يفترض: أنّ (العالم) مثلاً معناه: الذات غير المتلبّسة بالعدم الأزليّ فعلاً للعلم، فكأنّه ابتداءً يفهم العدم، وعن طريقه ينتقل إلى الوجود. وبتعبير آخر: يفهم معنى المشتقّ عن طريق العدم، بينما العرف لا يحسّ بهذا التعقيد. وعين هذا الإشكال يرد على الوجه الرابع أيضاً(2).

وقد تحصّل: أنّ الصحيح من هذه الجوامع هو الجامع الثالث، فهو جامع معقول


(1) لا يخفى: أنّ كلمة أحدهما إذا كانت قد اُخذ فيها لغةً معنى البدليّة، فبإمكاننا أن نشير إلى الجامع الانتزاعيّ بين المتلبّس بالفعل والمنقضي عنه المبدأ بكلمة غير مشتملة على البدليّة من قبيل: (الفرد منهما)، فيكون معنى «أكرم العالم»: أكرم من يكون فرداً للمتلبّس أو المنقضي عنه المبدأ مثلاً. وبكلمة اُخرى: ليس الواضع مجبوراً بالضرورة على وضع المشتقّ ـ حينما فرض وضعه للجامع الانتزاعيّ ـ أن يلحظ عنوان (أحدهما) بما فرض له من معنى البدليّة، بل بإمكانه تجريد ذاك الجامع عن قيد البدليّة. فهذا الإشكال من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أشبه بالإشكال اللفظيّ.

(2) بناءً على كون المقصود منه انتقاض العدم. وهذا ما لا تُساعد عليه عبائر المحاضرات ما عدا عبارة واحدة.

432

وعرفيّ.

إذا عرفت هذه المقدّمات، قلنا: إنّ الكلام في أصل النزاع في المشتقّ يقع في مقامين: الأوّل: في الأصل العمليّ حيث لم يوجد دليل. والثاني: في أدلّة الطرفين:

 

مقتضى الأصل العمليّ في المشتقّات

 

أمّا المقام الأوّل: فتارة نتكلّم في الأصل بلحاظ المسألة الاُصوليّة لإثبات ما هو موضوع النزاع من كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ، أو المتلبّس بالفعل، واُخرى نتكلّم في الأصل بلحاظ المسألة الفقهيّة، أي: تعيين الوظيفة الشرعيّة بعد أن لم يتعيّن لنا حتّى بالأصل كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ أو في خصوص المتلبّس بالفعل:

 

الأصل العمليّ بلحاظ المسألة الاُصوليّة:

أمّا الأصل بلحاظ المسألة الاُصوليّة، فقد يتخيّل أنّ الأصل في صالح الأعمّ، وذلك بلحاظ أصالة عدم أخذ الخصوصيّة حيث إنّ أصل أخذ الجامع في المعنى الموضوع له معلوم، وإنّما الكلام في أنّه: هل لوحظت معه خصوصيّة المتلبّس بالفعل، أو لا؟ فمقتضى الاستصحاب هو عدم لحاظها.

إلاّ أنّ هذا الجواب باطل لوجوه:

الأوّل: أنّه إن تمّ هذا فإنّما يتمّ فيما لو علم وضع اللفظ لمفهوم واحد مردّد بين مطلقه ومقيّده، كما لو شككنا في أنّ لفظ «الإنسان» هل وضع لمطلق الحيوان الناطق، أو للحيوان الناطق العادل؟ ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك؛ لأنّ

433

الجامع بناءً على كون المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس بالفعل مع الجامع بناءً على الأعمّ مفهومان متباينان بلحاظ عالم المفاهيم(1) وإن كان بينهما عموم مطلق بلحاظ عالم الصدق، فهذا حاله حال ما لو شككنا في أنّ الإنسان موضوع لمفهوم الحيوان الناطق، أو موضوع لمفهوم الشاعر، وعندئذ لا معنى لتعيين الأعمّ بالأصل؛ فإنّ الأمر بلحاظ عالم الوضع دائر بين متباينين، وليس هناك أقلّ متيقّن وزائد مشكوك ينفى بالاستصحاب؛ فإنّ المشتقّ معناه بناءً على كونه حقيقة في خصوص المتلبّس هو المتلبّس بالمبدأ، وبناءً على الأعمّ هو الذات المقيّدة بمفاد الفعل الماضي على ما مضى. ومن المعلوم أنّ الذات المقيّدة بمفاد الفعل الماضي مع الذات المقيّدة بالتلبّس بالمبدأ مفهومان متباينان، من قبيل: الناطق والشاعر، فلا معنى لجريان الاستصحاب وإن كان بينهما عموم مطلقاً في عالم الصدق.

الثاني: إشكال يرد على بعض المباني دون بعض، وتوضيحه: أنّ في التقابل بين الإطلاق والتقييد ثلاثة مبان:

1 ـ ما هو الحقّ من تقابل السلب والإيجاب، وعليه فلا موضوع لهذا الإشكال، فقد يتصوّر أنّه باستصحاب عدم التقييد يثبت الإطلاق، فيثبت فيما نحن فيه أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ؛ لأنّ التقييد رفعناه بالاستصحاب، وليس الإطلاق إلاّ عبارة عن عدم التقييد.

2 ـ ما هو ظاهر كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من تقابل التضادّ، وعليه فيسجّل هذا الإشكال، وهو: أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق حتّى


(1) كأنّ هذا مبنيّ على ما اختاره(رحمه الله) من أنّ الجامع ـ بناءً على الأعمّ ـ هو قيد الفعل الماضي، فمن الواضح: أنّ هذا يباين مفهوم التلبّس، أو فعليّة المبدأ.

434

يثبت كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ؛ فإنّ التقييد والإطلاق كلاهما أمر وجوديّ مسبوق بالعدم، فكما يجري استصحاب عدم لحاظ القيد كذلك يجري استصحاب عدم لحاظ الإطلاق، وكلّ من الأصلين النافيين لأحد الضدّين لا يثبت الآخر، إلاّ بناءً على الأصل المثبت.

