لا ينبغي أن يعبّر عنه بالتعبيرات الواردة في التنقيح من لزوم تحصيل الحاصل والتنجيز بعد التنجيز والتعذير بعد التعذير.
وعلى أيّة حال فالجواب على هذا الإشكال هو أنّ الطولية الرتبيّة بين أمرين وإن كانت حدّاً من الحدود وأمراً إيجابيّاً معبّراً عن ظرف رتبيّ لكن العرضيّة الرتبيّة لا تعبّر عن ظرف مّا، وإنّما هي عبارة عن عدم الترتّب لا عن حدّ إيجابي، ولهذا لا يشترط في العرضيّة بين شيئين كونهما معلولين لشيء ثالث، بل كلّ أمرين لا يوجد ترتّب بينهما يعتبران عرضيّين، كما أنّه فيما نحن فيه أيضاً ليست الحجّيتان في عالم التطبيق والفعلية _ وهو عالم تعدّدهما _ وليدتين لشيء واحد، بل تكون حجّية فتوى الميّت في البقاء وليدة لفتوى الحيّ بحجّية هذه الفتوى، وحجّية باقي فتاواه وليدةً لفتوى الحيّ بحجّية باقي الفتاوى. إذاً فلا محذور في اندكاك حجّية باقي فتاواه التي هي في طول حجّية فتواه في البقاء في حجّية باقي فتاواه التي هي في عرض حجّية فتواه في البقاء؛ لأنّ العرضيّة لا تعني إلّا عدم نكتة الطوليّة، وعدم ثبوت نكتة الطوليّة من جهة لا يمنع عن ثبوتها من جهة أُخری.
والواقع أنّ كلا التقريبين اللذين ذكرناهما للإشكال متلازمان، والجوابان راجعان إلى روح واحدة؛ وذلك لأنّنا لو فرضنا أنّ العرضيّة
ظرف رتبيّ إيجابيّ وحدّ حقيقي، فكما يتمّ الإشكال الثاني كذلك يتمّ الإشكال الأوّل؛ لأنّه مع إيجابيّة الظرفين يكون ما مع المتقدّم متقدّماً لا محالة؛ لأنّ ظرف الأب شكّل ظرفاً حقيقيّاً في عالم الرتب للعلم، فكيف يكون ابن الأخ المتأخّر في الظرف في رتبة عمّه؟!
ولو فرضنا أنّ ما مع المتقدّم ليس مقدّماً فارتفع الإشكال الأوّل فقد ارتفع كذلك إشكال عدم إمكان الاندكاك؛ لأنّ حجّية باقي الفتاوى المتولّدة من حجّية فتوى الحيّ بعد أن لم تكن متقدّمة رتبة على حجّيتها المتولّدة من فتوى الميّت بالبقاء فهما عرضيّتان، وإذا كانتا عرضيّتين فلا مانع من اندكاك إحديهما في الأُخرى.
ولعلّه يمكن أن يقرّب الأمر إلى الذهن عرفيّاً بمثال _ وإن كان هذا المثال ليس شاهداً لنا بالدقّة الفعلية؛ لأنّ الإشكال لو تمّ في المقام يسري إلى هذا المثال أيضاً _ وهذا المثال هو أن يفترض أنّ بيّنة ثابتة العدالة شهدت بالهلال وشهدت أيضاً بعدالة بيّنة أُخرى شاهدةٍ بالهلال، فحكم الهلال يثبت ببيّنتين وإن كانت حجّية البيّنة الثانية ثبتت بشهادة البيّنة الأُولى بعدالتها.
وعلى أيّة حال فالبحث هنا لا ثمرة عملية له.
الفرض الثاني: أن تكون فتوى الميّت بجواز البقاء أوسع دائرة من
فتوى الحيّ بجواز البقاء، وهنا تتّضح الثمرة العملية لحجّية فتوى الميّت بالبقاء؛ لأنّ المقلَّد لو اقتصر في البقاء على الاعتماد على فتوى الحيّ فتلك الفتوى لا تصحّح له مباشرة البقاء إلّا في دائرة ضيّقة، في حين أنّ فتوى الميّت بالبقاء بعد أن أُضفيت عليها الحجّية ببركة فتوى الحيّ تُوسّع له دائرة جواز البقاء.
والإشكال الذي مضى عن السيّد الخوئي(رحمه الله) في الفرض الأوّل لو تمّ هناك لا مورد له هنا؛ لأنّ ما زاد على دائرة تجويز الحيّ لم يكن حجّة ببركة فتوى الحيّ مباشرة كي يلزم من حجّيتها بسبب فتوى الميّت تحصيل الحاصل أو وجود الحجّية في مرتبتين وعدم الاندكاك.
