177

الفصل الثالث

 

 

طرق الإثبات لدى القاضي

 

 

  1- طرق الإثبات في الفقه الوضعي

  2- طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

 

 

 

 

179

طرق الإثبات لدى القاضي

1

 

 

طرق الإثبات في الفقه الوضعي

 

 

  1- نصوص من الفقه الوضعي

  2- الطعن على الإسلام

 

 

 

 

181

نصوص من الفقه الوضعي

تعارف القول في الفقه الوضعي الحديث بأنّ طرق الإثبات ستة: أوّلها وأهمّها الكتابة، والثاني الشهادة أو البيّنة، والثالث القرائن، والرابع الإقرار، والخامس اليمين، والسادس المعاينة.

قال عبدالرزاق أحمد السنهوري:

«والكتابة من أقوى طرق الإثبات، ولها قوّة مطلقة يجوز أن تكون طريقاً لإثبات الوقائع القانونيّة والتصرفات القانونيّة دون تمييز، كما سنرى. ولم تكن لها هذه القوّة قديماً، بل كان المقام الأول للشهادة في وقت لم تكن فيه الكتابة منتشرة، بل كانت الغلبة للأُميّة فكان الاعتماد على الرواية دون القلم، هكذا كان الأمر في الفقه الإسلامي وفي سائر الشرايع، ثم أخذت الكتابة تنتشر، وساعد على ذلك اختراع الطباعة، فعلت الكتابة على الشهادة وصار لها المقام الأول. ومن مزايا الكتابة أنّه يمكن إعدادها مقدّماً للإثبات منذ نشوء الحقّ دون التربّص إلى وقت المخاصمة... ومن مزايا الكتابة أيضاً أنّها لا يتطرّق إليها من عوامل الضعف ما يتطرّق إلى الشهادة، فالشهود يجوز عليهم الكذب، وتعوزهم الدقّة على كلّ حال، وتتعرّض ذاكرتهم

182

للنسيان على أنّ الكتابة إذا خلت ممّا يلحق الشهادة من كذب، أو اضطراب، أو نسيان لا تخلو هي أيضاً من احتمال التزوير. وقد رسم قانون المرافعات اجراءات معيّنة للطعن في الكتابة بالإنكار، أو بالتزوير. (م 253 _ 291 مرافعات).

أمّا الشهادة أو البيّنة فقد كانت من أقوى الأدلّة في الماضي كما قدّمنا، ثم نزلت للأسباب التي بيّناها إلى مكان أدنى، فهي طريق لإثبات ذو قوّة محدودة؛ إذ لا يجوز إثبات التصرّفات القانونيّة بها إلا في حالات استثنائيّة، ولا تثبت بها إلا الوقائع القانونيّة؛ لأنّها أعمال ماديّة، فجاز إثباتها بالبيّنة لموقع الضرورة، وقد حاطها المشرّع بضمانات عدّة، فرسم اجراءات دقيقة لسماع الشهود (م 189 _ 224 مرافعات)، وفرض عقوبة على شهادة الزور، وترك للقاضي التقدير الأعلى في الأخذ بها إذا أقنعته، أو في طرحها إذا هو لم يقتنع...»(2).

وذكر في فصل البيّنة والقرائن ما حاصله:

أنّ البيّنة والقرائن لهما القوّة المطلقة في الوقائع القانونيّة الماديّة، وفي التصرّفات القانونيّة التجاريّة إلا ما استثني. ولهما القوّة المحدودة في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة، فلا يجوز أن تثبت بهما التصرّفات المدنيّة التي تزيد قيمتها على عشرة جنيهات، أو تكون غير محدّدة القيمة، بل وتلك التي لا تزيد قيمتها على هذا المقدار إذا كانت مكتوبةً، ويراد إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها. ومحدوديّة قوّتهما في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة أيضاً لها استثناءاتها، والسبب في الفرق بين التصرّفات القانونيّة المدنيّة من ناحية والوقائع المادية أو التصرّفات التجارية هو أنّ التصرف القانوني إرادة تتّجه إلى إحداث أثر قانوني لها مظهر خارجي هو التعبير،


(1) الوسيط، ج 2، ص90 _ 91، الفقرة رقم 58.