3 ـ ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من تقابل العدم والملكة، فالإطلاق أمر عدميّ مطعّم بالملكة، فأيضاً يأتي إشكال: أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق؛ وذلك لأنّه عدم خاصّ مطعّم بالملكة لا مطلق العدم الذي يثبت باستصحاب عدم شيء، فلا يمكن إثباته باستصحاب العدم، كما أنّ استصحاب عدم البصر في الجسم القابل لا يثبت العمى.

الثالث: مبنيّ على أنّ الإطلاق أمر عدميّ صرف، فيندفع الإشكال السابق لكن يرد هذا الإشكال وهو: أنّ استصحاب عدم أخذ الخصوصيّة لا يجري، لعدم أثر شرعيّ، فإنّ عدم أخذ القيد ليس موضوعاً لحكم شرعيّ وإنّما هو سبب للظهور الذي هو موضوع الحكم الشرعيّ بالحجّيّة، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الناحية. إذن فلا يوجد أصل عمليّ منقّح للمدّعى في المسألة الاُصوليّة.

 

الأصل العمليّ بلحاظ المسألة الفقهيّة:

وأمّا الأصل بلحاظ المسألة الفقهيّة: فتارة يقع الكلام بلحاظ الأصل الموضوعيّ، وهو استصحاب بقاء كونه عالماً مثلاً بعد زوال المبدأ، وهو العلم عنه، واُخرى بلحاظ الأصل الحكميّ:

أمّا الكلام بلحاظ الأصل الموضوعيّ، فقد يقال بجريان استصحاب عنوان العالم بعد انقضاء المبدأ عنه، ويسمّى ذلك بالاستصحاب في الشبهة المفهوميّة.

435

والتحقيق: عدم جريانه كما بيّنّاه مفصّلاً في بحث الاستصحاب، وبيانه إجمالاً بمقدار ما ينطبق على محلّ الكلام: أنّ لدينا في المقام ثلاثة اُمور:

1 ـ فعليّة التلبّس بالمبدأ، وهي مقطوعة الارتفاع، فلا معنى لاستصحابها.

2 ـ الجامع بين التلبّس والانقضاء، وهو مقطوع البقاء، فلا معنى لاستصحابه.

3 ـ عنوان مدلول كلمة «العالم»، وهو مشكوك البقاء؛ إذ لا ندري: هل أنّ مدلولها هو خصوص المتلبّس بالفعل الذي هو مرتفع قطعاً، أو الأعمّ الذي ثابت قطعاً، فبالتالي لا ندري أنّ مدلول كلمة «العالم» هل هو ثابت أو لا؟ فقد يتخيّل جريان الاستصحاب بلحاظه، إلاّ أنّه غير صحيح أيضاً؛ لأنّ مدلول اللفظ بهذا العنوان ليس موضوعاً لحكم شرعيّ بحيث لولا وضع لفظة «عالم» مثلاً لما ثبت هذا الحكم للعالم، وإنّما موضوع الحكم الشرعيّ هو واقع مدلول اللفظ، أي: ما يكون مدلولاً له بالحمل الشائع فإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لموضوعاتها الواقعيّة، ودلالة اللفظ إنّما هي طريق إلى الموضوع لا قيد للموضوع، فالموضوع للحكم: إمّا هو ما نقطع ببقائه، وعليه لا مجال للاستصحاب، أو ما نقطع بارتفاعه، وعليه أيضاً لا مجال للاستصحاب.

وأمّا الكلام بلحاظ الأصل الحكميّ، فتارة نفرض أنّ التكليف تعلّق بصرف الوجود، كما إذا قال: «أكرم عالماً» واُخرى نفرض أنّه تعلّق بمطلق الوجود، كما إذا قال: «أكرم كلّ عالم»:

فإن تعلّق التكليف بصرف الوجود، فالشكّ يكون في إجزاء الامتثال بإكرام المنقضي عنه المبدأ، وبحسب الحقيقة يكون الشكّ من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الشبهات الحكميّة، وفي مثل ذلك يتعيّن القول بالبراءة على ما بيّنّاه في بحث البراءة والاشتغال مفصّلاً، وبيانه إجمالاً بمقدار ما ينطبق على

436

محلّ الكلام: أنّنا تارة نفرض أنّ الجامع الأعمّيّ محفوظ في ضمن المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ، إلاّ أنّ المتلبّس يزيد عليه بزيادة، فالنسبة بينهما كالنسبة بين الرقبة والرقبة المؤمنة، واُخرى يفرض أنّهما مفهومان متباينان في عالم المفهوميّة وإن كانت النسبة بينهما في مقام الصدق والانطباق العموم المطلق. فإن فرضنا الأوّل، كان من الأقلّ والأكثر في نفس عالم عروض الوجوب؛ لأنّ الجامع محطّ للوجوب على أيّ حال، وتقيّده مشكوك، فتجري البراءة عن الزائد. وإن فرضنا الثاني، فبلحاظ عالم الوجوب والواجب يكون الأمر دائراً بين المتباينين، ولكن بحسب عالم الكلفة التي هي نتيجة الوجوب يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ كلفة وجوب الجامع الأعمّيّ أقلّ من كلفة الآخر؛ لأنّ دائرة صدقه أوسع. وقد بيّنّا في محلّه أنّه مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ عالم الكلفة تجري البراءة عن ذي الكلفة الزائدة، فتجري في المقام البراءة عن وجوب إكرام خصوص المتلبّس بالفعل.

وإن تعلّق التكليف بمطلق الوجود كما لو قال: «أكرم العالم» وانقضى المبدأ عن بعض الأفراد، فهنا فصّل صاحب الكفاية بين ما إذا كان الحكم قد حدث بعد انقضاء المبدأ، فيكون الشكّ شكّاً في حدوث الوجوب، فتجري البراءة أو استصحاب عدم الوجوب، وما إذا كان الحكم قد حدث قبل انقضاء المبدأ، فيجري استصحاب الوجوب(1).