والنتيجة التي يجب أن تسجّل هنا هي أنّ للمقلّد البقاء في الدائرة الأوسع ولو كان الحيّ مانعاً عن البقاء في المساحة الزائدة؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الحيّ أفتى بأنّ الميّت يكون في مسألة البقاء بمنزلة الحيّ، وعندئذٍ فالمفروض تقدّم رأي الميّت في البقاء على رأي الحيّ؛ لكونه أعلم منه مثلاً.
الفرض الثالث: أن يكون الميّت مفتياً بحرمة البقاء أو مفتياً بالجواز في دائرة أضيق من دائرة إفتاء الحيّ بالجواز.
فلو فرضنا كون الميّت مفتياً بالجواز في دائرة أضيق وكان الميّت في
الفاصل بين الدائرتين فاقداً للفتوى بالجواز أو التحريم فلا مشكلة في المقام؛ فإنّ هذا الفاصل بين الدائرتين يمكن إثبات جواز البقاء فيه بفتوى الحيّ بلا محذور.
وكذلك الحال فيما لو فرضنا أنّ الميّت لا فتوى له نهائيّاً بجواز البقاء ولا بعدمه.
وإنّما الكلام يقع فيما لو كان الميّت مفتياً بحرمة البقاء مطلقاً أو في الفاصل بين الدائرتين. وعندئذٍ تارة نفترض أنّ فتواه بحرمة البقاء تكون مطلقة أو مشروطة بشرط موجود في نفس هذا الإفتاء، كما لو أفتى بحرمة البقاء فيما تعلّمه المقلَّد وكان المقلَّد غير متعلّم لمسألة حرمة البقاء. وأُخرى نفترض أنّ فتواه بحرمة البقاء مشروطة بشرط مفقود في نفس هذه الفتوى، كما لو أفتى بحرمة البقاء فيما لم يتعلّمه المقلَّد وكان المقلَّد قد تعلّم نفس هذه المسألة.
أمّا في الفرض الثاني، فالنتيجة التي يجب أن تسجّل في المقام هي أنّ فتوى الميّت بالتحريم استقت الحجّية من فتوى الحيّ، وهي حرّمت البقاء للمقلَّد في الدائرة الواجدة لذاك الشرط، فلا يجوز له البقاء في تلك الدائرة ويجوز له البقاء في غير تلك الدائرة ممّا يكون مشمولاً لتجويز الحيّ للبقاء.
وأمّا في الفرض الأوّل، فهنا يتجلّى التضاد القويّ بين فتوى الحيّ بالجواز الشامل لنفس رأي الميّت في البقاء وبين فتوى الميّت، ومن الواضح عندئذٍ أنّه لا يمكن تجويز البقاء بفتوى الحيّ على فتوى الميّت بتحريم البقاء زائداً تجويز البقاء بفتوى الحيّ على باقي فتاوى الميّت التي حرّم هو البقاء عليها؛ لأنّ البقاء عليهما معاً غير ممكن للتضادّ المستبطن في ذلك، فما هي الوظيفة؟
ذكر السيّد الخوئي(رحمه الله) هنا: أنّ المتعيّن في المقام هو الثاني ، أي إضفاء الحجّية على باقي فتاوى الميّت بفتوى الحيّ؛ لأنّ إضفاء الحجّية على إفتاء الميّت بحرمة البقاء بفتوى الحيّ الذي أفتى بالجواز غير ممكن، وذلك لوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ حجّية فتوى الميّت بتحريم البقاء يلزم من وجودها عدمها، فتصبح مستحيلة.
والوجه الثاني: أنّنا نعلم إجمالاً أنّ فتوى الميّت بالتحريم إمّا خلاف الواقع أو ليست حجّة؛ لأنّه إن كان البقاء في علم الله جائزاً فالفتوى بالتحريم خلاف الواقع، وإن كان غير جائز فهذه الفتوى غير حجّة؛ لأنّ حجّيتها تعني جواز البقاء، وبما أنّ الحكم الظاهري مشروط
(1) التنقيح، ج1، ص192 _ 194.
باحتمال المطابقة للواقع فلا معنى لافتراض الحجّية لشيء معلّقةً على مخالفته للواقع.
أقول: إنّ الوجه الأوّل قد فرضت فيه استحالة ما يلزم من وجوده عدمه بعد تسليم أنّه يلزم من وجوده عدمه، وقد وضّحنا في بعض مباحثنا أنّ أصل استلزام وجود شيء لعدمه مستحيل، وحجّية الفتاوى انحلاليّة، فحجّية فتواه بالتحريم تستلزم عدم حجّية باقي فتاواه لا عدم حجّية نفس هذه الفتوى.
