640

والإنصاف حتى في مثل الوليد فضلاً عن الأموال. ولكن بما أنّ تطبيق قاعدة العدل والإنصاف بشكل كامل على الولد لم يكن ممكناً تنزّل إلى تطبيقها بأن يأخذ أحدهم الولد ويضمن للباقي نصيبهم، فوقع الكلام في أنّه من الذي يأخذ الولد ويضمن للباقي نصيبهم، فعيّن ذلك بالقرعة على تعيين الأب.

إلا أنّه لو تمّ الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، فلابدّ من الاقتصار في الاستدلال به على ما يكون من قبيل مورده من الجهل من قبل الطرفين بالحال، فلا يُتعدّى إلى فرض نكولهما عن القسم.

والصحيح عدم تمامية الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، وتوضيح ذلك: أنّ هذا الحديث دلّ على تعيين الولد لأحدهم بالقرعة، وأمّا تضمينه لنصيب الآخرين بالمال فلم يعلم كونه بنكتة أنّه كان الأصل هو تقسيم الولد بينهم، وبما أنّ هذا غير ممكن انتقل الأمر إلى تضمينه لحصّة الآخرين عملاً بقاعدة العدل والإنصاف بقدر الإمكان، بل الظاهر أنّ النكتة في ذلك هي أنّ من وطئ جاريةَ غيره فأولدها كان الولد أو قيمته لصاحب الجارية، كما دلّت على ذلك جملة من الروايات(1)، فبعد أن ثبت بالقرعة أنّ هذا الولد ولد فلان انطبقت عليه هذه القاعدة؛ إذ إنّه وطئ جاريةً مملوكةً لهم بالشركة، فضمن للآخرين حصصهم من قيمة الولد، فهذا الحديث حاله حال ما ورد _ بسند تام _ عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، ويردّ قيمة الولد على


(1) راجع وسائل الشيعة، ج14، أبواب نكاح العبيد والإماء، خاصّةً الباب57 و61 و67 و88، وج17، الباب6 من كتاب الغصب.

641

صاحب الجارية. قال: فإن اشترى رجل جاريةً، وجاء رجل فاستحقّها وقد ولدت من المشتري، ردّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته»(1).

6_ ما ورد _ بسند تام _ عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى علي (عليه السلام) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهليّة قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي قرع، وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين، فضحك رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) حتى بدت نواجذه». قال: «وقال: ما أعلم فيها شيئاً إلا ما قضى علي (عليه السلام)»(2). وهذا الحديث أقوى من سابقه في الدلالة؛ إذ لا يأتي فيه النقاش الذي بيّنّاه في سابقه من كون المقصود ضمان قيمة الولد للمَوالي من قبل الواطئ، فإنّ المفروض في هذا الحديث هو حرّيّة المرأة، وضمّنه ثلثي الدية للآخَريْنِ اللذَيْن وطئاها، ولم يضمّنه الدية للزوج، فهذا الضمان لا يتصوّر أن يكون إلا بنكتة تطبيق قاعدة العدل والإنصاف على الولد بقدر الإمكان، فيأتي في هذا الحديث التقريب الذي ذكرناه للاستدلال في الحديث السابق من دون أن يَرِد ما أوردناه عليه في الحديث السابق. وبهذا الحديث المصرّح بالضمان يُقيّد إطلاق ما قد يدل بسكوته عن ذلك على عدم الضمان؛ من قبيل ما عن الحلبي ومحمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك بامرأة في طهر واحد، فادّعوا الولد، أُقرع بينهم، فكان الولد للذي يخرج سهمه»(3)، وما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة في طهر


(1) نفس المصدر، ج14، ص566، الباب57 من نكاح العبيد والإماء، ح1.

(2) نفس المصدر، ص566، الباب57 من نكاح العبيد والإماء، ح2.

(3) نفس المصدر، ص567، ح3. ورواه عن الحلبي في ج18، ص187، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح1.

642

واحد أُقرع بينهم، فكان الولد للذي تصيبه القرعة»(1)، فإن دلّ هذان الحديثان بالسكوت على عدم الضمان قُيِّدا بالحديث الأول، بل يقال: إنّ الحديثين الأخيرين إنّما لم يذكرا الضمان لأنّ المتعارف من موردهما هو الزنا الذي لا حرمة للولد فيه شرعاً، وإنّما حكم فيهما بالقرعة لمجرّد حسم النزاع بينهم في تعيين الأب التكويني للولد، بينما الحديث الأول ورد في واقعة وقعت في زمان الجاهلية، ففرض علي (عليه السلام) حرمة للولد قبل نزول الإسلام بأحكام الزنا، فلا تعارض بين الروايات حتى بالإطلاق والتقييد.

فإن قيل: إنّ تطبيق علي (عليه السلام) لقاعدة العدل والإنصاف في زمان الجاهليّة لا يثبت صحّتها في الإسلام.

قلنا: إنّ نقل الإمام الصادق (عليه السلام) لهذه القصّة له ظهور عرفي في إمضاء هذا الحكم في الإسلام.

وبهذا تمّ الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، إلا أنّه لابدّ هنا أيضاً من الاقتصار في الاستدلال على ما يكون من قبيل مورد الحديث من فرض الجهل بالحال من قبل الطرفين، فلا يتعدّى إلى فرض دعوى كلّ منهما العلم مع نُكولهما عن القسم مثلاً.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ الصحيح في هذا الفرع الرابع في باب الأموال هو التقسيم بقاعدة العدل والإنصاف التي ثبّتناها في موارد جهل الطرفين، وفي غير باب الأموال هو القرعة.

هذا تمام الكلام في الفرض الأول من تعارض البيّنتين، وهو تعارض بيّنتي المتداعيين مع ما ألحقنا به من فروع أُخرى.


