496

فكانوا يقدّسون جميع أفراده، وإذا مات الطوطم كانوا يخلّفونه فرداً آخر من ذلك الجنس فيسمّى أيضاً بذلك الاسم ويُعبد، وهذه فكرة نظير فكرة ربّ النوع عند الحكماء اليونانيّين.

وهذا الاحتمال أيضاً أقرب ممّا ذكروه ولا استبعاد فيه بل وقع نظيره في زماننا؛ إذ بعد وفات السيّد أبي الحسن الموسويّ ـ رضوان الله عليه ـ دخل أحد الأعراب النجف وكان يَسأل عن أنّه أين السيّد أبو الحسن؟ بتخيّل أنّ كلّ مَن يقوم مقام السيّد في رئاسته وزعامته في الدين والمرجعيّة يسمّى بالسيّد أبي الحسن، فلو كانت تبقى هذه الفكرة وتنتشر في الأذهان كان يصبح هذا الاسم ـ بعد كونه علماً لفرد واحد من الرئيس والمرجع الحوزويّ ـ علم الجنس لذلك بهذا المعنى.

وهذا الوجه الثاني أقرب في النظر من الوجه الأوّل.

 

المعرّف باللام:

البحث الثاني: في المعرّف باللام.

المشهور فيما قبل المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) ـ على ما نسبه هو إليهم ـ أنّ اللام بجميع أقسامها عدا لام العهد الذهنيّ موضوعة للتعيين(1).

وكأنّ الوجه في استثنائهم للام العهد الذهنيّ هو التجنّب عن ورود إشكال صاحب الكفاية عليهم من أنّ أخذ التعيّن الذهنيّ يقتضي عدم الانطباق على ما في الخارج.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 380 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

497

ومع ذلك أورد صاحب الكفاية إشكاله عليهم وقال: إنّ لام الجنس لو كانت موضوعة للتعيين فالتعيّن المأخوذ في المعرّف بلام الجنس هو التعيّن الذهنيّ ويلزم عدم الانطباق على ما في الخارج.

ومن هنا ذهب(قدس سره) إلى دعوى عجيبة وهي إنكار كون اللام في اللغة العربيّة موضوعة لشيء وأنّ اللام دائماً للتزيين نظير اللام في الحسن والحسين(1).

أقول: كون اللام في أصل المقيس عليه للتزيين بعيد جدّاً، بل المحدوس قويّاً أنّ اللام دخلت عليهما لبقايا معنى الوصفيّة فيهما.

وعلى أيّ حال فقد عرفت في علم الجنس بطلان إشكال المحقّق الخراسانيّ وإمكان أخذ التعيّن الذهنيّ في الموضوع له، وعرفت أنّ المختار في معنى أخذ التعيّن هو كون اللفظ موضوعاً للتطبيق على مُستأنَس سابق، وهذا الأمر في باب علم الجنس كان احتماليّاً ولم يقم عليه دليل في مقام الإثبات، وأمّا فيما نحن فيه فالفهم العرفيّ يدلّنا على ذلك، فإنّا نفهم من اللام التطبيق على ما في الخارج أو مستأنس ذهنيّ، أمّا الأوّل فهو لام العهد الحضوريّ كقولنا: (أكرم هذا الرجل)، وأمّا الثاني فهو لام العهد الذهنيّ وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما اصطلحوا عليه بلام العهد الذهنيّ كقولك: (أكرم الرجل) قاصداً للفرد المعهود في السابق.

والثاني: ما اصطلحوا عليه بلام العهد الذكريّ كقوله: (جاءني رجل فأكرمت الرجل)،

فإنّ العهد الذكريّ أيضاً في الحقيقة مرجعه إلى العهد الذهنيّ؛ إذ اللام



(1) راجع المصدر السابق.

498

اُدخلت على كلمة (رجل) تطبيقاً لها على ما استأنس به الذهن سابقاً بسبب الذكر السابق.

والثالث: لام الجنس، فإنّها في الحقيقة تكون للعهد الذهنيّ العامّ كما مضى آنفاً في علم الجنس.

وذهب المحقّق العراقيّ(قدس سره) إلى عدم إفادة لام الجنس لمعنى، لكن لا لما ذكره المحقّق الخراسانيّ من إشكال أخذ التعيّن الذهنيّ، فإنّه قد أجاب عنه كما مضى ذكره في علم الجنس، بل لوجه آخر وهو: أنّها لو كانت للتعيّن ـ الذي هو عنده عبارة عن التعيّن الإشارتيّ كما مضى ـ لزم عدم صحّة إدخال اسم الإشارة على المعرّف بلام الجنس بأن يقال: (هذا الرجل) مشيراً إلى الجنس؛ لاستلزامه اجتماع إشارتين على شيء واحد، ويستحيل أن تجتمع إشارتان ـ بمعناها الحقيقيّ من التوجّه النفسانيّ الخاصّ ـ في نفس شخص واحد في آن واحد إلى شيء واحد وإنّما له توجّه واحد إليه لا توجّهان(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: ما عرفت من أنّ لام الجنس لا تدلّ على الإشارة وإنّما تدلّ على التطبيق على مفهوم عامّ، فلم يلزم اجتماع إشارتين على شيء واحد.



(1) لا يخفى أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) فصّل بين اللام الداخلة على اسم الجنس المصدّر بكلمة (هذا) فادّعى أنّها للزينة، وبين غير المصدّر بذلك فوافق على كونها لام التعريف. راجع المقالات، ج 1، ص 500 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، والتفت إلى زيادة كلمة (لا) في السطر 14. وراجع نهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 565 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

499

نعم، اسم الإشارة أيضاً يدلّ على التطبيق؛ لما مضى من أنّ السرّ في تعرّفه أيضاً هذا، ولكن هذان التطبيقان ليسا بشكل واحد؛ إذ اللام في (الرجل) تطبِّق مفهوم (الرجل) على معهود استأنس به الذهن سابقاً، وإدخال كلمة (هذا) على كلمة (الرجل) يدلّ على أنّ مفهوم (هذا) الذي هو مفهوم مبهم منطبق على مفهوم (الرجل) الذي يعدّ في قبال مفهوم (هذا) مبيّناً، أي: أنّ كلمة (هذا) موضوعة لمفهوم مبهم بما هو منطبق على مفهوم يكون بالنسبة إليه مبيّناً، في حين أنّ اللام موضوعة لجعل مدخولها منطبقاً على مستأنس سابق، ولا محذور في الجمع بين هذين التطبيقين؛ لاختلافهما سنخاً.