نعم، لو قال أحد: إنّنا لا نحتمل حجّية هذه الفتوى _ أعني الفتوى بالتحريم _ فحسب دون باقي فتاواه في حين أنّنا نحتمل العكس كان معنى ذلك الجزم الابتدائي بعدم حجّية هذه الفتوى دون توسيط فكرة استلزام وجود الشيء لعدمه؛ وذلك لأنّ الأمر منحصر عقلاً في أربعة فروض: إمّا حجّية جميع فتاواه بما فيها الفتوى بتحريم البقاء، أو عدم حجّية شيء منها، أو حجّية فتواه بتحريم البقاء دون باقي الفتاوى، أو العكس، والأوّل مستحيل لاستحالة اجتماع حجّية فتواه بالتحريم مع حجّية باقي فتاواه، والثالث فرضناه مقطوع العدم، والثاني والرابع يعنيان عدم حجّية فتواه بتحريم البقاء، فهذا يعني القطع بعدم حجّية هذه الفتوى بالخصوص.
أمّا الوجه الثاني فالظاهر أنّه صحيح؛ لأنّ الحياة إمّا هي شرط في علم الله في حجّية رأي الفقيه حتّى بقاءً أو لا، فإن كان شرطاً في علم الله في ذلك فلا مبرّر لحجّية فتواه بتحريم البقاء؛ لأنّ شرط حجّيته هو الحياة وهي مفقودة، وإن لم يكن شرطاً في علم الله في ذلك فتحريمه للبقاء خلاف الواقع.
إذاً فالنتيجة هي أنّ فتوى الميّت بالتحريم لا تصلح للحجّية، فتكون الحجّة عندئذٍ فتوى الحيّ بجواز البقاء، فيجوز للعامّي البقاء على سائر فتاوى الميّت في مسائل الصلاة والصوم وغيرهما من الفروع.
وأمّا الأمر الثاني: _ وهو أنّه هل من الصحيح ما ذكر من أنّ المعتمد ابتداءً في مسألة البقاء يجب أن يكون هو الحيّ؛ لأنّ حجّية رأي الميّت أوّل الكلام بحسب الفرض، ولا يمكن إثبات حجّية رأي الميّت برأي الميّت؟ _ فالظاهر أنّ هذا المبنى غير صحيح، وتوضيح ذلك: أنّه كما لا يجوز للعامّي التقليد في أصل التقليد كذلك لا يجوز له أن يقلّد في خصوصيّات التقليد إلّا من يكون داخلاً في القدر المتيقّن أو أن يتّخذ ما أجمع على صحّته تمام الأطراف المحتملة، ومن هنا تُخُيِّل أنّ المستند في البقاء على تقليد الميّت يجب أن يكون هو أعلم الأحياء؛ وذلك بتخيّل أنّ الحيّ هو المتيقّن من جواز التقليد؛ إذ يحتمل شرط
الحياة في التقليد ولا يحتمل شرط الموت، في حين أنّ الواقع هو أنّه لو كان الميّت أعلم من أعلم الأحياء مثلاً لم يكن هناك متيقّن بينهما؛ لأنّه كما يحتمل تعيّن الحيّ للتقليد لأنّه حيّ، كذلك يحتمل تعيّن الميّت للتقليد ولو بقاءً؛ لأنّه أعلم من الحيّ، فلو اتّفق أعلم الأحياء مع الميّت على شيء في مسألة البقاء صحّ للعامّي الأخذ بذلك الشيء، ولو قطع العامّي بشيء في ذلك بحسب فهمه أو بحسب كلام من أورث الوثوق في نفسه أيضاً صحّ له أن يعمل به، وإلّا فليس رأي الحيّ متيقّن الحجّية.
قد تقول: إنّ المتيقّن موجود في المقام وهو رأي الحيّ؛ لأنّ الأعلمية ليست شرطاً للتقليد في ذاته، وإنّما يُسقط رأي الأعلم رأي غيره بالتعارض، في حين أنّه يحتمل كون الحياة شرطاً للتقليد في ذاته. إذاً فرأي الحيّ حجّة في ذاته، ولم يثبت له معارض؛ لعدم معلوميّة حجّية رأي الميّت إلّا بإفتاء نفس الحيّ بحجّية رأي الميّت ولو بقاءً.
والجواب: أنّه من هو الذي جزم بأنّ الأعلميّة ليست شرطاً للتقليد في ذاته وجزم أو احتمل أنّ الحياة شرط في التقليد وعرف أنّه في هكذا حالة يصبح ما يعلم بحجّيته في ذاته مع احتمال سقوطه بالمعارض مقدّماً على ذاك المعارض المشكوك حجّيته في ذاته؟
فلو كان الذي يعلم كلّ هذا عبارة عن أعلم الأحياء مع الميّت
الأعلم منه فقد دخل ذلك فيما فرضناه من اتّفاق الحيّ مع الميّت في وجوب الرجوع في هذه المسألة إلى الحيّ، وقد قلنا إنّه عندئذٍ لا إشكال في رجوع العامّي في هذه المسألة إلى الحيّ.