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص571، الباب 10 من ميراث ولد الملاعنه.

643

اختلاف البيّنة في حقّ طرفٍ واحد

الفرض الثاني _ هو فرض تعارض البيّنتين اللتين هما معاً في صالح إثبات الحقّ لطرف واحد مع اختلافهما في تشخيص الحقّ أو تشخيص سبب الحقّ، كما لو قالت إحداهما: باع العين من عمرو بدينار، وقالت الأُخرى: باعها منه بدرهم، أو قالت إحداهما: باعها منه صباحاً، وقالت الأُخرى: باعها منه عصراً، أو قالت إحداهما: باع منه الكتاب الفلاني، وقالت الأُخرى: باع منه الكتاب الآخر، وما إلى ذلك من الأمثلة.

وقد جاء في الشرائع فيما لو شهد اثنان على سرقة شيء معيّن في وقت، وآخران على سرقته في وقت آخر على وجه يتحقق التعارض بينهما بأن لا يمكن سرقته مرّتين: سقط القطع بالشبهة، ولم يسقط الغرم، وكتب في الجواهر بعد ذكر قول المصنف (رحمه الله): «ولم يسقط الغرم» ما مفاده: وفي محكي المبسوط: تعارضت البيّنتان وتساقطتا، وعندنا: تستعمل القرعة، وفي كشف اللثام: أنّه لا فائدة للقرعة هنا. قلت: إنّ كلام كشف اللثام إنّما يتّجه لو قلنا بأنّه يجوز للحاكم الحكم بالغرم استناداً إلى كلتا البيّنتين فيما اتّفقتا عليه من سرقة الثوب وإن اختلفتا في وقت السرقة، فعندئذٍ لا تبقى فائدة في القرعة، ولكن لعلّ مبنى كلام الشيخ على وجوب استناد الحكم إلى إحدى البيّنتين؛ لعدم صلاحيّتها بعد التعارض لأن تكونا معاً مستنداً للحكم، ولا يمكن تعيين البيّنة التي يستند إليها إلا بالقرعة، والفائدة تظهر في الأحكام التي تلحق الشاهد من قبيل ما لو رجع الشاهد عن شهادته، فلو رجعت إحدى البيّنتين عن شهادتها وكانت هي التي استند الحاكم في حكمه إليها دخلت المسألة في رجوع الشاهد عن شهادته، ولو لم تكن هي التي استند الحاكم في حكمه إليها لم يكن

644

للرجوع أيّ أثر(1).

انتهى كلام صاحب الجواهر في المقام، وقد نقلناه بالمعنى لا باللّفظ، ثم أمر بالتأمّل جيداً.

أقول: أمّا ما في الشرائع من التفصيل بين الحدّ والتغريم من سقوط الأول بالشبهة وثبوت الثاني، فيرد عليه: أنّه لو سرى التعارض إلى أصل الشهادة بالسرقة لم يثبت الغرم، وإلا ثبت الحدّ؛ لأنّ أصل الشهادة بالسرقة لا شبهة فيها، فلا مبرّر لدرء الحدّ.

وأمّا فرض تعيين البيّنة التي يستند الحكم إليها بالقرعة فهذا أمر لا دليل عليه، وإنّما القرعة _ كما عرفت من رواياتها _ تستعمل في باب القضاء: تارةً لتعيين من له الحقّ، وأُخرى لتعيين من عليه الحلف، أمّا القرعة لتعيين من تنفذ بيّنته فلم يرِد ما يدل عليها.

وتحقيق الحال في أمثال هذه المسألة هو: أنّه لو كان الأثر مترتّباً على جهة الاختلاف، كما لو شهدت إحدى البيّنتين بالصلح والأُخرى بالبيع، والملكيّة تترتّب على واقع الصلح وعلى واقع البيع، لا على الجامع بينهما، لم يثبت الأثر؛ لتعارض البيّنتين وتساقطهما.

ولو كان الأثر مترتّباً على جهة الاتّفاق، كما لو شهدت إحداهما بالإقراض في ساعة كذا، والأخرى بالإقراض في ساعة كذا، والمدعي معترف بعدم وجود إقراضين، فهل يقال: إنّ جهة الاتّفاق تثبت ويترتب الأثر وتلغو جهة الاختلاف، أو يقال: إنّ كلّ فرد من فردي الجامع قد اختلفت البيّنتان فيه، فتتساقطان ولا يثبت شيء؟ لا يبعد القول بالتفصيل بين فروض:


(1) راجع الجواهر، ج41، ص213 _ 214.

645

الفرض الأول _ أن تكون جهة الخلاف بنحو يقطع أو يطمئنّ العرف بأنّ البيّنتين لو كانتا صادقتين فهما ناظرتان إلى واقعة واحدة؛ لعدم إمكان التكرار، كما في الشهادة بإقراضين لعين واحدة في ساعة واحدة في مكانين، أو لاستبعاده في مدّة قصيرة _ مثلاً _ إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، كفاصل خمس دقائق مثلاً، فهنا لا يبعد القول عرفاً بأنّ أصل الإقراض _ مثلاً _ قد ثبت بالبيّنتين وإن اختلفتا في الزمان أو المكان، فإنّ الفارق الموجود في كلام البيّنتين وإن كان مفرّداً للجامع فلسفياً، لكن العرف في مثل هذه الحالة يفترض أنّ هناك واقعة واحدة ثبتت بالبيّنتين، وأنّ الخلاف في الخصوصيّة لم يسرِ إلى أصل الواقعة.

هذا على شرط أن لا يكون الخلاف بنحو يشكلّ قرينة عقلائيّة على كذب إحدى البينتين أو خطائها بحيث يوجب سقوط البيّنة بالاتّهام.

