111

 

الأقسام الممكنة للوضع

 

وأمّا الجهة الثالثة: وهي في الأقسام الممكنة للوضع، فقد قسّموا الوضع التعييني ـ حسب مبانيهم من كون الوضع أمراً إنشائيّاً ـ إلى أربعة أقسام، ذلك: أنّ الواضع يجب أن يتصوّر المعنى حتّى ينشئ وضع اللفظ له، فإمّا أن يتصوّر معنىً عامّاً، أو يتصوّر معنى خاصّاً، وعلى أيّ حال: إمّا أن يضع اللفظ للعامّ، أو يضعه للخاصّ. وبهذا ينقسم الوضع إلى أربعة أقسام:

1 ـ أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً.

2 ـ أن يكون الوضع خاصّاً والموضوع له خاصّاً.

والجامع بين هذين القسمين هو أنّ المعنى الذي تصوّر الواضع مع المعنى الذي وضع له اللفظ متّحدان.

3 ـ أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً، أي: أنّ الواضع تصوّر معنىً عامّاً ووضع اللفظ لأفراده.

4 ـ أن يكون الوضع خاصّاً والموضوع له عامّاً، أي: أنّه تصوّر معنىً خاصّاً ووضع اللفظ للعامّ.

ولا إشكال في إمكان القسمين الأوّلين، والمشهور في القسم الثالث هو الإمكان، وقيل بالامتناع، والمشهور في القسم الرابع هو الامتناع، وقيل بالإمكان.

ونتكلّم الآن في القسم الثالث، وبتحقيقه يظهر الحال في القسم الرابع.

فنقول: قد ذكروا في تقريب إمكان القسم الثالث أنّ الواضع وإن كان لابدّ له من تصوّر المعنى، لكن ليس عليه أن يتصوّر المعنى تصوّراً تفصيليّاً، فإنّه يكفي في

112

إمكان الحكم على شيء تصوّر ذلك الشيء إجمالاً، وتصوّر الجامع هو تصوّر إجماليّ لأفراده.

هذا هو البيان البدائي لتصوير إمكان القسم الثالث.

وما يعترض به على ذلك أمران:

الأمر الأوّل: ما يكون في الحقيقة مركّباً من أمرين:

الأوّل: أنّ الجامع إنّما يعقل كونه حاكياً عن الأفراد إذا كان منطبقاً عليها بخصوصيّاتها الفرديّة.

والثاني: أنّ الجامع لا يكون منطبقاً على الأفراد بخصوصيّاتها؛ لأنّه إنّما ينتزع من الأفراد بتقشيرها عن الخصوصيّات، فمع إبقاء الخصوصيّات لا يكون جامعاً، فيجب إلغاء الخصوصيّات إلى أن لا يبقى إلاّ الجامع.

وعليه، فالجامع لا يكون حاكياً عن الأفراد بخصوصيّاتها الفرديّة حتّى يكفي تصوّره في مقام الحكم على الأفراد بما هي أفراد.

وتصدّى المحقّق العراقيّ(قدس سره) للجواب على هذا الإشكال(1)، فكأنّه سلّم بالأمر الأوّل وأخذ يناقش في الأمر الثاني، وذلك بالتفصيل فيه بين الجوامع، بدعوى: أنّ الجامع قد يكون أخذيّاً وانتزاعيّاً، أي: أنّ النفس تأخذه وتنتزعه من الأفراد بعد تقشيرها عن الخصوصيّات، من قبيل جامع الإنسان الذي ينتزع من الأفراد بعد إلغاء خصوصيّة الحجم واللون وغير ذلك، وقد يكون إنشائيّاً وإلباسيّاً، بمعنى: أنّ النفس تُنشئ ذاك الجامع إنشاءً، وتُلبسه على الأفراد، وذلك من قبيل عنوان الفرد،


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 18 ـ 19 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف، وص 75 ـ 76 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ في قم.

113

وعنوان الخاصّ، ونحو ذلك ممّا ليس مأخوذاً من الأفراد والخصوصيّات بالتقشير، بل هو عنوان تنشئه النفس إنشاءً وتخترعه اختراعاً، وتُلبسه على الأفراد والخصوصيّات، فالنفس التي هي المنشئِة لهذا الجامع والمخيّطة له تخيطه بنحو ينطبق على الفرد بتمام خصوصيّاته، فجامع من هذا القبيل يعقل أن يكون حاكياً عن الأفراد بخصوصيّاتها، فيتصوّره الواضع ويضع اللفظ للأفراد.

فالمحقّق العراقيّ(رحمه الله) يتّفق مع صاحب الإشكال في القسم الأوّل من الجوامع، وهو ما يكون من قبيل الإنسان على أنّه لا يعقل للواضع أن يتصوّره ويضع اللفظ لأفراده، ويختلفان في القسم الثاني وهو ما يكون من قبيل الفرد والخاصّ.

أمّا جهة الاختلاف بينهما، فالتحقيق: أنّ مثل عنوان الفرد أو الخاصّ لا يعقل أن يكون إنشائيّاً وإلباسيّاً صرفاً، بل حتماً يجب أن تكون له جهة أخذ وانتزاع من الأفراد؛ إذ لو كان مجرّد إنشاء صرف من قبل النفس كما تنشئ بحراً من زئبق مثلاً، لما صحّ حمله على الخارجيّات إلاّ بالعناية، وذلك لأنّ ملاك الحمل هو الاتّحاد(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الكلام الذي أبطله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا من الجامع الإلباسيّ أو الاختراعيّ الذي ينشئه الذهن، ويُلبسه على ما في الخارج قد تمسّك به هو (رضوان الله عليه) في بحث حقيقة العلم الإجماليّ وما يتعلّق به، وهذا ما لا يخلو من نوع من التهافت.

والواقع: أنّه لو قُصِد باختراعيّة الجامع خياليّته البحت حتّى يكون من قبيل بحر من زئبق، فهذا الكلام باطل هنا وهناك، ولو قصد بها كون الجامع جامعاً عَرَضيّاً منتزعاً من الأفراد بكلّ ما لها من قشور، لا ذاتيّاً كي يكون تحصيله بتقشير الفرد، فهذا الكلام صحيح هنا وهناك.

114

وأمّا جهة الاتّفاق بينهما، فنحن وإن كنّا نوافق على أنّ الجامع الذي يكون من قبيل الإنسان لا يعقل فيه الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ كما سيأتي إن شاء الله، ولكنّنا نناقش النكتة التي يؤمن بها صاحب الإشكال والمحقّق العراقيّ(رحمه الله). وتوضيح ذلك: أنّ الفرد له مصطلحان:

الأوّل: الفرد الخارجيّ بما له من خصوصيّات الحجم واللون وغير ذلك. وطبعاً الفرد بهذا المعنى يجب تقشيره حتّى ينطبق عليه الجامع، ولا يكون الجامع حاكياً عنه بخصوصيّاته؛ فإنّ الخصوصيّات غير داخلة في الجامع، وإنّما هي اُمور إضافيّة لابدّ من غضّ النظر عنها عند إرادة اقتناص الجامع.