ولو كان الذي يعلم بكلّ هذا هو نفس المقلَّد دخل ذلك فيما فرضناه من عمل العامّي بما يقتنع به حسب فهمه. ولو كان الذي يعلم بكلّ هذا أحد الشخصين: الميّت وأعلم الأحياء مع مخالفة الشخص الآخر فأنّى للمقلَّد بترجيح رأي الحيّ المفضول بالقياس للميّت على رأي الميّت الأعلم من الحيّ؟! وكيف يصبح ذاك الحيّ قدراً متيقّناً في الحجّية له؟!
هذا، مضافاً إلى أنّ الأمارة الحجّة إنّما تكون حجّيتها ثابتة رغم الشكّ في المعارض بلا حاجة إلى الفحص عن المعارض إذا كان الشكّ في وجود المعارض الحجّة دون ما إذا كان الشكّ في حجّية المعارض الموجود، وفيما نحن فيه لو اختلف الحيّ والميّت في جواز البقاء وعدمه فالشكّ ليس في وجود المعارض الحجّة لفتوى الحيّ، وإنّما الشكّ في حجّية المعارض الموجود، والمعارض للأمارة _ الثابتة الحجّية في نفسها _ تكون حجّيته مشروطة عقلائيّاً بوصوله، ولا تكون مشروطة بوصول نفس تلك الحجّية، فإن أخذ وصول الحكم في موضوع نفسه لو أمكن عقلاً
بإرجاعه إلى أخذ وصول الجعل في موضوع المجعول فهو ليس عرفيّاً بنحو يحمل عليه اللفظ لولا دلالة نصّ خاصّ عليه.
وبعد إبطال هذا المبنى _ أعني مبنى كون رأس الخيط في البقاء أو العدول هو رأي الحيّ _ تصل النوبة إلى إعادة البحث مرّة أُخرى فيما هي النتائج التي ينبغي أن تسجّل في الفروع المختلفة للمسألة؛ لأنّ ما مضى من تسجيل النتائج كان مبنيّاً على المبنى الذي أبطلناه، فالآن نحن بحاجة إلى تسجيل النتائج مرّة أُخرى، فنقول:
الفرع الأوّل: ما لو كان الحيّ مفتياً بحرمة البقاء على تقليد الميّت، وقد قلنا هناك: إنّ النتيجة التي تسجّل في المقام هي حرمة البقاء لا محالة؛ لأنّ رأي الميّت في البقاء لا قيمة له، وإنّما القيمة في هذه المسألة لرأي الحيّ حسب المبنى الذي كان مفروضاً هنا.
أمّا هنا فنقول: لو أفتى الحيّ بحرمة البقاء، فإن وافقه الميّت على ذلك أصبحت المسألة مورد اتّفاق للطرفين اللذين لا يخلوان من الحجّة وبنى العامّي على ذلك. هذا لو لم ندّع الدعوى التي مضى ذكرها في ضمن بعض الفروع على المبنى الأوّل، وهي دعوى القطع بعدم حجّية فتوى الميّت بتحريم البقاء. أمّا لو ادّعيت هذه الدعوى فرأي الميّت بحرمة البقاء يكون ساقطاً، ويكون الأمر في الحجّية دائراً
بين فتوى الحيّ بحرمة البقاء وفتاوى الميّت في الصلاة والصوم وغيرهما من الفروع، فيضطرّ المكلّف أن يأخذ بأحوط الرأيين في كل مسألة من مسائل الفروع.
وإن خالفه الميّت بالإفتاء بالجواز بالمعنى الأخصّ أخذ العامّي بأحوط الرأيين، وهو حرمة البقاء.
وإن خالفه الميّت بالإفتاء بوجوب البقاء اضطرّ العامّي في الاحتياط في المساحة المشمولة للفتويين المتضاربتين بالأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألة مسألة في تلك المساحة، لا في أصل البقاء والعدول؛ إذ لا احتياط بين الإيجاب والتحريم.
الفرع الثاني: ما لو أجاز الحيّ البقاء بقيد غير موجود في فتوى الميّت في البقاء، وقد قلنا هناك: إنّ العامّي يأخذ برأي الحيّ في البقاء في مسائل صلاته وصومه ونحوهما.
أمّا هنا فنقول: لو وافق الميّت الحيّ في فتواه في البقاء عمل العامّي بتلك الفتوى؛ لأنّه اتّفقت عليه الأطراف التي لا تخلو من الحجّة.
ولو اختلفا فإن كان أحد الرأيين أحوط أخذ العامّي به، كما لو كان أحدهما يفتي بالجواز بالمعنى الأخصّ والآخر بالوجوب، فيأخذ العامّي بالوجوب، أو كان الحيّ يفتي بالجواز بالمعنى الأخصّ والميّت
يفتي بالتحريم، فيعدل إلى الحيّ. هذا إن لم ندّع القطع عندئذٍ.