الفرض الثاني _ أن تصرّح إحدى البيّنتين بأنّها تنظر إلى نفس الواقعة التي شهدتها البيّنة الأُخرى، لأنّهما كانتا حاضرتين أمام واقعة واحدة وإن اشتبهت إحداهما في خصوصيّة الزمان أو المكان، فالكلام في هذا الفرض أيضاً هو عين الكلام في الفرض الأول.

الفرض الثالث _ أن لا يكون قطع أو اطمئنان عرفي على وحدة الواقعة المشهود بها على تقدير الصدق، ولا تدّعي البيّنة ذلك أيضاً، غاية ما هناك أنّ المدّعي معترف بعدم تكرر الواقعة. فهنا لا يبعد القول بأنّ كلّ فرد من فردي الجامع قد تعارضت فيه البيّنتان وتساقطت، وبالتالي لم يثبت شيء بالبيّنة.

وقد يقال في المقام بترجيح إحدى البيّنتين بالأكثريّة أو بالقرعة تعدّياً من مورد الروايات الماضية.

والجواب: أنّه قد عرفت فيما سبق أنّ ترجيح إحدى البيّنتين بالأكثريّة أو القرعة

646

إنّما كان بمعنى تعيين من عليه الحلف، وفي المقام ليس الكلام فيمن عليه الحلف فإنّه معيّن وهو المنكر.

كما أنّ الترجيح بالأعدليّة الوارد في تعارض بيّنة الأصل وبيّنة الفرع لا يمكن إجراؤه في المقام؛ لعدم الجزم بنفي الخصوصيّة، فالتعدّي يكون قياساً.

وبالإمكان أن يدّعى الترجيح بالقرعة مع تحليف البيّنة التي خرجت القرعة باسمها، وذلك تمسّكاً بما ورد عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، وجاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم كلّهم شهدوا في موقف قال: «أَقرِعْ بينهم، ثم استحلِفِ الذين أصابَهمُ القَرَعُ باللّه أنّهم يشهدون بالحقّ»(1).

والظاهر _ بقرينة القرعة وتحليف البيّنة _ أنّ المقصود بشهادة البيّنة الأُولى على الخمسين هو الخمسون مع نفي الزائد، وإلا لم يكن تعارض بين البيّنتين.

ولا يخفى أنّ الأمر إذا دار بين الزائد والناقص فالشهادة منحلّة في الحقيقة إلى شهادتين، فالبينتان متّفقتان على الشهادة على الخمسين ومختلفتان بالنفي والإثبات فى الزائد، فلو فرض أن الرجلين أحدهما يدّعي الزائد والآخر ينكره فهذا بابه باب المدّعي والمنكر مع اختلاف البيّنتين في النفي والإثبات فقط، لا في إثبات كلّ منهما غير ما تثبت الأُخرى، ولعلّ هناك وضوحاً فقهياً في عدم تحليف البيّنة في هذا الفرض، وإنّما الوجوه المطروحة فقهياً في ذلك ثلاثة: إما ترجيح بينة المدعي؛ لأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، أو ترجيح بيّنة المنكر لدعمها بالأصل، أو تساقطهما ويمين المنكر.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح7.

647

وعليه فقد تحمل الرواية على فرض ما إذا كان الرجلان جاهلين بالواقع، ولا يدّعي أحدهما الزائد، ولا ينكر الآخر. وعليه فتخرج الرواية عمّا نحن فيه.

وعلى أيّ حال فقد تقدّم أنّ الحديث ساقط سنداً بالإرسال.

بقي الكلام فيما يمكن أن يدّعى فيما نحن فيه من أنّه إذا دار أمر الحقّ بين شيئين عيّن أحدهما بالقرعة، فالقرعة هنا ليست لتعيين من عليه الحلف؛ كي يقال: إنّ دليل ذلك وارد في غير المقام، وإنّ من عليه الحلف هنا متعيّن، وإنّما القرعة لتعيين الواقع.

والجواب: أنّ أصل الحقّ غير معترف به من قبل كلا الطرفين؛ كي يقع الكلام في تعيينه بالقرعة.

فلم يبق في المقام عدا تساقط البيّنتين وتحليف المنكر.

نعم، لو نكل المنكر، وكان المدّعي مردّداً بين الحقّين، فحلف على الجامع بينهما، لا يبعد القول بانتهاء الأمر إلى القرعة لتعيين أحد الحقّين.

وقد يخطر بالبال أن يحلّل الأمر إلى قضيتين، فيقال بالنسبة لكلّ واحد من الحقين: إنّ هذا مردّد بين شخصين، فتطبّق عليه قاعدة العدل والإنصاف في تقسيم الماليّة إن أمكن.

ولكن الصحيح: أنّ قاعدة العدل والإنصاف ليس لها دليل مطلق يتمسّك بإطلاقه، والروايات التي مضت _ سواء ما تمّ منها دلالةً وسنداً وما لم يتمّ _ كانت في مورد مال مردّد بين شخصين من دون ثبوت جامع بين المالين لأحدهما بالخصوص، واحتمال الفرق وارد؛ إذاً فالصحيح هو الرجوع إلى القرعة.

ومن هنا اتّضح أيضاً حكم ما لو اعترفا معاً بأنّ الحقّ لزيد، وتردّد الحقّ لديهما بين مالين، فالمرجع عندئذٍ هو القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل.

أمّا لو اعترفا معاً بأنّ الحقّ لزيد، واختلفا في أنّه هل هو عبارة عن هذا المال أو

648

ذاك؟ فزيد ادّعى أحدَهما، والآخر عيّن مالاً آخر غير ما ادّعاه زيد، فالظاهر أنّ هذا منحلّ إلى خلافين: أحدهما الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه له، والثاني الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه لصاحبه.

والخلاف الأول هو الذي يفصله القاضي بينهما وفق قوانين المدّعي والمنكر إن كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، ووفق قوانين التداعي إن كانا متداعيين كما لو كان المال خارجاً من أيديهما.