أقول: إنّه فيما إذا كان حدوث الحكم بعد انقضاء المبدأ: فتارةً يكون ذلك من باب: أنّ أصل جعل المولى للحكم كان بعد انقضاء المبدأ، فهنا يتمّ ما ذكره صاحب


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 68 بحسب طبعة المشكينيّ.

437

الكفاية(رحمه الله) من الرجوع إلى الاُصول المؤمّنة، واُخرى يكون من باب: أنّ الحكم وإن ثبت جعله قبل انقضاء المبدأ، لكنّه كان مشروطاً بشرط لم يتحقّق بلحاظ هذا الشخص إلاّ بعد انقضاء المبدأ، فليس التأخّر في أصل جعل الحكم، وإنّما التأخّر في فعليّته، كما لو أوجب قبل عيد الفطر إكرام العلماء إذا جاء عيد الفطر، ثُمّ زال المبدأ من بعض العلماء بعد أصل الجعل وقبل تحقّق الشرط وهو مجيء عيد الفطر، فالحكم هنا متأخّر عن انقضاء المبدأ، بمعنى: تأخّر فعليّته عنه، وفي مثل هذا المورد بالإمكان أن يجري الاستصحاب التعليقيّ الحاكم على البراءة، فيقال: هذا الشخص الذي زال علمه كان قبل هذا لو جاء عيد الفطر لوجب إكرامه، والآن كما كان بحكم استصحاب هذه القضيّة الشرطيّة. والاستصحاب التعليقيّ قد التزم به صاحب الكفاية(رحمه الله) في محلّه، ونحن أيضاً أيّدناه في الجملة.

وأمّا إذا كان الحكم ثابتاً قبل انقضاء المبدأ بجعله وفعليّته، فهنا يجري استصحاب الحكم استصحاباً تنجيزيّاً، إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ناقش في هذا الاستصحاب بأمرين(1):

الأوّل: أنّه استصحاب في الشبهة الحكميّة، وهو ـ دامت بركاته ـ لا يبني على الاستصحاب في الشبهات الحكمية. إلاّ أنّ التحقيق في محله وفاقاً للمشهور بين المحقّقين المتأخّرين: جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، فلا إشكال من هذه الناحية.

الثاني: أنّه لو سلّمنا الاستصحاب في باب الشبهات الحكميّة في الجملة، فلا نسلّمه في الشبهات الحكميّة المفهوميّة؛ لعدم العلم فيها بوحدة الموضوع. وما نحن


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 243 ـ 245 بحسب طبعة مطبعة النجف.

438

فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أنّ مفهوم «عالم» مثلاً في قوله: «اكرم العالم» مردّد بين المتلبّس بالفعل والأعمّ، فإذا كان هو المتلبّس بالفعل، فقد تعدّد الموضوع، وارتفع موضوع القضيّة المتيقّنة، وإذا كان هو الأعمّ فالموضوع باق، فنحن لم نحرز بقاء الموضوع حتّى نجري الاستصحاب.

أقول: هذا الإشكال لو تمّ، لما اختصّ بالشبهات الحكميّة المفهوميّة، بل يجري في كلّ الشبهات الحكميّة ولو لم تكن مفهوميّة، كما لو قال: «الماء إذا تغيّر بعين النجس تنجّس» ثُمّ زال التغيّر، وشككنا في بقاء النجاسة لا لإجمال مفهوم الدليل، بل لسكوت الدليل عن حكم ما بعد زوال النجاسة، وعدم بيانه له لا منطوقاً ولا مفهوماً، فأيضاً نقول: إنّ موضوع الحكم مردّد بين المتغيّر بالفعل الذي قد ارتفع، ومطلق ما حصل فيه التغيّر ولو زال التغيّر عنه بعد ذلك، وهذا موجود؛ فأيضاً لا نجزم بوحدة الموضوع. والذي يجيب به السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وغيره على هذا الإشكال في الشبهات الحكميّة: أنّ الاستصحاب إنّما نجريه عند تغيّر ما لم يكن بحسب النظر العرفيّ حيثيّة تقييديّة وركناً في الموضوع على تقدير دخله، وإنّما كان على تقدير دخله حيثيّة تعليليّة. وأنت ترى أنّ نفس هذا الجواب بعينه يأتي في المقام، فيقال: إنّ فعليّة العلم إن كانت دخيلة، فهي حيثيّة تعليليّة للحكم، وليست ركناً وحيثيّة تقييديّة.

والخلاصة: أنّ الميزان في جريان الاستصحاب وعدمه ليس هو كون الشبهة الحكميّة مفهوميّة أو غير مفهوميّة، وإنّما الميزان: أنّ الحيثيّة المفقودة هل هي ركن في الموضوع عرفاً على تقدير دخلها، أو لا؟ فإن كانت ركناً في الموضوع على تقدير الدخل، لم نحرز وحدة الموضوع ولو لم تكن الشبهة مفهوميّة. وإن كانت مجرّد حيثيّة تعليليّة، فالموضوع لم يتعدّد ولو كانت الشبهة مفهوميّة، فالصحيح ما

439

عليه صاحب الكفاية من إجراء استصحاب الحكم خلافاً للسيّد الاُستاذ الذي أجرى البراءة عن الحكم.

بقي في المقام شيء بلحاظ الأصل الحكميّ، وهو: أنّه لو ثبت كلا الحكمين، أعني: الحكم بنحو صرف الوجود والحكم بنحو مطلق الوجود، فورد «أكرم عالماً» وورد «أكرم العادل»، ووجد عندنا شخص زال علمه، ووجد أيضاً شخص زالت عدالته، فهنا نبتلي بعلم إجماليّ بإلزام مردّد؛ لأنّه: إن كان المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس بالفعل، لم يجز لنا امتثال الحكم الأوّل بإكرام من انقضى علمه، وإن كان موضوعاً للأعمّ وجب علينا إكرام من انقضت عدالته، فإن كان الحكم الثاني متأخّراً بجعله وفعليّته مثلاً عن زوال عدالة هذا الشخص، فلا محيص عن الاحتياط لتنجيز العلم الإجماليّ. وإن كان متقدّماً على زوال عدالته، فعلى مبنانا من جريان استصحاب الوجوب في حقّه ينحلّ العلم الإجماليّ بالأصل المثبت للتكليف في أحد طرفيه، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. وعلى مبنى السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من جريان البراءة يتعارض الأصلان، ولابدّ من الاحتياط.

