45

علم يعقوب(عليه السلام) بكذب إخوة يوسف:

يبدو أنّ يعقوب(عليه السلام) عرف كذبهم في دعوى أكل الذئب ليوسف بدليلين:

أحدهما: أنّه كان يعلم أنّ رؤيا يوسف ستكون حقّاً، وأنّ الله سيجتبيه، ويعلّمه من تأويل الأحاديث، ويتمّ نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما مضى في أوّل السورة، فلن يموت يوسف قبل تحقّق تعبير الرؤيا.

 


سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرَاً﴾والتسويل: الوسوسة، أي: ليس الأمر على ما تخبرون، بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمراً، وأبهم الأمر ولم يعيّنه، ثُمّ أخبر أنّه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم، وينتقم منهم لنفسه انتقاماً، وإنّما يكظم ما هجم نفسه كظماً. وقوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾أي: سأصبر على ما أصابني؛ فإنّ الصبر جميل. وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه، أو مرارة طعمه وصعوبة تحمّله. ﴿وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾بيان لتوكّله على ربّه، يقول: إنّي أعلم أنّ لكم في الأمر مكراً، وأنّ يوسف لم يأكله ذئب، لكنّي لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف إلى الأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله، بل أضبط استقامة نفسي بالصبر، واُوكل ربّي أن يظهر على ما تصفون: من أنّ يوسف قد قضى نحبه، وصار أكلة لذئب.

46

والثاني: أنّ قميص يوسف كان سالماً ليس عليه أثر من براثن الذئب وأنيابه.

وقد رويت في كنز الدقائق(1) الروايات التالية:

1 ـ عن تفسير العيّاشي، عن أبي جميل(2)، عن رجل، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «لمّا اُوتي بقميص يوسف إلى يعقوب فقال: اللّهمّ لقد كان ذئباً رقيقاً(3) حين لم يشقّ القميص، قال: وكان به نضح من دم».

2 ـ عن تفسير العيّاشي أيضاً قال ـ يعني يعقوب ـ: «ما كان أشدّ غضب ذلك الذئب على يوسف وأشفقه على قميصه حيث أكل يوسف ولم يمزّق قميصه!».

3 ـ عن مجمع البيان، روي: «أنّه ألقى ثوبه على وجهه، وقال: يا يوسف، لقد أكلك ذئب رحيم، أكل لحمك ولم يشقّ قميصك!».

4 ـ عن الخصال، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «كان في قميص يوسف ثلاث آيات: في قوله: ﴿جَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب﴾، وقوله: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُل﴾، وقوله تعالى: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا﴾».



(1) كنز الدقائق، ج 6، ص 287.

(2) في المصدر: أبي جميلة.

(3) في المصدر: رفيقاً.

47

 

 

 

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس دَرَاهِمَ مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾(1).

 

استملاك يوسف(عليه السلام):

السيّارة تعني: قافلة الطريق، والوارد هو الذي يرد على الماء.



(1) الآية: 19 ـ 20.

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ...﴾أي: وجاءت جماعة مارّة إلى هناك، فأرسلوا من يطلب لهم الماء، فأرسل دلوه في الجبّ، ثُمّ لمّا أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام! وقد تعلّق يوسف بالحبل، فخرج، فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة، والحال أنّ الله سبحانه عليم بما يعملون، يؤاخذهم عليه، أو أنّ ذلك كان بعلمه تعالى.

﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس...﴾أي: إنّ السيّارة الذين أخرجوه من الجبّ وأسرّوه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص، وهي دراهم قليلة، وكانوا يتّقون أن تظهر حقيقة الحال، فينتزع هو من أيديهم.