أمّا الخلاف الثاني فلا يفصله القاضي بينهما؛ إذ ليس نزاعاً ومرافعةً بالمعنى المألوف في باب القضاء، وإنما هو من قبيل أيّ مال يختلف عليه اثنان، كل منهما يقول للآخر: إن المال لك. وهذا كما ترى ليس دعوى بين شخصين ترفع إلى القاضي، بل هما إمّا أن يتصالحا فيما بينهما، أو أنّ أحدهما يرفع يده عن حقّه على تقدير كون الحقّ له كما يزعم صاحبه؛ كي يجوز لصاحبه التصرّف في المال، أو أن يترك كلٌّ منهما المال للآخر، وبالتالي لا يجوز لأحدهما التصرّف في المال.

وبالنسبة للخلاف الأول لو أنّهما لم يترافعا إلى القاضي، ولم يفصل القاضي بينهما، واستولى أحدهما على المال المتنازع فيه على أساس علمه بأنّه له، جاز للآخر أن يأخذ من المال الثاني بمقدار التقاصّ.

موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين

وفي ختام الكلام عن تعارض البيّنتين لا بأس بالإشارة إلى موقف الفقه الوضعي من ذلك:

ويتحدّد موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين في ثلاث نقاط:

الأُولى: أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في عرض واحد، ولا يوجد لديهم فرق بين

649

بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في درجة الحجّية، وإنّما الفرق في الحكم بين المدّعي والمنكر هو أنّ البيّنة على الأول واليمين على الثاني، أمّا لو أقام المنكر بيّنةً مُقنعةً أخذ القاضي بها، كما أنّ المدّعي لو أقام بيّنةً مُقنعةً أخذ القاضي بها، فالفرق بينهما إنّما هو أنّ عب‏ء الإثبات على الأول دون الثاني، وبإمكان الثاني عند عجز الأول عن الإثبات أن يكتفي باليمين، وهذا غير عدم الاجتزاء بالبيّنة من المنكر لو أتى بها، وهم يقصدون بالبيّنة التي هي على المدّعي مطلق الدليل، لا البيّنة بمعناها الفقهي لدينا من شهادة شاهدين، وعلى أي حال فلا يبقى _ بناءً على مبناهم _ أساس لترجيح بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل عند التعارض.

الثانية _ أنّه لا مجال عندهم لوصول النوبة إلى القرعة بعد تعارض البيّنتين لتعيين الواقع، أو لتعيين من عليه اليمين، وذلك ناتج عن أصل عدم إيمانهم بالقرعة في باب القضاء إطلاقاً. وأمّا كون أكثريّة العدد في إحدى البيّنتين مؤثّرة في توجيه الحلف إلى صاحب البيّنة الأُخرى فأيضاً لا مجال له عندهم، وإنّما تدخل الأكثريّة ضمن ما سنذكره من النقطة الثالثة.

الثالثة _ أنّ أمر تقدير البيّنة وتقييمها ومدى قبولها وعدم قبولها في الموارد التي تسمح قوانينهم بقبول البيّنة متروك أساساً إلى القاضي، وبهذا تنحلّ مشكلة تعارض البيّنتين، فإنّ القاضي هو الذي يقدّر مدى إمكانيّة الاعتماد على البيّنة، فإن رأى أنّهما تعارضتا في الكشف وتساوتا _ وبالتالي زال الكشف وانتفت القرينيّة _ فقد تساقطت البيّنتان، وإن رأى أرجحيّة إحداهما _ سواء بالأكثريّة العدديّة أو بأيّ نكتة أُخرى؛ بحيث بقيت لتلك البيّنة رغم التعارض درجة من الكشف قابلة للاعتماد _ اعتمد عليها وأسقط الأُخرى.

أقول: إنّ النقطة الأُولى من هذه النقاط وهي قبول البيّنة من المنكر كقبولها من

650

المدّعي هو أحد الاتّجاهات الموجودة في فقهنا أيضاً بالنسبة للبيّنة بمعناها الفقهي عندنا من شهادة شاهدين، وإن كان مختارنا _ كما مضى _ غير ذلك.

والنقطة الثانية _ وهي عدم قبول القرعة، كأنّها ناتجة عن عدم وجود أيّ درجة من درجات الكشف والأماريّة في القرعة.

أمّا قبول الإسلام بالقرعة في باب القضاء فلعلّه ناتج عن مجموع نكتتين:

إحداهما _ أنّ القرعة جعلت بعد فرض العجز عن الحلول الأُخرى، وعند ذلك لا يضرّ عدم كاشفيّتها، فهي جعلت لخصم الدعوى لا لكشف الحقيقة.

والثانية _ أنّ إنكار الكاشفيّة على الإطلاق محلّ منع، فإنّ هذا وإن كان متّجهاً في فقه وضعي مبتن على غضّ النظر إطلاقاً عن افتراض وجود إله للعالمين، لكنّه غير متّجه في فقه يؤمن بربّ العالمين. ويعتقد أنّ تفويض الأمر إلى اللّه في القرعة يوجب تأثير القرعة من ترجيح أحد الطرفين ولو بمستوىً من مستويات الترجيح.

وأمّا النقطة الثالثة _ فقد عرفت أنّ نظر الإسلام يختلف فيها عن نظرهم، فالإسلام وضع ضوابط موضوعيّة كاملة لتقسيم البينة، ولم يترك الأمر إلى القاضي وذوقة. وبهذا المقدار نكتفي في الكلام عن البينة، وكان هذا هو الطريق الثاني من طرق الإثبات في باب القضاء.