وإن تضادّ الرأيان بالوجوب والتحريم اضطرّ العامّي أن يأخذ في كلّ مسألة مسألة بأحوط الرأيين، إلّا أن يدّعى القطع بعدم حجّية رأي الميّت في التحريم، فيؤخذ بوجوب البقاء.
الفرع الثالث: ما لو أجاز الحيّ في البقاء من دون قيد منتفٍ في فتوى الميّت في البقاء، وقد مضی منّا تقسيم هذا الفرع إلى فروض ثلاثة:
الفرض الأوّل: أن يكون الميّت مجوّزاً أيضاً للبقاء في نفس الدائرة التي جوّز الحيّ، وقد قلنا هناك: إنّه يثبت للعامّي الجواز في تلك الدائرة، وهنا أيضاً نقول بأنّه يثبت له الجواز في تلك الدائرة إلّا أنّنا نضيف هنا: أنّه لو كان أحدهما يفتي بالجواز بالمعنى الأخصّ والآخر بالوجوب التزم العامّي بالوجوب؛ لأنّه أحوط الرأيين.
الفرض الثاني: أن يكون الميّت مجوّزاً في دائرة أوسع من دائرة تجويز الحيّ، وقد قلنا فيما مضى بجواز اتّباع العامّي للتجويز في الدائرة الأوسع، وهنا أيضاً نسجّل نفس النتيجة، ونضيف إلى ذلك أنّه لو كان أحدهما يقول بالجواز بالمعنى الأخصّ والآخر يقول بالوجوب التزم العامّي بالوجوب، لأنّه أحوط الرأيين.
الفرض الثالث: أن يكون الميّت محرَّماً للبقاء في تمام مساحة تجويز الحيّ أو في جزء منها، وهناك قلنا بأنّه لو كان تحريم الميّت للبقاء مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى أصبحت هذه الفتوى حجّة ببركة فتوى الحيّ، وأوجبت حرمة البقاء في موارد وجدان ذاك الشرط، ولو لم يكن مشروطاً بشرط من هذا القبيل فهذه الفتوى لا يمكن أن تكون حجّة، ويجوز البقاء في الدائرة التي جوّزه الحيّ فيها.
وهنا نقول في الشقّ الأوّل _ وهو ما لو كان تحريم الميّت مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى_: إنّه يأخذ المقلَّد بأحوط الرأيين، وهو التحريم لو كان تجويز الحيّ تجويزاً بمعنى الإباحة بالمعنى الأعمّ، أمّا لو كان الحيّ يوجب البقاء والميّت يحرّمه فيضطرّ إلى الأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألة. وفي الشقّ الثاني _ وهو ما لو لم يكن تحريم الميّت مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى _: إنّ فتوى الحيّ بالجواز لا مزاحم له، لا من ناحية فتوى الميّت بالتحريم؛ لأنّه لا يمكن أن يكون حجّة، ولا من ناحية فتاوى الميّت في سائر الفروع؛ لأنّه لا تضادّ بين حجّيتها وحجّية فتوى الحيّ بالجواز. إذاً ففتوى الحيّ بالجواز سارية المفعول.
وفي ختام البحث لا بأس بالتعرّض لفرع وهو: أنّه لو قلّد فقيهاً فمات فقلّد من يجوّز أو يوجب العدول فعدل إليه ثم مات الفقيه الثاني فقلّد فقيهاً ثالثاً يوجب البقاء وبنينا على المبنى المعروف القائل بأنّ مسألة البقاء تؤخذ من الحيّ، فهل الأخذ من الحيّ هنا يعني البقاء على تقليد الثاني أو يعني الرجوع إلى تقليد الأوّل؟ طبعاً لابدّ له في نفس مسألة البقاء على الثاني أو الرجوع إلى الأوّل من تقليد الثالث، ولكن الكلام يقع فيما ينبغي أن يقوله الثالث، هل ينبغي أن يرجعه إلى الأوّل أو ينبغي أن يبقيه على الثاني؟ هذا يختلف باختلاف المباني في البقاء، فمثلاً:
قد يقول قائل: إنّ رجوعه إلى الأوّل يعتبر تقليداً جديداً؛ لأنّ التقليد هو الالتزام، وهذا التزام جديد، وهذا معناه تقليد الميّت ابتداءً وهو لا يجوز، فالنتيجة هي وجوب البقاء على تقليد الثاني.
وقد يقول قائل: إنّ التقليد هو التعلّم، فما كان من المسائل قد تعلّمها من الأوّل ولم ينسها يرجع فيها إلى الأوّل، وبهذا أفتى السيّد الخوئي(رحمه الله) في منهاج الصالحين.
ونحن نقول: يجب تقليد أعلم الثلاثة ولو سمّي تقليداً ابتدائيّاً.
(1) منهاج الصالحین، ج1، ص7، المسألة 16.
مسألة 16: عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل(1) وإن كان مطابقاً للواقع، وأمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلاً حين العمل وحصل منه قصد القربة فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً(2) والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.
(1) يعني البطلان في العبادات على أثر عدم تمشّي قصد القربة، ولكن الواقع أنّ التقصير والالتفات لا يمنعانه عن قصد التقرّب بعنوان الرجاء، وفقدان الجزم أو قصد الوجه لا يبطل العمل، إذاً فلو طابق العمل الواقع كان صحيحاً.
(2) المقياس في الحكم بالصحّة هو مطابقته لفتوى من يقلّده في الوقت الحاضر؛ لأنّ المقصود من الحكم بالصحّة عدم الحاجة إلى الإعادة والقضاء أو عدم إبطال الآثار في الوقت الحاضر، والمقياس في كلّ هذا فقيهه الحاضر دون من كان المفروض أن يكون فقيهه الماضي في وقت العمل.
نعم، لو كان مستنداً بالفعل في وقت العمل إلى رأي الفقيه الماضي لقلنا بالإجزاء بنصّ خاصّ بالتفصيل الماضي، ولكن بما أنّه لم يستند إليه فالنصّ الخاصّ وهو حديث الفزع والاستراحة لم يشمله، كما هو واضح.
مسألة 17: المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطّلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار والحاصل أن يكون أجود استنباطاً والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط(1).
المقصود بالأعلم
(1) المقصود بالأعلم من تكون نكتة الحجّية في فتاواه وهي الخبرويّة أرجح منها في فتاوى غيره، سواء فرض أنّ تعيين الأعلم كان ممّا نستنبطه بوجه من الوجوه من نفس دليل الحجّية أو فرض أنّه ثبت بنصّ خاصّ، وسواء فرض أنّ أصل دليل الحجّية عبارة عن البناء العقلائي على الرجوع إلى أهل الخبرة أو عبارة عن نصّ خاصّ.
فإن كان الدليل على أصل حجّية فتوى الفقيه عبارة عن بناء العقلاء وكان ترجيح الأعلم أيضاً ببناء العقلاء فمن الواضح أنّ الترجيح العقلائي يكون بنفس ترجيح النكتة العقلائية للحجّية وهي الخبرويّة.
وإن كان الدليل على حجّية فتوى الفقيه عبارة عن بناء العقلاء وكان دليل ترجيح رأي الأعلم عبارة عن نصّ خاصّ فمن الواضح أنّ النصّ الخاصّ ينصرف إلى الترجيح برجحان نفس النكتة العقلائية، وإن كان الدليل على حجّية فتوى الفقيه عبارة عن نصّ خاصّ فلا إشكال في أنّ هذا النصّ منصرف إلى نفس النكتة العقلائية للحجّية، فعندئذٍ إن كان ترجيح الأعلم مستقى من بناء عقلائيّ فمن الواضح أنّ البناء يكون على الترجيح بنفس نكتة الحجّية، وإن كان مستقى من نصّ خاصّ فمن الواضح أيضاً انصرافه إلى الترجيح بنفس نكتة الحجّية العقلائية.
وعليه فكلّ ما كان دخيلاً في الخبرويّة يكون رجحانه دخيلاً في الأعلمية، سواء كان ذلك عبارة عن القوّة في فهم الكبريات والقواعد الأُصولية أو الفقهية أو قدرة استحضارها لدى التطبيق أو الإحاطة بالصغريات أو قوّة التطبيق وما إلى ذلك من الأُمور.
أمّا كون المرجع في تعيين الأعلمية هو أهل الخبرة فهذا أيضاً واضح، فإنّ تشخيص ذلك من الأُمور التخصّصية، وليس بيد كلّ أحد، والذي يعتبر متخصّصاً في فهم ذلك يكون الرجوع إليه داخلاً في كبرى الرجوع إلى أهل الخبرة.
مسألة 18: الأحوط عدم تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل(1).
مسألة 19: لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم كما أنّه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم(2).
(1) ليست الأعلمية من شروط التقليد في ذاته، فإنّ مقياس رجوع الشخص في أيّ فنّ من الفنون هو خبرويّة من يرجع إليه، والمفروض بالمفضول أن يكون خبرة وإلّا لما كان رأيه حجّة حتّى مع عدم وجود الأفضل منه، وإنّما شرط الأعلمية نتج من أنّ المفضول إذا تعارض رأيه مع رأي الفاضل سقط رأيه عن الحجّية بالمعارض الأقوى، فلو فقد التعارض وتماثل الرأيان كان كلاهما حجّة لا محالة وجاز للعامّي الاستناد إلى هذا كما جاز له الاستناد إلى ذاك.
(2) مقصوده هو وجوب التقليد في مقابل عمله برأي نفسه، لا في مقابل الاحتياط.
مسألة 20: يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني(1) كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص وكذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة(2)،
(1) وكذلك الاطمئنان الملحق عقلائيّاً بالعلم.