 

أدلّة القولين في وضع المشتقّ

 

وأمّا المقام الثاني: وهو الكلام بلحاظ الأدلّة على الطرفين، فنقول: هناك رأي بأنّ المشتقّ موضوع للمتلبّس بالفعل، ورأي آخر بأنّه موضوع للأعمّ، ورأي ثالث بالتفصيل. وقبل الدخول في أدلّتهم نقول:

إنّ تحليل نفس مدّعى القول بالأعمّ يكفي للالتفات إلى بطلانه بلا حاجة إلى التكلّم في تلك الأدلّة، فإنّ القول بالأعمّ معناه ـ كما عرفت ـ هو القول بوضع المشتقّ للجامع

440

بين المتلبّس بالفعل والمنقضي عنه المبدأ. ولابدّ لصاحب هذا القول من أن يلتزم بأحد جامعين على ما مضى: فإمّا أن يقول بأنّ الجامع هو ذات مقيّدة بالفعل الماضي، فالقائم معناه من قام، وإمّا أن يقول بأنّ الجامع هو ذات غير متلبّسة فعلاً بالعدم الأزليّ للمبدأ. أمّا الثاني فقد عرفت عدم عرفيّته، فإنّ الوجدان حاكم بأنّه لا يفهم من مثل: ضارب أو قائم إلاّ معنىً ثبوتيّ صرف، ولا ينتقل الذهن بنحو التفصيل ولا بنحو الإجمال إلى نفي العدم، بل يفهم منه رأساً المعنى الثبوتيّ، وليس هذا جامعاً عرفيّاً يقع تحت نظر الواضع أوّلاً وتحت نظر المستعمل والسامع ثانياً. وأمّا الأوّل فلازم أخذ الفعل الماضي في مفهوم المشتقّ هو: أن يشترط في كون استعمال المشتقّ حقيقيّاً أن يكون المبدأ ثابتاً للمشتقّ فيما مضى ولو آناً ما؛ إذ لو كان المبدأ ثابتاً في الحال فقط، لم يكن ذلك مفاد الفعل الماضي، وإنّما هو مفاد الفعل المضارع، بينما من الواضح وجداناً كفاية التلبّس الحاليّ، بل يلزم من ذلك في المبادئ الآنيّة كالضرب، أي: الضربة الواحدة كون المشتقّ حقيقة في خصوص المنقضي عنه المبدأ دون المتلبّس؛ لأنّ التلبّس في الآن الحاضر لا يكفي لكونه معنى المضارع لا الماضي، وقد اُخذ الفعل الماضي ركناً في مفهوم المشتقّ، والتلبّس فيما قبل الآن الحاضر قد انقضى؛ لأنّ المبدأ كان آنيّاً، فوجود لوازم فاسدة عرفاً من هذا القبيل يكفي لكونه برهاناً عرفيّاً على عدم صحّة القول بكون المشتقّ موضوعاً للأعمّ، وتعيّن القول بكونه موضوعاً لخصوص المتلبّس، إذن فتحليل نفس المدّعى كاف لإبطاله من دون حاجة إلى الدخول في الوجوه التي تذكر للمُدَّعَيات(1)، إلاّ أنّنا مع ذلك نمرّ بوجوه بعض الأقوال إجمالاً فنقول:

 


(1) لا يخفى: أنّ إبطاله(رحمه الله) لدعوى وضع المشتقّ للأعمّ بتحليل نفس المدّعى بالنحو الذي ذكره مبتن على مبناه من أنّ الجامع الصحيح العرفيّ منحصر في مفاد الفعل الماضي.

441

أدلّة وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالفعل:

أمّا القول بالاختصاص بخصوص المتلبّس بالفعل، فقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: دعوى تبادر خصوص المتلبّس. واُشكل عليه من قبل الأعمّيّ بأنّه لعلّ التبادر ليس ناشئاً من الوضع، بل من الانصراف القائم على أساس غلبة الاستعمال في المتلبّس.

وأجاب على ذلك صاحب الكفاية(1) بأنّ الغالب في موارد استعمال المشتقّ هو الانقضاء، فكيف يمكن دعوى الانصراف إلى المتلبّس على أساس الغلبة في الاستعمال؟ إلاّ أنّ صاحب الكفاية رأى أنّ هذا الكلام أوقعه بين محذورين: فإن ادّعى: أنّ الغالب في استعمال المشتقّ هو التلبّس بالفعل، وقع في مشكلة: أنّ


أمّا لو بنينا على ما مضى من فرض وجود جامع التحقّق في مقابل الترقّب، فهذا جامع يثبت فيما انقضى عنه المبدأ، ويثبت أيضاً في المتلبّس بالحال ولو كان مبدؤه آنيّاً، أو كان تلبّسه في الحال فحسب، أي: الماضي، فهذا البيان لا يتمّ.

ويؤيّد فرض وجود جامع حقيقيّ بين المنقضي عنه المبدأ والمتلبّس من أوّل آنات تلبّسه ـ سواء أمكننا التعبير عن ذاك الجامع بما ذكرناه من عنوان تحقّق المبدأ أو خاننا التعبير عنه ـ هو ما نُحسّ به وجداناً وعرفاً من أنّ زيداً الذي ضرب سابقاً مع من هو ضارب بالفعل ولم يكن ضارباً سابقاً بينهما شبهٌ، أو سنخيّة، أو تماثل مفقود في من لم يضرب حتّى الآن، كما أنّ بينهما وبين من سيضرب مستقبلاً أيضاً شبه وتماثل مفقود في من لم يضرب ولن يضرب، فبناءً على أنّ الشبه والتماثل يكشف عن الجامع الحقيقيّ يثبت هنا وجود الجامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ، كما يثبت وجود جامع آخر أوسع بينهما وبين من سيتلبّس بالمبدأ.