651

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

3

 

 

اليمين

 

 

  1- اليمين بين المدّعي والمنكر

  2- اليمين بين المتداعيَين

  3- كيفيّة الإحلاف

  4- الشاهد الواحد مع اليمين

  5- ضمّ اليمين إلى البيّنة

  6- اليمين في الفقه الوضعي

 

 

653

الطريق الثالث _ هو اليمين.

ونعقد تحت هذا العنوان عدة أبحاث:

الأول _ كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟

الثاني _ كيفيّة الإحلاف؟

الرابع _ متى يكفي شاهد واحد مع اليمين؟

الخامس _ متى تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين إليها؟

اليمين بين المدّعي والمنكر

البحث الأول _ كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟ نذكر بدواً هنا: أنّ اليمين يوجّه أوّلاً إلى المنكر عندما لا يمتلك المدّعي البيّنة، فإن رَدّ على المدّعي وُجّه اليمين إلى المدّعي، فإن نكل سقطت الدعوى.

أمّا تفصيل الكلام في ذلك:

فلا إشكال _ بضرورة من الفقه _ أنّ اليمين يأتي بعد فرض عدم إقامة المدّعي البيّنة، وكذلك لا إشكال في أنّه يوجّه اليمين ابتداءً إلى المنكر كما هو واضح، وهو مفاد ما ورد من أنّ البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر.

654

لمن حقّ التحليف؟

ولكن يقع الكلام في أنّ اليمين هل يوجّهها الحاكم إلى المنكر من تلقاء نفسه، أو بطلب من المدّعي؟ أُدّعي الإجماع على الثاني، ويمكن أن يقال بالأوّل.

وقد يذكر للأوّل _ وهو أن يكون التحليف من حقّ الحاكم _ وجوه ثلاثة:

الأول(1)_ أنّ الحاكم مأمور بقطع الخصومة بين المتخاصمين، فثبوت حقّ إبقاء الخصومة للمدّعي بتمكينه من عدم تحليف المنكر أمر لا معنى له، وعلى الحاكم أن يحلّفه لأجل إنهاء الخصومة، شاء المدّعي أم أبى.

والثاني(2)_ التمسّك بإطلاق: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، فكون اليمين عليه غير مشروط بطلب المدّعي؛ لأنّ هذا قيد زائد لم يذكر في الحديث.

والثالث _ ما عن سليمان بن خالد _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام): أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّهُ إليه: أُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به. وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(3) ونحوه روايتان أُخريان غير تامتين سنداً(4). فقد يقال: إنّ قوله: «حلّفهم به» يدل على أنّ التحليف وظيفة القاضي، ولا علاقة له بالمدّعي.

وكلّ هذه الوجوه تقبل المناقشة:

أمّا الأول _ فقد يناقش بأنّ وجوب قطع المخاصمة على الحاكم حتى في مورد


(1) راجع الجواهر، ج40، ص170.

(2) نفس المصدر.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(4) نفس المصدر، ص167 _ 168، ح2 و3.

655

استعدّ المدّعي لغضّ النظر عن حقّه الذي استولى عليه المنكر لفترة من الزمن، ثم استئناف المخاصمة بعد ذلك أمرٌ لا دليل عليه، فقد يتعلق غرض المدّعي بتأجيل المخاصمة بأمل حصوله على البيّنة، أو على إقرار المنكر، أو على ارتداعه من اليمين الفاجرة، أو غير ذلك، ولا دليل على أن يكون للحاكم حقّ إجبار المدّعي على عدم تأجيل المخاصمة بعد رفعِها إليه.

وأمّا الثاني _ فلوضوح أنّ قوله: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» بصدد بيان من يقع على عاتقه عب‏ء البيّنة، ومن يقع على عاتقه عب‏ء اليمين، أمّا بعد أن اتّضح أنّ من عليه اليمين هو المنكر، هل الذي يطالب باليمين هو الحاكم ابتداءً، أو المدّعي، ويكون الحاكم منفّذاً لطلب المدّعي، فهذا مطلب آخر لا علاقة له بمفاد الحديث.

وأمّا الثالث _ فلأنّ قوله: «حلّفهم به» تعليم للقاضي بطريق القضاء الثابت له بعد فقد البيّنة، وبيان لعدم انسداد طريق القضاء بمجرّد فقدان البيّنة، أمّا أنّه كيف يُعمِل القاضي هذا الطريق، هل من تلقاء نفسه أو بطلب من المدّعي، فهذا لا علاقة له بالحديث.

وقد يذكر للثاني وهو ضرورة كون التحليف بطلب المدّعي وجهان:(1)

الأول _ مقتضى القاعدة؛ لأنّ التحليف _ على حدّ تعبير صاحب الشرائع (رحمه الله) _ حقّ للمدّعي، فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة.

وأورد عليه صاحب الجواهر (رحمه الله): بأنّ كون الحقّ للمدّعي لا يقتضي أكثر من ضرورة كون تحليف المنكر برضا المدّعي الذي قد يستكشف بشاهد الحال. أمّا ضرورة


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 170.

656

كون ذلك بمطالبة المدّعي فلا يدل عليها هذا الوجه.

أقول: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد على كلام صاحب الشرائع (رحمه الله) لو كان مقصوده من قوله: «فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة» أنّ استيفاء حقّ المدّعي من دون مطالبته ظلم له؛ إذ قد تتعلّق مصلحته بترك المطالبة _ كما لو أراد تأجيل تحليف المنكر لاحتمال حصوله في المستقبل على البيّنة، أو لأيّ سبب آخر، فلا مبرِّر لإجباره على الرضوخ ليمين المنكر _ فهذا يرد عليه ما قاله صاحب الجواهر (رحمه الله) من أنّه يكفي دفعاً لهذا الاعتراض استكشاف رضا ذي الحقّ ولو بشاهد الحال، أمّا اشتراط مطالبته فهذا لا يدل عليه.