183

والقانون اقتضى أن لا يكون إثبات هذا التعبير كقاعدة عامّة إلا عن طريق الكتابة، وذلك لاعتبار سببين:

1_ لأنّ التعبير عن إرادةٍ تتّجه لإحداث أثر قانوني أمر دقيق قد يُغَمُّ على الشهود فلا يدركون معناه، ولا يؤدون الشهادة فيه بالدقة الواجبة.

2_ والتصرف القانوني فوق ذلك هو الذي تستطاع تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه، ومن ثم كان اشتراط الكتابة لإثباته أمراً ميسوراً.

أمّا الواقعة الماديّة فلا يقوم في شأنها أيّ من الاعتبارين المتقدّمين، وقد عمد المشرّع إلى الخطير من هذه الوقائع كالميلاد والموت فأوجب تسجيله بالكتابة على نحو خاص.

أمّا السبب في إباحة الإثبات بالبيّنة وبالقرائن في المسائل التجارية أيّاً كانت قيمة التصرف القانوني فهو ما يقتضيه التعامل التجاري من السرعة، وما يستلزمه من البساطة وما يستغرقه من وقت قصير في تنفيذه...(1).

وقد يبدو من عبارة السنهوري الماضية في أوّل البحث أنّ الإسلام أعطى المقام الأول في الإثبات إلى البيّنة لأجل غلبة الأُمّيّة وقتئذٍ، وهذا ما يكرّس شبهة أعداء الإسلام القائلين بأنّ الإسلام كان ديناً منسجماً مع زمانه وقد انتهى وقت تنفيذ نُظمه وقوانينه لتبدّل الزمان والأوضاع.

ولكنّه ذكر بعد ذلك ما يدل على أنّه يرى أنّ النقص لم يكن في الإسلام، وإنّما كان النقص في عصر التقليد في الفقه الإسلامي _ على حدّ تعبيره _، ولا بأس بذكر نصّ عبارته بهذا الصدد. قال في تعليق له في الهامش على الفقرة رقم 189، في


(1) راجع الوسيط ج 2، الفقرة رقم 181 و 182 و 185 و 188.

184

الجزء2: «فالفقه الإسلامي لا يعتدّ بالكتابة اعتداده بالشهادة، فالشهادة عنده هي البيّنة التي لها المقام الأول في الإثبات، أمّا الكتابة فيحذر منها كلّ الحذر؛ لأنّ الخطوط _ كما يقول الفقهاء _ قابلة للمشابهة والمحاكاة، والواقع من الأمر أنّ الكتابة لم تكن في العصور الأُولى التي ترعرع فيها الفقه الإسلامي منتشرةً بين الناس، ولم يكن فنّ الخط قد تقدّم تقدّمه في العصور التي تلت، فكان من الصعب الاعتماد على الكتابة في الإثبات... وقد أتى القرآن الكريم في آية المداينة بأرقى مبادى‏ء الإثبات في العصر الحديث، قال اللّه تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾(1). فالأولويّة في الإثبات إذاً للكتابه، ولكن لمّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك، وتقف عن مجاراة هذا التقدّم لم يستطع الفقهاء إلا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولاً بيّناً. ومن العجيب أنّ عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقدّم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة، وذلك بالرغم من أنّهم كانوا يستطيعون أن يقلّبوا الوضع، فيقدّموا الكتابة يؤازرهم في ذلك انتشار الكتابة وتُظاهرهم آيات القرآن الكريم».

إنتهى ما أردنا نقله من الوسيط.

وكتب أحمد نشأت في كتابه يقول:

«قد اتّبعت معظم الشرائع قاعدة في الإثبات الكتابة، وأمر بذلك القرآن الكريم:


(1) البقرة: 282.

185

﴿یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ وَلاٰ يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَلاٰ تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَأَدْنىٰ أَلّا تَرْتٰابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّا تَكْتُبُوهٰا﴾(1)».(2)

ولا يخفى أنّ هذه الآية الشريفة ليست دليلاً على أنّ الكتابة إحدى وسائل الإثبات في باب القضاء، إذ جعلت الآية المباركة الكتابة كوسيلة لتقويم الشهود من ناحية، ودفع الارتياب من نفس أطراف المعاملة من ناحية أُخرى؛ حيث قال: ﴿ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَأَدْنىٰ أَلّا تَرْتٰابُوا﴾. أمّا إذا وقع الارتياب وحصل النزاع، فهل من حقّ القاضي أن يقضي بمجرّد الكتابة؟ فهذا ما لم تدل عليه الآية الكريمة.