(1) لا يخفى: أنّ هذا البحث في الكفاية لم يرد في ذيل دليل التبادر، بل ورد في ذيل دليل ارتكاز التضادّ.

442

الانصراف لعلّه على أساس غلبة الاستعمال، وليس تبادراً دالاًّ على الحقيقة، وإن ادّعى: أنّ الغالب فيه هو الانقضاء، قيل له: إذن فكيف تدّعي: أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس، بينما هذا معناه: غلبة الاستعمال في المعنى المجازيّ الكاشفة عن غلبة الحاجة إليه، مع أنّ الوضع يتّبع الحاجات، واللفظ إنّما يوضع لذاك المعنى الأكثر حاجة إليه، فهذا خلاف حكمة الوضع؟

وتخلّص صاحب الكفاية عن كلا المحذورين بأن قال: إنّ أكثر موارد استعمال المشتقّ هو مورد الانقضاء، إلاّ أنّه يمكن حملها على الاستعمال في المتلبّس، وذلك بأن يكون الجري بلحاظ زمان التلبّس، ويمكن حملها على الاستعمال في المنقضي عنه المبدأ، وذلك بأن يكون الجري بلحاظ الحال. وعليه: فبناءً على أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس تحمل تلك الاستعمالات على الجري بلحاظ زمان التلبّس عملاً بأصالة الحقيقة، فلم تلزم غلبة الاستعمال في المعنى المجازيّ. وبناءً على أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ لا تجري أصالة الحقيقة لإثبات الاستعمال في المتلبّس؛ لأنّ الاستعمال في المنقضي أيضاً حقيقة، بل تحمل هذه الاستعمالات على الاستعمال بلحاظ حال النطق تمسّكاً بأصالة الإطلاق التي توجب أنّ زمان الجري هو زمان النطق، فإنّ الإطلاق وعدم تعيين الزمان يقتضي ذلك، وزمان النطق هو زمان الانقضاء، إذن لم يصحّ دعوى الانصراف إلى المتلبّس لكثرة الاستعمال(1)، فارتفع كلا الإشكالين.

أقول: إنّنا لا نسلّم أنّ أكثر الاستعمالات في المنقضي عنه المبدأ حتّى على


(1) لا يخفى: أنّ الموجود في الكفاية ليس هو فرض الانصراف إلى المتلبّس لكثرة الاستعمال بل فرض انسباق التلبّس من الإطلاق من دون اشتراط التلبّس من قبل الواضع ولكنّنا لا نفهم سبباً لهذا الانسباق من الإطلاق إلاّ كثرة الاستعمال.

443

القول بالأعمّ. وبيان ذلك: أنّ استعمالات المشتقّ قد تكون في جملة تطبيقيّة: وأقصد بها: أنّ هناك ذاتاً مشخّصة نطبّق عليها عنوان المشتقّ، كما في «زيد عالم»، واُخرى تكون غير تطبيقيّة، أي: لم يطبّق فيها عنوان المشتقّ على ذات معيّنة، كما إذا قيل: «أكرم العالم». أمّا في الثاني فالمستعمل لم يلحظ ذاتاً معيّنة، وأجرى عليها المشتقّ ليقال: إنّ مقتضى الإطلاق: أنّ زمان الجري هو زمان النطق، وفي زمان النطق قد انقضى المبدأ عن الذات. وأمّا في الأوّل فالجملة التطبيقيّة: إمّا إسناديّة كـ «رأيت العالم»، أو «ضرب العالم»، أو حمليّة كـ «زيد عالم» فإن كانت إسناديّة، فمن الواضح: أنّ مقتضى الإطلاق فيها: أنّ الجري والتطبيق على الذات إنّما هو بلحاظ زمان صدور الفعل، لا بلحاظ زمان النطق حتّى يقال بأنّ زمان النطق قد انقضى فيه المبدأ، فيتعيّن كونه مستعملاً في المنقضي، بل في زمان النطق لعلّ ذاته أيضاً غير موجودة. وإن كانت حمليّة: فتارةً نفرض أنّ الذات منقضية كما في قولنا «الشيخ المفيد عالم»، واُخرى نفرض عدم انقضائها كما في قولنا «زيد عالم»، وكان زيد بعدُ حيّاً، ففي الأوّل من الواضح: أنّ الجري لا يكون بلحاظ زمان النطق، بل بلحاظ زمان وجود الذات حتّى على رأي الأعمّيّ؛ إذ عند زمان النطق لا ذات أصلاً حتّى يجري عليها الوصف الاشتقاقيّ، وفي الثاني نسلّم: أنّ مقتضى أصالة الإطلاق أن يكون الجري بلحاظ زمان النطق، ولكن لا نسلّم في خصوص هذا القسم من القضايا، أي: القضايا التطبيقيّة الحمليّة الموجود فيها الذات أنّ الغالب هو التلبّس حال النطق، إذن فكلام صاحب الكفاية غير صحيح.

ولكن إشكال الأعمّيّ بأنّ التبادر لعلّه انصرافيّ نشأ من كثرة الاستعمال غير وارد، فإنّه حتّى لو سلّم كون التبادر انصرافيّاً نشأ من كثرة الاستعمال، لا يضرّنا ذلك؛ إذ معنى ذلك: صيرورة اللفظ بكثرة الاستعمال موضوعاً بالوضع التعيّنيّ في

444

خصوص المتلبّس بالنقل من الأعمّ مثلاً، وتمام همّ الفقيه إنّما هو إثبات ظهور اللفظ في معنىً، وهذا يثبت بثبوت الوضع والتبادر من دون فرق بين كون الوضع تعيينيّاً أو تعيّنيّاً، ولم يكن الهدف إثبات خصوص الوضع التعيينيّ مثلاً.