الثاني: الفرد بمعنى الحصّة المعيّنة من الجامع فمفهوم الإنسان مثلاً جامع، وأفراده بالمعنى الثاني عبارة عن تلك الحصّة من الإنسانيّة الموجودة في زيد، وتلك الحصّة الموجودة في عمرو وهكذا، فإنّ كلّ حصّة من هذه الحصص هي مباينة للحصّة الاُخرى ذاتاً بغضّ النظر عن الخصوصيّات الطارئة على الحصّة من حجم أو لون أو غير ذلك، وإنّما هذه الخصوصيّات تطرأ على الحصّة، فيجب أن تكون ذات الحصّة سابقاً مباينة للحصّة الاُخرى حتّى يطرأ على هذه الحصّة الوصف الفلانيّ، وعلى الحصّة الاُخرى الوصف الآخر، والمفهوم الجامع بين هذه الحصص ينطبق على كلّ حصّة بتمامها؛ إذ ليست فيها خصوصيّة زائدة على أصل طبيعة الإنسانيّة حتّى نحتاج إلى تقشيرها عنها، وما به الاشتراك في هذه الحصص


وإن شئت مراجعة كلام اُستاذنا في تحقيق حقيقة العلم الإجماليّ فراجع كتابنا مباحث الاُصول، الجزء الرابع من القسم الثاني، ص 19 ـ 26 بحسب الطبعة الاُولى في مطبعة إسماعيليان.

115

عين ما به الامتياز فيها، فيعقل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، بمعنى تصوّر المفهوم العامّ والوضع لهذه الحصص.

الأمر الثاني: أنّ الفرد والجامع متباينان مفهوماً وإنّ اتّحدا خارجاً، فتصوّر مفهوم الجامع لكي يتمّ الموضوع له الخاصّ غير معقول؛ لأنّ هذا لا يكون إلاّ بأحد فروض أربعة:

1 ـ أن يفرض: أنّ تصوّر الجامع صار حيثيّة تعليليّة للانتقال إلى مفهوم الفرد، فتَصوّرَ الفرد ووضع له. لكن هذا ـ كما ترى ـ يرجع إلى الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، ولا يحقّق المقصود.

2 ـ أن يفرض: أنّ المفهومين يوجدان بحضور واحد، وتصوّر واحد.

وهذا غير معقول؛ لما قلنا من أنّهما متباينان مفهوماً.

3 ـ أن يفرض: أنّ مفهوم الفرد غائب عن الذهن مطلقاً، ويتصوّر مفهوم الجامع، ويُصدر حكمه على مفهوم الفرد.

وهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ الحاكم حينما يحكم على شيء يجب أن يكون موضوع حكمه حاضراً في نفسه.

4 ـ أن يفرض: أنّه يتصوّر مفهوم الجامع ويضع اللفظ له، ومع ذلك يصبح الموضوع له خاصّاً.

وهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّه إذا وضع للجامع فقد صار الموضوع له عامّاً(1).

 


(1) ورد في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 89 جواب على هذا الإشكال، وهو: أنّ المفاهيم العامّة على قسمين:

أحدهما: ما هو منتزع من المصاديق الخارجيّة كالإنسان، وهذا هو الذي لا يمكن أن

116

والتحقيق: أنّنا نختار الشقّ الرابع، أي نقول: إنّ الواضع يتصوّر الجامع ويضع اللفظ للجامع، ومع هذا يصير الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً، فالحكم يصدر على العامّ لكنّه يستقرّ على الخاصّ. وتوضيح ذلك يكون ببيان مقدّمتين:

1 ـ إنّ كلّ عنوان من العناوين، كعنوان الإنسان، وعنوان الكلّيّ والجزئيّ، وغير ذلك من العناوين يكون بالنظر الأوّليّ التصوّريّ واجداً لذاته ومقوّماته، وإلاّ لزم التناقض، فمن تصوّر الإنسان يرى بهذا النظر الحيوان الناطق، ومن تصوّر الكلّيّ أو الجزئيّ يرى بهذا النظر ما لا يمتنع صدقه على كثيرين، أو ما يمتنع صدقه على كثيرين، وهكذا، ولكن بالنظر الثانويّ التصديقيّ حينما ينظر إلى نفس ذلك العنوان فقد يجده غير واجد لنفسه، بل مصداقاً لضدّه من قبيل عنوان الجزئي، فإنّ هذا العنوان ليس هو في حقيقته وهويّته جزئيّاً يمتنع صدقه على كثيرين، بل هو مصداق من مصاديق الكلّيّ وصادق على كثيرين، وقد يجده بالنظر الثانويّ والتصديقيّ أيضاً واجداً لنفسه من قبيل عنوان الكلّيّ، فإنّ هذا العنوان بنفسه كلّيّ ولا يمتنع صدقه على كثيرين، وكذلك عنوان الإنسان، أي: حقيقة الإنسان الموجودة في ضمن كلّ فرد، فإنّها إنسان حقيقة وحيوان ناطق واقعاً.

 


يكون الموضوع له فيه خاصّاً؛ لأنّه لا يفنى في مفهوم جزئيّ، بل هما مفهومان متباينان منتزعان عن الخارج في عرض واحد.

والثاني: ما هو منتزع من المفاهيم الجزئيّة كمفهوم الجزئيّ المنتزع من مفهوم زيد وعمرو وبكر ... لا من المصاديق، فهنا بما أنّه ليس المفهوم العامّ في عرض المفهوم الخاصّ منتزعاً من الخارج، بل هو منتزع من المفاهيم الجزئيّة فيكون وجهاً وعنواناً للمفاهيم الجزئيّة، فبإمكان الواضع أن يضع اللفظ لتلك المفاهيم الجزئيّة التي تصوّرها إجمالاً وبوجهها الذي هو المفهوم العامّ.

117

2 ـ إنّ القضيّة توجد فيها مرحلتان:

الاُولى: مرحلة إصدار الحكم وعقده، وفي هذه المرحلة تحتاج إلى تصوّر الموضوع، ويكفي فيها تصوّر ما هو موضوع بالنظر التصوّريّ ولو لم يكن تصوّراً لواقع الموضوع.

والثانية: مرحلة ثبوت الحكم واقعاً، وفي هذه المرحلة يثبت الحكم على واقع الموضوع، ومثال ذلك قول المتكلّم: «الجزئيّ ما يمتنع صدقه على كثيرين»، فهذه القضيّة صادقة عند من يقول بإمكان الوضع العامّ والموضوع له الخاص وعند من ينكر ذلك، مع أنّ فيها إشكالاً، وهو: أنّه كيف يصحّ القول بأنّ الجزئيّ يمتنع صدقه على كثيرين مع أنّ الجزئيّ بنفسه كلّيّ ويصدق على كثيرين؟! والجواب: أنّ الحكم بامتناع الصدق على كثيرين وإن كان في مرحلة الثبوت الواقعيّ ثابتاً على واقع الجزئيّ، وهو زيد وعمرو وبكر، لا عنوان الجزئيّ، ولكن في مرحلة إصدار الحكم من قبل المتكلّم لا يلزمه تصوّر واقع الجزئيّ بأن يقول: زيد يمتنع صدقه على كثيرين، وعمرو يمتنع صدقه على كثيرين، وهكذا، بل يكفيه تصوّر ما هو جزئيّ بالنظر الأوّليّ التصوّريّ وإن كان كلّيّاً بالنظر الثانويّ التصديقيّ، والجزئيّ هو جزئيّ بالنظر الأوّليّ التصوّريّ، وإلاّ لزم التناقض؛ ولهذا صحّ أن يقال: الجزئيّ ما يمتنع صدقه على كثيرين. فقد حكم بامتناع الصدق على كثيرين على عنوان الجزئيّ، ولكن الحكم استقرّ وثبت على مصاديق هذا العنوان.