هذا، وطرق الإثبات في الفقه الإسلامي عبارة عن:

1_ العلم.

2_ البيّنة.

3_ اليمين.


(1) البقرة: 282.

(2) رسالة الإثبات، ج1، ص105، الفقرة رقم56، الطبعة السابعة.

186

4_ الإقرار.

5_ القرعة.

أمّا قاعدة العدل والإنصاف فقد تخصم بها الدعوى، لكنّها ليست من طرق الإثبات، فهي طبعاً لا تعني أنّ كلا الطرفين على حقّ، وإنّما تعني التنصيف عند عدم معرفة المالك الحقيقي كي يحصل المالك الواقعي على نصف ماله على كلّ تقدير، ولا يحرم أيّ واحد منها حرماناً كاملاً ما دام يحتمل كونه هو المالك.

أمّا الكتابة فليست _ بما هي _ طريقاً للإثبات في الفقه الإسلامي.

الطعن على الإسلام

ومن هنا يأتي الطعن على الإسلام بأنّه لا ينسجم مع وضع اليوم؛ إذ من الواضح أنّ رفض الكتابة اليوم _ وهي أقوى بكثير من جهة كشفها الحقيقي من البيّنة _ أمر غير عقلائي، فالإسلام دين لظروف مضت ولزمان انصرم.

والجواب: أنّ الكتابة قد تورث العلم، وقد لا تورث العلم، فإن أورثت العلم فقد دخلت في الطريق الأول من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي كما ذهب إليه مشهور أصحابنا _ قدّس اللّه أسرارهم _ وكان طريق الإثبات في الحقيقة هو العلم من أيّ سبب نشأ، لا الكتابة.

أمّا إذا لم تورث العلم فهي غالباً أضعف من المدرك الذي أوجب للبيّنة العلم، والقاضي وإن كان تعامله ليس مباشرةً مع مدرك علم البيّنة، وإنّما تعامله معه بواسطة علم البيّنة، بينما الكتابة هي المدرك المباشر لحصول الظنّ عند القاضي، فقد يفضِّل الاتكاء على هذا المدرك المباشر على الاتكاء على ذاك المدرك غير المباشر، ولكن المشرّع ليس هو القاضي، وإنّما هو شخص ثالث نسبته إلى القاضي والبيّنة

187

على حدّ سواء، ومن حقّه أن يفضّل المدرك الذي أوجب العلم للبيّنة على المدرك الذي أوجب الظن للقاضي.

وبعد هذا نشرع في البحث عن الطرق التي اعتمد عليها فقهنا الإسلامي للإثبات في القضاء.

189

طرق الإثبات لدى القاضي

2

 

 

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

 

 

  1- علم القاضي

  2- البيّنة

  3- اليمين

  4- الإقرار

  5- القرعة

 

 

 

 

191

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

1

 

 

علم القاضي

 

 

  1- مع الفقه الوضعي

  2- مع الفقه الإسلامي

 

 

 

 

193

الطريق الأول: علم القاضي.

مع الفقه الوضعي

وقبل الشروع في البحث عن ذلك من وجهة نظر فقهنا الإسلامي نشير إلى وجهة نظر الفقه الوضعي الحديث في مسألة علم القاضي، والمتبنّى عادةً في ذاك الفقه هو عدم حجّية علم القاضي.

وذكر عبدالرزاق السنهوري أنّ هذا ناتج عن مبدأ حقّ الخصم في الإثبات لا عن مبدأ حياد القاضي(1).

ولتوضيح المقصود نتكلّم باختصار عن كلّ من المبْدَءَين من وجهة نظرهم:

قال السنهوري في الوسيط ما ملخّصه:

إنّ الحقيقة القضائية قد تبتعد عن الحقيقة الواقعية، بل قد تتعارض معها؛ لأنها لا تثبت إلا عن طريق قضائي رسمه القانون، وقد يكون القاضي من أشدّ الموقنين


(1) راجع الوسيط، ص 33_ 34، الفقرة رقم 27.

194

بالحقيقة الواقعية ومخالفتها للحقيقة القضائية.