الوجه الثاني: أنّه على الأعمّ يلزم عدم التضادّ بين الأوصاف الاشتقاقيّة المأخوذة من المبادئ المتضادّة، كالعالم والجاهل؛ لأنّه يكفي في صدق كلّ منهما تلبّسه في وقت من الأوقات الماضية بمبدئه، فإذا تلبّس في وقت بمبدأ، وفي وقت آخر من الأوقات الماضية أو في الوقت الحاضر بالمبدأ الآخر، صدق الوصفان معاً، بينما هما متضادّان بلا إشكال كما هو واضح.

وهذا الوجه إذا اُريد جعله دليلاً حقيقيّاً على المدّعى، فهو غير تامّ، فإنّه إن اُريد جعل تضادّ المبادئ برهاناً على تضادّ الصفات، فهذا غير صحيح؛ لأنّ التضادّ بين المبدءين لا يلزم منه التضادّ بين مدلولي الهيئتين الاشتقاقيّتين؛ إذ قد تطعّم الهيئة الاشتقاقيّة بما يخرج المعنيين عن التضادّ، كما هو الحال على الأعمّ؛ إذ طعّم المشتقّ بمفاد الفعل الماضي على ما سبق، فيكون مدلول «عالم» من علم، ومدلول «جاهل» من جهل، وطبعاً لا تضادّ بينهما، وإن اُريد جعل وضوح التضادّ وارتكازه في أنظار العرف دليلاً على التضادّ، فهذا الارتكاز إنّما هو في طول معرفة المعنى، فالإنسان حيث إنّه يفهم من كلمة «العالم» المتلبّس بالعلم فعلاً، ومن كلمة «الجاهل» المتلبّس بالجهل فعلاً ارتكز في ذهنه التضادّ، ومن لا يعرف معنى كلمة العالم والجاهل لا يرتكز في ذهنه التضادّ، فارتكاز التضادّ في طول ارتكاز كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، فلا يصلح هذا دليلاً حقيقيّاً على المدّعى. نعم، يصلح أن يكون منبّهاً حين الغفلة، لا أن يكون معطياً للعلم بالمطلب لمن لا يعلم به حقيقةً.

445

الوجه الثالث: صحّة السلب، فيصحّ سلب «عالم» عن زيد المنقضي عنه المبدأ، وصحّة السلب علامة المجاز.

واعترض على ذلك بأنّه: هل يراد صحّة سلب «عالم» بالكلّيّة، أو صحّة سلب «عالم» مقيّداً بأن يكون عالماً بالعلم الفعليّ؟ فإن اُريد صحّة سلب عالم بالكلّيّة، فهو خلاف الوجدان، فإنّ زيداً عالم بعلم سابق يقيناً. وإن اُريد أنّه ليس بعالم بعلم فعليّ، فهذا صحيح، لكن صحّة سلب المقيّد لا تدلّ على مجازيّة العالم بقول مطلق.

وهذا الإشكال نشأ من الخلط بين تقييد الوصف الاشتقاقيّ وتقييد مبدأ الاشتقاق، أي: العالم والعلم فتارةً نقول: «زيد ليس بعالم الآن»، واُخرى نقول: «زيد ليس بعالم بعلم الآن». فالثاني إن صحّ لا يستلزم مجازيّة المشتقّ في المنقضي عنه المبدأ، لكن الأوّل يستلزم مجازيّته فيه، ويساوق بطلان قول الأعمّيّ، فإنّ النزاع كلّ النزاع في أنّه: هل هو عالم الآن، أو لا؟

نعم، أصل صحّة السلب وصحّة الحمل ليس من أدلّة الحقيقة والمجاز كما بيّنّا في بحث علائم الحقيقة والمجاز. فهذا الوجه حاله حال الوجه السابق في أنّه يستعمل فقط من أجل التنبيه على أمر معلوم سابقاً، لا لإعطاء علم جديد.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1)، وهو مركّب من أمرين:

الأوّل: قيام البرهان على بساطة معنى المشتقّ، ومعناه هو معنى المبدأ، إلاّ أنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا، والمشتقّ مأخوذ لا بشرط؛ ولهذا لا يقبل المبدأ الحمل بخلاف المشتقّ.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 106 ـ 121 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 63 ـ 76 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ.

446

الثاني: أنّه بناء على بساطة المفهوم الاشتقاقيّ، وكون معناه هو معنى المبدأ لا يعقل الوضع للأعمّ؛ إذ لا يتصوّر الجامع الأعمّيّ، فإذا كان «عالم» مثلاً بمعنى العلم، فالعلم ليس جامعاً بين المتلبّس والمنقضي عنه، إذن فيثبت بذلك أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس.

أقول: أمّا الأمر الثاني، وهو أنّه بناءً على البساطة(1) لا يعقل الجامع الأعمّيّ، فقد تقدّم الكلام عنه في المقدّمات، وقلنا: إنّه صحيح. وأمّا الأمر الأوّل، وهو بساطة المفاهيم الاشتقاقيّة، وكونها نفس مفاهيم المبادئ، فهذا لا نقبله، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في خاتمة المسألة، فالأحسن تبديل هذا البيان بما مضى بأن يقال: إنّ المفهوم الاشتقاقيّ: إمّا أن يقال ببساطته، فلا يعقل الأعمّ؛ لعدم تصوّر الجامع، أو يقال بتركّبه، فالجامع معقول ثبوتاً، لكن مضى أنّه لو حلّلناه لرأيناه يستلزم محاذير عرفيّة لا يقبلها الوجدان العرفيّ، فالجامع غير صحيح عرفاً، فعلى كلا التقديرين لا يصحّ الأعمّ، وهذا هو العمدة في إثبات المدّعى.

وبما ذكرناه ظهر وجه الخلل في الأدلّة التي استدلّ بها للأعمّ بنحو الموجبة الكلّيّة، فلا حاجة إلى التعرّض لها(2).