والخلاصة: متى ما كان الموضوع بالنظر التصديقيّ واجداً لنفسه وحكم عليه بحكم ما، ثبت واستقرّ له ذلك الحكم، كما في قولنا مثلاً: «الكلّيّ لا يمتنع صدقه على كثيرين»، أو قولنا: «الإنسان يمشي». ومتى ما كان الموضوع بالنظر التصديقيّ غير واجد لنفسه، وحكم عليه بحكم ما، لم يستقرّ الحكم عليه، وإنّما

118

يستقرّ على مصاديقه، كما في قولنا: «الجزئيّ يمتنع صدقه على كثيرين».

إذا عرفت ذلك، قلنا: أنّه بدلاً عن الحكم بامتناع الصدق على كثيرين يمكن أن نفرض الحكم بوضع اللفظ، وكما كان يحمل الحكم بامتناع الصدق على كثيرين على عنوان الجزئيّ الذي هو بالنظر التصوّريّ جزئيّ وبالنظر التصديقيّ كلّيّ، كذلك يحمل الواضع الحكم بوضع اللفظ على عنوان الجزئيّ، أو الفرد، أو الخاصّ، وما شابه ذلك الذي هو بالنظر الأوّليّ فرد وخاصّ وبالنظر التصديقيّ عامّ. وكما كان الحكم بامتناع الصدق يستقرّ على واقع ما هو الجزئيّ، لا على عنوان الجزئيّ، كذلك الحكم في الوضع يستقرّ على ما هو واقع الفرد، لا على العنوان الذي وقع موضوعاً للحكم والذي هو عامّ في الحقيقة، فمثلاً يقول الواضع: «وضعت لفظة كذا لأفراد الإنسان» فهو لم يتصوّر واقع الأفراد، وإنّما تصوّر عنواناً كلّيّاً وهو فرد الإنسان، لكنّه وضع لواقع الأفراد؛ لما عرفت من كفاية تصوّر ما هو موضوع للحكم بالنظر التصوّريّ(1).


(1) لا يخفى: أنّ هذا الجواب لا يتمّ إلاّ بعد فرض استبطانه لروح الجواب الذي نقلناه عن تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله؛ وذلك لأنّ انتقال الحكم من المعنى العامّ الذي تصوّره الواضع، أو الحاكم والذي لا يجد نفسه بالنظر التصديقيّ إلى المفاهيم الجزئيّة التي تكون واجدة للحقيقة المستبطنة بالنظر التصوّريّ في الموضوع لا يكون إلاّ بنكتة فناء ذاك المفهوم العامّ في تلك المفاهيم الجزئيّة، وكونه وجهاً لها و عنواناً لها، وذلك لا يكون إلاّ بفرض ذاك المفهوم العامّ منتزعاً من تلك المفاهيم الجزئيّة لا منتزعاً من الخارج في عرض انتزاع المفاهيم الجزئيّة.

وبهذا يتبيّن أنّ هذا الجواب لا يدفع الإشكال الأوّل؛ لأنّنا ما دمنا رجعنا إلى مسألة الانتزاع من تلك المفاهيم الجزئيّة يأتي في المقام إشكال التقشير، ونحتاج في دفعه إلى ما مضى من الجواب عن ذاك الإشكال.

119

وقد اتّضح بما ذكرناه أنّ الجوامع على قسمين:

1 ـ ما يكون بالنظر التصديقيّ خاصّاً وفرداً، كعنوان فرد الإنسان، وفي ذلك يعقل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ؛ وذلك لما عرفت من أنّ الحاكم لابدّ له في مقام الحكم من أن يتصوّر ما هو موضوع لحكمه بالنظر التصديقيّ، أو ما هو موضوع لحكمه بالنظر التصوّريّ، وما تصوّره هنا وإن لم يكن خاصّاً وفرداً بالنظر التصديقيّ، لكنّه خاصّ وفرد بالنظر التصوّريّ، وهذا كاف في مقام إصدار الحكم، ولا يرد عليه الإشكال الثاني، كما لا يرد عليه الإشكال الأوّل، بلا حاجة إلى ما مضى من الجواب عليه، فإنّ هذا الجواب يدفع كلا الإشكالين كما هو واضح(1).

2 ـ ما لا يكون بالنظر التصوّريّ خاصّاً وفرداً، كعنوان الإنسان، وفي مثل ذلك لا يعقل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ؛ لأنّه لم يتصوّر ما هو خاصّ بالنظر التصديقيّ، ولا ما هو خاصّ بالنظر التصوّريّ، ولابدّ للحاكم من تصوّر ما هو موضوع حكمه بأحد النظرين.

وقد اتّضح بما ذكرناه تحقيق الحال في القسم الرابع، وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، فمن الواضح أنّه لا يمكن افتراض تصوّر الواضع لزيد مثلاً ووضعه للعامّ كالإنسان، فإنّه لابدّ للحاكم من تصوّر موضوع حكمه بأحد النظرين، وموضوع حكمه هنا هو العامّ، وزيد ليس عامّاً، لا بالنظر التصوّريّ ولا بالنظر التصديقيّ. فيجب إمّا أن يُحضِر نفس مفهوم الإنسان، أو يحضر في نفسه مفهوم العامّ، فيقول: «أضع لفظ إنسان للعامّ الذي ينطبق على زيد» فهذا يرجع إلى الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.


(1) قد اتّضح بتعليقنا الماضي: أنّ هذا الجواب لا يدفع الإشكال الأوّل.

120

فتحصّل: أنّ القسم الثالث معقول في الجملة، والقسم الرابع غير معقول(1).

 


(1) هذا كلّه حسب مبانيهم من كون الوضع أمراً إنشائيّاً.

أمّا على مبنى القرن الأكيد، فيمكن تصوير ما يشبه ذلك:

فأوّلا: قد يقصد الواضع قرن اللفظ بالمعنى العامّ ويتوفّق لذلك، فلنسمّه بالوضع العامّ والموضوع له العامّ.

وهذا يكون في عدّة فروض:

الأوّل: أن يحضر المعنى العامّ في ذهن السامع عن طريق الإحساس، أي: أنّ الواضع يُحضر مصداقاً من مصاديق المعنى المقصود أمام السامع مثلاً، ويُطلق اللفظ المفروض وضعه لذلك المعنى، ثُمّ يُحضر مصداقاً آخر من تلك المصاديق، ويُطلق فرداً آخر للّفظ مماثلاً للفرد السابق... وهكذا، وتكون النتيجة: أنّ السامع يُغفِل خصوصيّات الأفراد، ويقترن كلّيّ ذلك اللفظ في ذهنه بكلّيّ المعنى، فيتكوّن الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

والثاني: أن يقتصر الواضع على إحضار مصداق المعنى وقرنه باللفظ مرّة واحدة، ولكن توجد هناك خصوصيّات كيفيّة تناسب كلّيّ المعنى، لا ذاك المصداق بالخصوص، فيصبح اللفظ في ذهن السامع مقترناً بالمعنى العامّ، ويتمّ أيضاً الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