ولكن أكبر الظنّ أنّ مقصود صاحب الشرائع (رحمه الله) ليس هذا، وإنّما مقصوده أنّ إجبار الحاكم للمنكر على اليمين، أو الرضوخ للحكم بصالح المدّعي إنّما يكون بملاك مطالبة ذي الحقّ وهو المدّعي، فلو كان ذو الحقّ غير مطالب بذلك فإرغام الحاكم للمنكر على ذلك بحاجة إلى دليل، وهذا _ كما ترى _ لا يرد عليه إشكال صاحب الجواهر (رحمه الله).

نعم، هناك نقاش آخر يمكن أن يناقش به هذا الوجه وهو أنّه ما المقصود بكون الحلف حقّاً للمدّعي؟

هل المقصود بذلك أنّ أمر التحليف وجوداً وعدماً بيد المدّعي؟ فهذه مصادرة على المطلوب، فإنّ كلامنا الآن في أنّ التحليف هل هو من حقّ الحاكم مباشرةً، أو المدّعي هو الذي يجب أن يطالب به كي يتمّ التحليف؟

أو المقصود بذلك أنّ الحلف أمر وضع على المنكر تضييقاً عليه لصالح المدّعي في عالم القضاء، كما أن البيّنة أمر وضع على المدّعي تضييقاً عليه لصالح المنكر في عالم القضاء؟ فهذا الكلام صحيح، ولكن لا دلالة له على المدّعى، فإنّ مجرّد كون شيء

657

وضع لصالح طرف في عالم مقاييس القضاء لا يدل على أنّه يجب أن يكون أمر ذاك الشيء بيده وبمطالبته.

أو المقصود بذلك أنّ تحليف المنكر يكون لأجل حقّ يريد المدّعي استنقاذه، وهو حقّه في العين التي استولى عليها المنكر مثلاً، فلو استعدّ المدّعي _ ولو موقّتاً _ لعدم استنقاذ حقّه وعدم إحراج المنكر بمطالبته باليمين برجاء تحصيل البيّنة، أو بأيّ سبب آخر فلا مبرّر لتدخّل الحاكم بالتحليف؛ لأنّ دليل القضاء لا إطلاق له لفرض استعداد المدّعي لرفع اليد عن حقّه الذي يدّعيه ولو موقّتاً.

ويرد عليه: أنّه كما قد يتّفق أنّ المنكر هو المستولي على الحقّ، فيراد إحراج المنكر باليمين كي يحلف أو يسلّم الحقّ إلى أهله، كذلك قد ينعكس الأمر فيكون المدّعي هو المستولي على الحقّ ويريد المنكر أن يحلف كي يستنقذ بذلك حقّه، كما لو اعترف من بيده المال بأنّه أخذه من صاحبه قهراً عليه اعتقاداً منه أنّه هو المالك لا صاحبه، فهنا قد أصبح ذو اليد مدّعياً وصاحبه منكراً، فقد يصرّ المدّعي هنا على تأجيل التحليف وإيقاف المرافعة؛ كي يستمرّ هو في الاستيلاء على المال، ويكون المنكر هو المطالب بالحقّ؛ كي يحلف ويأخذ حقّه، وكما لو كان المدّعي يدّعي أداء الدين والمنكر ينكر ذلك.

الثاني _ الروايات وهي على قسمين:

القسم الأول _ ما دلّ على أنّ المدّعي لو استحلف المنكر سقط حقّه من قبيل:

1_ ما عن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قَسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله

658

ممّا قد استحلفه عليه»(1). وسند الحديث تام.

2_ ما عن خضر النخعي _ ولم تثبت وثاقته _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(2).

3_ ما عن عبداللّه بن وضّاح _ بسند ضعيف على الأقلّ بأبي عبداللّه الجاموراني _ قال: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرةً، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرةً، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت، فكتب: «لا تأخذ منه شيئاً، إن كان ظلمك فلا تظلمْه، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيت بيمينه، وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذْ منه شيئاً، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام)»(3).

ووجه الاستدلال بهذه الروايات أنّها علّقت سقوط حقّ المدّعي باستحلافه للمنكر، أي طلبه لليمين، فهذا دليل على أنّه لابدّ أن يكون تحليف المنكر بطلب من المدّعي.

ويمكن الإيراد على ذلك بإشكالين:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص179، الباب 9 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح1. وأيضاً ج16، ص179، الباب 48 من الأيمان، ح1.

(3) نفس المصدر، ص180، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح2.

659

الإشكال الأول _ أنّ الرواية الأُولى وهي التامّة سنداً إنّما دلّت على أنّ استحلاف المدّعي للمنكر يسقط حقّه، ولا دلالة لها بالمفهوم على أنّ استحلاف الحاكم له من تلقاء نفسه لا يسقط حق المدّعي حتى مع الإيمان بمفهوم الشرط؛ بناءً على أنّ مفهوم الشرط يختصّ بحرف الشرط، ولا يأتي في أسماء الشرط من قبيل (إذا).

نعم، الحديث الثاني لا يرد عليه هذا الإشكال بعد فرض الإيمان بمفهوم الشرط في حرف الشرط؛ إذ جاء فيه حرف (إن) لا كلمة (إذا)، بل قد يقال: لا حاجة فيه إلى مفهوم الشرط أصلاً؛ لأنّه صرّح بالمفهوم بقوله: «وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»، فهذا يعني حصر ما يسقط الحقّ في استحلاف المدّعي، ولكن هذا الحديث ساقط سنداً.

وأمّا الحديث الثالث فإضافةً إلى سقوطه سنداً إنّما دلّ على حكم في فرضٍ فرضه السائل، وهو فرض استحلاف المدّعي، ولم يرد في كلام الإمام ربط الحكم بفرض استحلاف المدّعي حتى تفرض دلالته بالمفهوم _ مثلاً _ على انتفاء الحكم عند ما يكون الاستحلاف من قبل الحاكم.