والقانون في تمسّكه بالحقيقة القضائية دون الواقعية يوازن بين اعتبارين: اعتبار العدالة في ذاتها، ويدفعه إلى تلمّس الحقيقة الواقعية بكلّ السبل ومن جميع الوجوه حتى تتّفق معها الحقيقة القضائية، واعتبار استقرار التعامل، ويدفعه إلى تقييد القاضي في الأدلّة التي يأخذ بها، فيحدّد له طرق الإثبات وقيمة كلّ طريق منها كي يأمن من جوره، ويحدّ من تحكّمه، ولا يختلف القضاة في ما يقبلونه من دليل، وفي تقدير قيم الأدلّة في الأقضية المتماثلة.

ويمكن في الموازنة بين الاعتبارين أن نتصوّر قيام مذاهب ثلاثة في الإثبات:

1_ المذهب الحرّ أو المطلق: وهو الذي يميل إلى استقرار العدالة ولو بالتضحية باستقرار التعامل.

2_ والمذهب القانوني أو المقيّد: وهو الذي يقيّد قوانين الإثبات أشدّ التقييد حتى يستقرّ التعامل.

3_ والمذهب المختلط: وهو مذهب بين بين يوازن ما بين الاعتبارين، فيعتدّ بكلّ منها، ولا يضحّي بأحدهما لحساب الآخر، وهذا هو خير المذاهب، فهو يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود وبين اقتراب الحقيقة الواقعية من الحقيقة القضائية بما أفسح فيه للقاضي من حرّيّة التقدير وأشدّ ما يكون إطلاقاً في المسائل الجنائيّة، ففيها يكون الإثبات حرّاً بتلمّس القاضي وسائل الإقناع فيه من أيّ دليل يقدّم إليه، شهادةً كانت، أو قرينةً، أو كتابةً، أو أي دليل آخر، ثم يتقيّد الإثبات بعض التقيّد في المسائل التجارية.

ويتّصل بما تقدّم مبدأ حياد القاضي، فالقاضي في المذهب الحرّ لا يكون محايداً، بل موقفه إيجابي ينشط القاضي فيه إلى توجيه الخصوم واستكمال ما نقص في الأدلّة

195

واستيضاح ما أبهم منها، بينما في المذهب القانوني سلبي محض لا يعدو القاضي فيه أن يتلقّى أدلّة الإثبات كما يقدّمها الخصوم دون أيّ تدخّل من جانبه، ثم يقدّر هذه الأدلّة طبقاً للقيم التي حدّدها القانون، فإذا رأى الدليل ناقصاً أو مبهماً فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه، بل يقدّره كما هو.

وفي المذهب المختلط ينبغي أن يكون موقفاً وسطاً بين الإيجابية والسلبية، بل أقرب إلى الإيجابية منه إلى السلبية.

والقوانين اللّاتينية والقانون المصري معها قد اتّخذت الموقف المختلط في الإثبات، وهي مع ذلك لا توسّع على القاضي في حرّيّة توجيهه للدعوى واستخلاص الحقائق من أدلّتها القانونية إلا إلى مدىً محدود...(1).

وهذا المعنى من الحياد كما ترى لا يترتّب عليه عدم حجّية علم القاضي.

وأمّا مبدأ حقّ الخصم في الإثبات:

فقد ذكروا أنّ على الخصم أن يثبت ما يدّعيه أمام القضاء بالطرق التي بيّنها القانون، وهذا ليس واجباً عليه فحسب، بل هو أيضاً حقّ له، وكلّ دليل يتقدّم به الخصم لإثبات دعواه يكون للخصم الآخر الحقّ في نقضه وإثبات ما يدّعيه الخصم، وكلّ دليل يقدَّم في الدعوى يجب أن يعرض على الخصوم جميعاً لمناقشته، ويدلي كلّ برأيه فيه ويفنّده أو يؤيّده، والدليل الذي لا يعرض على الخصوم لا يجوز الأخذ به.

ويترتّب على حقّ الخصوم في مناقشة الأدلّة التي تقدّم في الدعوى أنّه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، ذلك أنّ علم القاضي هنا يكون دليلاً في القضيّة، ولما كان للخصوم حقّ مناقشة هذا الدليل اقتضى الأمر أن ينزل القاضي منزلة الخصوم فيكون


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة رقم 20 _ 24.

196

خصماً وحكماً وهذا لا يجوز(1).