48

والذي يتبادر إلى ذهني من الآية المباركة: أنّ هذا الوارد قال للقافلة: يا بشرى هذا غلام! فأعضاء القافلة فرضوا يوسف ـ الذي تدلّى بالدلو أو بحبله فخرج من غيابة الجبّ ـ عبداً لهم، إلاّ أنّهم باعوه بثمن بخس، وكانوا فيه من الزاهدين: إمّا بسبب حصولهم عليه مجّاناً، وإمّا بسبب خشية أن ينفضحوا في دعوى عبوديّته لهم، فأرادوا بيعه ـ ولو بثمن بخس ـ قبل الانفضاح، والله عليم بما يعملون من ظلمهم ليوسف في تعاملهم معه معاملة العبد المملوك.

وهناك تفسيرات اُخرى من قبيل: أنّ بعض أعضاء السيّارة استملكوه، وأخفوا الأمر على باقي رفاقهم، أو أنّ إخوة يوسف هم الذين استملكوه وباعوه، ولكن الذي نستظهره هو ماقلناه، والله أعلم بحقيقة الحال.

* * *

49

 

 

 

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْمَاً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 21 ـ 22.

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ...﴾أي: إنّ السيّارة حملوا يوسف معهم، وأدخلوه مصر، وشروه من بعض أهلها، فأدخله بيته وأوصى به امرأته قائلاً: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، أو نتّخذه ولداً.

ولعلّ المراد بتمكين يوسف في الأرض: إقراره فيها بما يقدر معه على التمتّع بمزايا الحياة، والتوسّع فيها بعد ما حرّم عليه إخوته القرار على وجه الأرض، فألقوه في غيابة الجبّ، ثُمّ بيع بثمن بخس؛ ليسير به الركبان من أرض إلى أرض، ويتغرّب عن أرضه ومستقرّ أبيه.

والظاهر: أنّ المراد بالأمر في ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾الشأن، وهو

50

مقدّمات بلوغ يوسف(عليه السلام) الكمالات الإلهيّة:

من الواضح: أنّ الذي اشتراه من مصر ليس هو الذي شراه منه أصحاب السيّارة في موضع الجُبّ بثمن بخس دراهم معدودة، وإنّما هو


ما يفعله في الخلق ممّا يتركّب منه نظام التدبير، وإنّما اُضيف إليه تعالىلأنّه مالك كلّ أمر، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾الأعراف: (54). والمعنى: أنّ كلّ شأن من شؤون الصنع والإيجادمن أمره تعالى، وهو غالب عليه، وهو مغلوب له مقهور دونه، يطيعهفيما شاء.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾الظاهر: أنّ المراد بـ ﴿بلغ أشدّه﴾ الانتهاء إلى أوّل سنّ الشباب. وقوله: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً﴾ الحكم هو: القول الفصل، وإزالة الشكّ والريب من الاُمور القابلة للاختلاف، ولازمه إصابة النظر في عامّة المعارف الإنسانيّة الراجعة إلى المبدأ والمعاد، والأخلاق النفسانيّة، والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع البشري. وقوله: ﴿وَعِلْمَاً﴾وهذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان، وأىّ مقدار كان، علم لا يخالطه جهل، كما أنّ الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوىً نفسانيّ، ولا تسويل شيطاني. ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ﴾يدلّ على أنّ هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله إيّاه لم يكونا موهبتين ابتدائيّتين لا مستدعي لهما أصلاً، بل هما من قبيل الجزاء، جزاه الله بهما؛ لكونه من المحسنين.

51

عزيز مصر، وقد أمر امرأته زليخا بأن لا تتعامل معه معاملة العبد المملوك، بل تكرم مثواه، فإمّا أن ينتفعوا به مستقبلاً كرجل مناصر أمين لهم، وإمّا أن يتّخذوه ولداً على أساس أنّ عزيز مصر لم يكن له ولد.

وكلّ هذا كان في تقدير الله مقدّمةً لانتهاء أمر يوسف إلى تعليم الله إيّاه تأويل الأحاديث، ولغلبة الله تعالى في أمره: من تأثير عمل أعداء يوسف ـ وهم إخوته ـ في وصوله إلى قُلّة العظمة، ومنتهى القدرة، وعرش العزّ والكرامة، وهكذا يغلب الله على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

 

ما المقصود ببلوغ الأشدّ والحكم؟

وأمّا المقصود ببلوغ الأشُدّ، فقرينة المقام تشير إلى أنّه هو البلوغ الجنسيّ برغم أنّ هذا العنوان ينطبق على مصاديق اُخرى أيضاً كبلوغ أربعين سنة.