والثالث: ما قد يتّفق من أنّ الواضع يقرن ابتداءً اللفظ بالمعنى العامّ كي يتمّ في ذهن السامع هذا الاقتران، وذلك كما لو استعان الواضع بإطلاق لفظ تمّ وضعه قبلا لإحضار المعنى العامّ في ذهن السامع مع قرنه باللفظ المقصود وضعه الآن بقرن أكيد، فيقول مثلا للذين كانوا يعرفون البشر: «الإنسان هو البشر»، أو يقول للذين كانوا يعرفون معنى الحيوان الناطق: «الإنسان هو الحيوان الناطق» مع تأكيد هذا القرن كمّيّاً أو كيفيّاً. وهنا أيضاً يتمّ الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

وثانياً: قد يقصد الواضع القرن الأكيد في ذهن السامع كميّاً أو كيفيّاً بين اللفظ ومعنىً خاصّ، ويتوفّق عملا لذلك، كما هو الحال في وضع الأعلام، فهذا ما نسمّيه بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

121

 

ما هو الواقع من الأقسام الممكنة للوضع

 

وأمّا الجهة الرابعة: وهي في الأقسام الواقعة للوضع:

فقد اتّفقوا على وقوع القسم الأوّل، وهو الوضع العامّ والموضوع له العامّ، من قبيل أسماء الأجناس، والقسم الثاني، وهو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ من قبيل الأعلام. ووقع الكلام في القسم الثالث، وهو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فقد ذكر جماعة: أنّ هذا وضع الحروف والهيئات، ومن هنا دخلوا في


وثالثاً: قد يقصد الواضع قرن اللفظ بالمعنى العامّ لو أمكنه، ولكنّه لا يتوفّق لذلك، فلو أمكنه قلب المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ لأخذ المعنى العامّ وقرن اللفظ به، ولكنّه يعجز عن ذلك؛ لأنّ المعنى الاسميّ يفقد النسبة المقصودة، فالواضع يقرن اللفظ بمصداق من مصاديق المعنى، ثُمّ بمصداق آخر، وهكذا إلى أن يتمّ الوضع، ولكن ليس بإمكان الذهن اقتناص الجامع بين تلك المصاديق إلاّ بإجراء تعديل جذريّ عليه، من قلب المعنى الحرفيّ النسبيّ مثلاً إلى المعنى الاسميّ الذي لا يحقّق النسبة، فهنا يبقى الذهن مقتصراً على الانتقال إلى المصاديق المناسبة من المعنى لكلّ مصداق من مصاديق اللفظ، ولنسمّ ذلك بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

أو أنّ الواضع يقرن اللفظ بمصداق من مصاديق المعنى مرّة واحدة، ولكن هناك خصوصيّة كيفيّة تقتضي القرن الأكيد، والمناسبة كانت تناسب عموم المعنى لا خصوص ذلك المصداق، ولكن الذهن أيضاً كان عاجزاً عن اقتناص الجامع من دون إجراء ذلك التعديل الجذريّ، أي: قلب المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ والذي لا موجب للمصير إليه؛ لأنّه يهدم المقصود، فأيضاً يقتصر الذهن على الانتقال من كلّ مصداق من مصاديق اللفظ إلى المصداق المناسب له من المعنى، فيتمّ أيضاً الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

122

البحث عن الحروف والهيئات. ويقع البحث هنا في مقامين:

 

حقيقة المعاني الحرفيّة:

المقام الأوّل: في تحقيق حقيقة الحال في معاني الحروف. وهناك ثلاثة مسالك في حقيقة المعنى الحرفيّ:

1 ـ إنّ الحروف لا معنىً لها(1).

2 ـ إنّ معنى الحرف من قبيل معنى الاسم، وليس بينهما فرق ذاتيّ. نعم، يوجد بينهما فرق عرضيّ(2).

3 ـ إنّ الحرف له معنىً مغاير ذاتاً لمعنى الاسم.

أمّا المسلك الأوّل: فيقال في شرحه: إنّ الحروف ليس لها معنىً، وإنّما هي علامات لمعاني وخصوصيّات في الأسماء من قبيل الإعراب؛ ولهذا لا يفهم معنىً


(1) (2) هذان القولان منسوبان إلى المحقّق الرضيّ الاستراباديّ(رحمه الله) وكأنّ النسبتين نشأتا من الاختلاف في فهم عبارته، وعبارته ـ كما ورد في شرح الكافية، ج 1، ص 10 بحسب طبعة منشورات المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة للشيخ عبدالكريم التبريزيّ ـ ما يلي:

«ثُمّ نقول: إنّ معنى (مِن) الابتداء، فمعنى (من) ومعنى لفظ الابتداء سواء، إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقةً، ومعنى (مِن) مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصليّ؛ فلهذا جاز الإخبار عن لفظ الابتداء، نحو: (الابتداء خير من الانتهاء) ولم يجز الإخبار عن (مِن)؛ لأنّ الابتداء الذي هو مدلولها في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه، بل في لفظ غيره؟! وإنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الذي في نفسه مطابقةً، فالحرف وحده لا معنى له أصلاً؛ إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدلّ على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما، فإذا اُفرِد عن ذلك الشيء بقي غير دالّ على معنىً أصلاً».

123

من الحروف حينما تستعمل وحدها.

وقد أوردوا عليه: أنّ هذا يستبطن شبه التناقض، فمن ناحية يفرض أنّ الحرف لا معنى له، ومن ناحية اُخرى يفرض أنّه دخيل في الدلالة، وهذا تناقض. فنحن نقول: هل إنّ قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» لو حذفت منه الحروف يبقى المعنى المتحصّل من الكلام على حاله، أو لا؟ فإن قيل: نعم، فهو خلاف الوجدان. وإن قيل: لا، قلنا: إنّ الخصوصيّات الموجودة في هذا الكلام التي تفقد عند حذف الحروف هل هي مستفادة من الحروف، أو من «السير» و «البصرة» و «الكوفة» مثلاً التي هي أسماء؟ فإن قيل بالأوّل، فهذا معناه أنّ الحروف ذات معنىً. وإن قيل بالثاني، قلنا: إنّ «السير» و «البصرة» و «الكوفة» بذاتها لا تدلّ على هذه الخصوصيّات؛ ولذا لا تدلّ عليها عند التجرّد من الحروف، ففهم هذه الخصوصيّات يحتاج إلى قرينة. فإن كانت القرينة هي الحروف، رجعنا مرّة اُخرى إلى القول بكون الحروف ذات معنىً، وإلاّ فليست هناك قرينة اُخرى، إذن فهذا المسلك يستبطن المحال.

أقول: إنّ هذا المسلك بناءً على الرأي المشهور في حقيقة الوضع من إرجاعه إلى الإنشاء بأحد الوجوه الماضية يمكن تفسيره بنحو لا يستبطن تناقضاً، ولا استحالة، وذلك بأن يدّعى: أنّ لكلمة «السير» مثلاً أوضاعاً عديدة بعدد حالاتها من حيث اكتنافها بالحروف وعدمه، فمثلاً كلمة «السير» حينما لا تكون مكتنفة بحرف تكون موضوعةً لطبيعيّ السير، وحينما تكون مكتنفة بـ «من» و «إلى» تكون موضوعةً لحصّة خاصّة من السير، وهي: السير من كذا إلى كذا. فنفس «من» و «إلى» لا تدلاّن على معنىً، وإنّما الخصوصيّة تستفاد من نفس السير؛ لأنّها موضوعة بوضع آخر حينما تكون مكتنفة بـ «من» و «إلى»، فلا يكون

124

هذا المسلك مستبطناً لتناقض أو استحالة. نعم، قد يقال: إنّه خلاف الوجدان.