حجّية البيّنة في الموضوعات بما فيها الاجتهاد
(2) وقع الكلام في حجّية شهادة العدلين في الموضوعات _ في غير باب القضاء _ بناءً على عدم حجّية خبر الواحد فيها.
وهناك أُمور يمكن أن يستشهد بها على حجّية شهادة العدلين في الموضوعات:
منها: الإجماع. وقد ناقش السيّد الخوئي(رحمه الله) في الاستدلال به بما تعارف ذكره عادة في مناقشة الإجماعات من أنّه لو ثبت فهو محتمل المدركيّة.
إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) رأى أنّ قوّة الإجماع والوضوح الفقهي وصلت في المقام بلحاظ حساب الاحتمالات إلى حدّ لا مجال للنقاش فيه، فذكر أنّ هذا الإجماع لو فرض استناده إلى رواية مسعدة بن صدقة أوجب بنفسه الوثوق برواية مسعدة بن صدقة، ولو فرض استناده إلى
. التنقيح، ج1، ص208.
روايات القضاء بالبيّنات أوجب بنفسه الوثوق باستظهار القاعدة الكليّة من تلك الروايات وعدم اختصاص حجّية البيّنة بباب القضاء، ولو فرض عدم استناده إلى شيء فهو إجماع تعبّدي كاشف بحساب الاحتمالات عن رأي المعصوم.
ومنها: رواية عبدالله بن سليمان عن أبي عبدالله(علیه السلام) في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» ، بناءً على إلغاء خصوصية المورد بالفهم العرفي خصوصاً بالنظر إلى وجود الجذر العقلائي لحجّية البيّنة. وسند الحديث ما يلي: الكليني(رحمه الله) عن أحمد بن محمد الكوفي عن محمد بن أحمد النهدي عن محمد بن الوليد عن أبان بن عبدالرحمن عن عبدالله بن سليمان عن أبي عبدالله(علیه السلام). وأحمد بن محمد الكوفي الذي يروي عنه الكليني لم نر دليلاً على وثاقته، كما لم نر أيضاً توثيقاً لأبان بن عبدالرحمن. أمّا عبدالله بن سليمان فهو مشترك، وقد يقال بانصرافه إلى الصيرفي؛ لأنّه صاحب كتاب، وبانصراف من روى عنه ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى أيضاً إلى الصيرفي؛ لنفس النكتة، فإن صحّ ذلك ثبتت وثاقته. وعلى أيّ حال فيكفي في سقوط سند
(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص83.
(2) وسائل الشيعة، ج25، ص118، الباب61 من أبواب الأطعمة المباحة، ح2.
الحديث ضعف بعض من في السند.
ومنها: ما ورد في ثبوت الطلاق بالبيّنة من قبيل: ما ورد بسند تام عن أحمد بن محمد بن أبي نصير عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) «في المطلّقة إن قامت البيّنة أنّه طلّقها منذ كذا وكذا وكانت عدّتها قد انقضت فقد بانت، والمتوفّى عنها زوجها تعتدّ حين يبلغها الخبر؛ لأنّها تريد أن تحدّ له».
وروى الكليني(رحمه الله) صدر الحديث إلى قوله: «فقد بانت».
وما ورد بسند تام عن أبي بصير عن أبي عبدالله(علیه السلام) «أنّه سئل عن المطلّقة يطلّقها زوجها فلا تعلم إلّا بعد سنة، فقال: إن جاء شاهدا عدل فلا تعتدّ، وإلّا فلتعتدّ من يوم بلغها».
وما عن الحسن بن زياد أو الحسين بن زياد قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن المطلّقة يطلّقها زوجها ولا تعلم إلّا بعد سنة، والمتوفّى عنها زوجها ولا تعلم بموته إلّا بعد سنة، قال: إن جاء شاهدان عدلان
(1) المصدر السابق، ج22، ص232، الباب28 من أبواب العدد، ح14.
(2) الکافي، ج6، ص111، باب أن المطلقة وهو غائب عنها تعتد من يوم طلقت، من کتاب الطلاق، ح6.
(3) وسائل الشيعة، ج22، ص228، الباب27 من أبواب العدد، ح3.
فلا تعتدّان، وإلّا تعتدّان» . ولم تثبت وثاقة الراوي المباشر، وما فيه من كون عدّة الوفاة من يوم الوفاة لا من يوم شهادة البيّنة خلاف مذهب الشيعة.
ومثل هذا الحديث في المضمون ما ورد بسند تام عن الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: «قلت له: امرأة بلغها نعي زوجها بعد سنة أو نحو ذلك، قال: فقال: إن كانت حبلى فأجلها أن تضع حملها، وإن كانت ليست بحبلى فقد مضت عدّتها إذا قامت لها البيّنة أنّه مات في يوم كذا وكذا، وإن لم يكن لها بيّنة فلتعتدّ من يوم سمعت».