وأمّا المقصود بالحكم، فأغلب الظنّ أنّه هو النبوّة، وأنّ الوحي الذي مضى في الآية الخامسة عشرة لم يكن هو وحي النبوّة.

 

ليس المقصود بـ﴿هَمّ بها﴾ الهمّ الفعليّ بالزنا:

ووصوله(عليه السلام) إلى مرتبة النبوّة هو أحد دليلَيْنا على أنّ المقصود بهمّه بها في الآية: (24) من نفس السورة ليس هو الهمّ الفعليّ بالزنا،

52

وسنبيّن دليلنا الثاني على ذلك لدى شرحنا لتلك الآية إن شاء الله.

أمّا بيان هذا الدليل الذي نحن بصدده الآن، فهو: أنّنا لنفترض ـ على خلاف معتقدنا نحن الشيعة ـ أنّه يحتمل صدور الهمّ بالمعصية عن النبيّ قبل نبوّته، لكنّنا نقول: ينبغي أن يعتبر عدم احتمال ذلك بعد النبوّة من القضايا التي تكون قياساتها معها؛ لأنّ وحي النبوّة هو أقصى ارتباط بالله سبحانه و تعالى الموجب لاكتناه عظمة الربّ بالمقدار الممكن للإنسان المخلوق، ويكون ذلك مانعاً قطعيّاً عن المعصية، فكيف يمكن لمن انمحى في عظمة الله جلّ جلاله وحَسُنَ جماله أن تخطر بباله معصيته فضلاً عن أن يهمّ بها؟! هذا من ناحية.

ومن ناحية اُخرى: أنّ الاتّصال بالله سبحانه و تعالى على مستوى النبوّة يوجب اكتشاف حقيقة المعصية، وإدراك خسّتها وحقيقتها الدنيئة، وواقعيّتها القذرة.

وقد ذكرنا في كتابنا اُصول الدين(1) ما نقل عن بعض عوام الشيعة الذي كان يتكلّم بفطرته: من أنّه قيل له: كيف تقولون: إنّ أ ئمتّنا لم يكن يخطر ببالهم المعصية، فلنقبل منكم أنّهم لم يكونوا يعصون، ولكن ما هذه المبالغة بالقول بعدم خطور المعصية في أذهانهم؟! فأجاب الشيعيّ



(1) ص 166 ـ 167.

53

بالبداهة وبمحض الفطرة: هل خطر ببالك يوماً ما أكل قاذورة الإنسان؟ فامتعض الرجل من هذا الكلام، وقال: كيف يخطر ببالي ذلك؟! فأجابه الشيعيّ: أنّ المعصية عند أئمّتنا أخسّ وأقذر من هذا الشيء.

أقول: أترى نحن بحاجة في إثبات عصمة الأنبياء من الهمّ بالمعاصي إلى البراهين التي ذكرها المتكلّمون؟! صحيح: أنّ تلك البراهين تنفع العلماء، ولكن كلام هذا العاميّ الشيعيّ الذي ذكره بشأن أئمّة الشيعة بمحض فطرته يملأ وجدان كلّ إنسان مسلم بما فيهم العوام ببرهان من سنخ التمسّك بالقضايا التي قياساتها معها على عدم معقوليّة الهمّ بالمعصية من قبل نبيّ من الأ نبياء.

 

* * *

 

54

 

 

 

﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 23 ـ 24.

﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ...﴾المراودة: أن تنازع غيرك في الإرادة، فتريد غير ما يريد، و ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ﴾أي: تصرفه عن رأيه. والتغليق: إطباق الباب بما يعسر فتحه، وإنّما شدّد ذلك لتكثير الإغلاق، أو للمبالغة في الإيثاق. وهيت لك: اسم فعل بمعنى: هلمّ. ومعاذ الله، أي: أعوذ بالله معاذاً، فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله. و ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِإِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ...﴾جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذبالله، يقول: أعوذ بالله معاذاً ممّا تدعينني إليه؛ لأنّه ربّي الذي تولّىأمري وأحسن مثواي، وجعلني بذلك سعيداً مفلحاً، ولو اقترفت هذاالظلم لتغرّبت به عن الفلاح، وخرجت به من تحت ولايته. واحتمل عدّة

55


من المفسّرين أن يكون الضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾للشأن،أو راجعاً إلى العزيز، أي: إنّ العزيز هو الذي ربّاني جسديّاً فكيف أخونهفي إمرأته.

﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا...﴾الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، والسياق يعطي أنّ المراد بصرف السوء والفحشاء عنه انجاؤه ممّا اُريد منه بالمراودة والخلوة، وأنّ المشار إليه بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾هو ما يشتمل عليه قوله: ﴿أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، فيؤول معنى قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ...﴾إلى أنّه(عليه السلام) لمّا كان من عبادنا المخلَصين، صرفنا عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربّه، فرؤية برهان ربّه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء والفحشاء عن يوسف(عليه السلام). والذي رآه يوسف(عليه السلام) من برهان ربّه وإن لم يوضّحه كلامه تعالى كلّ الإيضاح، لكنّه ـ على أيّ حال ـ كان سبباً من أسباب اليقين التي لا تجتمع مع الجهل والضلال بتاتاً، ويدلّ على أنّه كانمن قبيل العلم قول يوسف(عليه السلام)فيما يناجي ربّه كما سيأتي: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾الآية: (33) من السورة، ويدلّ على أنّه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال وقبحها، ومصلحتها ومفسدتها أنّ هذا النوع من العلم قد يجتمع مع الضلال والمعصية، قال تعالى:

56

ما المقصود بالربّ؟

إنّ أحد الاحتمالين في كلمة: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ هو: أنّ المقصود بالربّ عزيز مصر، فهو يقول: إنّ زوجكِ قد أحسن مثواي،


﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم﴾الجاثية: (23)، وقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾النمل: (14). فالبرهان الذي أراه به ـ وهو الذي يريه الله عباده المخلصين ـ نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود، تطيعه النفس الإنسانيّة طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلاً. وقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾اللام في ﴿لِنَصْرِفَ﴾ للغاية أو التعليل، والمآل واحد. و ﴿كَذَلِكَ﴾متعلّق بقوله: ﴿لِنَصْرِفَ﴾ والإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربّه. والسوء: هو الذي يسوء صدوره عن العبد بما هو عبد، وهو مطلق المعصية أو الهمّ بها. والفحشاء: هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا. والمعنى: الغاية أو السبب في أن رأى برهان ربّه هي أن نصرفعنه الفحشاء والهمّ بها. والمخلَصون هم الذين أخلصهم الله لنفسه، فلا يشاركه فيهم شيء، فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس. وقوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ﴾في مقام التعليل لقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ...﴾والمعنى: عاملنا يوسف كذلك؛ لأنّه من عبادنا المخلَصين، وهم يعاملون هذه المعاملة.

57

فكيف يعقل أن أخونه في زوجته؟!(1).

ويحتمل أن يكون المقصود بالربّ هو الله سبحانه وتعالى،فهو يقول: إنّ الربّ قد أحسن مثواي، فكيف يعقل أن أعصيهبالزنا؟!

ورد في تفسير الأمثل: أنّ بعض الروايات التي تقول: إنّ يوسف استعدّ للزنا بامرأة العزيز، ونزع ثيابه ـ وتعبيرات اُخرى نستحي من ذكرها ـ هي رواية مجعولة وكاذبة، فهذه الأعمال من شأن الأشخاص القذرين المنحرفين الذين لا يبالون بفساد دينهم، فكيف يحتمل ذلك بشأن يوسف على ما هو عليه من قداسة الروح وطهارة الوجدان وتقوى القلب؟!(2).

أقول: ويشهد لصحّة كلام الشيخ ناصر مكارم ـ حفظه الله ـ أنّ



(1) ولعلّ السبب في التكلّم بهذا المنطق هو العمل بقاعدة «كلّم الناس على قدر عقولهم» فلمّا كانت امرأة العزيز لا تؤمن بوجود الله سبحانه، كان المناسب أن يتكلّم معها بالمنطق الذي تذعن به، وهو: أنّ زوجها قد ربّاه واهتمّ به في صغره إلى أن بلغ الحلم، وأحسن مثواه، فيقول(عليه السلام): كيف يصحّ مع هذه الحال أن أخونه في زوجته؟! (من المؤلّف دام ظلّه).

(2) تفسير الأمثل، ج 7، ص 179 ـ 180.

58

ظاهر عبارة الآية المباركة هو: أنّ جوابه(عليه السلام): ﴿مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ كان هو جوابه المباشر لها، لا أنّه همّ بها أوّلاً، ثُمّ أجابها ثانياً بهذا الجواب.

وبهذا يظهر دليلنا الثاني على أنّ المقصود بالهمّ بها ليس هو همّه الفعليّ بالزنا.

 

معنى﴿هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾:

والذي يوجد في الآية المباركة احتمالان:

الأوّل: أنّ معنى قولهعز وجل: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ليس هو الهمّ بالزنا أساساً، وإنّما هو الهمّ بالضرب، فامرأة العزيز لمّا رأت عصيانه لها، همّت بضربه، ويوسف همّ بضربها أيضاً؛ دفاعاً عن نفسه، ولكنّه رأى برهان ربّه.

ويحتمل في هذا البرهان أن يكون هو إلهام الله سبحانه إيّاه: أنّ ضربه لها غير صحيح: إمّا لأنّه لو انكشف الأمر مصادفة، فسيفسّر ذلك بأنّه ضربها لإجبارها على الزنا، وإمّا لأنّ امرأة العزيز كانت صاحبة حقّ أخلاقيّ عظيم عليه؛ لحسن مداراتها إيّاه أيّام صغره إلى حين بلوغه، فهذا الضرب لا يناسب هذا الحقّ الأخلاقيّ، فرأى أنّ أفضل حلّ هو الفرار﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُر﴾.

59

والاحتمال الثاني: أنّ معنى الآية: أنّه لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها، كقولك: جئتك لولا أنّك جئتني.

وفي البحار(1) عن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه، عن عليّ بن الحسين(عليه السلام): «أنّه قال في قول اللهعز وجل: ﴿لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ قال: قامت امرأة العزيز إلى الصنم، فألقت عليه ثوباً، فقال لها يوسف: ماهذا؟ فقالت: أستحي من الصنم أن يرانا، فقال لها يوسف: أتستحين من لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ولا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا ممّن خلق الإنسان وعلّمه؟! فذلك قولهعز وجل: ﴿لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾».

 

* * *



(1) ج 12، ص 266، ح 35.

60

 

 

 

﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُر وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا(1) جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُر فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُر قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾(2).

 



(1) ما نافية أو استفهاميّة، ونتيجة المعنى واحدة على التقديرين. (من المؤلّف دام ظلّه).

(2) الآية: 25 ـ 29.

﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُر...﴾الاستباق: هو التسابق. والقدّ: هو الشقّ. والدبر والقبل كالخلف والأمام. والسياق يعطي أنّ استباقهما كان لغرضين مختلفين، فكان يوسف(عليه السلام) يريد أن يفتحه ويتخلّص منها بالخروج من البيت، وامرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح

61


والخروج، لعلّها تفوز بما تريده منه، وأنّ يوسف سبقها إلى الباب، فاجتذبته من قميصه من الوراء، فشقّته. ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾الإلفاء: الوجدان، يقال: ألفيته كذا، أي: وجدت. والمراد بسيّدها زوجها، قيل: إنّه جرى على عرف مصر، وقد كانت النساء بمصر يلقّبن زوجهنّ بالسيّد. ولمّا ألفيا سيّدها لدى الباب، انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه، وتسأله أن يجازيه، فذكرت أنّه أراد بها سوءاً، وعليه أن يسجنه، أو يعذّبه عذاباً أليماً، لكنّها لم تصرّح بذلك، ولا بشيء من أطراف الواقعة، بل كنّت وأتت بحكم عامّ عقلائيّ يتضمّن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء.

﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُل...﴾وقد أشار هذا الشاهد إلى دليل تنحلّ به العقدة ويتّضح طريق القضيّة، فتكلّم فقال: إن كان قميصه قُدّ من الأمام، فصدقت وهو من الكاذبين، وكون القدّ من الأمام يدلّ على منازعتهما ومصارعتهما بالمواجهة، فالقضاء لها عليه، وإن كان قميصه قُدّ من الخلف، فكذبت وهو من الصادقين، فإنّ كون القدّ من الخلف يدلّ على هربه منها، وتعقيبها إيّاه، واجتذابها له إلى نفسها، فالقضاء له عليها.

﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُر...﴾أي: فلمّا رأى العزيز قميص يوسف

62

مَن هو الـ (شاهد من أهلها)؟

طُرح في ﴿شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ رأيان:

أحدهما: أنّه كان رجلاً من أهل زليخا ومن مشاوري العزيز، ويبدو أنّه كان ذا حكمة وذكاء، فالتفت إلى هذه النكتة الدقيقة، وهي: أنّ جهة قدّ القميص تعيّن من هو الشارد ومن هو المعقّب، فتكون التهمة على المعقّب، فاستحسن العزيز رأي مشاوره الذي كان معه مصادفة في ذاك الحين.

 


والحال أنّه مشقوق من خلف، قال: إنّ الأمر من كيدكنّ معاشر النساء، إنّ كيدكنّ عظيم، ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنّه إنّما صدر عنها بما أنّها من النساء، وكيدهنّ معهود معروف؛ ولذا استعظمه. ومفاد الآية: أنّ العزيز لمّا شاهد أنّ قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف(عليه السلام)على امرأته.

﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا...﴾الكلام هذا من مقول قول العزيز، أي: إنّه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر، ويفرضه كأن لم يكن، فلا يحدّث به، ولا يذيعه، وأمر امرأته أن تستغفر لذنبها ومن خطيئتها. ولكن حيث إنّ هذه الأسرار لا تبقى خافية، ولا سيّما في قصور الملوك التي في حيطانها آذان صاغية، فقد تسرّبت إلى خارج القصر.

63

والثاني: أنّه كان طفلاً رضيعاً من أهلها، وكان مصادفة على مقربة من عزيز مصر، فطلب يوسف من العزيز أن يحكّم الطفل في الأمر، فتعجّب العزيز من هذا الطلب، وإذا بالطفل في المهد يتكلّم كما تكلّم المسيح(عليه السلام) في المهد صبيّاً، وجعل المقياس في الأمر جهة قدّ القميص، فعلم العزيز أنّ يوسف ليس عبداً، بل هو نبيّ أو شبه نبيّ.

وقد روى المرحوم الشيخ عليّ أكبر النهاونديّ(رحمه الله)(1) قِصّة مفادها: أنّ يوسف(عليه السلام) كان جالساً في زمان ملوكيّته في القصر، فرأى شابّاً يمرّ في الطريق من تحت مبنى القصر وثيابه وسخة ورثّة، وكان جبرئيل بحضرة يوسف، فقال ليوسف: هل تعرف هذا الشابّ؟ قال: لا، قال: هذا هو الطفل الذي شهد في مهده بطهارتك لدى عزيز مصر، فقال يوسف(عليه السلام): إنّ له حقّاً عليّ فأحضره، وأمر بتنظيفه وإلباسه ثياباً فاخرة، وقرّر له راتباً مستمرّاً من المال، وأكرمه وأنعمه كثيراً، فتبسّم جبرئيل من هذا الصنع، فقال يوسف: يا أخا جبرئيل، هل قصّرتُ في الإحسان بهذا الشابّ فتبسّمتَ؟ قال جبرئيل: لم أتبسّم لقلّة الإحسان، ولكن أخذتني البسمة على أساس أنّك مخلوق تحسن إلى هذا الشابّ بهذا المستوى من الإحسان نتيجة شهادة حقّ أدلى بها



(1) خزينة الجواهر، العنوان الأوّل من الباب الرابع، الحكاية: 11.

64

بشأنك من غير فهم وشعور، فماذا يصنع الله الكريم بشأن مؤمن شهد طوال عمره بتوحيد اللهعز وجل ؟!

أقول: وهذا معنى ماورد في دعاء كميل: «يا إلهي وسيّدي وربّي، أتُراك معذّبي بنارك بعد توحيدك، وبعدما انطوى عليه قلبي من معرفتك، ولهج به لساني من ذكرك، واعتقده ضميري من حبّك، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيّتك. هيهات، أنت أكرم من أن تضيّع من ربّيته، أو تبعد من أدنيته، أو تشرّد من آويته، أو تسلّم إلى البلاء من كفيته ورحمته».

* * *

 

65

 

 

 

﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَل مُّبِين﴾(1).

 

معنى ﴿شَغَفَهَا حُبّاً﴾:

﴿شَغَفَهَا حُبّاً﴾ يعني: أنّ حبّه مزّق حجاب قلبها أو قشرته، ونفذ إلى أعماق فؤادها. فهي في ضلال مبين.

روي في البحار(2) عن ابن عبّاس قال: «مكث يوسف(عليه السلام) في منزل الملك وزليخا ثلاثَ سنين، ثُمّ أحبّته فراودته، فبلغنا ـ والله العالم ـ أنّها



(1) الآية: 30.

﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ...﴾وفي قوله: ﴿تُرَاوِدُ﴾دلالة على الاستمرار. شغفها حبّاً: أي: أصاب شغاف قلبها، أي: باطنه، وشغاف القلب لغةً: غلافه المحيط به. والمعنى: وقال عدّة من نساء المدينة لا يخلو قولهنّ من أثر فيها وفي حقّها: امرأة العزيز تستمرّ في مراودة عبدها عن نفسه، ولا يحري بها ذلك؛ لأنّها امرأة.

(2) ج 12، ص 270، ح 45.

66

مكثت سبع سنين على صدر قدميها وهو مطرق إلى الأرض لا يرفع طرفه إليها؛ مخافة من ربّه، فقالت يوماً: ارفع طرفك وانظر إليّ، قال: أخشى العمى في بصري، قالت: ما أحسن عينيك! قال: هما أوّل ساقط على خدّي في قبري، قالت: ما أطيب ريحك! قال: (لو سمعت)(1) رائحتي بعد ثلاث من موتي، لهربتِ منّي، قالت: لِمَ لا تقرب منّي؟! قال: أرجو بذلك القرب من ربّي، قالت: فرشي الحرير، فقم واقضِ حاجتي، قال: أخشى أن يذهب من الجنّة نصيبي، قالت: اُسلّمك إلى المعذّبين، قال: إذن يكفيني ربّي».

 

* * *



(1) المفروض أن يكون التعبير: (لو شممت). (من المؤلّف دام ظلّه).