وأمّا المسلك الثاني: فهو الذي اختاره المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)(1). وكلامه ينحلّ إلى جهتين:

الجهة الاُولى: أنّ كلمة «من» مع كلمة الابتداء في جوهر المعنى واحد، وإنّما بينهما فرق عرضيّ، وهو أنّ كلمة «من» يقصد بها الابتداء ملحوظاً باللحاظ الآليّ الفاني في غيره، وكلمة الابتداء يقصد بها الابتداء ملحوظاً باللحاظ الاستقلاليّ، فالاستقلاليّة والآليّة من شؤون لحاظنا، لا من ذاتيّات جوهر المعنيين.

الجهة الثانية: أنّ الآليّة والاستقلاليّة اللتان هما من شؤون اللحاظ هل اُخذتا قيداً في الموضوع له، فأوجبتا نوع فرق بين المعنى الموضوع له الحرف والمعنى الموضوع له الاسم، أو اُخذتا قيداً في الوضع، فلم يبق أيّ فرق ولو غير جوهريّ بين الموضوع له الحرف والموضوع له الاسم؟ اختار(رحمه الله) أنّه قيد في الوضع. وكأنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) فرض الجهة الاُولى أمراً مفروغاً عنها، فأشبع الكلام في أكثر من مورد في الجهة الثانية فحسب، وأخذ يبرهن بعدّة براهين على أنّ اللحاظ الآليّ قيد في الوضع لا الموضوع له، وفهمت الجهة الاُولى من كلامه ضمناً، في حين أنّ كون الفرق بين الاسم والحرف إنّما هو في اللحاظ الآليّ واللحاظ الاستقلاليّ أوّل الكلام، فيجب أوّلاً أن نتكلّم في الجهة الاُولى:

فنقول: إنّه قد اعترض على ما اختاره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ الفرق بين «من» و «الابتداء» إنّما هو باللحاظ بإشكالات:

الإشكال الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) وهو: أنّ المعنى الحرفيّ


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 15 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكينيّ.

125

لا يمكن أن يكون له لحاظان، أي: وجودان ذهنيّان: آليّ واستقلاليّ حتّى يقال: إنّه متى ما كان استقلاليّاً عبّر عنه بالاسم، وهو الابتداء، ومتى ما كان آليّاً عبّر عنه بمن؛ وذلك لأنّ الوجود الذهنيّ لشيء يجب أن يكون مطابقاً للوجود الخارجيّ له، والمعنى الحرفيّ وهو النسبة كالنسبة الابتدائيّة مثلاً ليس له في الخارج نحوان من الوجود، وإنّما يوجد في الخارج دائماً بالوجود الفاني والمندكّ، وليس له في الخارج وجود استقلاليّ، فيجب أن يكون وجوده في الذهن أيضاً آليّاً وفانياً دائماً(1).

 


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 23 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ في قم.

وأقول: لا يخفى أنّ صدر عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) وإن كان يوهم ما نقله عنه اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه) هنا من مجرّد التمسّك بأنّ النسبة ليس لها نحوان من الوجود في الخارج، فكذلك لا يمكن أن يكون لها نحوان من الوجود في الذهن؛ ولذا نقض عليه ـ رضوان الله عليهما ـ بالعرض الذي له نحو واحد من الوجود في الخارج، وهو الوجود في المحلّ، في حين أنّ له نحوين من الوجود في الذهن، وهما الوجود في المحلّ والوجود الاستقلاليّ، وذكر: أنّه لا برهان على ضرورة تماثل أنحاء الوجود الذهنيّ تماماً لأنحاء الوجود الخارجيّ، ولكن مراجعة تمام عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله)تُثبت بوضوح أنّ مقصوده لم يكن هو هذا التقريب الساذج، وهو ملتفت إلى الفرق بين النسبة والعرض. وحاصل مقصوده في المقام هو: أنّ العرض إنّما يكون بحاجة إلى المحلّ في وجوده الخارجيّ لا في ماهيته وهويّته، فالعرض كالبياض مثلاً مستقلّ في الهويّة والماهية عن الجسم الأبيض، ولكنّه مفتقر إليه في وجوده الخارجيّ وهذا الافتقار كان مخصوصاً بالوجود الخارجيّ، ولم يشمل الوجود الذهنيّ، فأمكن وجوده في الذهن مستقلاًّ. وبكلمة اُخرى: أنّ العرض له وجود نفسيّ في الخارج كالعين، بفرق: أنّ العين لها وجود في نفسه لنفسه، ولكن العرض له وجود في نفسه لغيره. وأمّا النسبة فليس لها وجود نفسي في الخارج أصلا، وإلاّ لم يكن ثبوت شيء لشيء، بل ثبوت أشياء ثلاثة، فتحتاج

126


إلى رابطة اُخرى، والنسبة مبتلاة بالنقص في ذاتها وهويّتها، فهي في هويّتها متقوّمة بالطرفين، فكما يستحيل وجودها مستقلاًّ في الخارج كذلك يستحيل وجودها مستقلاًّ في الذهن.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يرد عليه النقض بالأعراض الوارد في كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله). نعم، برهنته على عدم إمكان وجود هذه النسبة في الذهن بوجودين، ببيان: أنّ النقص والفقر ثابتان في ذاتها وهويّتها لا في وجودها الخارجيّ بعد فرض كمالها الذاتيّ متوقّف على الفهم الفلسفيّ القائل بأنّ الماهية توجد في الذهن حقيقةً كما توجد في الخارج حقيقةً، وإنّما الاختلاف في نوع الوجود، فما هو من شؤون الوجود الخارجيّ كمحرقيّة النار لا يتعدّى إلى الذهن؛ ولذا ترى أنّ النار في الذهن لا تحرق الذهن، وما هو من شؤون الماهية تراه ثابتاً في الخارج وفي الذهن، كزوجيّة الأربعة. وفي المقام بما أنّ النقصان والافتقار كان من شأن ماهية النسبة، فهو ثابت في الذهن أيضاً كما هو ثابت في الخارج، وهذا بخلاف نقص الأعراض وافتقارها إلى المحلّ، فإنّ ذلك من شؤون الوجود الخارجيّ للعرض، لا من شؤون ماهيته؛ ولذا يمكن تواجد العرض في الذهن مستقلاًّ عن المحلّ. أمّا لو أنكرنا هذه القاعدة الفلسفيّة، وقلنا: إنّ الوجود الذهنيّ ليس إلاّ تصويراً عمّا في الخارج، فبطبيعة الحال ينهار هذا البرهان، بل ويمكن إرجاع النقض أيضاً بأن يقال: لو كان تصوير الذهن عمّا في الخارج بصورتين مختلفتين غير ممكن فكيف وقع ذلك في باب الأعراض؟!