وهم يعتقدون أنّ عدم حجّية علم القاضي إذا كان مبتنياً على هذا الوجه الذي بيّنوه فهذا يتطلّب منهم إبعاد أمرين عن مسألة علم القاضي الذي لا حجّية فيه، وهذا بالفعل ما صنعوه:

الأول _ علم القاضي الذي لا يختصّ به، بل يعتبر من العلوم المعروفة بين الناس؛ قال في الوسيط في الهامش تعليقاً على ما ذكره في المتن من عدم جواز قضاء القاضي بعلمه:

«ولكن هذا لا يمنع من أن يستعين القاضي في قضائه بما هو معروف بين الناس، ولا يكون علمه خاصاً به مقصوراً عليه، وذلك كالمعلومات التاريخية والعلمية والفنيّة الثابتة...»(2).

فالمقصور بعلم القاضي الذي لا يجوز القضاء به إنّما هو علمه الشخصي، أمّا العلم الذي يحصل عادةً لمتعارف الناس فهو ليس علماً شخصياً، والعلم الذي يحصل لأهل الخبرة في المسائل الفنيّة يجب فيه الرجوع إلى أهل الخبرة. قال في رسالة الإثبات:

«لا يجوز القضاء في المسائل الفنيّة بعلم القاضي، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة»(3).

والثاني _ علم القاضي الذي يحصل على أساس المعلومات التي يحصّلها وهو في مجلس القضاء. قال أحمد نشأت في رسالة الإثبات:

«وللقاضي أن يعتمد في حكمه على المعلومات التي يحصلها وهو في مجلس القضاء


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة رقم 27 _ 29.

(2) نفس المصدر، ج2، ص33، تحت الخط في أحد هوامش الفقرة رقم 27.

(3) رسالة الإثبات لأحمد نشأت، ج1، ص2، الفقرة رقم2.

197

أثناء نظر الدعوى، وما يحصله على هذا الوجه لا يعتبر من المعلومات الشخصية التي لا يجوز للقاضي أن يستند إليها في قضائه»(1). وقد جاء ذكر هذين الاستثناءَين بشكل واضح ومشروح في كتاب رسالة الإثبات لأحمد نشأت(2)، فراجع.

وجاء في قانون المرافعات المدنيّة الجديد العراقي رقم 83: «لا يجوز للحاكم الحكم بعلمه الشخصي المتحصل خارج المحكمة»(3).

وجاء في شرح الأُستاذ القانوني منير القاضي للمادة (83) من قانون المرافعات المدنيّة الجديد العراقي _ حسب النقل الذي ورد في كتاب القضاء الشرعي _ ما نصّه:

«فإنّ الأدلّة التي يحصل بها الإثبات تحقّق للقاضي علماً مكتسباً بالحادثة المكلّف بالحكم فيها، فيكون الحاكم بعد قيام الدليل لديه كأنّه شاهد الواقعة ووقف على ظاهرها وباطنها، فلا يسعه إلا الحكم بما علم من هذا الطريق؛ إذ إنّ خلاف ذلك مجهول لديه فكيف يحكم بمجهول؟! ويستلزم هذا التعامل أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه الشخصي، أي غير المكتسب من طريق الدليل الذي قام لديه، بل حصل له من طريق مشاهدته ووقوفه عليه شخصيّاً؛ لأنّ هذا أقوى من العلم الذي حصل له من طريق الشهادة مثلاً.

وإلى هذا الرأي ذهب كثير من فقهاء الشريعة المتقدّمين، ولكن لما خربت الذمم، وضعف الوازع الديني، وفسد الضمير في كثير من الناس، وطغى حبّ المادّة على النفوس، وأُشربت القلوب حبّ المال من أيّ طريق جاء أصبح علم القاضي الشخصي مكتنفاً بالظنون والريب حتى قال الفقيه الشافعي: لولا قضاة السوء


(1) الوسيط، ص19، الفقرة رقم2.

(2) ج1، ص18 _ 19، الفقرة رقم2.

(3) راجع دليل القضاء الشرعي تأليف محمد صادق بحر العلوم، ج2، ص34، الفقرة رقم7.

198

لقلت: إنّ للحاكم أن يحكم بعلمه. ولهذا قرّر المتأخرون من الفقهاء بالإجماع عدم جواز حكم الحاكم بعلمه»(1).