وبالإمكان دفع الإشكال عن الاستدلال بالحديث الأول بأحد وجهين:

الأول _ ضمّ هذا الحديث إلى ما ورد _ بسند تام _ عن أبي بكر، قال: «قلت له: رجل لي عليه دراهم، فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: نعم، ولكن لهذا كلام. قلت: وما هو؟ قال: تقول: اللّهم إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانةً، وإنّما أخذته مكان مالي الذي أُخِذَ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(1). فإذا قيّد إطلاق هذا الحديث بمنطوق حديث ابن أبي يعفور الوارد


(1) نفس المصدر، ج12، ص203، الباب83 ممّا يكتسب به، ح4.

660

في استحلاف المدّعي، كانت النتيجة أنّ الذي يسقط حقّ المدّعي إنّما هو استحلافه للمنكر دون حلف المنكر عن غير طريق استحلاف المدّعي إيّاه، ولو كان بتحليف الحاكم إيّاه. ولكن الظاهر أنّه بعد فرض إخراج استحلاف المدّعي للمنكر في مورد القضاء من إطلاق هذا الحديث لا يبقى له بحسب الفهم العرفي إطلاق لفرض تحليف الحاكم إيّاه، وإنّما ينصرف إلى حلف المنكر من تلقاء نفسه.

والثاني _ مبني على أن يستظهر من مثل هذه الأحاديث الواردة في يمين المنكر، أو بيّنة المدّعي، أو ما شابه ذلك أنّها تنظر إلى باب القضاء وإلى محضر الحاكم، وعندئذٍ يقال _ بناءً على أنّ الحاكم هو الذي يحلّف المنكر _: إنّ كون التحليف من قبل الحاكم لا إشكال فيه، إنّما الكلام في شرط طلب المدّعي، وقد جاء في منطوق الحديث قيد استحلاف المدّعي، فلو فرض نفوذ تحليف الحاكم بلا طلب من المدّعي لغا العنوان المأخوذ في المنطوق؛ إذاً فلا نحتاج في مقام استفادة المقصود إلى التمسُّك بمفهوم الشرط، بل تكفينا دلالة المنطوق على أنّ عنوان تحليف المدّعي _ الذي هو شيء زائد على أصل تحليف الحاكم ويقصد به طلب المدّعي للحلف _ دخيل في الحكم، نقيّد بذلك إطلاق ما دلّ على كفاية مطلق حلف المنكر _ ولو لم يكن بطلب المدّعي _ في سقوط حقّ المدّعي، وهو ما عن عبدالحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون له على الرجل المال، فيجحده إيّاه، فيحلف يمين صبر أن ليس له عليه شيء، قال: «ليس له أن يطلب منه، وكذلك إن احتسبه عنداللّه فليس له أن يطلب منه»(1). على أنّ هذا الحديث ساقط سنداً.

ومعنى احتسابه عنداللّه _ بناءً على استظهار كون ذلك في مورد القضاء _ هو


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص179، الباب 48 من الأيمان، ح2.

661

إسقاطه لدعواه، وبناءً على استظهار عدم إرادة خصوص فرض القضاء هو إسقاطه لحقّه المالي، والثاني _ أيضاً _ محتمل لو قصد خصوص فرض القضاء. وعلى أيّ حال فهذا الوجه إنّما يتمّ لو فرضنا أنّ الأمر دائر بين أن يكون التحليف بيد الحاكم أو بطلب من المدّعي، فيقال: إنّ أصل كون التحليف من الحاكم لا إشكال فيه، فلو أُلغي قيد طلب المدّعي لزمت لغويّة القيد المأخوذ في المنطوق. ولكن سيأتي _ إن شاء اللّه _ أنّه يمكن المصير إلى رأي آخر، وهو أنّ تحليف الحاكم يجب أن يكون على أساس طلب أحد المتنازعين _ إمّا المدّعي وإمّا المنكر _ والمذكور في هذا الحديث هو طلب المدّعي، ونفي طلب المنكر لا يكون إلا بالمفهوم.

الإشكال الثاني _ أنّ غاية ما دلّت عليه هذه الروايات أو بعضها هي أنّ سقوط حقّ المدّعي بالحلف إنّما يكون إذا كان الحلف بطلب من المدّعي، ولكن كلامنا الآن ليس في ذلك، وإنما كلامنا في أنّ حكم الحاكم هل يتوقف على كون حلف المنكر بطلب من المدّعي، أو ينفذ حكمه عندما يطالبه هو من تلقاء نفسه بالحلف من دون طلب المدّعي؟ وهذا مطلب آخر لا علاقه لهذه الروايات به. أمّا حمل هذه الروايات على معنى سقوط حقّ المدّعي بعد حكم الحاكم المترتب على تحليف المدّعي، فهذا أخْذٌ لقيد زائد وهو صدور الحكم بلا مبرّر، وإنّما المنظور لهذه الروايات هو سقوط حقّه بمجرد تحليفه إيّاه، أي: لا يحقّ له بعد ذلك أن يقيم البيّنة كي يجعل الحاكم يحكم وفق البيّنة؛ لأنّ اليمين ذهبت بحقّه.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأنّ المفهوم عرفاً من هذه الروايات أنّها تشير إلى الحلف الذي يصحّ للحاكم الاعتماد عليه في الحكم، فإذا دلّت هذه الروايات على أنّ الحلف الذي يُسقط حقّ المدّعي هو الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي؛ إذاً فقد دلّت على أنّ ما يصحّ للحاكم الاعتماد عليه من الحلف إنّما هو الحلف الذي

662

يكون بطلب من المدّعي.