وثانياً: لو سلّمنا دلالة اللام على الإشارة قلنا: إنّ دلالة كلمتين على الإشارة لا تستلزم تعدّد الإشارة واقعاً؛ لإمكان تعدّد الدليل واتّحاد المدلول.

فكلمة (هذا) إمّا تدلّ على ذات الإشارة، ومن الممكن كونها عين الإشارة المستفادة من اللام، أو أنّها ـ كما هو الحقّ ـ ليست دالّة على ذات الإشارة التي هي معنى حرفيّ بل تدلّ على معنى مشار إليه، ولذا يصحّ الإخبار عنه بقولنا مثلاً: (هذا عالم)، وضمّ كلمة (هذا) إلى مدخولها ـ وهو (الرجل) مثلاً ـ يدلّ على أنّ المعنى المشار إليه المستفاد من كلمة (هذا) هو عين المشار إليه بكلمة (الرجل)، وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ غير مسألة اجتماع إشارتين على شيء واحد، وليس في الكلام ما يدلّ على وجود إشارتين أصلاً.

نعم، لو كانت كلمة (هذا) تدلّ على ذات الإشارة أو على معنى مشار إليه، وكانت الإشارة إلى (رجل) المعرّف باللام، أي: كانت الإشارة في (هذا) في طول الإشارة المأخوذة في اللام لزم تعدّد الإشارة وثبت ما ذكره من المحذور، ولكنّنا لا نقول كذلك.

500

 

التعرّف الأعمّ وما يقابله من التنكّر

المقام الثاني: في التعرّف الأعمّ وما يقابله من التنكّر، وهذا التعرّف ـ كما مضى ـ شامل لعلم الجنس واسم الجنس المعرّف باللام والمنوّن بتنوين التمكين، وفي قباله التنكّر الثابت في المنوّن بتنوين التنكير(1)، وهذا بخلاف التعرّف الأوّل الذي كان مختصّاً بالقسمين الأوّلين.

وبين هذين التعرّفين فرق، وهو: أنّ التعرّف الأوّل الثابت في علم الجنس احتمالاً وفي المعرّف باللام حتماً يكون ناشئاً عن أخذ خصوصيّة زائدة في اسم الجنس، وأمّا هذا التعرّف فليس ناشئاً عن أخذ خصوصيّة زائدة، وإنّما هو في قبال تنكّر زائد حصل في المنوّن بتنوين التنكير ناش من أخذ خصوصيّة زائدة فيه أوجبت تعمّق الكلمة في النكارة واشتداد النكارة فيها.

فظهر: أنّ مفهوم اسم الجنس إنّما يظهر بطبيعته الأوّليّة بلا أخذ خصوصيّة زائدة في خصوص القسم الثالث.

كما ظهر: أنّ البحث هنا يجب أن يكون في النكرة؛ لأنّها المشتملة على خصوصيّة زائدة فيبحث عن تلك الخصوصيّة:

 

الكلام في النكرة:

إنّ تلك الخصوصيّة جاءت من قِبل التنوين، وأثر التنوين فيها سلخه عن قابليّة التعيّن بقسميه، توضيح ذلك: أنّ اسم الجنس وإن لم يكن في نفسه متعيّناً بالفعل



(1) كأنّه يقصد(رحمه الله) به تنوين الوحدة.

501

لكن يقبل طروّ التعيّن عليه بأخذ خصوصيّة زائدة بنحوين:

الأوّل: أن يتعيّن في الاستغراق بواسطة مقدّمات الحكمة كما في قولنا: (أكرم العالم)، أو بواسطة أداة العموم كما في قولنا: (أكرم كلّ عالم).

الثاني: أن يتعيّن في أقصى مراتب الضيق كما في قولنا: (أكرم هذا العالم) عند الإشارة إلى فرد خاصّ.

وإذا دخل تنوين التنكير على الكلمة أفاد قيد الوحدة ببرهان عدم الاستغراق في قولنا: (أكرم عالماً) مع أنّك عرفت أنّ مقتضى طبع الإطلاق في الموضوع هو الشموليّة لا البدليّة، فالبدليّة تحتاج إلى قيد وليس ذلك إلّا قيد الوحدة، فظهر: أنّ تنوين التنكير يدلّ على قيد الوحدة المعاند للاستغراق والشمول.

ومنه يظهر: أنّ التنوين في قولنا: (أكرم كلّ عالم) تنوين التمكين لا تنوين التنكير؛ لأنّ تنوين التنكير يدلّ على قيد الوحدة المعاند للاستغراق، فالتنوين وإن كان في نفسه مع قطع النظر عن صارف له ظاهراً في تنوين التنكير لكن كلمة (كلّ) قرينة على أنّه تنوين التمكين، كما أنّ الامتنان في قوله تعالى: ﴿أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾ قرينة على أنّ التنوين تنوين التمكين لا التنكير، بأن يكون المراد: أنزلنا من السماء ماءً واحداً طهوراً، ولا فرق بينهما صورةً وإنّما الفرق بينهما بالقصد.

فتنوين التنكير يسلخ اسم الجنس عن قابليّته للتعيّن بالنحو الأوّل من ناحية دلالته على قيد الوحدة، ويسلخه أيضاً عن قابليّته للتعيّن بالنحو الثاني، أعني: التعيّن من ناحية الضيق.

وليس المراد بذلك أنّه لا يجوز أن يكون نظر المتكلّم إلى فرد خاصّ، فإنّ ذلك جائز لا مانع عنه، وذلك كما في قولك: (جاءني رجل)، بل المراد بذلك أنّ

502

تنوين التنكير يمنع عن قابليّة مفهوم اسم الجنس لتضييقه إلى حدّ لا ينطبق إلّا على فرد واحد، فظهر: أنّ ذلك غير منقوض بمثل قولك: (جاءني رجل)، فإنّ مفهوم (رجل) باق على سعته الموجبة لقابليّة الانطباق على أيّ فرد من الأفراد.

والبرهان على ما ذكرناه من أنّ تنوين التنكير يسلخ الاسم عن قابليّته للتعيّن بالنحو الثاني هو: أنّك عرفت أنّ تنوين التنكير يدلّ على قيد الوحدة، ونحن في مورد طروّ التعيّن بالنحو الثاني لا نفهم من الكلام قيد الوحدة، مثلاً لو قال المتكلّم: (أكرم رجلاً جاءك أمس) وقصد التعيين لم يكن المفهوم من كلامه قيد الوحدة، نعم، مفهوم كلمة (رجل) ضُيِّق بسبب قوله: (جاءك أمس) بحيث لا يقبل الانطباق إلّا على فرد واحد والتنوين فيه تنوين التمكين لا التنكير؛ لعدم دلالته على قيد الوحدة.