أقول: يقصد صاحب هذا الكلام بالفقهاء فقهاء العامّة.

أمّا فقهاء الشيعة الذين يشترطون العدالة في القاضي فالمشهور بينهم قديماً وحديثاً هو جواز قضاء القاضي بعلمه كما تقدّم.

وبهذا يتمّ التقريب بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية بأفضل وجه حيث يكون علم القاضي في فرض عدالته كاشفاً أميناً عن الواقع في غالب الأحيان، وينضمّ إلى ذلك في التقريب بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية ما ثبت في فقهنا الشيعي من شرط العدالة في القاضي وفي الشاهد؛ ذاك الشرط الذي لا يمكن للفقه الوضعي المنبثق من العقل البشري الالتزام به؛ إذ إنّ الانسان المبتعد عن تعاليم السماء ينغمس عادةً في الظلم والجور إلى حدّ لا يفهم لشرط العدالة معنىً، وهكذا يتيهون في أُسلوب الجمع بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية، ويضعون الحجّية لقرائن غير مفيدة للعلم، معطين زمام أمر تقييمها ومدى القبول بها بيد قاضٍ لا يشترط فيه العدالة، ولا يعرفون معنىً لحجّية علم القاضي.

أمّا ما مضى عن الوسيط من عدم نفوذ علم القاضي _ بعد القول بأنّ للخصوم حقّ مناقشة كلّ دليل _ إذ لو نفذ لزم اتّحاد القاضي والخصم فهذا غريب؛ فإنّ الخصم بالمعنى الذي ارتكز عقلائياً عدم جواز اتّحاده مع القاضي إنّما هو الخصم بمعنى من يكون طرفاً في النزاع _ أي الذي يحكم له أو عليه _ لا كلّ من يناقش الخصوم ما يقدّمه من دليل. وجاء في رسالة الإثبات لأحمد نشأت قوله: «لا يصحّ للقاضي أن


(1) راجع دليل القضاء الشرعي تأليف محمد صادق بحر العلوم، ج2، ص34_ 35، الفقرة رقم7.

199

يقضي بعلمه الشخصي... القاضي ليس إلا بشراً كسائر الناس غير معصوم من الخطأ والنسيان، ولا منزَّهاً عن الغرض. والقاضي الذي يشهد في دعوى لا شكّ يكون متأثّراً بشهادته، فلا يصحّ مطلقاً أن يجلس للفصل فيها، وهذا الأمر بديهي تقضي به طبيعة الأشياء، فليس هو في حاجة إلى نص في القانون»(1).

أقول: إنّ القاضي عادةً يتأثّر بالدليل الذي يقضي به على كلّ حال، وهم يقولون بأنّ للقاضي حرّية تقدير قيمة البيّنة والقرائن، فيقضي بها عندما يقتنع بها، ويردّها عندما لا يقتنع بها، أفليس هذا عبارة عن التأثّر بالبيّنة والقرائن؟ فَلِمَ لا يُقبل تأثّره بالدليل الذي أوجب له علمه الشخصي خارج المحكمة؟! هناك فرق واحد وهو أنّ احتمال الخيانة من قبل القاضي لدى دعواه العلم الشخصي وارد بمستوىً لا يرد في تقييمه للبيّنة والقرائن أمام الخصوم مع مناقشتهم لها، ولكن هذا علاجه عندنا يكون بشرط العدالة.

مع الفقه الإسلامي

وعلى أيّة حال فلنبحث مسألة حجّية علم القاضي من زاوية فقهنا الإسلامي، وقد بحثوا تارةً حجّية علم الإمام المعصوم وجواز قضائه به، وأُخرى حجّية علم القاضي غير الإمام المعصوم.

وقد استظهر أو ادّعي في كلتا المسألتين الإجماع على جواز القضاء بالعلم.

والذي ظهر منه الفرق بين المسألتين _ ولو في خصوص باب الحدود التي هي من حقوق اللّه لا خصم النزاع _ هو صاحب النهاية حيث نُقل عن حدود النهاية: أنّه إذا شاهد الإمام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحدّ، ولا ينتظر مع


(1) رسالة الإثبات ، ج 1 ، الفقرة 379 مكرّر، الطبعة السابعة.

200

مشاهدته قيام البيّنة والإقرار، وليس ذلك لغيره، بل هو مخصوص به. وغيره _ وإن شاهد _ يحتاج إلى أن يقوم بيّنة أو إقرار من الفاعل.