وما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر بسند تام عن الرضا(علیه السلام) قال: «سأله صفوان وأنا حاضر عن رجل طلّق امرأته وهو غائب فمضت أشهر، فقال: إذا قامت البيّنة أنّه طلّقها منذ كذا وكذا أو كانت عدّتها قد انقضت فقد حلّت للأزواج. قال: فالمتوفّى عنها زوجها؟ فقال: هذه ليست مثل تلك، هذه تعتدّ من يوم يبلغها الخبر؛ لأنّ عليها أن تحدّ».
(1) وسائل الشيعة، ج22، ص231، الباب28 من أبواب العدد، ح9.
(2) المصدر السابق، ص231، ح10.
(3) المصدر السابق، ص227، الباب26 من أبواب العدد، ح7.
والاستدلال بهذه الروايات أيضاً يكون بعد إلغاء خصوصيّة المورد عرفاً ولو بمعونة وجود جذر عقلائي لحجّية البيّنة.
ومنها: روايات ثبوت الهلال بشهادة عدلين بعد فرض إسقاط خصوصية المورد عرفاً أيضاً.
ومنها: خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة».
وسند الحديث ضعيف بمسعدة بن صدقة الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في كامل الزيارات، ونحن لا نقبل بهذا الدليل.
وأمّا من حيث الدلالة فهنا يكون إلغاء خصوصيّة المورد عرفاً أوضح من الروايات السابقة، وذلك بنكتة تعدّد المورد.
(1) توجد جملة منها في وسائل الشيعة، ج10، ص286، الباب11 من أبواب أحكام شهر رمضان.
(2) وسائل الشيعة، ج17، ص89، الباب4 من أبواب ما يكتسب به، ح4.
وقد حاول السيّد الخوئي(رحمه الله) جعل هذا الحديث عامّاً في ذاته وبلا حاجة إلى التعدّي العرفي من المورد؛ وذلك بالتمسّك بقوله: «والأشياء كلّها على هذا» حيث وردت في هذا النصّ أداة العموم، وهي كلمة الأشياء التي هي جمع محلّى باللام (الأصحّ التعبير في الجمع المحلّى باللام بالإطلاق لا بالعموم)، لا سيّما مع التأكيد بكلمة كلّها.
وأورد عليه أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) باحتمال اختصاص الخبر بحجّية البيّنة في مقابل الحلّ المشار إليه بكلمة «هذا».
وعلى أيّة حال فللسيّد الخوئي(رحمه الله) في كتاب الطهارة وفي كتاب الاجتهاد والتقليد مناقشة دلاليّة في الاستدلال بهذا الحديث في مقابل من يجعله دليلاً على ضرورة تحصيل شهادة عدلين وعدم كفاية خبر الواحد، وهي أنّه لا وجه لحمل كلمة البيّنة على المصطلح المتشرّعي المتأخّر وهو خبر عدلين، بل هي محمولة على معناها اللغوي، وهو مطلق ما يبيّن، فلعلّ خبر الواحد أيضاً حجّة وبيّنة.
(1) راجع التنقيح، ج1، ص209.
(2) راجع بحوث في شرح العروة الوثقی، ج2، ص82.
(3) راجع التنقيح، ج3، ص168، وج1، ص211.
إلّا أنّه(رحمه الله) جعل ذلك أيضاً في بحث الاجتهاد والتقليد إشكالاً على أصل الاستدلال بهذا الحديث على حجّية خبر العدلين، فذكر: أنّ دلالة الحديث على حجّية خبر العدلين غير تامّة؛ لأنّ «البيّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعية أو متشرّعية، وإنّما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي، وهو ما به البيان والظهور، ومعه لا يمكن أن يستدلّ بهذا الحديث على حجّية البيّنة المصطلح عليها.
أقول: بالإمكان التفكيك بين المقامين بأن يقبل الإشكال في دلالة الحديث على عدم حجّية خبر الواحد؛ وذلك لأنّه بعد أن حملت البيّنة على معناها اللغوي فمن المحتمل كون خبر الواحد بيّنة، وأن لا تختصّ البيّنة بخبر العدلين. ولا يقبل الإشكال على دلالة الحديث على حجّية خبر العدلين؛ وذلك لأنّ البيّنة بعد أن كان قوله: «حتّى يستبين لك غير ذلك» قرينة على أنّه ليس المقصود بها العلم وإلّا لدخل في الاستبانة، فيكون خبر العدلين هو المتيقّن منها؛ لأنّه بعد إرادة الحجّة التعبّدية منها إمّا أن تحمل على خبر الواحد فتثبت حجّية خبر العدلين بالأولوية القطعية، أو تحمل على حجّية خبر العدلين؛ إذ لا يحتمل كون المقصود مثلاً خبر أربعة عدول الثابت في بعض موارد خاصّة، ولا التواتر
(1) راجع التنقيح، ج1، ص210.