ولا بأس هنا بإلفات النظر إلى أمر، وهو: أنّه إذا قال المتكلّم: (أكرم رجلاً جاءك أمس) وفرضنا أنّ المخاطب جاءه أمس رجلان أو أزيد لا رجل واحد فمسألة كون التنوين تنوين التمكين أو تنوين التنكير مسألة راجعة إلى قصد المتكلّم، فإن قصد المتكلّم تضييق مفهوم (رجل) وتطبيقه على فرد خاصّ كان قد جاء المخاطب أمس فالتنوين تنوين التمكين بدليل قصد التعيين، وليس الشرط في إرادة هذا الضيق المفهوميّ أن لا يكون الجائي إلّا فرداً واحداً ولا أن يكون المتكلّم معتقداً بذلك، وكان المأمور بإكرامه بناءً على هذا الفرض واحداً معيّناً منهما في نظر المتكلّم، فإن لم يعرفه المخاطب بالقرينة كان له أن يسأل عن أنّ أيّ واحد منهما واجب الإكرام، وإلّا كان التنوين مفيداً لقيد الوحدة فكان تنوين التنكير وكان الواجب إكرام أحدهما تخييراً، وكان هذا الكلام نظير قولك: (أكرم رجلاً جائياً).

503

بقي في المقام ذكر ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره) في بحث النكرة وما يرد عليه، فقد أفاد(رحمه الله) في المقام: أنّ كون المأخوذ في النكرة قيد الوحدة غير صحيح، فإنّ الوحدة مفهوم من المفاهيم حاله حال أصل مفهوم اسم الجنس، وضمّه إليه لا يوجب التنكّر وعدم الانطباق إلّا على فرد واحد غير معيّن، بل المأخوذ في النكرة هو التشخّص لكن لا بمعنى تشخّص الفرد في قبال باقي الأفراد بل بمعنى تشخّصه في نفسه(1).

أقول: لا يخفى أنّ الوحدة لها معنيان:

الأوّل: الوحدة في قبال الكثرة، وهذا هو المعنى المراد في قولنا: (العدد مركّب من آحاد)، وقولنا: (الواحد قبل الكثير)، وقولنا: (الواحد موجود في ضمن الكثير). وأخذ مفهوم الوحدة بهذا المعنى لا يوجب التنكّر ولا يكون معانداً للاستغراق، كيف وتدخل كلمة (كلّ) على نفس كلمة (واحد) فيقال: (أكرم كلّ واحد من العلماء).

الثاني: ما هو مقصودنا من قيد الوحدة فيما نحن فيه وهو بمعنى الواحد فقط وبشرط لا(2)، وهذا ـ كما ترى ـ ليس حاله حال مفهوم اسم الجنس، بل اسم الجنس بتقيّده بذلك يخرج عن قابليّة الانطباق على تمام الأفراد على سبيل الاستغراق، فما أورده المحقّق العراقيّ(قدس سره) على كون المأخوذ في النكرة قيد الوحدة غير صحيح.



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 497 ـ 499 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 565 ـ 566 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) يقصد(رحمه الله) بشرط لا من ناحية هذا الكلام، فلا يرد عليه: أنّه يلزم من افتراض بشرط لا أنّه لو قال المولى: (أكرم رجلاً) فأكرم رجلين في آن واحد لم يمتثل.

504

وأمّا ما ذكره من أنّ المأخوذ هو التشخّص والتعيّن للفرد لا في قبال سائر الأفراد بل في نفسه، فيرد عليه: أنّ التعيّن تارة: يراد منه التعيّن المفهوميّ بمعنى تحصّص المفهوم وكونه حصّة خاصّة، واُخرى: يراد منه التعيّن الخارجيّ:

فإن اُريد الأوّل كان مرجعه إلى ما ذكرناه من تحصّص المفهوم وتقيّده بقيد الوحدة بالمعنى الثاني.

وإن اُريد الثاني فالتعيّن الخارجيّ للشيء في نفسه مساوق لتعيّنه في قبال باقي الأفراد، فإنّ تعيّن شيء في نفسه خارجاً عبارة عن وجوده في الخارج، وكلّ فرد موجود في الخارج فهو متعيّن ومتميّز في قبال باقي الأفراد لا محالة، وعندئذ نقول: إن كان مراده بأخذ تعيّن الفرد خارجاً هو تعيّن فرد خاصّ فهو معيّن في قبال باقي الأفراد ولم يتحقّق بذلك الإطلاق البدليّ، بل اختصّ الحكم بفرد واحد مخصوص، وإن كان مراده تعيّن فرد مردّد بين الأفراد(1) فوجود الفرد المردّد في الخارج محال.

هذا تمام الكلام في حالات اسم الجنس.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت من أنّ اسم الجنس موضوع لذات المهيّة لا للمطلق الحدّيّ ـ وإلّا فلعلّه كان يعدّ معرفة ـ ظهر: أنّنا نحتاج في اقتناص الإطلاق إلى دالّ آخر، وهو ما يسمّى بمقدّمات الحكمة فلابدّ من الكلام فيها.

 



(1) وهذا ما نفاه(رحمه الله) في عبارته في المقالات.

505

 

الكلام في مقدّمات الحكمة

إنّ البحث في مقدّمات الحكمة يشبه البحث الإنّيّ لا اللمّيّ، بمعنى أنّنا لسنا بصدد إثبات الدلالة الإطلاقيّة ـ فإنّها ثابتة بالوجدان ـ بل بصدد بيان ما هي النكتة وما هو الملاك لما نراه بالوجدان من دلالة مثل قوله: (أكرم العالم) على الإطلاق، حتّى إذا استكشفنا النكتة أو الملاك في ذلك نفعنا هذا الاستكشاف في فهم دائرة الإطلاق سعةً وضيقاً وقد يختلف ذلك باختلاف الملاكات المفترضة.

ومجموع ما ذكروه من المقدّمات أربع: اُولاها ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ورابعتها ما اختصّ به إبداعاً واختياراً المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، والمتوسّطتان ما ذكرهما جميع المحقّقين المعروفين.

المقدّمة الاُولى: أن يكون التقييد ممكناً، وهذا هو الذي ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره).

والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) يؤمن بذلك في مرحلتين: في مرحلة الثبوت، وفي مرحلة الإثبات.