ولكن يمكن أن يستبدل البرهان الذي ينهار بإنكار تلك القاعدة الفلسفيّة ببيان آخر، وهو: أن يقال: إنّ ما يكون في ذاته متلاشياً في الغير وفانياً كيف يمكن للذهن أن يأخذ عنه صورة في غير ضمن صورة ما تلاشى فيه؟! وبهذا تختلف النسبة عن العرض الذي ليس في ذاته متلاشياً في الغير. والفرق بينهما: أنّ العرض وإن كان لا يوجد في الخارج إلاّ في المحلّ لكن الذهن قادر على أن يجرّده عن محلّه. أمّا النسبة المفتقرة في هويّتها إلى


127

أقول: إنّنا وإن كنّا نؤمن ـ على ما سوف يتّضح ـ بأنّ المعنى الحرفيّ لا يوجد في الذهن إلاّ آليّاً، لكن البرهنة على ذلك بأنّ وجوده الخارجي لا يكون إلاّ آليّاً غير صحيحة؛ إذ لا برهان على ضرورة كون أقسام الوجود الذهنيّ مطابقة لما في الخارج، بل نبرهن على خلافه، وذلك بالتمثيل بالأعراض، فالبياض مثلاً لا يوجد في الخارج إلاّ في محلّ، لكنّه يوجد في الذهن تارةً في محلّ حينما يتصوّر الجسم الأبيض، واُخرى مستقلاًّ حينما يتصوّر نفس البياض.

ثُمّ إنّ في هذا الكلام للمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) تحميلاً على المحقّق الخراسانيّ حيث يحمّله أنّ المعنى الحرفيّ هو النسبة، وهذا تحميل بلا موجب.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) وهو: أنّه لو كان معنى «من» والابتداء واحداً، وكان الفرق بينهما في اللحاظ فحسب، لصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر على حدّ صحّة الاستعمال المجازيّ في الموارد المتعارفة على الأقلّ، فإنّنا إن فرضنا أنّ اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ قيد للموضوع له، فغاية ما يلزم من استعمال أحدهما في مكان الآخر هو استعمال الشيء في معنىً غير ما وضع له قريب من المعنى الموضوع له؛ لوجود جامع بينهما، وهو معنى الابتداء، وهذا استعمال مجازيّ جائز. وإن فرضنا


الطرفين فبمجرّد أن يجرّدها الذهن من طرفيها لا يبقى شيء حتّى في عالم التقرّر حتّى يصوّره، فلا طريق للذهن إلى تصويرها إلاّ تصوير المفنيّ فيه والمتلاشى فيه الذي هو تصوير ضمنيّ للفاني والمتلاشي.

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 15، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 49 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 57.

128

أنّ الآليّة والاستقلاليّة قيد للوضع فالأمر أحسن؛ لعدم تصرّف في الموضوع له، فهذا استعمال مجازيّ جائز أيضاً؛ فإنّه في المجازات المتعارفة يستعمل اللفظ في معنىً مباين للمعنى الموضوع له، ويقال بجواز ذلك. وفيما نحن فيه يستعمل اللفظ في نفس المعنى الموضوع له مع مخالفة قيد الوضع، ولئن جاز استعمال اللفظ في المباين فكيف لا يجوز استعماله في نفس المعنى مع رفض القيد؟!

أقول: إنّنا لو مشينا حسب مسالك القوم، كان هذا الإشكال أيضاً قابلاً للردّ؛ وذلك لأنّ المعنى المجازيّ إنّما يصحّ في طول وجود معنى حقيقيّ للّفظ بالوضع، فالواضع ينشئ وضع اللفظ لمعنىً ثُمّ تتمّ له الدلالة على معنىً آخر مجازيّ بالعلاقة والشبه والذوق؛ فكلمة «أسد» إنّما تدلّ على الرجل الشجاع؛ لأنّها موضوعة للحيوان المفترس، فلو فرض نسخ هذا الوضع مثلاً لم تبقَ لها دلالة على الرجل الشجاع، والمدّعى للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام هو: أنّ وضع «مِن» مقيّدٌ باللحاظ الآليّ، أي: أنّ دائرة الوضع مضيّقة، فالواضع إنّما وضع لفظة «من» للابتداء حينما يلحظ آليّاً، فلو لوحظ استقلاليّاً لم يكن هناك وضع أصلاً، من قبيل أن يفرض أنّ الواضع إنّما جعل لفظة أسد دالّةً على الحيوان المفترس في الليل، ففي النهار لا تدلّ على ذلك، إذن فحينما يلحظ المعنى استقلاليّاً لا تبقى لكلمة «من» دلالة ووضع حتّى يصحّ استعمالها مجازاً.

الإشكال الثالث: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في تعليقته من أنّه لو كان امتياز المعنى الحرفيّ عن المعنى الاسميّ إنّما هو باللحاظ الآليّ والاستقلاليّ والفناء وعدم الفناء، إذن لكانت الأسماء حينما تقع في قضايا ناظرة إلى الخارج حروفاً، فمثلاً حينما يقال: «النار محرقة» يكون مفهوم النار معنىً حرفيّاً؛ لأنّه لوحظ آليّاً وفانياً في واقع النار، فإنّ مفهوم النار الموجود في الذهن حينما يلحظ

129

استقلاليّاً لا يحكم عليه بالإحراق؛ إذ هو صورة ذهنيّة موجودة في عالم النفس غير محرقة أصلاً(1).

 


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 15 تحت الخطّ.

والنصّ الوارد في كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في هذا التعليق ما يلي: « مضافاً إلى أنّ لحاظ المعنى آلة لو كان موجباً لكونه معنىً حرفيّاً، لزم منه كون كلّ معنىً اسميّ يؤخذ معرّفاً لغيره في الكلام وآلة للحاظه كالعناوين الكلّيّة المأخوذة في القضايا معرّفات للموضوعات الواقعيّة معنىً حرفيّاً ». وكأنّ هذا التعبير فُسّر من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بمعنى فناء العمومات في مصاديقها الخارجيّة، فأورد عليه: بأنّ المقصود بالفناء في المقام لم يكن هو فناء العنوان في المعنون والمفهوم في المصداق، بل كان هو فناء مفهوم في مفهوم، ولكن الذي يبدو من كتاب المحاضرات (ج 1، ص 58) أنّ مقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ليس هو هذا المعنى (أو كان هذا المعنى مقصوداً في تعليقه على أجود التقريرات، ثُمّ صحّحه وبدّله بالبيان الموجود في المحاضرات). ففي المحاضرات قد نقض بمثل مرآتيّة التبيّن في الآية الشريفة لحلول الفجر، فليس التبيّن ملحوظاً بذاته وموضوعاً لحرمة الأكل والشرب، وإنّما اُخذ مرآةً وطريقاً إلى طلوع الفجر، فلو كانت ميزة المعنى الحرفيّ أنّه لوحظ آلة لغيره وفانياً فيه، لزم أن يكون معنى التبيّن هنا معنىً حرفيّاً. وهذا البيان لا يرد عليه إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فإنّ فناء معنى التبيّن في معنى طلوع الفجر إنّما هو فناء مفهوم في مفهوم كما هو الحال في المعاني الحرفيّة، لا فناء المفهوم في المصداق، أو العنوان في المعنون.