67

 

 

 

﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأًوَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّينَاً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إلاَّمَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْـتُنَّنِي فِيهِ(1) وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن



(1) يعجبني بمناسبة هذه الآية الكريمة أن أنقل هذا المقطع الشعريّ الذي قيل بشأن عليّ(عليه السلام):

يا واصفَ المرتضى قد صِرْتَ في تيهِ
هيهاتَ هيهاتَ ممّا أن تمنّيهِ
وَهْو الذي كانَ بيتُ اللهِ مولدَهُ
وصاحبُ البيتِ أدرى بالذي فيهِ
يا لائمي في عليّ لا تلُمْنِ بهِ
فإنّه منشأُ الأشياءِ ومنشيهِ
مهلاً إلى الحشرِ إذ إنّي أقولُ لكُمْ
فذلكنَّ الذي لمتنَّني فيهِ ←
68

نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناًمِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِوَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ *


ولا يخفى أنّ منشأيّته للأشياء ومُنشئيّته لها تعطي بظاهرها معنى اُلوهيّته(عليه السلام)، وهذا كفر بالله أو شرك، فلو اُريد توجيه ذلك يجب أنيفسّر بمثل ما اشتهر بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) من رواية «لولاك لما خلقتالأفلاك».

وقد يدّعى وجود تتمّة للرواية، وهي: «ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما» فلو صحّت هذه فليس معناها: أنّ عليّاً(عليه السلام)أفضل من رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ فإنّ رسول الله أفضل من عليّ، ولا أنّ فاطمة(عليها السلام)أفضل منهما، فإنّهما أفضل من فاطمة، بل معناها: أنّه لولا عليٌّ لذهبت جهودرسول الله(صلى الله عليه وآله) من بعد فوته أدراج الرياح، وانمحى الدين نهائيّاً، ولولا فاطمة لذهبت جهودهما أدراج الرياح؛ لأنّ عليّاً(عليه السلام) لم يستطع أخذ الحقّ وإحقاقه بالسيف، في حين أنّ ذاك الحقّ من صلب الإسلام الحقيقيّ، واضطرّ إلى الصلح، فكانت تبقى الحقيقة مخفيّة إلى الأبد، والذي أدرك الموقف وأوضح الأمر هو الوجود العاطفيّ لفاطمة(عليها السلام)في نفوس الاُمّة ممّا أمكنها في خطبتها الغرّاء، وغير ذلك أن تقف المواقف التي سبّبت انتشار الحقّ ولو بعد حين. (من المؤلّف دام ظلّه).

69

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(1).

 



(1) الآية: 31 ـ 34.

﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ...﴾المكر: هو الفتل بالحيلةعلى ما يراد من الطلبة، وتسمية هذا القول منهنّ مكراً بامرأة العزيز؛لما فيه من فضاحتها وهتك سترها من ناحية رقيباتها حسداً وبغياً،وإنّما أرسلت إليهنّ لتريهنّ يوسف، وتبتليهنّ بما ابتليت به نفسها،فيكففن عن لومها، ويعذرنها في حبّه. وقيل: إنّما كان قولهنّ مكراًلأنّهنّ جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف؛ لما سمعن من حسنه البديع، فإنّماقلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز، فترسل إليهنّ ليحضرن عندها،فتريهنّ إيّاه؛ ليعذرنها فيما عذلنها له، فيتّخذن ذلك سبيلاً إلى أن يراودنهعن نفسه. والاعتاد: الإعداد والتهيئة. والمتّكأ بضمّ الميم وتشديد التاء:اسم مفعول من الاتّكاء، والمراد به ما يُتّكأ عليه من نمرق أو كرسيّ، وفسّر المتّكأ بالاترج، وهو نوع من الفاكهة، كما قرئ في الشواذّ (مُتْكأ) بالضمّ فالسكون، وهو الاترج، وقرئ (مُتّكاً) بضمّ الميم وتشديد التاء من غير همز. و ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّينَاً﴾أي: لقطع ما يرون أكله من الفاكهة. ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾أي: أمرت يوسف أن يخرج عليهنّ وهنّ خاليات الأذهان، فارغات القلوب، مشتغلات بأخذ الفاكهة وقطعها. ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾الإكبار: الإعظام، وهو كناية عن اندهاشهنّ وغيبتهنّ عن