أمّا المرحلة الاُولى: فقد وقع الخلاف بلحاظها في أنّ استحالة التقييد في مرحلة الثبوت هل توجب استحالة الإطلاق كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)؛ لكون التقابل بينهما عنده تقابل العدم والملكة، أو توجب ضرورة الإطلاق كما ذهب إليه السيّد الاُستاذ دامت بركاته، أو لا توجب شيئاً منهما، بل توجب ضرورة الإطلاق الذاتيّ؛ لكون تقابله مع التقييد تقابل التناقض، أي: أنّ السعة الثابتة في الإطلاق الذاتيّ والمحفوظة في الإطلاق الحدّيّ أيضاً تكون متناقضة للتقييد فتتعيّن باستحالته.

506

وقد مضى بسط الكلام في ذلك في بحث التعبّديّ والتوصّليّ ومضى هناك ما ذكره المحقّق النائينيّ من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة مع ردّه، ولم يكن هذا هو مقصودنا في المقام.

وأمّا المرحلة الثانية: فهي المقصودة لنا هنا فنقول: لا إشكال ـ كما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ في أنّ من شرائط استفادة الإطلاق إثباتاً كون التقييد في عالم الإثبات ممكناً حتّى يقال: إنّه لو كان هناك قيدٌ لبيّنه فنستكشف من عدم بيانه انتفاء القيد، وأمّا لو فرض عدم إمكان التقييد في عالم الإثبات فمن الواضح أنّ عدم بيانه عندئذ لا يدلّ على عدم القيد؛ إذ المفروض استحالة بيانه، فكيف يقال: إنّه لو كان هناك قيد لبيّنه؟!

ويمثّل لذلك بقصد الامتثال وعدمه وبالعلم والجهل لكونهما من الانقسامات اللاحقة للخطاب، فلا يمكن تقييد الخطاب بها وإنّما يمكن تقييد الخطاب ببعض الأقسام فيما إذا كان الانقسام ثابتاً في المرتبة السابقة على الخطاب لا فيما إذا كان الانقسام إنّما يتحقّق بالنظر إلى الخطاب، كالعلم بالخطاب وعدمه وامتثال الخطاب وعدمه.

وتحقيق ذلك صحّةً وبطلاناً موكول إلى محلّه، وإنّما كان المقصود هنا بيان الكبرى، وهي: أنّه مع فرض عدم إمكان التقييد إثباتاً لا يتمّ الإطلاق في مقام الإثبات. نعم، الكشف عن الإطلاق الثبوتيّ فيما إذا كان التقييد غير ممكن حتّى في عالم الثبوت من نفس عدم إمكان التقييد مطلب آخر غير مربوط بما نحن فيه.

المقدّمة الثانية: أن يكون المولى في مقام البيان، والمشهور المرتكز في الأذهان في معنى هذه المقدمّة هو كون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ.

ولكنّ المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) عدل عن هذا التفسير إلى التفسير بكونه في مقام

507

بيان تمام مراده قانوناً وحجّةً، أي: في مقام بيان أنّ الحجّة على ما ذكره هو تمام مراده الجدّيّ ليأخذ بها العبد مهما شكّ في قيد ولم تكن حجّة أقوى عليه، بتوهّم أنّه لو كان معنى هذه المقدّمة كون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ حقيقة لزم عدم تماميّة الإطلاق وانتفاؤه رأساً بعد الظفر بتقييد واحد؛ لأنّه يستكشف بذلك أنّه لم يكن في مقام بيان تمام المراد فتنثلم بذلك هذه المقدّمة، وهذا بخلاف تفسير هذه المقدّمة بأنّ المولى كان في مقام بيان القاعدة والقانون، أي: أنّه ذكر الكلام الكذائيّ بلا قيد بداعي كونه حجّة للعبد عند الشكّ في القيد، وهذا ـ كما ترى ـ لا ينثلم بورود القيد.

وقد ذكر(رحمه الله) عين ما ذكره هنا تفسيراً لهذه المقدّمة في باب العمومات أيضاً، فقال: إنّ المولى يأتي بالعموم ليكون قاعدة وقانوناً للعبد يرجع إليها عند الشكّ في التخصيص.

أقول: إنّ كلاًّ ممّا اختاره من التفسير لهذه المقدّمة وما أورده على التفسير الأوّل غير صحيح.

أمّا ما ذكره من التفسير: فهذا إنّما يكون معقولاً في باب العموم لا في باب الإطلاق، توضيح ذلك: أنّه في باب العموم يكون الظهور الوضعيّ هو الحجّة، والظهور الوضعيّ لأداة العموم في العموم ثابت في الرتبة السابقة على بيان المولى، فقد يقال: إنّ المولى أتى بأداة العموم بداعي بيان الحجّة والقانون للعبد. وأمّا في باب الإطلاق فليس هناك ظهور وضعيّ حتّى يقال: إنّ المولى أتى به بداعي بيان الحجّة والقانون للعبد، وإنّما الحجّة للعبد هو نفس الظهور الإطلاقيّ الذي هو في طول كون المولى في مقام البيان، وليس هناك شيء في الرتبة السابقة حتّى يقال: إنّ المولى في مقام بيانه بداعي كونه حجّة وقانوناً للعبد عدا المراد الجدّيّ،

508

فالصحيح تفسير هذه المقدمّة بكون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ كما هو المشهور.

وأمّا ما أورده على التفسير المشهور ـ من لزوم انثلام هذه المقدّمة بمجرّد ورود قيد فلا يتمّ بعد ذلك الإطلاق رأساً ـ: فهو إنّما يتمّ لو قلنا بعدم انحلاليّة الظهورات، وليس الأمر كذلك فإنّ الصحيح انحلاليّتها، ولولا ذلك لم يكن العامّ المخصّص بالمنفصل أيضاً حجّة في الباقي.

ثمّ إنّ لاقتناص الإطلاق من هذه المقدّمة مسلكين:

المسلك الأوّل: ما نسمّيه بالمسلك البرهانيّ، وهو: أنّه بعد أن فرض أنّ غرض المولى هو بيان تمام المراد الجدّيّ فلا محالة يثبت عدم دخل قيد لم يذكره المولى، وذلك ببرهان قبح نقض الغرض أو استحالته، والتحقيق هو استحالته.

وهذا المسلك إنّما يتمّ على مبنيين:

الأوّل: المبنى المختار، وهو: أنّه يكفي في توسعة دائرة الحكم ـ بحسب الأفراد ـ الإطلاق الذاتيّ بمعنى السعة الناشئة من نفس الحدود الذاتيّة، ولا نحتاج إلى إثبات الإطلاق الحدّيّ الذي هو في مقابل التقييد.

وبكلمة اُخرى: يكفي في توسعة الحكم كون تمام الموضوع الطبيعة المهملة بحدّها الذاتيّ، فالذي نحتاج إلى إثباته في هذا المقام إنّما هو عدم القيد، ويكفي في إثباته ما هو المفروض من كون المولى في مقام البيان الثابت بالأصل العقلائيّ؛ لما عرفت من استحالة نقض الغرض؛ فإنّه لو كان تمام الموضوع هو الطبيعة المهملة فقد بيّنه في كلامه؛ إذ اللفظ موضوع للطبيعة المهملة فلم يتحقّق نقض للغرض، ولو كان هناك جزء أو قيد للموضوع لم يبيّنه فقد حصل نقض الغرض.

والثاني: مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وهو: أنّ الإطلاق الذي في مقابل التقييد

509

ليس عبارة عن التقيّد بعدم القيد بل عبارة عن فقدان القيد، فالمطلق هو واقع فاقد القيد لا المقيّد بفقدان القيد، فإنّ النسبة على هذا المبنى بين المطلق والمقيّد هو النسبة بين الأقلّ والأكثر، وقد بيّن الأقلّ ولم يبيّن الأكثر، فإن كان تمام مراده هو الأقلّ لم يحصل نقض الغرض، وإن كان هو الأكثر فقد حصل نقض الغرض.

المسلك الثاني: ما نسمّيه بالمسلك العرفيّ، وهذا هو المسلك الذي يجب سلوكه على مبنى المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ ومن حذا حذوهما: من أنّ الذي نحتاج إلى إثباته بمقدّمات الحكمة هو الإطلاق الحدّيّ المعبّر عنه في كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بالإطلاق اللحاظيّ، وأنّ الإطلاق اللحاظيّ بنفسه قيد وليس عبارة عن فقدان القيد كما ذكره المحقّق العراقيّ، فعلى هذا المبنى لا يصحّ سلوك المسلك الأوّل من الاقتصار على نفس كون المولى في مقام البيان، وذلك للقطع بأنّ المولى قد أهمل ذكر قيد وهو إمّا الإطلاق الحدّيّ أو قيد آخر؛ لأنّ اللفظ موضوع للجامع بين المطلق والمقيّد، وتعيين أحد القيدين في قبال الآخر بصرف كون المولى في مقام البيان غير ممكن.

فلابدّ من ضمّ جزء آخر إلى هذه المقدّمة، وهو دعوى ظهور عدم القيد إمّا وضعاً أو سياقاً في الإطلاق الحدّيّ.

وقد يمكن تعليل دعوى ظهور عدم القيد في الإطلاق الحدّيّ سياقاً بدعوى أنّ قيد الإطلاق في نظر العرف أخفّ مؤونة من التقييد، فالإطلاق في نظر العرف في قبال التقييد كلا قيد، فتغلب إرادة الإطلاق عند عدم ذكر القيد.

وبعد هذا يصحّ التمسّك بتلك المقدّمة بأن يقال: لو كان مراده هو المطلق الحدّيّ فقد بيّنه ولم يلزم نقض الغرض؛ لأنّ نفس عدم القيد دالّ على الإطلاق الحدّيّ إمّا بظهور سياقيّ لأجل الغلبة أو بالوضع، ولا بدع في ذلك، فإنّه كما يوضع اللفظ

510

لشيء كذلك يمكن وضع عدم ذكر الأمر الكذائيّ لشيء.

ولكن إذا صار القرار على ضمّ هذا الجزء الآخر إلى هذه المقدّمة فكما يمكن دعوى الاحتياج إلى هذه المقدّمة كذلك يمكن دعوى الاستغناء عنها والاكتفاء بهذا الجزء الأخير؛ وذلك لما عرفت من أنّ هذا البحث يشبه البحث الإنّيّ لا اللمّيّ، فنحن نستكشف ـ ممّا نراه وجداناً من تماميّة الإطلاق ما لم ينصب المولى قرينة على القيد أو الإهمال ـ أحد أمرين:

الأوّل: أن يكون عدم ذكر القيد في فرض كون المولى في مقام البيان ظاهراً في الإطلاق الحدّيّ، وعلى هذا فتلك المقدّمة ليست مستغنى عنها بل يجب أن يقال: إنّه بما أنّ المولى في مقام البيان وقد بيّن الإطلاق بعدم القيد فالإطلاق هو المتعيّن، ونستطيع أن نقول: لو كان المراد هو المقيّد لزم نقض الغرض؛ لعدم بيانه مع أنّه في مقام البيان، وعلى هذا الوجه فنحن نحتاج في موارد الشكّ في كونه في مقام البيان إلى أصالة كونه في مقام البيان كما هو الحال على المسلك الأوّل.

إلّا أنّنا على هذا لا نحتاج إلى قاعدة نقض الغرض وإن كانت صادقة فيما نحن فيه كما ذكرنا، ويكفينا أصل هذه المقدّمة وهو فرض أنّ المولى في مقام البيان زائداً أنّ السكوت في فرض كونه في مقام البيان ظاهر في إرادة الإطلاق الحدّيّ.

الثاني: أن يكون نفس عدم ذكر القيد عند عدم نصب قرينة على الإهمال ظاهراً في الإطلاق الحدّيّ. وعلى هذا فلا نحتاج إلى إحراز كون المولى في مقام البيان بأصل عقلائيّ أو غيره أصلاً، بل نفس عدم ذكر القيد عند عدم نصب قرينة على الإهمال يثبت المطلوب وهو الإطلاق.

وعلى أيّ حال فضمّ هذا الجزء الأخير غير وارد في كلماتهم، والاكتفاء بمجرّد أنّ المولى في مقام البيان لا يتمّ إلّا على مبنانا ومبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره).

511

المقدّمة الثالثة: عدم التقييد، واشتراطه واضح لا غبار عليه.

إلّا أنّه يقع الكلام في أنّ ما هو المشترط في ظهور الكلام في الإطلاق هل هو عدم التقييد المتّصل أو عدم التقييد ولو منفصلاً؟

وفائدة القول بالأوّل: جواز العمل بالإطلاق بمجرّد ورود الكلام بلا قيد وإن احتمل أنّه سوف يرد القيد بعد ذلك، بخلاف ما لو قلنا بالثاني.

وفائدة القول الثاني: أنّه لو ورد مقيّد منفصلاً كان رافعاً لموضوع الإطلاق ولم تقع معارضة بينهما، بخلاف القول الأوّل.

وحاول السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ الجمع بين الفائدتين فقال: إنّ ما هو المشترط في الإطلاق هو عدم التقييد ماداميّاً، بمعنى أنّه في أيّ وقت اُريد التمسّك بالإطلاق فشرطه عدم ورود القيد إلى ذاك الوقت، فما لم يرد القيد يجوز التمسّك بالإطلاق، ومهما ورد القيد كان رافعاً لموضوع الإطلاق(1).

ويرد عليه: أنّه إن كان مراده اشتراط عدم ورود القيد ماداميّاً في حجّيّة الإطلاق لا في نفس الظهور الإطلاقيّ فهذا معناه كون المقيّد المنفصل معارضاً للإطلاق لا رافعاً لموضوعه.

وإن كان مراده اشتراط ذلك في نفس الظهور الإطلاقيّ ورد عليه: أنّ الظهور الإطلاقيّ ليس أمراً جزافيّاً بل له ملاك وضابط من كون المولى في مقام



(1) لم أجد شيئاً من هذا القبيل فيما هو المطبوع من كلمات السيّد الخوئيّ(رحمه الله) عدا ما هو محتمل من عبارة الفيّاض في المحاضرات، ج 5، ص 369 ـ 370 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم، أمّا الدراسات فصريحة في نفي حجّيّة المطلق لدى المقيّد المنفصل لا نفي الإطلاق. راجع ج 2 من الدراسات، ص 339 بحسب الطبعة التي نشرها مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة.

512

البيان وغير ذلك، وعلى هذا نسأل أنّه قبل ورود القيد المفروض عنده تماميّةالإطلاق هل كان هناك لما ثبت من الإطلاق في ذلك الزمان شرط متأخّر ـ وهو عبارة عن عدم ورود القيد بعد هذا ـ أو لم يكن هناك شرط متأخّر؟ ولا يتصوّر شقّ ثالث؛ لأنّ الأمر دائر بين النفي والإثبات، فإن قلنا بالأوّل لزم عدم جواز التمسّك بالإطلاق عند احتمال ورود قيد بعد ذلك؛ لعدم العلم بثبوت الشرط المتأخّر في ظرفه، وإن قلنا بالثاني فقد تمّ ـ لا محالة ـ ظهور الكلام في الإطلاق تكويناً ولا يعقل إرتفاعه بعد ذلك بورود قيد، فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه.

فظهر: أنّه لا يمكن التحفّظ على كلتا الفائدتين بل لابدّ إمّا من الالتزام بالقول الأوّل وتترتّب عليه الفائدة الاُولى، أو الالتزام بالقول الثاني وتترتّب عليه الفائدة الثانية، فيقع الكلام فيما هو الحقّ منهما.

وتحقيق الكلام في ذلك يختلف باختلاف المسلكين في المقدّمة الثانية:

أمّا بناءً على المسلك البرهانيّ: فكون الشرط عدم التقييد المتّصل أو مطلقاً متفرّع على كون الأصل العقلائيّ في المقدّمة الثانية هل هو أصالة كون المولى في مقام البيان بنفس هذا الخطاب، أو أصالة كونه في مقام البيان مطلقاً ولو بخطاب آخر؟ فعلى الأوّل يكفي في ثبوت الإطلاق عدم التقييد المتّصل، وعلى الثاني لا يثبت الإطلاق إلّا مع عدم التقييد مطلقاً.

ونحن نقول: إنّ لدينا أمرين وجدانيّين:

أحدهما: أنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان تكون بلحاظ هذا الخطاب لا مطلق الخطاب، فلو بيّن أحد قيداً لموضوع كلامه بعد سنة مثلاً واعتذر عمّا قد

513

يكون بدا من مخالفته لأصالة كونه في مقام البيان: بأ نّي وإن كنت في مقام البيانلكن البيان أعمّ من المتّصل والمنفصل، لعُدّ ذلك من المضحكات عقلائيّاً.

والثاني: تماميّة الإطلاق منذ البدء رغم احتمال ورود القيد بعد ذلك.

وهذان أمران متلازمان يمكن جعل الأوّل دليلاً لمّيّاً على الثاني، كما يمكن جعل الثاني دليلاً إنّيّاً على الأوّل.

وهذا نظير أنّ أصل بحث الإطلاق يمكن جعله لمّيّاً بأن يستدلّ عليه بما هو وجدانيّ من أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، ويمكن جعله إنّيّاً بأن يقال: إنّ وجدانيّة تماميّة الإطلاق دليل على ثبوت أصل عقلائيّ وهو أصالة كون المولى في مقام البيان.

وأمّا بناءً على المسلك العرفيّ: فإن قلنا بعدم الاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان فلا يمكن إثبات كفاية عدم القيد المتّصل من باب اللمّ، فإنّ كفاية ذلك وعدمها متفرّعة على أنّ ما ادّعيت دلالته وضعاً أو سياقاً على الإطلاق الحدّيّ هل هو عدم القيد المتّصل، أو عدم القيد مطلقاً؟ فعلى الأوّل يتّجه الأوّل، وعلى الثاني يتّجه الثاني، ولا معيِّنَ لأحدهما في قبال الآخر لِمّاً. نعم، المتعيّن إنّاً هو الأوّل؛ لما نراه وجداناً من صحّة التمسّك بالإطلاق قبل ورود القيد بلا حاجة إلى أن يصبر حتّى يفهم أنّه هل يرد بعد هذا قيد أو لا.

وإن قلنا بالاحتياج إلى أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، فإن فسّرنا هذا الأصل بأصالة كونه في مقام البيان بنفس هذا الخطاب ـ كما عرفت أنّه المتعيّن لِمّاً ـ تعيّن كون الدالّ على الإطلاق الحدّيّ هو عدم القيد المتّصل، وإن فسّرناه بأصالة كونه في مقام البيان بمطلق الخطاب ولو منفصلاً جاء ما مضى من الاحتمالين وكان الأوّل متعيّناً إنّاً.

514

المقدّمة الرابعة: ما اختصّ به المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وهو عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، وأمّا وجود القدر المتيقّن من الخارج فلا يضرّ، مثلاً لو قال المولى: (أكرم العالم) وكان مورد كلامه العالم العادل لم يصحّ التمسّك بالإطلاق لإثبات وجوب إكرام غير العادل، وأمّا لو لم يكن مورد كلامه ذلك لكنّا لا نحتمل أن يكون العالم الفاسق واجب الإكرام دون العالم العادل فهذا غير مضرّ بالإطلاق. هذا هو مدّعى المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)(1).

ويمكن أن يدّعي أحد مضرّيّة مطلق وجود القدر المتيقّن بالإطلاق ولو خارجيّاً.

وتنقيح الكلام في ذلك أيضاً مترتّب على الكلام في المقدّمة الثانية:

فإن سلكنا في تلك المقدّمة المسلك البرهانيّ ـ كما سلكه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)وإن لم يكن من حقّه ذلك ـ: فعندئذ ينبغي أن يتكلّم في معنى أصالة كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد:

فتارة: تفسّر بأنّ الأصل كونه في مقام بيان ما هو موضوع حكمه في عالم الثبوت، وعلى هذا لا إشكال في عدم اشتراط المقدّمة الرابعة، فإنّه لو قال: (أكرم العالم) ولم يكن موضوع حكمه العالم بل العالم العادل كان ذلك خلاف هذا الأصل؛ لأنّه لم يبيّن موضوع حكمه بل جزء موضوعه ولو فرض كون المتيقّن في مقام التخاطب هو العالم العادل.

واُخرى: تفسّر بأنّ الأصل كونه في مقام هداية المكلّف إلى كلّ فرد يريد ترتّب



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 384 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

515

الحكم بالنسبة إليه ولو بنحو لا يفهم ما هو موضوع حكمه ثبوتاً، بأن يأتي في مقام الإثبات بما يهدي المكلّف إلى الأفراد المقصود إكرامهم.

والظاهر: أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) فهم من أصالة كونه في مقام البيان المعنى الثاني، وعليه فيمكن توجيه مدّعاه من اشتراط المقدّمة الرابعة بما ذكره في الكفاية من أنّ الأصل إنّما هو كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا كونه في هذا المقام وفي مقام بيان أنّه التمام، وعلى هذا فلو قال: (أكرم العالم) وكان مقصوده ثبوتاً خصوص العالم العادل وكان هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب لم يلزم نقض الغرض؛ لأنّه قد هدى المكلّف إلى تمام الأفراد المقصود إكرامهم وهم العلماء العدول. نعم، لم يفهم المكلّف أنّ هذا تمام المراد ويحتمل أن يكون غير العدول أيضاً مراداً، لكنّا فرضنا أنّه لم يثبت كون المولى في مقام بيان أنّه تمام المراد. نعم، لو ثبت كون المولى في مقام بيان تمام مراده وأنّه التمام ثبت الإطلاق ولو فرض وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب. هذا ما يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره).

ونقول ـ بناءً على تماميّته ـ: إنّ كون المضرّ بالإطلاق هل هو وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب أو وجوده مطلقاً متفرّع على أنّه هل الأصل كون المولى في مقام بيان تمام المراد بنفس ذلك الخطاب، أو كونه في مقام البيان مطلقاً ولو منفصلاً، فعلى الأوّل يثبت الأوّل، وعلى الثاني يثبت الثاني.

وعلى أيّ حال فيرد على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): أنّه لو فسّرنا ذاك الأصل العقلائيّ بأصالة كونه في مقام تفهيم العبد كلّ فرد أراد تطبيق الحكم عليه دون أصالة كونه في مقام بيان تمام موضوع حكمه لزم عدم تماميّة الإطلاق حتّى مع فرض عدم وجود قدر متيقّن، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم العالم) ولم يكن

516

العدول قدراً متيقّناً فكيف نفهم أنّ الفسّاق أيضاً داخلون في المراد مادام لم يكن بصدد بيان أنّ العالم هو تمام موضوع الحكم؟ وكيف نهتدي إلى أنّ الحكم سرى إلى جميع أفراد العالم عن غير طريق أنّ العالم اُخذ موضوعاً فانياً في أفراده؟!

ومن هنا انقدح إشكال آخر على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ ما افترضه من تماميّة الإطلاق مع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لو كان في مقام بيان أنّه التمام ـ إذ لولا الإطلاق لأخلّ بهذا الغرض ـ غير صحيح، بل لا يتمّ الإطلاق حتّى لو كان بصدد بيان أنّه التمام، فإنّه لو قال مثلاً: (أكرم العالم) وكان في مقام تفهيم كلّ فرد أراد سريان الحكم إليه وفي مقام بيان أنّه التمام ولم يكن في مقام بيان تمام الموضوع لم يمكن لنا تشخيص كون العالم الفاسق أيضاً مقصوداً إكرامه، فإنّنا لا نعرف ذلك إلّا بأن نعرف أنّ العالم تمام الموضوع، ولا نعرف ذلك؛ لعدم كونه في مقام بيان تمام الموضوع، وإذا ضممنا ذلك إلى العلم بأنّ المولى في مقام بيان تمام الأفراد المراد إكرامهم حصل العلم بأنّ العالم الفاسق غير مراد؛ لأنّه لم يبيّنه، فحصل العلم بأنّ تمام المراد هو أفراد العالم العادل، أي: ثبت التقييد لا الإطلاق(1).

 


(1) والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بعد أن ذكر في الكفاية أنّه لو كان بصدد بيان أنّه التمام تمّ الإطلاق أمر بالفهم، ثمّ فسّر هو في تعليقه على الكفاية أمره بالفهم بأنّه إشارة إلى أنّه لو كان بصدد بيان أنّه التمام ما أخلّ بذلك، فإنّه بعدم نصب قرينة على إرادة تمام أفراد العالم يفهم أنّ المتيقّن تمام مراده؛ إذ لولاه لكان عليه نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد وإلّا فقد أخلّ بغرضه، إذن فالمفهوم هو التقييد لا الإطلاق.

517

وإن سلكنا في تلك المقدّمة المسلك العرفيّ ـ وهذا هو الذي كان ينبغي للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) أن يسلكه ـ: فيجب أن نرى ما الذي ندّعي كونه دالّاً وضعاً أو سياقاً على الإطلاق، هل هو عدم التقييد عند عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فيثبت ما قاله الآخوند، أو هو عدم التقييد عند عدم وجود القدر المتيقّن مطلقاً، فيثبت اشتراط عدم القدر المتيقّن مطلقاً أو مطلق عدم التقييد فينتفي هذا الشرط؟

ولو آمنّا في المسلك العرفيّ بالحاجة إلى أصالة كون المولى في مقام البيان بنفس ذلك الخطاب، فقلنا: إنّ عدم التقييد إنّما يدلّ وضعاً أو سياقاً على إرادة الإطلاق لو كان المتكلّم في مقام البيان بنفس ذلك الخطاب لا منفصلاً تعيّن كون اشتراط عدم القدر المتيقّن ـ لو قلنا به ـ مختصّاً بمقام التخاطب(1).

 


أقول: هذا الكلام توجيهه هو ما نقلناه في المتن عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

ثمّ قال صاحب الكفاية(رحمه الله) في تعليقته على كفايته: نعم، لا نفهم التقييد ولا الإطلاق فيما لو فرضنا أنّ المولى لم يكن إلّا بصدد بيان أنّ المتيقّن مراد ولم يكن بصدد بيان أنّ غيره مراد أو ليس بمراد، ثمّ قال: فافهم، فإنّه لا يخلو من دقّة.

أقول: وحينما أخبرتُ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّ إشكالكم هذا قد بيّنه الآخوند على نفسه في تعليقه على الكفاية قال(رحمه الله): الحمد لله على الوفاق.

(1) وطبعاً المختار ـ بناءً على فرض ضرورة إثبات الإطلاق الحدّيّ ـ هو: أنّ الإطلاق الحدّيّ بما أنّه في مقابل التقييد يكون أخفّ قيداً، فكأنّه لا يعتبر قيداً أصبح عدم التقييد ـ بعد أصالة كون المتكلّم في مقام البيان بنفس هذا الخطاب ـ دالّاً سياقيّاً على الإطلاق بلا أثر لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب أو غير مقام التخاطب وعدمه.

518

 

الانصراف المانع عن الإطلاق

لا إشكال في أنّ الانصراف المستقرّ يمنع عن الإطلاق، فهل هذا يعني انهدام إحدى ما مضى من مقدّمات الحكمة، أو أنّ عدم الانصراف بنفسه مقدّمة مستقلّة من مقدّمات الحكمة؟

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ الانصراف المانع عن الإطلاق يتصوّر على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: أن يكون الانصراف ثابتاً في دائرة المدلول التصديقيّ والمراد الجدّيّ، وذلك كانصراف ما لا يؤكل لحمه في قوله: (تحرم الصلاة فيما لا يؤكل لحمه) عن شعر الإنسان، فإنّ الظاهر أنّه ليس ذلك بمعنى استعمال الكلمة الموضوعة للجامع في خصوص بعض الأفراد مجازاً، بل بمعنى كون مراده الجدّيّ غير شامل لشعر الإنسان.

القسم الثاني: أن يكون الانصراف ثابتاً في دائرة المراد الاستعماليّ، بأن ينصرف اللفظ في مفاده الاستعماليّ إلى قسم خاصّ من المدلول اللغويّ الأصليّ كما لو صار منقولاً من معناه الأصليّ، كما قد يكون كذلك في كلمة (الدابّة) المنصرفة في بعض الأوساط إلى الحمار بعد أن كانت موضوعة لمطلق ما يدبّ على الأرض مثلاً.

وهذان القسمان من الانصراف لا إشكال في مانعيّتهما عن انعقاد الإطلاق؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة هي عدم القرينة ونفس هذا الانصراف قرينة، فانعدمت بذلك المقدّمة الثالثة.

ولا فرق في ذلك بين ما مضى من المسلك البرهانيّ والمسلك العرفيّ.

519

القسم الثالث: أن يكون الانصراف بنحو يعدّ اللفظ مشتركاً لفظيّاً بين المعنى الأوّل والثاني أو يكون مجازاً مشهوراً ـ بناءً على أنّ المجاز المشهور يعارض الحقيقة ويجعل اللفظ مجملاً ـ فليست المسألة مسألة دلالة الانصراف على التقييد حتّى يقال بوضوح ـ كما مضى في القسمين الأوّلين ـ: إنّه انثلمت بذلك مقدّمة عدم القرينة.

ولعلّ من هذا القسم كلمة (العالم) في بعض الأوساط بأن يدّعى أنّه في خصوص الفقيه مجاز مشهور أو حقيقة بنحو الاشتراك اللفظيّ بينه وبين مطلق العالم، فهل هذا القسم من الانصراف يمنع عن الإطلاق أو لا؟

طرز البيان في ذلك يختلف باختلاف ما مضى من المسلكين في المقدّمة الثانية:

أمّا على المسلك البرهانيّ: فالكلام هنا يتفرّع على أنّه هل الأصل العقلائيّ يقتضي كون المتكلّم في مقام البيان بنحو يفهم المخاطب تمام المراد، وعليه فما لم يفهمه من القيد ـ ولو لأجل الإجمال ـ يكون بمقتضى الأصل خارجاً عن مراده، أو أنّه يقتضي كون المتكلّم في مقام البيان بأن يأتي بما يدلّ على مراده ولو بأحد معنييه بحيث يحصل في الكلام إجمال لوجود معنى آخر؟

فعلى الأوّل: لا يضرّ هذا القسم من الانصراف بالإطلاق؛ إذ المخاطب لا يفهم من الكلام القيد، فيلزم من وجوده في الواقع نقض الغرض فيكون منفيّاً.

وعلى الثاني: لا يتمّ الإطلاق؛ لأنّ المفروض أنّه لو كان القيد داخلاً في مراده كان هذا النحو من البيان له كافياً في عدم مخالفة ذلك الأصل العقلائيّ فلا يتأتّى قانون نقض الغرض.

وبما أنّ الحقّ هو الثاني فالتحقيق مضرّيّة هذا القسم من الانصراف بالإطلاق.

520

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة يكون كاكتنافه بالقرينة الفعليّة في عدم انعقاد الإطلاق معه.

وأمّا على المسلك العرفيّ: فالكلام هنا يتفرّع على أنّ الدالّ على الإطلاق هل هو عدم ما يكون قرينة بالفعل، أو عدم ما يصلح للقرينيّة بلا فرق بين ما يكون قرينة بالفعل وما لا يكون كذلك؟ فعلى الأوّل يتمّ الإطلاق بخلافه على الثاني.

ويتعيّن الأوّل لو قلنا في المسلك العرفيّ بالاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان، وفسّرناها بأنّ الأصل كونه في مقام البيان بنحو يفهم المخاطب تمام المراد ولا يكون الكلام مجملاً في إفادته لتمام المراد(1).

 

تنبيهان

وفي نهاية بحث مقدّمات الحكمة نذكر تنبيهين:

 

الكلام في استفادة بدليّة الإطلاق واستغراقيّـته من مقدّمات الحكمة:

التنبيه الأوّل: يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تثبت ذات الإطلاق، وأمّا بدليّته واستغراقيّته فلابدّ من أن تستفاد بدالّ آخر(2)،



(1) ويتعيّن الثاني لو قلنا في المسلك العرفيّ بالاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان، وفسّرناها بأنّ الأصل كونه في مقام البيان بأن يأتي بما يدلّ على مراده ولو بأحد معنييه، أي: بما يصلح للقرينيّة، وهذا هو الحقّ بعد فرض الإيمان بالمسلك العرفيّ.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 395 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.