وينقل عن ابن الجنيد أنّه لا يفرّق بين الإمام وغير الإمام في عدم جواز القضاء بالعلم تارةً على الإطلاق كما نقله المرتضى عنه، وأُخرى في حقوق الناس، مع الاعتراف بنفوذ العلم في حقوق اللّه من دون فرق أيضاً بين الإمام وغير الإمام. واستظهر في المسالك نقلاً ثالثاً عن ابن الجنيد: وهو تخصيص التفصيل بين حقوق الناس وحدود اللّه بغير الإمام مع الاعتراف بحجّية علم الإمام في القضاء مطلقاً.

وعن ابن حمزة تبنّي تفصيل معاكس لتفصيل ابن الجنيد، وهو أنّ الحاكم يحكم بعلمه في حقوق الناس دون حقوق اللّه تعالى؛ لابتنائها على المسامحة والرخصة والستر، ويحتمل إطلاق كلام ابن حمزة لعلم الإمام.

وعلى أيّ حال فقد استدلّ على جواز حكم الإمام وفق علمه بوجوه سيأتي أكثرها إن شاء اللّه عند البحث عن حكم القاضي _ غير الإمام _ بعلمه، وممّا يختصّ بمسألة حكم الإمام بعلمه ما جاء في الجواهر من وجوب تصديق الإمام في كلّ ما يقوله وكفر مكذّبه.

وعن بعض حَملُ ما قد يستظهر منه عدم حكم المعصوم بعلمه كقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1)، على أنّ هذا لا ينافي جواز حكم المعصوم بعلمه، فإنّ عدم حكمه به خارجاً لا يعني عدم الجواز. وكأنّ صاحب هذا الكلام حمل الجواز على الجواز التكليفي أو الحجّية التخييريّة، بينما الظاهر أنّ مصبّ كلام الأصحاب هو نفوذ العلم وحجّيته بحيث لا تصل النوبة معه إلى بيّنة أو يمين، وهو المستفاد من أكثر استدلالاتهم، كاستدلالهم بقوله تعالى: ﴿يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ


(1) وسائل الشيعة ، ج18 ، ص 199، الباب 2 من كيفيّة الحكم ، ح1.

201

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾(2).

وكيفما كان فالبحث عن مدى نفوذ علم المعصوم ووجوب حكمه به، أو مجرّد الجواز، أو عدم جواز ذلك بحث فارغ لا أثر له؛ إذ المعصوم حينما يكون حاكماً هو أعرف بوظيفته، وحينما يكون الحاكم غير معصوم لا يفيده هذا البحث إلا بافتراض ذلك مقدّمةً لجواز حكم الفقيه بعلمه بناءً على أنّ كلّ ما للإمام للفقيه.

ثم إنّه ينبغي أن يستبعد من بحث حجّية علم القاضي علمه الحسّي بمثل البيّنة، والإقرار، واليمين، وتزكية الشهود وجرحهم، والجامع هو علمه الحسّي بما يستعين به في القضاء؛ إذ من ضرورة الفقه أنّه لو أنكر أحد الخصمين اليمين، أو الإقرار، أو قيام البيّنة بعد وقوع ذلك لا يطالَب القاضي في حكمه ببيّنة على البيّنة، أو الحصول على إقرار أو يمين، ولو احتاجت تزكية الشهود إلى شهود لزم التسلسل؛ فمحلّ البحث إمّا هو القضاء بالعلم، لا علمه بما يقضي به، أو أنّه ينبغي أن لا يشمل _ على الأقّل _ العلم الحسّي بوسائل الإثبات في القضاء.

واستقرب المولى علي الكني استبعاد العلم الحاصل بمثل الإلهام والوحي والمكاشفات عن محل البحث، وأن يكون من المسلّم عدم نفوذه في القضاء قبل قيام القائم (عليه السلام)، وذكر (رحمه الله) ما حاصله: أنّ الأقوى المنع عن القضاء بعلم من هذا القبيل؛ لظهور كلماتهم في حجّية العلم في القضاء في العلم المشترك بين المعصومين وغيرهم، خصوصاً على القول بكون علمهم حضورياً أو إرادياً مع وقوع الإرادة


(1) ص: 26.

(2) المائدة: 42.