القسم الثاني _ ما ورد في الوظيفة بعد عدم امتلاك المدّعي للبيّنة، وجعل الوظيفة هي استحلاف المدّعي، وهو ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أحدهما (عليهماالسلام) في الرجل يدّعي ولا بيّنة له، قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1). فيقال: إنّ هذا الحديث شخّص الوظيفة في استحلاف المدّعي، وهذا يعني أنّ استحلاف الحاكم من تلقاء نفسه لا أثر له، وبه يقيّد ما قد يستفاد منه الإطلاق من قبيل:

1_ ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدَّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي قال: «يُستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(2).

2_ ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه...»(3).

3_ ما عن أبان عن رجل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدّعى عليه الحقّ وليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: يُستحلف المدّعى عليه...»(4).

فقد يدّعى أنّ هذه الروايات تدل بسكوتها عن قيد طلب المدّعي ليمين المنكر على عدم اشتراط هذا القيد، فلو تمّت هذه الدعوى قيّدت هذه الإطلاقات بالحديث


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ح2.

(3) نفس المصدر، ح4.

(4) نفس المصدر، ص177، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح5.

663

الأول على أنّ تماميّة هذه الإطلاقات محلّ نظر؛ لإمكان القول بأنّ هذه الروايات إنّما بيّنت ما يأتي بعد عجز المدّعي عن البيّنة، وهو يمين المنكر، أمّا أنّ هذا اليمين هل يوجّه إليه من قبل الحاكم ابتداءً، أو بطلب المدعي، فهذا مطلب آخر لا علاقة له بهذه الروايات، فهذه الروايات وِزانها وِزان أصل الروايات التي تبيِّن أنّ مقياس القضاء هو البيّنة واليمين، أو هو بيّنة المدّعي ويمين المنكر، لا علاقة لها بنفي شرط طلب المدّعي أو إثباته، على أنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة سنداً. وأيضاً لو تمّت دلالة ما ورد في أمر نبي من الأنبياء بالتحليف فإنّما ذلك بالإطلاق، ويقيّد برواية محمد بن مسلم، ويكون المفاد بعد التقييد أنّ القاضي يحلّف بعد طلب المدعي.

إلا أنّ الصحيح: أنّ دلالة رواية محمد بن مسلم _ على شرط كون طلب الحلف من المدّعي _ أيضاً قابلة للنقاش، فإنّ السؤال فيه عن الرجل يدّعي ولا بيّنة ‏له قال: «يستحلفه»، فلا يبعد أن يكون هذا بصدد تعليم المدّعي كيفيّة تصدّيه لعلاج مشكلته، وهو أن يطلب حلف المنكر، أمّا لو لم يتصدَّ هو للعلاج فهل يجوز للحاكم أن يستقلّ بالعلاج، أو لا، فهذا مطلب آخر.

وتحقيق الحال في المقام أن يقال: إنّه تارةً يفترض أنّ الحقّ المتنازع عليه يكون تحت سلطة المنكر، وأُخرى يفترض أنّه تحت سلطة المدّعي.

فإن كان تحت سلطة المنكر لا يحلّف المنكر إلا بطلب المدّعي، فلو رضي المدّعي بإيقاف النزاع _ ولو موقّتاً _ وعدم مطالبته بحقّه، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم للمنكر، ودليل كون وظيفةِ الحاكم حسم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد المدّعي لإيقاف النزاع ولو موقّتاً.

وإن كان تحت سلطة المدّعي _ كما لو كانت العين بيده معترفاً بأنّه أخذها من صاحبه قهراً عليه؛ لعلمه بأنّها له _ فهنا لا يحلّف المنكر إلا بطلب المنكر؛ بمعنى أنّه لو

664

رضي المنكر برفع اليد عن المطالبة بحقّه ولو موقّتاً، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم إيّاه ولو بطلب من المدعي؛ لأنّ دليل كون وظيفة الحاكم حسم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد صاحب النزاع لرفع اليد عن النزاع ولو موقّتاً، وهنا صاحب النزاع هو المنكر؛ أي: إنّه المحروم عن الحقّ المتنازع فيه، ولو طلب المنكر الحلف حلّفه الحاكم ولو رغماً على المدّعي؛ لأنّ وظيفة الحاكم فصل النزاع.

فالمقياس في باب التحليف هو طلب من كان محروماً عن الحقّ المتنازع فيه سواء كان مدّعياً أو منكراً، ويكفي في ثبوت الطلب دلالة شاهد الحال على ذلك بلا حاجة إلى التصريح.

ولو أراد من بيده الحقّ المتنازع فيه تأجيل النزاع وعدم وقوع التحليف، فعليه أن يسلّم الحقّ بيد الآخر كي ينتقل حقّ طلب الحلف إليه.

فمثلاً لو كان المدّعي هو المسيطر على الحقّ المتنازع فيه، ولكنّه يطلب تأجيل الحلف؛ لأنّه يمتلك بيّنةً ستأتي بعد فترة ملحوظة من الزمن، فعليه أن يسلّم الحقّ إلى المنكر، ثم ينتظر البيّنة، وإلا فوظيفة الحاكم هي إنهاء النزاع بتحليف المنكر.

وما قلنا من أنّ من ليس بيده الحقّ المتنازع فيه يجوز له تأجيل الحلف نقصد بذلك تأجيله بتأجيل المطالبة بالحقّ، لا أن يؤجّل الحلف، ثم يؤذي صاحبه باستمرار المطالبة، وإلا خيّره الحاكم بين عدم تأجيل الحلف وترك المطالبة.

ولعلّ المُجمعين على اشتراط الحلف بطلب المدّعي كانوا ينظرون إلى ما هو الغالب من أنّ المسيطر على الحقّ المتنازع فيه هو المنكر، ولو فرض الإطلاق فيما قصدوه فالإجماع مدركي لا أثر له، ولم يثبت في المقام إجماع تعبّدي.

يبقى الكلام هنا في فرعين: