وكان لمرارة هذا الانحراف ولصدمة هذا الانحراف آثارُها وفجائعُها ومضاعفاتُها التي كان من الممكن أن تمتدَّ فتقضي على الإسلام ومصادره، وعلى الاُمّة الإسلاميّة، فتصبح قصّةً في التاريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ.
الأئمّة في هذه المرحلة الاُولى ـ مرحلة مجابهة هذا الانحراف ـ عاشوا صدمة الانحراف، وقاموا (عليهم السلام) بالتحصينات اللازمة ـ بقدر الإمكان طبعاً، لا بالقدر الذي لم يكن داخلاً في الإمكان ـ لكلّ العناصر الأساسيّة للرسالة ضدّ صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الإسلاميّة، وحافظوا على التصوّرات الإسلاميّة، وحافظوا على الاُمّة الإسلاميّة نفسها.
هذه هي المرحلة الاُولى، وهي تبدأ بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وتستمرّ إلى الإمام الرابع من قادة أهل البيت، وهو الإمام زين العابدين (عليه السلام).
المرحلة الثانية: مرحلة بناء الكتلة الصالحة:
ثمّ تبدأ المرحلة الثانية. والإمام الباقر (عليه السلام) يشكّل شبه البداية لها. وإنّما نقول: شبه البداية؛ لأنّ تطوّر هذا العمل ليس حدّيّاً، بحيث يمكن أن نقف على لحظة فنقول: هذه اللحظة هي نهاية مرحلة وبداية مرحلة، وإنّما هذا التطوّر يتّفق مع طبيعة الأحداث المتطوّرة في خطّ تاريخ الإسلام.
والمرحلة الثانية التي شرع فيها قادة أهل البيت (عليهم السلام) ـ بعد أن وضعوا
التصميمات اللازمة، وفرغوا من الضمانات الأساسيّة ضدّ صدمة الانحراف ـ هي مرحلة بناء الكتلة، بناء الجماعة المؤمنة بزعامة أهل البيت (عليهم السلام)، المنضوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد للمفهوم الإسلامي المتبنّى من قبل أهل البيت (عليهم السلام).
منذ زمان عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وعلى زمان الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) كان هذا العمل يبلغ القمّة.
وليس معنى هذا أنّ العمل الأوّل ـ الذي كان هو الخصّيصة الرئيسيّة للمرحلة الاُولى ـ قد انقطع، وإنّما معنى هذا أنّ العمل الأوّل ـ الذي كان هو الخصّيصة الرئيسة للمرحلة الاُولى ـ استمرّ، ولكن حيث إنّ صدمة الانحراف كان قد أمكن تقليل خطرها خلال ما قام به اُولئك الأئمّة الأربعة العظام من جهود وتضحيات في سبيل حفظ الإسلام؛ ولهذا تحتّم أن يواجه قادة أهل البيت (عليهم السلام) المهمّة الجديدة، مهمّة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الاُمّة التي حصّنت بالحدّ الأدنى من التحصين، لابدّ من أن يُنتخَبَ مجموعةٌ من هذه الاُمّة، فيحصَّنون بأعلى درجة ممكنة من التحصين، ويوعَّون بأعلى درجة ممكنة من التوعية؛ حتّى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والحامي للمجموع الإسلامي الذي حُصِّن بالحدّ الأدنى من التحصين.
هذا العمل مارسه الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) على مستوى القمّة، وهذه المرحلة استمرّت إلى زمان الإمام الكاظم (عليه السلام).
المرحلة الثالثة: مرحلة التوسّع والإعداد لتسلّم الحكم:
في زمان الإمام الكاظم (عليه السلام) بدأت المرحلة الثالثة. والمرحلة الثالثة هنا لا يحدّدها بشكل بارز النشاطُ الإيجابيُّ من قِبَل الأئمّة أنفسهم، بل يحدّدها ـ بشكل بارز ـ موقفُ الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية ـ التي وُضِعَت بذرتُها في ظلّ المرحلة الاُولى، ونشأت ونمت في ظلّ المرحلة الثانية ـ غزت العالم الإسلامي، وبلغت إلى درجة من الاتّساع والنموّ والنفوذ الفكري بحيث إنّها أخذت تشكّل خطراً حقيقيّاً على الزعامات المنحرفة التي كانت تحكم المجتمع الإسلامي وقتئذ.
وبدا للخلفاء يومئذ أنّ قيادة أهل البيت (عليهم السلام) أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم، والعود بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي؛ ولهذا اختلفت بشكل رئيسيٍّ ردودُ الفعل للخلفاء تجاه الأئمّة من أيّام الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) (1).
(1) وفي ما يلي نختصر البحث بذكر أهمّ ما بيّنه الإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره) بشأن ثورة الإمام الحسين ودوره في تحصين الرسالة الإسلاميّة ـ مع شيء من التصرّف ـ كما بيّنّا ذلك في المقدّمة، وللوقوف على كامل أبحاث السيّد الشهيد في أدوار الأئمّة (عليهم السلام) يراجع كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة. (مكتب سماحة السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه).
2النهضة الحسينيّة
موقف الإمام الحسين (عليه السلام)
من طمس معالم النظريّة الإسلاميّة
وتمييع الاُمّة
° خطّة معاوية لتثبيت حكمه.
° موقف الإمام الحسين (عليه السلام) تجاه تآمر معاوية.
° سياسة الإمام الحسين (عليه السلام) في هزّ ضمير الاُمّة.
إنّ(1) الهدنة المعلَنة بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية بن أبي سفيان كانت نتيجة عجز كامل من قيادة خطّ الإمام علي (عليه السلام) عن مواصلة تجربتها واُطروحتها(2) نتيجةً لأسباب متعدّدة: لتفاقم وتضاعف الشكّ ـ الشكّ الذاتي ـ لدى الاُمّة الإسلاميّة والقواعد الشعبيّة التيكانت تعتمد عليها تجربة الإمام علي، هذه القواعد تضاعف باستمرار ـ وفق ظروف خاصّة ـ شكُّها في هذه القيادة، حتّى أصبحت هذه القيادة غير قديرة على مواصلة خطّ جهادها قبل أن تكشف أعداءها.
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة السادسة عشرة: 446 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
(2) تجد الشرح التفصيلي لذلك في المصدر السابق، المحاضرة الرابعة عشرة: 381، والمحاضرة الخامسة عشرة: 407.
ولهذا كان من المحتوم أن يتوقّف العمل السياسي والعسكري الواضح الصريح مدّةً من الزمن؛ لكي تسترجع قيادة الإمام علي (عليه السلام) ثقة الجماهير بها، وإيمانها، واعتقادها بأنّ هذه القيادة لا تدافع عن مكاسب شخصيّة وعن مصالح قَبَليّة، وإنّما تدافع عن اُطروحة الله في الأرض، تدافع عن رسالة السماء، كان لابدّ أن تعيَ الجماهير هذا، الجماهير التي لم تكن تعي إلّا على مستوى الحسّ لابدّ أن تعيش على مستوى الحسّ الاُطروحة المقابلة.
وهكذا كان، وخلال المدّة التي حكم فيها معاوية بن أبي سفيان تكشّف فيها اُطروحة معاوية، أو اُطروحة هذه الجاهليّة التي تزعّمها معاوية بن أبي سفيان، حتّى أنّه في يوم مات فيه معاوية بن أبي سفيان، حينما صعد الضحّاك على المنبر لينعى للمسلمين خليفتهم وكان يزيد مسافراً، أو حينما صعد يزيد نفسه على المنبر يعلن نبأ وفاة أبيه، لم يستطع ـ لا الضحّاك، ولا يزيد نفسه ـ أن يمدح معاوية بكلمة واحدة، قال: «إنّ معاوية مات، ذهب هو وعمله».
معاوية بن أبي سفيان فَقَد كلّ رصيده الروحي، وكلّ المبرّرات الاصطناعيّة التي كان يحاول تزريقها في نفوس المسلمين، حتّى إنّ وليّ عهده لم يستطع أن يترحّم عليه أو أن يشايع عهده بكلمةِ ثناء واحدة.
خطّة معاوية لتثبيت حكمه(1)
حينما سيطر معاوية بن أبي سفيان على العالم الإسلامي نتيجةً للهدنة مع الإمام الحسن (عليه السلام) (2)، بدأ يعمل من أجل تثبيت اُطروحته وخطّه وقيادته، إذ قام بعملين:
أ ـ بعمل على مستوى النظريّة لطمس معالم النظريّة الإسلاميّة الحقيقيّة.
ب ـ بعمل آخر على مستوى الاُمّة لتمييعها وجعلها تتعوّد على التنازل عن وجودها وكرامتها وإرادتها في مقابل الحاكم.
أ ـ عمل معاوية على طمس النظريّة الإسلاميّة الحقيقيّة:
أمّا العمل على المستوى الأوّل والقضاء على النظريّة الإسلاميّة الحقّة التي كان يمثّلها جناح الإمام علي (عليه السلام)، والقواعد الواعية من
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة السادسة عشرة: 447 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) .
(2) راجع: المصدر السابق، المحاضرتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة: 381، 407.
أبنائه النَسَبيّين أو الروحيّين في الاُمّة الإسلاميّة فكان من خلال الطرق الآتية:
1 ـ كان يحاول أن يقضي على هذه النظريّة عن طريق شراء الأكاذيب من الأشخاص الذين كانوا على استعداد للكذب في الحديث على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقد وضع كلّ وسائل الإغراء والترغيب في سبيل أن يتبارى الكَذَبة في النقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في تبريكات رسول الله للوضع المنحرف.
2 ـ ومن ناحية اُخرى قام بممارسة ضغط على الآخرين ليسكتوا عن المفاهيم والأفكار التي هي تعابير عن شعار هذه النظريّة في الحكم، وعن اُسلوبها في القيادة.
فقد بعث معاوية بن أبي سفيان إلى ولاته وحكّامه في مختلف أقطار العالم الإسلامي أنّه: برئت الذمّة ممّن يتكلّم بشيء عن خطّ الإمام علي (عليه السلام) (1).
(1) «نادى منادي معاوية: أن برئت الذمّة ممّن روى حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته». أخبار الدولة العبّاسيّة: 47 بحسب طبعة دار الطليعة ببيروت، وانظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 11:44.
كلّ هذا كان يحاول فيه أن يطمس النظريّة ذاتها، لا أن يكون حاكماً فقط، بل أن يستلَّ من الاُمّة الإسلاميّة آخر أمل في أن ترتبط باُطروحة صحيحة عن الإسلام، في أن يجعلها تعيش الإسلام في هذا الثوب والبرقع الذي برقع به معاوية جاهليّته ورواسبه الجاهليّة.
هذا على مستوى النظريّة.
ب ـ عمل معاوية على تمييع الاُمّة الإسلاميّة:
وأمّا على مستوى الاُمّة فقد مارس معاوية ألواناً كثيرةً من الإذلال للاُمّة، وتمييع شخصيّتها، وإشاعة الضغائن والأحقاد القوميّة والإقليميّة والقَبَليّة في داخل العالم الإسلامي، فأشغلهذه الاُمّة.
هذه الاُمّة القائدة الرائدة التي من المفروض أن تحمل هموم البشريّة على وجه الأرض، قد أشغلها بأرخص الهموم وأتفه الهموم، وبأضيق النزاعات والخلافات في ما بينها؛ لكي يواصل حكمه، ولكي يعيش على النحو الذي يحلو له.
وإذا بابن الاُمّة الإسلاميّة الذي كان يزحف إلى طاغوت ككسرى ليقول له: «نحن لم نأتِ إليك طمعاً في غنمك ولا في دراهمك ولا
دنانيرك، وإنّما جئنا لأنّ مظلوماً في بلادك نريد أن نخلّصه من الظالم، ولأنّ انحرافاً في بلادك نريد أن نعيده إلى طبيعة التوحيد»(1)، ابن الاُمّة الإسلاميّة الذي كان يعيش هموم المظلوم في أقصى بلد لم يعرفه ولم يره بعينيه، هذا ينقلب بين عشيّة وضحاها ـ بفعل هذه المؤامرة ـ إلى شخص لا تهمّه إلّا الدراهم التي يقبضها في نهاية الشهر أو في السنة ثلاث مرّات.
تحوّل رؤساء العشائر في الكوفة ذاتها إلى عيون ورقباء على خطّ الإمام علي (عليه السلام)، كانوا يشون بشبابهم وبأولادهم الذين ينفتحون على خطّ الإمام علي (عليه السلام)، فيقادون قسراً إلى القتل أو إلى السجن.
(1) كلامه (قدس سره) ناظرٌ إلى ما ذكره في المحاضرة الخامسة تحت عنوان: الاُمّة الإسلاميّة حملت طاقةً حراريّةً لا وعياً مستنيراً، الشاهد الثالث حول عبادة بن صامت، راجع لذلك: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 163 وانظر: تعليق لجنة التحقيق هناك.
موقف الإمام الحسين(عليه السلام) تجاه تآمر معاوية
هذه هي مؤامرة معاوية بن أبي سفيان على مستوى النظريّة وعلى مستوى الاُمّة، وكان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يتّخذ موقفاً تجاه كلٍّ من هاتين المؤامرتين:
أ ـ الإمام الحسين(عليه السلام) على مستوى النظريّة:
أمّا الموقف الذي اتّخذه تجاه المؤامرة على النظريّة، فقد جمع الإمام الحسين (عليه السلام) ـ في أحرج اللحظات وأشدّ الظروف ـ الصحابةَ من المهاجرين والأنصار ـ من تبقّى من المهاجرين والأنصار ـ في سنة من سنين الحجّ في موقف عرفات، في ذلك الموقف الذي يتورّع فيه أيّ إنسان مسلم اعتياديٍّ عن أن يكذب على الله أو على رسوله، أو أن لا يؤدّي الأمانة كما هي.
جَمَع البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم من حملة تراث محمّد (صلى الله عليه وآله) ووقف فيهم خطيباً، وقال ما مضمونه: إنّ تراث النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنّ مفهوم الإمام علي (عليه السلام) يعيش الآن في خطر، وعليكم أن تنقذوا هذا التراث وهذا المفهوم من الخطر، وإنقاذ ذلك بأن
تشهدوا بكلّ ما سمعتم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الخطّ، ولو تحمّلتم فيهذا السبيل كلّ ما تحمّلتم من وسائل الإخافة والتهديد والحرمان من قبل طاغوت هذا الزمان(1).
هؤلاء البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار الذين استجابوا لدعوة الإمام الحسين (عليه السلام) هزّهم الإمام الحسين، وهزّتهم هذه المظلوميّة التي يعيشها خطّ الإمام الحسين (عليه السلام)، وهزّهم موقفُ عرفات ويومُ عرفة، الزمانُ والمكانُ والشخصُ، فتبارى هؤلاء، انطلقت ألسنتهم في يوم الحجيج مع المسلمين، فكان يقف الواحد منهم تلو الآخر وينقل ما كان يستذكره وقتئذ من أحاديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وكان كلّ حديث من هذه الأحاديث، كانت قيمته الواقعيّة النفسيّة وقيمته الموضوعيّة أكبر بكثير من مئات من الروايات التي تنقل في الحالة الاعتياديّة؛ لأنّ هذا حديث يتحدّث به إنسان وأمامه جبروت معاوية وسيف معاوية وظلم معاوية بن أبي سفيان.
بهذا استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) أن يثبّت معالم النظريّة، وأن يرسّخ في أذهان الاُمّة الإسلاميّة أنّه لا يزال هناك بقيّة من حملة
(1) راجع: كتاب سليم بن قيس: 788 ـ 789 بحسب طبعة منشورات دار الهادي بقم، والاحتجاج 2:296 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
تراث محمّد (صلى الله عليه وآله) يعبّرون عن الخطّ الصالح، ويتحدّون بذلك سيفالحاكم وجبروت هذا الحاكم.
هذا على مستوى النظريّة.
ب ـ موقف الإمام الحسين(عليه السلام) على مستوى الاُمّة:
وأمّا على مستوى الاُمّة، فهذه الاُمّة التي شفيت من مرضها الأوّل الذي عاصره الإمام الحسن (عليه السلام) أو بدأت تشفى، مُنيت بمرض آخر، مرض الشكّ شفيت منه أو كادت أن تشفى منه، تكشّفت لهذه الاُمّة اُطروحة معاوية، واستطاع الإمام الحسن (عليه السلام) باعتزاله المعترك السياسي مؤقّتاً أن يعطيها فرصةً لتجد باُمّ عينها أبعاد المؤامرة وحدودها، وواقع معاوية وما يمثّله معاوية من أفكار ومفاهيم. استطاعت أن تعرف ذلك، فأصبحت الاُمّة الإسلاميّة تلعن معاوية، وأصبحت تعيش عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) كمثل أعلى، كأمل، كحلم، كرجل قد مرّ في تاريخها ثمّ وقعت بعده في أشدّ المصائب والنكبات والويلات، أصبحت تعيش هذه الأزمة تجاه واقعها، وهذه العاطفة تجاه ماضيها.
هذا شفيت منه، ولم يبق هناك إلّا الغبي من يفكّر في أنّ عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) كان يعمل لنفسه، كان يعمل لزعامته، كان يعمل لقبيلته، فأصبح واضحاً أنّ معركة عليٍّ مع معاوية كانت معركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الجاهليّة التي اضطرّت أن تلبس الإسلام ثوباً لها لكي تبرز من جديد على المعترك، على الصعيد السياسي والعسكري، هذا أصبح واضحاً بالتدريج.
إلّا أنّ الاُمّة منيت ـ نتيجةً لمؤامرة معاوية بن أبي سفيان، منيت بعد أن نجحت هذه المؤامرة، وبعد أن تنازلت الاُمّة عبر هذه المؤامرة عن وجودها وعن شخصيّتها، مُنيت ـ بمرض آخر أدهى وأمرّ. وهذا المرض الذي هو أدهى وأمرّ هو أنّها فقدت إرادتها، وفقدت بذلك أن تقول كلمتها، أصبحت تدرك لكنّها لا تستطيع أن تتحرّر، أصبحت تتألّم لكنّها لا تستطيع أن تنبثق؛ لأنّ هذه الاُمّة رخص عندها كلّ شيء إلّا حياتها المحدودة، إلّا هذه الأنفاس التي تعلو وتهبط في ذلٍّ وفي عبوديّة وفي حرمان، غاية همِّ أيِّ إنسان من هؤلاء أن يحافظ على هذه الأنفاس لكي يصل إلى نهاية الشهر ثمّ يقبض عطاءه عن يد وهو صاغر من عامل من عمّال بني اُميّة.
ماتت الهِمَّة، وماتت الإرادة، وماتت تلك الاُمّة الشامخة التي أعدّها الله لكي تمثّل خلافة الله في الأرض.
وهكذا قرّر الإمام الحسين أن يخرج لمواجهة هذه المؤامرة على شخصيّة الاُمّة، ولم يكن يحاول بذلك أن يقضي على السلطان السياسي لبني اُميّة؛ فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يحتمل أن يوفّق للقضاء على السلطان السياسي لبني اُميّة ـ على ما يبدو من الروايات ـ لمجرّد احتمال بدا لا أكثر، وإلّا كانت الأخبار العامّة توضح له بأنّه سوف يقتل، والظروف الموضوعيّة كانت كلّها توضح له أنّه سوف يقتل. وكيف يمكنه أن يتغلّب على السلطان السياسي لبني اُميّة وهو يعيش في اُمّة ميْتة؟!
سياسة الإمام الحسين(عليه السلام) في هزّ ضمير الاُمّة
1 ـ حتميّة القتل:
وقد حاول الإمام الحسين (عليه السلام) واستطاع أن يُشعر الاُمّة باستمرار أنّه يتحرّك وهو يعلم أنّه مقتول، يتحرّك وهو يعلم أنّه يستشهد: في المدينة قال للمحتجّين عليه بأنّه سوف يقتل(1). في مكّة وقف خطيباً يودّع بيت الله الحرام وقال بأنّه سوف يقتل(2)؛ لكي يجعل الاُمّة تعيش هذه الاُسطورة، اُسطورة أنّ شخصاً يتقدّم نحو الموت وهو ثابت الجأش، قويُّ القلب، واضح اليقين في أنّ هذا الطريق يريده الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
إذاً، فالموت ليس خطراً إذا كان هذا الموت هو طريق إنقاذ المسلمين، هو طريق تخليص الاُمّة من مؤامرة الجبابرة والطواغيت.
(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 64 ـ 65 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
(2) «خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي...». المصدر السابق: 60.
كان يُشيع في نفوس المسلمين أنّ الموت شيءٌ هيّنٌ في سبيل هذه الأهداف الكبيرة.. نعم، أنا سوف أموت.. نعم، أنا سوف اُقتل على أيّ حال، سوف اُقتل لأنّ هذا طريق واجب، لابدّ لي أن أسلك هذا الطريق لكي أستطيع بذلك أن اُؤدّي الأمانة. هذا من ناحية.
2 ـ عدم الظهور بمظهر من لا يملك تبريراً لحركته:
ومن ناحية أحكم كلَّ ظروف حركته بشكل لا يبعث في ذهن هذه الاُمّة المسلمة المائعة أيَّ نقد في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استعجل الظروف، أو أنّه استبق أوانه وتحرّك بحركة ابتدائيّة بدون مبرّر، حشد كلّ المبرّرات المنطقيّة والمعقولة لحركته، لم يكن هناك إنسان يمكنه أن يقول: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف.
كيف يقال: إنّه استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف وقد بقي في مكّة طويلاً والكتب تأتي ولا يجيب عليها، إلى أن اجتمعت عنده آلاف من الكتب(1)؟!
وبعد هذا أيضاً لا يجيب جواباً قاطعاً؛ يبعث ابن عمّه مسلم بن
(1) المصدر السابق: 35.
عقيل، لا يوصيه بقتال ولا بحرب، وإنّما يوصيه أن يذهب إلى الكوفة ليرى أنّ أهل الكوفة هل هم مزمعون حقيقةً على أن يبايعوا خطَّ الإمام علي (عليه السلام)، وعلى أن يضحّوا في سبيل خطّ الإمام (عليه السلام) ؟
يذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة، يبقى الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة حتّى يبعث إليه مسلمُ بنُ عقيل مؤكِّداً أنّ جميع أهل الكوفة وشيوخ أهل الكوفة قد اتّفقوا على زعامتك وإمامتك وقيادتك، وهم لك منتظرون(1).
كلّ هذه الظروف هيّأها الإمام الحسين (عليه السلام) ـ أو صبر حتّى تتهيّأ ـ لكي لا يبقى هناك نقدٌ لمنتقد، لكي لا يقول شخصٌ يريد أن يخلق المبرّرات بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استعجل. الحسين لم يستعجل.
3 ـ حشد المثيرات العاطفيّة:
من ناحية ثالثة: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حشد كلّ الظروف العاطفيّة في حركته أيضاً كي يستعين بهذه الظروف العاطفيّة في سبيل أن يهزّ ضمير الاُمّة.
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:395 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
أ ـ لعلّ ذاك الشخص لم يفهم حينما قال له الإمام الحسين: «إنّي أعلم أنّي سوف اُقتل»، قال له: «يا سيّدي ما بال النسوة؟ فلماذا تأخذ معك حريم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟»، قال: «لأنّ الله أراد أن يراهنّ سبايا».
ولم تكن هذه الإرادة إرادةً تكوينيّة، وإنّما كانت إرادة تشريعيّة، يعني: أراد أن يصحب معه النسوة من حريم النبي (صلى الله عليه وآله) حتّى يشارِكْنَ في المحنة، ويشارِكْنَ في اعتداء طواغيت بني اُميّة؛ لكي يكون هذا عاملاً مساعداً في هزّ ضمير الاُمّة.
هذه الظروف العاطفيّة أيضاً حشدها باستمرار، وكان يحاول باستمرار أن يستثير كلَّ من يجده، حتّى عبدالله بن عمر، حتّى أعداءه وخصومه.
قال: «يا عبدالله بن عمر! لا تترك نصرتي»(1)؛ يعني: ليست نصرتي بأن تقبِّلني(2) وأن تكرّمني، وإنّما نصرتي بأن تمشي في خطّي،
(1) قال (عليه السلام): «اتّق الله أبا عبد الرحمن، ولا تَدَعَنَّ نصرتي». الفتوح 5:25 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(2) «فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبدالله! اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبّله منك، فكشف الحسين (عليه السلام) عن سرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى». الأمالي (الصدوق): 153 بحسب الطبعة الرابعة لمنشورات المكتبة الإسلاميّة.
بأن تبذل دمك في الخطّ الذي أبذل فيه دمي. أمّا التقبيل، أمّا هذا النوع من التكريم الرخيص، هذا ليس له قيمة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله).
كان يحاول أن يهزّ ضمير الاُمّة، يهزّ ضمير كلِّ فرد من أفراد الاُمّة، لكنّ الاُمّة كانت في سبات، هذه الاُمّة التي ماتت إرادتها.
ب ـ عبيدالله بن الحرّ الجعفي الذي وصل إلى منزل من المنازل، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) في ذلك المنزل، واطّلع الإمام الحسين على أنّ عبيدالله بن الحرّ الجعفي وصل إلى ذلك المنزل، وعبيدالله بن الحرّ الجعفي له سوء سابقة في تاريخ جهاد الإمام علي (عليه السلام) (1)، لكنّ الإمام الحسين حاول أن يهزّ ضميره، بعث إليه برسول يطلب منه النصرة(2).
ذهب رسول الإمام الحسين إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي قال له: «جئتك بالكرامة، جئتك بكرامة لا يوجد فوقها كرامة؛ بأن تُستشهد بين يدي ابن رسول الله.. إنّ الحسين يدعوك لنصرته والاستشهاد بين يديه»، فظهر الغضب في وجه عبيدالله بن الحرّ الجعفي والضيق وقال:
(1) «لمّا قُتل عثمان وكان من أمر الجمل ما كان، خرج عبيدالله بن الحرّ إلى معاوية بالشام فالتجأ إليه، ولم يشاهد حرب الجمل». الفتوح 6:269 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(2) هو الحجّاج بن مسروق الجعفي.
«إنّي خرجت من الكوفة خوفاً من أن يأتي الحسين، وأن تقوم المعركة ويتأزّم حينئذ موقفي.. خرجت فراراً من أن أعيش هذه اللحظة التي جعلتَني أعيشها الآن»، ثمّ اعتذر من الاستجابة للإمام الحسين (عليه السلام).
الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكتفِ بهذا، قام بنفسه وجاء إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي يستصرخه، يطلب منه، يحاول أن ينفذ إلى أعماقه، أن يحرّك ضميره ووجدانه، أن ينبّهه إلى الأخطار التي تكتنف الرسالة والإسلام.
يقول الناقل: «ما رقّ قلبي كما رقّ يومئذ والحسين (عليه السلام) حوله الصبية من أطفاله يطوفون به، ويمشي إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي يستصرخه ويناديه، فيعتذر عبيدالله بن الحرّ، يقول له: هذه فرسي خذها بدلاً عنّي»(1).
يقول (عليه السلام): «إنّي لست بحاجة إلى فرسك، إن كنت قد بخلت بدمك
(1) «دخل عليَّ الحسين (رضي الله عنه) ولحيته كأنّها جناحُ غراب، وما رأيت أحداً قطُّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين، ولا رققت على أحد قطُّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله»، والناقل هو عبيدالله بن الحرّ نفسه؛ حيث قصّ قصّته مع الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد بن مرّة، فراجع: خزانة الأدب 2:139 بحسب الطبعة الاُولى لدار الكتب العلميّة ببيروت.
على الإسلام وعليَّ فلا حاجة في فرسك، لكن عندي وصيّة»، قال: «وما الوصيّة؟» قال: «إن قدرت على أن لا تسمَعَ واعيتنا فافعل؛ لأنّه ما سمع واعيتنا شخصٌ ثمّ لم ينصرنا إلّا أكبّه الله على وجهه يوم القيامة في جهنّم»(1).
وهذه الواعية ـ واعية الإمام الحسين ـ واعية الإسلام؛ لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد في سبيل الإسلام، ولم يكن يعيش تلك اللحظة إلّا للإسلام؛ فواعية الإمام الحسين (عليه السلام) هي واعية الإسلام، والأخطار التي كان من أجلها يضحّي الإمام الحسين وقتئذ هي الأخطار التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة عبر كلّ هذه القرون إلى يومنا هذا.
قتل الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهد في سبيل الحيلولة دون الأخطار التي عاشها المسلمون ويعيشونها إلى يومنا هذا.
امتداد واعية الحسين(عليه السلام) على مرّ العصور:
إنّ واعية الحسين (عليه السلام) لم تنقطع يوم عاشوراء.. إنّ واعية الحسين
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:407 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والفتوح 5:73 ـ 74 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
حيث إنّها واعية رساليّة وليست واعيةَ شيخِ عشيرة أو قبيلة، فواعية الرسالة لا تنقطع مادامت الأخطار تكتنف هذه الرسالة، وقد قال هذا الإمام الشهيد الصادق: إنّه «ما سمع واعيتَنا شخصٌ ولم ينصرنا إلّا أكبّه الله على وجهه يوم القيامة»(1).
نحن يجب علينا أن نعرف أنّ هذه الواعية نواجهها اليوم كما واجهها عبيدالله بن الحرّ الجعفي. إن لم نواجهها من فم الحسين (عليه السلام) فنواجهها من دم الحسين، ومن تاريخ الحسين، ومن بطولة الحسين يوم عاشوراء ومواقفه المتعدّدة، نواجه هذه الواعية من كلّ الأخطار التي تكتنف الرسالة، وتكتنف الإسلام، وتكتنف الاُمّة الإسلاميّة من كلّ صوب وحدب.
كلّ هذا الضياع في القيم والأخلاق، في المبادئ والمثل، كلّ هذا التميّع، كلّ هذا هو واعية الإسلام.
نحن نواجه هذه الواعية في كلّ مكان، في كلّ زمان، من كلّ صوب وحدب.
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما ثار وحينما بدأ يبذل دمه في سبيل
(1) «فوالله! لا يسمع واعيتنا أحدٌ ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك». الفتوح 5:74 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
الإسلام كان يواجه بداية خطٍّ من الانحراف، هذا الخطّ نحن الآن نعيش قمّته، نعيش أزمته، نعيش كلّ تصوّراته، كلّ أبعاده. إذاً، فواعية الإسلام اليوم أوسع وأكبر.
ونحن، وأيّ فرد من المسلمين، لا يزال اليوم مدعوّاً ـ كما كان عبيدالله بن الحرّ الجعفي مدعوّاً ـ أن يغضّ النظر عن مصالحه، عن وجوده، عن كيانه، عن شهواته، عن رغباته الشخصيّة؛ في سبيل أن يساهم في إنقاذ الإسلام، في إنقاذ المسلمين، في إعادة الإسلام إلى الحياة، في رفع هذا الوهن عن وجوه المسلمين، وعن كرامات المسلمين.
إنّ كلّ مسلم قادرٌ على أن يساهم في هذه العمليّة بقليل أو كثير، في حدود إمكانيّاته وقابليّاته.
المساهمة ليس شكلها الوحيد حمل السيف، وحمل السيف لا يمكن أن يكون إلّا بعد مساهمات طويلة الأمد.. إذاً، فهناك نوعٌ من المساهمة قبل حمل السيف.
ولو أنّ كلّ واحد منّا يقول بأ نّي لا أستطيع أن أحمل السيف ـ إذاً فأنا لا تكليف عليَّ ولا مسؤوليّة عليّ ـ فمعنى هذا أنّه سوف لن يمكن حمل السيف في يوم من الأيّام.
إنّ حمل السيف هو شكلٌ من أشكال المساهمة، وهو شكل أعلى