إلاّ أنّ هذا البيان أيضاً غريب؛ فانّ مقصود القائل بفناء المعنى الحرفيّ في المعنى الاسميّ إنّما هو الفناء في باب دلالات الألفاظ على مستوى الدلالة اللغويّة التصوّريّة، لا على مستوى الأهداف، أو على مستوى الدلالات الجدّيّة، أو على مستوى الملاكات. ومن الواضح: أنّ التبيّن في الآية لا يعطي على مستوى الدلالة اللغويّة وعلى مستوى استعمال اللفظ في معناه اللغويّ إلاّ معنى التبيّن، وليس فانياً في معنى طلوع الفجر بمعنى اندكاك هذا في ذاك في عالم التصوّر، إلاّ أنّه كان الهدف من إعطاء مسألة التبيّن كمقياس

130

أقول: إنّ هذا الإشكال في غير محلّه. وتوضيح ذلك: أنّ الفناء له معنيان:

الأوّل: فناء العنوان في المعنون، والمفهوم في الواقع والمصداق، من قبيل فناء مفهوم النار الموجود في الذهن في واقع النار في قولنا: «النار حارّة»، وهذا في الحقيقة ليس فناء شيء في شيء؛ فإنّه لم يدخل في الذهن إلاّ مفهوم النار ويستحيل دخول واقع النار فيه حتّى يقال: إنّ هذا فنى في ذاك، فلو فرض ثبوت مفهوم النار في الذهن إذن فليس فانياً في شيء، ولو فرض فناؤه في النار الخارجيّة إذن لم يبق شيء في الذهن، وإنّما معنى الفناء هنا هو: أنّه نظر إلى مفهوم النار بالنظر التصوّريّ؛ ولذا حكم عليه بالحرارة، ولم ينظر إليه بالنظر التصديقي، وإلاّ لم يكن يرى إلاّ صورة ذهنيّة ليست لها أيّة حرارة. فالفناء هنا يكون بمعنى


لترك الأكل والشرب، أو كان الملاك في ذلك أنّ التبيّن يكون دليلاً على طلوع الفجر، أو أنّ المراد الجدّي هو طلوع الفجر. وأين هذا من الفناء المدّعى للمعاني الحرفيّة في المعاني الاسميّة؟!

هذا، وكان بالإمكان تقريب المطلب ببيان ثالث، إلاّ أنّ هذا البيان لا يتحمّله تعبير السيّد الخوئيّ(رحمه الله) الذي نقلناه عن تعليقه على أجود التقريرات، وهو أن يقال: إنّ المقياس في حرفيّة الحرف لو كان هو آليّة النظر، للزم أن تكون كلمة «الابتداء» مثلاً حينما ينظر إلى معناها بما هي حالة للسير بالقياس إلى البصرة كما في قولنا: «السير المبتدأ به من البصرة» حرفاً.

ولكن بإمكان الشيخ الآخوند(رحمه الله) أن يجيب على هذا النقض أيضاً بأنّ نفس التصوّر هنا لم يكن تصوّراً فنائيّاً واضمحلاليّاً في معاني الأسماء كما هو الحال في تصوّر معنى «مِن» في قولنا: «سرت من البصرة»، وإنّما كان المتصوّر بالتصوّر الاستقلاليّ معنى الابتداء المنتزع من السير والبصرة، وحاله حال سائر المفاهيم الانتزاعيّة الإضافيّة كالاُبوّة والبنوّة.

131

تبديل نظرة إلى مفهوم بنظرة اُخرى إليه، وليس بمعنى اندكاك شيء في شيء.

الثاني: فناء مفهوم في مفهوم، من قبيل فناء المعنى الحرفيّ في المعنى الاسميّ في قولنا: «سرت من البصرة». فالفناء هنا يكون بمعنى اندكاك معنىً في معنى، وكون أحد المفهومين ملحوظاً بالتبع وطوراً للمعنى الآخر، أي: أنّه وقع التصوّر أوّلا وبالذات على ذي الطور، فنفس الطور يكون مندكّاً وفانياً وملحوظاً تبعاً نظير أنّ من تصوّر الأبيض فقد تصوّر البياض تبعاً ومندكّاً في ضمن تصوّر الأبيض وفانياً فيه. والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إنّما يقصد بالفناء هذا المعنى الثاني، حيث يقول: المعنى الحرفيّ حالة في غيره، ويقصد بذلك: أنّه حالة في معنىً اسميّ، لا أنّه فان في المعنون؛ ولذا يشبّهه بالعرض مع موضوعه. وممّا يؤيّد ذلك أنّه فرّع في بحث مفهوم الشرط على مبناه في المعنى الحرفيّ عدم إمكان الإطلاق والتقييد في المعنى الحرفيّ؛ لأنّه آليّ ومغفول عنه، فكيف يطلق أو يقيّد. وأمّا إنّ هذا التفريع هل صحيح أو لا، فسيأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ وإنّما المقصود هنا أنّ هذا التفريع شاهد على إرادة فناء مفهوم في مفهوم، لا فناء العنوان في الخارج؛ إذ من الواضح إمكان الإطلاق والتقييد فيه وعدم الغفلة عن العنوان، غاية الأمر أنّه التفت إليه بالنظر التصوّريّ لا التصديقيّ.

الإشكال الرابع: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أيضاً في تعليقته من النقض بالمصادر(1). وتوضيح ذلك: أنّ الأصحاب ـ ومنهم السيّد الاُستاذ ـ قد ذكروا: أنّ الفرق بين المصدر واسم المصدر هو: أنّ اسم المصدر يدلّ على ذات الحدث بما هو هو، والمصدر يدلّ على الحدث بما هي حالة في الفاعل أو المفعول.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 16 تحت الخطّ.

132

وعليه يقال: إنّه يلزم كون المصدر حرفاً؛ لأنّه يلحظ حالة في غيره وفانياً فيه.

وفيه: أنّ المصدر قد وضعت مادّته لمفهوم الحدث، وهيئته للدلالة على كون الحدث حالة في الفاعل أو المفعول، وفرقه عن اسم المصدر هو: أنّ اسم المصدر قد وضع بمادّته لمفهوم الحدث من دون أن يكون لهيئته وضع مستقلّ يدلّ على صدوره من الفاعل، أو وقوعه على المفعول وكونه حالة فيه. فإن كان المراد من هذا النقض أنّ مادّة المصدر يلزم أن تكون حرفاً فللمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أن يقول: إنّ مادّته تدلّ على مفهوم الحدث وهو اسم، والهيئة تدلّ على الصدور بما هو حالة في غيره. وإن كان المراد أنّ هيئة المصدر صارت حرفاً؛ فهذا لا بأس به، ومداليل الهيئات دائماً معان حرفيّة.

الإشكال الخامس: ما ذكره السيّد الاُستاذ أيضاً في التعليقة(1) من أنّ المعنى الحرفيّ قد يتعلّق به النظر الاستقلاليّ، وذلك من قبيل ما لو كان السائل يعرف أصل سفر زيد، وإنّما يشكّ في أنّ سفره كان في السيّارة أو على السيّارة، أو كان في السيّارة أو في الطائرة ونحو ذلك، فهو ينصبّ رأساً سؤاله على معنى «في» أو «على» في قوله: هل سافر زيد في السيّارة أو على السيّارة؟ أو هل سافر في السيّارة أو في الطائرة؟ ونظره الاستقلاليّ الاستفهاميّ إنّما هو منصبّ على المعنى الحرفيّ، وأمّا أصل السفر فهو معلوم لديه.

ويرد عليه: أنّ الصحيح ـ كما قال المشهور ـ أنّ المعنى الحرفيّ لا يمكن لحاظه مستقلاًّ، وهو مقتضى مبنى السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ فإنّ السيّد الاُستاذ مع المشهور بانون على الفرق الذاتيّ بين المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ، وإنّ المعنى


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 19، وراجع أيضاً المحاضرات، ج 1، ص 58.