 


(1) بمعنى كون معنى المشتقّ هو معنى المبدأ، أمّا البساطة بمعنى كونه عنواناً انتزاعيّاً بسيطاً ينتزع من الذات بلحاظ اتّصافه بالمبدأ، فهي ملحقة في إمكان تصوير الجامع وعدمه بالتركيب.

(2) لا بأس بالتعرّض هنا لدليل واحد من أدّلة القول بالأعمّ، وهو الاستدلال بما ورد في بعض الروايات (راجع تفسير البرهان، ج 1، ص 149 ـ 151) من استدلال المعصوم(عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية: 124) على عدم صلاحيّة من كان مشركاً في أوّل أمره للإمامة، حيث يقال: إنّه لو لم يكن عنوان الظالم ←

447


اسماً لما يشمل المنقضي عنه المبدأ، لما صحّ استدلال الإمام(عليه السلام)بهذه الآية المباركة لإبطال خلافة الخلفاء الأوائل في مقابل أهل السنّة؛ لأنّهم لا يعترفون بأنّ خلفاءهم كانوا ظالمين في وقت تقمّصهم قميص الخلافة، وإنّما يعترفون بظلمهم قبل إسلامهم.

وقد تضاف إلى ذلك آيتا حدّ السرقة والزنا (سورة المائدة، الآية: 38، وسورة النور،الآية: 2)؛ لوضوح: أنّ الحدّ عادة يتمّ بعد انتهاء عمليّة السرقة والزنا، فهذا شاهد على أنّ اسم الزاني والسارق يشمل من انقضى عنهما المبدأ.

والواقع: أنّ إلحاق آيتي السرقة والزنا في المقام في غير محلّه، فإنّه لو فرض توقّف تطبيق الآيتين على مورد الانقضاء حال إجراء الحدّ على حمل عنوان السارق والزاني فيهما على الأعمّ، إذن تصبح إرادة الأعمّ في الآيتين مقطوعاً بها؛ إذ لا شكّ فقهيّاً في إيقاع الحدّ عليهما بعد انقضاء المبدأ، وعندئذ يدخل التمسّك بالآيتين لإثبات كون المشتقّ حقيقةً في الأعمّ في إجراء أصالة الحقيقة لدى الشكّ في الاستناد، وقد ثبت في محلّه: أنّ أصالة الحقيقة إنّما تكون حجّة لدى الشكّ في المراد، لا الاستناد.

فينحصر الاستدلال على الأعمّ في آية:﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، ويكون هذا الاستدلال بلحاظ الروايات التي طبّقت الآية على من كان مشركاً قبل الإسلام إن تمّت سنداً.

وقد أجاب السيّد الخوئيّ(رحمه الله) (على ما ورد في المحاضرات للفيّاض، ج 1، ص 256 ـ 264 بحسب طبعة مطبعة النجف) عن الاستدلال بذلك وبآيتي حدّ الزنا والسرقة بأنّنا حتّى لو آمنّا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ فاستعماله في القضايا الحقيقيّة ـ ومنها هذه الآيات ـ لا يصحّ في المنقضي عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء؛ وذلك لأنّ القضيّة الحقيقيّة لم يلحظ فيها تطبيق المشتقّ الذي أصبح موضوعاً لتلك القضيّة على شخص ما حتّى يفترض أنّ المبدأ قد انقضى عن ذاك الشخص، وإنّما الموضوع في القضيّة الحقيقيّة يكون مقدّر الوجود، أو قل: إنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة،

448


ويكون تحقّق الشرط ـ لا محالة ـ بفعليّة المبدأ، فإذن لا يمكن أن يقصد بموضوع القضيّة الحقيقيّة وكذلك متعلّقها إلاّ المتلبّس، والظاهر الأوّليّ من القضيّة الحقيقيّة هو دوران الحكم مدار عنوان موضوعه حدوثاً وبقاءً، إلاّ أن تقوم قرينة داخليّة أو خارجيّة على كفاية حدوث ذاك العنوان لثبوت الحكم وبقائه بعد زوال ذلك. ومن هنا يتّضح: أنّ النزاع في كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس أو الأعمّ ليس له أثر مهمّ، فإنّ الأحكام الشرعيّة هي عادة تكون بنحو القضايا الحقيقيّة، فلو بقينا نحن والظهور الأوّليّ لها كان مقتضى ذلك دوران الحكم مدار بقاء العنوان المقدّر حدوثاً وبقاءً حتّى لو فرضنا أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، فلا يشكّ أحدٌ أنّ حكم الجنب أو الحائض مثلاً يبقى مدّة بقاء الجنابة أو الحيض، ويرتفع بارتفاعهما، وهذا واضح حتّى لدى من يرى المشتقّ حقيقةً في الأعمّ، بل لم يحتمل أحد ابتناء هذه المسائل وما شاكلها على النزاع في المشتقّ، وليس هذا إلاّ لأجل ما قلناه من أنّ العنوان المأخوذ في موضوع قضيّة حقيقيّة يدلّ على المتلبّس لا محالة، وظهورها في دوران الحكم مدار ذاك العنوان حدوثاً وبقاءً يقتضي ارتفاع الحكم بمجرّد انقضاء المبدأ، ولو دلّت قرينة على أنّ ذاك العنوان يكون بحدوثه موضوعاً للحكم حتّى بقاءً، فلا محالة يحكم ببقاء الحكم بعد انقضاء المبدأ حتّى عند من يرى أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، وبما أنّ الظاهر في قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾هو دخل العنوان حدوثاً فحسب، وذلك بسبب مناسبة الحكم والموضوع باعتبار جلالة شأن الإمامة وعظمته، وخاصّة: أنّ كلمة (لا ينال) جيئت بصيغة المضارع التي تدلّ بإطلاقها على بقاء الحكم في المستقبل؛ ولهذا يصحّ الاستدلال بهذه الآية على عدم لياقة من كان مشركاً للإمامة حتّى بعد فرض توبته وصلاح حاله.