133

الحرفيّ بذاته معنىً مفتقر، وتنشأ تبعيّته من حاقّ ماهيته، كما أنّ المعنى الاسميّ في ذاته وماهيته مستقلّ. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون لحاظ المعنى الحرفيّ آليّاً وغير مستقلّ؛ لأنّ الوجود سواء كان ذهنيّاً ـ وهو اللحاظ ـ أو خارجيّاً إنّما يبرز واقع الماهية وخصائصها، فإذا كانت الماهية في عالم الماهويّة والذات غير مستقلّة، فلا يمكن أن يكون وجودها الذهنيّ مستقلاًّ. وأمّا مثل من علم بأصل سفر زيد وأراد أن يسأل عن أنّ سفره في السيّارة أو في الطائرة مثلاً، فله طريقان إلى هذا السؤال:

1 ـ أن يأخذ مفهوماً اسميّاً إجماليّاً مشيراً إلى المعنى الحرفيّ كمفهوم الكيفيّة والخصوصيّة ونحو ذلك، فيقول: أسألك عن كيفيّة ركوبه، أو خصوصيّة سفره، ونحو ذلك.

2 ـ أن يسأل عن الحصّة الخاصّة من حصص المفهوم الاسميّ، فهو يعلم بأصل السفر، لكن السفر له حصّتان: الاُولى: السفر المتحصّص والمتقيّد بكونه في السيّارة، والثانية: السفر المتحصّص والمتقيّد بكونه في الطائرة، وهو إنّما يعلم بالجامع بين الحصّتين، ولا يعلم بإحدى الحصّتين بالخصوص، فيقول: هل سافر زيد في السيّارة أو في الطائرة؟ واللحاظ الاستقلاليّ لم يتعلّق بالمعنى الحرفيّ، بل تعلّق بطرفه المتحصّص به، وتعلّق بالمعنى الحرفيّ بالتبع. فمعنى سؤاله هو: أنّ أيّ الحصّتين من السفر وجدت خارجاً؟ هل السفر المقيّد بكونه في السيّارة، أو السفر المقيّد بكونه في الطائرة؟ بعد العلم بالجامع بينهما.

والتحقيق بعد اندفاع هذه الاعتراضات: أنّ أصل هذا المسلك غير صحيح. والبرهان على ذلك هو: أنّه يوجد عندنا شيئان: أحدهما: مفهوم الابتداء، أي: كون السير قد ابتدأ من البصرة، والآخر: النسبة الواقعة بين السير والبصرة، وهما أمران

134

مستقلاّن، بدليل: أنّ مفهوم الابتداء قابل لأن يوجد بوجود استقلاليّ في الذهن، وكلّ إنسان يستطيع أن يتصوّر مفهوم الابتداء دون أن يتصوّر أطرافه، وبحسب القائمة المعروفة للمقولات العشر يمكن إدخاله في مقولة الإضافة من قبيل الاُبوّة والبنوّة. وأمّا حاقّ النسبة بين السير والبصرة، فلا يمكن وجودها في الذهن مستقلاًّ؛ لما سوف نبرهن عليه من أنّها بذاتها فقيرة ومتعلّقة بالغير، فلا يمكن لحاظها مستقلاًّ، فهي أمر تعلّقيّ ماهيةً ووجوداً. فمن يقول بأنّ معنى «من» ومعنى الابتداء واحد هل يقصد أنّ معنى الابتداء هو النسبة كَمِنْ، أو يجرّد كلمة «من» من معنى النسبة، ويقول: إنّ معناها هو الابتداء؟ فإن قصد الثاني وقال: إنّ «من» والابتداء كلاهما بمعنى الابتداء، إلاّ أنّه حينما يلحظ الابتداء لحاظاً مستقلاًّ سمّي بالابتداء، وحينما يلحظ فانياً وحالة في غيره سمّي بمن، قلنا: إنّ الابتداء وإن كان قابلاً للّحاظين، بمعنى: أنّه تارةً يلحظ بما هو هو، واُخرى بما هو حالة وطور لغيره، لكنّه حينما يلحظ بما هو حالة وطور لغيره لا محالة يشتمل على نسبة بين الابتداء وبين ما كان طوراً له؛ لأنّ كلاّ منهما مفهوم استقلاليّ، وكلّ مفهوم استقلاليّ إذا اُريد ربطه بمفهوم استقلاليّ آخر فلا محالة لابدّ من ربط ونسبة بينهما، ففي مورد لحاظ الابتداء طوراً وحالة في غيره يوجد ابتداء وتوجد نسبة، فإن كان «من» للابتداء كما فرض احتجنا إلى دالّ آخر على النسبة، وليس ما يدلّ على النسبة إلاّ الحرف بمعنىً يشمل الهيئات، فرجعنا إلى أنّ معنى الحرف هو النسبة، وهو مباين لمعنى الاسم. فكلمة «مِن» في «سرت من البصرة» ليس معناها الابتداء، وإلاّ لاحتاج إلى النسبة، وليس معناها النسبة بين الابتداء والبصرة؛ إذ لا ابتداء عندئذ في الكلام. وعليه، فيجب أن يكون معناها النسبة بين السير والبصرة.

135

وإن قصد الأوّل، وقال: إنّنا نسلّم أنّ معنى «من» هو حاقّ النسبة، ولكنّنا نقول: إنّ معنى الابتداء أيضاً هو حاقّ النسبة، قلنا: إنّنا سوف نبرهن على أنّ حاقّ النسبة لا يمكن أن يوجد في الذهن مستقلاًّ، ومن الواضح: أنّ مفهوم الابتداء يمكن تصوّره في الذهن مستقلاًّ.

هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى، وبنسفها لم يبقَ موضوع للجهة الثانية، ولكن مع ذلك نقول:

وأمّا الجهة الثانية: فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ قيد اللحاظ الآليّ ـ الذي فَرَض أنّه المميّز للحرف عن الاسم الذي يلحظ باللحاظ الاستقلاليّ ـ إنّما هو قيد في الوضع، وليس قيداً في الموضوع له، وذكر عدّة براهين لإثبات عدم كونه قيداً في الموضوع له، ونحن لنا هنا عدّة كلمات(1):

الكلام الأوّل: أنّه لا إشكال ـ بناءً على كون الفرق بينهما باللحاظ الآليّ والاستقلاليّ ـ في أنّه كما أنّ المتكلّم يكون تصوّره لمعنى «مِنْ» بنحو اللحاظ الآليّ دائماً كذلك السامع يكون تصوّره لمعنى «مِنْ» الذي يسمعه بنحو اللحاظ الآليّ دائماً، والنكتة في ذلك بناءً على كونه قيداً للموضوع له واضحة، حيث إنّ الوضع يدعو السامع إلى تصوّر المعنى بما له من قيود، وقد فرض تقيّد المعنى بنحو اللحاظ الآليّ. أمّا إذا كان قيداً في الوضع فيبقى ذلك بلا تفسير، فإنّ الوضع لا يدعو السامع إلاّ إلى تصوّر ما وضع له اللفظ، فلماذا يفترض أنّ السامع يتصوّر دائماً معنى ما يسمعه من كلمة «مِن» بنحو اللحاظ الآليّ؟!


(1) بعد غضّ النظر عن أصل أنّ تقييد الوضع إنّما يعقل على مبانيهم من فرض الوضع أمراً جعليّاً قابلاً للإطلاق والتقييد، ولا يعقل على مبنانا في فهم حقيقة الوضع.