أقول: إنّ الاستفادة من صيغة المضارع لم تكن في محلّها في المقام؛ فإنّه لولا فرض اقتضاء مناسبة الحكم والموضوع لكفاية حدوث العنوان لبقاء الحكم حتّى بعد زواله، لكان مقتضى إطلاق المضارع بقاء هذا الحكم على هذا العنوان حتّى في المستقبل، أي: أنّ

449


الظالم مادام ظالماً لا ينال عهد الله، لا في الحاضر ولا في أيّ زمان مستقبل. وهذا لا علاقة له بعدم نيل عهد الله لدى ارتفاع الظلم، فإنّ صيغة المضارع وإن كانت تشمل المستقبل ولكنّ شمولها للمستقبل إنّما يوجب شمول الحكم بما له من القيود للمستقبل، فلو كان الحكم مقيّداً بالمقارنة المستمرّة للعنوان لم يكن ذلك منافياً لشمول صيغة المضارع للمستقبل.

وعلى أيّ حال، فأصل استدلاله(رحمه الله) على كون المشتقّ في موضوع القضيّة الحقيقيّة ملحوظاً بنحو التلبّس ـ ولو قيل بوضعه للأعمّ بأنّ الموضوع مقدّر الوجود ـ غريب، فإنّه وإن كنّا لا نشكّ في أنّ موضوع القضيّة الحقيقيّة مقدّر الوجود، أو أنّ موضوعها ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة، إذن فلابدّ من فرض فعليّة الشرط أو الموضوع، ولكن الكلام إنّما يقع في أنّ ذاك الشرط أو الموضوع الذي قدّر وجوده ما هو؟ هل هو المتلبّس بالفعل بالمبدأ، أو الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ؟ وكيف يعقل أن يكون فرض الموضوع مقدّر الوجود أو مشروط التحقيق دليلاً على تعيّن ذاك الموضوع في المتلبّس؟!

ويمكن توجيه كلامه(رحمه الله) بالإلفات إلى نكتة غير واضحة من عبارة تقرير بحثه، وهي: أنّ القضيّة الحقيقيّة تدلّ على شرط فعليّة التلبّس ولو آناً ما؛ لأنّه لولا فعليّة التلبّس ولو آناً ما يكون الموضوع منتفياً على الرأيين، أي: سواء قلنا بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالفعل أو الأعمّ، فأصل التلبّس ولو في أوّل الآنات دخيل في الحكم، وأمّا بقاء الحكم وعدمه فهو رهين استظهار كون ذاك التلبّس علّةً للحكم حدوثاً فحسب، أو حدوثاً وبقاءً.

فإن كان هذا هو المقصود كما هو غير بعيد برغم قصور عبارة التقرير، ورد عليه: أنّه وإن كان دخل أصل التلبّس في الحكم واضحاً على كلا الرأيين، ولكنّنا نقول: هل المدّعى عندئذ عدم صحّة استعمال المشتقّ في القضايا الحقيقيّة في خصوص المنقضي عنه المبدأ وإن صحّ استعماله في الأعمّ، أو المدّعى عدم صحّة استعماله حتّى في الأعمّ، وضرورة

450


استعماله في خصوص حال التلبّس؟

فإن قصد الأوّل، أي: عدم صحّة استعمال المشتقّ في القضايا الحقيقيّة في خصوص المنقضي عنه المبدأ، فلنسلّم بذلك موقّتاً من باب: أنّ دخل التلبّس ولو آناً ما في الحكم لا شكّ فيه على كلا الرأيين، ولكن يكفي في جريان النزاع في المشتقّ المستعمل في القضايا الحقيقيّة إمكان استعماله في الأعمّ تارةً، وفي المتلبّس بالفعل اُخرى.

وإن قصد الثاني، أي: عدم صحّة استعمال المشتقّ فيها إلاّ بلحاظ حال التلبّس، لا بلحاظ حال الانقضاء، ولا في الأعمّ، فهذا ما لا يقتضيه هذا الدليل؛ لأنّ دخل التلبّس ولو آناً ما يبقى قابلاً للانحفاظ حتّى في فرض الاستعمال في الأعمّ.

أمّا دعوى عدم الثمرة، فهذا أيضاً لا يتمّ؛ فإنّه تظهر الثمرة فيما لو كان مفاد القضيّة الحقيقيّة التقارن حدوثاً وبقاءً بين الحكم والعنوان المأخوذ في الموضوع، وقد اعترف هو(رحمه الله) بأنّ الظهور الأوّليّ للقضيّة الحقيقيّة هو ذلك لولا قرينة تقتضي حمل العنوان على كونه علّةً حدوثاً فحسب للحكم حدوثاً وبقاء، وهذا الاعتراف في محلّه؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة ينحلّ موضوعها إلى جملة الشرط، والشرط يدلّ بظهوره الأوّليّ على الاقتران الكامل بين الشرط والجزاء، أو قل: إنّ القضيّة الحقيقيّة موضوعها مقدّر الوجود، أي: قدّر وجوده كي يحمل عليه المحمول، وهذا ظاهر في التقارن حدوثاً وبقاءً، فلو كان الموضوع عبارة عن المبدأ لأنتج ذلك اشتراط بقاء المبدأ في بقاء الحكم، ولكن المفروض: أنّ الموضوع عبارة عن العنوان الاشتقاقيّ، وهو الظالم مثلاً، فإذا كان ذاك العنوان مستعملاً في خصوص المتلبّس بالفعل، فالنتيجة: اشتراط بقاء التلبّس الفعليّ في بقاء الحكم. وإن كان مستعملاً في الأعمّ فالتقارن بين الحكم والعنوان الاشتقاقيّ بقاءً محفوظ حتّى بعد زوال المبدأ؛ لأنّ عنوان الظالم مثلاً صادق حتّى بعد انتهاء الظلم.

بل إنّنا لا نسلّم عدم إمكان استعمال المشتقّ في القضايا الحقيقيّة في خصوص من انقضى عنه المبدأ؛ وذلك لأنّه صحيح: أنّ التلبّس آناً ما لابدّ منه في صدق الشرط أو