39

 

 

 

هل يمكن الترخيص في تمام الأطراف؟

 

وأمـّا المقام الثاني ـ وهو البحث عن مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ـ فالكلام فيه تارةً يقع في مانعيّته ثبوتاً، واُخرى في مانعيّته إثباتاً عنه.

 

المحذور الثبوتيّ

أمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة، فالصحيح فيها أنّ العلم الإجماليّ لا يمنع عن إمكان الترخيص في تمام الأطراف، كما يظهر ذلك بالالتفات إلى مبنانا في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بإضافة بعض البيانات، وتوضيح ذلك: أنـّه مضى في محلّه: أنّ الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ يكون ببيان أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال المولى لقوانين التزاحم، وتقديم الغرض الأهمّ عند تزاحم أغراضه في عالم المحرّكيّة، لا تزاحمها في عالم الامتثال المصطلح عليه بالتزاحم في مدرسة المحقّق النائينيّ (قدس سره)؛ إذ الإباحة لا امتثال لها حتى يقع التزاحم في الامتثال، ولا تزاحمها في عالم الحكم المصطلح عليه بالتزاحم في مدرسة المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، إذ ذلك فرع وحدة المتعلّق المفقودة في مانحن فيه، وإذا كان الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال المولى لقوانين باب التزاحم، وتقدّم الغرض الأهمّ من الأغراض المتزاحمة في عالم المحرّكيّة، لم يكن منافياً للحكم الواقعيّ لا بلحاظ تضادّ المبادىء؛ إذ الحكم الظاهريّ ينبع من نفس مبادىء الأحكام الواقعيّة، وليست له مبادىء اُخرى وراء مبادئها، ولا بلحاظ تفويت الغرض؛ إذ لا بأس به إذا كان لأجل المزاحمة بغرض أهمّ.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ يأتي بعينه في ما نحن فيه؛ إذ لا فرق بين ما نحن فيه وموارد الشكّ البدوي، عدا أنـّه في تلك الموارد لا يعلم إلاّ بأحد الغرضين: اللزوميّ والترخيصيّ، لا على التعيين، وفيما نحن فيه يعلم بخصوص الغرض اللزوميّ، ويعلم

40

غالباً أيضاً بغرض ترخيصيّ، واشتبه أحدهما بالآخر، وقد يتّفق أنـّا لا نعلم بغرض ترخيصيّ، كما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، واحتملنا نجاستهما معاً. ولنتكلّم في الغرض الأوّل، ومنه يظهر الحال في الغرض الثاني.

فنقول: إذا اشتبه غرض لزوميّ بغرض ترخيصيّ؛ لأنـّنا علمنا بوجود نجس وطاهر مثلاً، لكنّنا لم نتمكّن من تمييز أحدهما عن الآخر، فعندئذ يقع التزاحم بين الغرضين: الغرض اللزوميّ وغرض كون المكلّف في سعة، وشعوره بالاختيار، وأنـّه يكون بحيث إن شاء فعل، وإن شاء ترك، وهو تزاحم بحسب عالم المحرّكيّة، وكما أنّ بإمكان المولى أن يوجب الاحتياط في الطرفين تحفّظاً على الغرض اللزوميّ لأهمّيّته، كذلك بإمكانه أن يرخّص لاهتمامه بالغرض الترخيصيّ، فيتحفّظ عليه تحفّظاً كاملاً أو ناقصاً، فإيجاب الاحتياط وكذلك الترخيص كلاهما حكمان ظاهريّان لا ينافيان الحكم الواقعي بعين البيان الذي مضى حرفاً بحرف.

ولكن قد بيّن في المقام المحذور في الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ ببعض الوجوه، ونحن نذكر بهذا الصدد كلمات المحقّق النائينيّ والمحقّق الخراسانيّ والمحقّق العراقيّ (قدّس الله أسرارهم) مع مناقشتها:

أمـّا كلام المحقّق النائينيّ(1)(رحمه الله) فهو أنّ الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ ترخيص في معصية التكليف الواصل، والترخيص في معصية التكليف الواصل قبيح لا يصدر من المولى الحكيم. وقد تبعه على ذلك السيّد الاُستاذ أيضاً(2).

وحاصل هذا الكلام هو دعوى المضادّة بين الحكم الظاهريّ وحكم العقل، ساكتاً عن المضادّة بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال، وهذا السكوت حسن؛ إذ لا مضادّة بينهما.

وعلى أيّة حال، فهذا الوجه ـ كما ترى ـ موقوف على كون قبح المعصية تنجيزيّاً غير معلّق على شيء يرفعه الشارع، وإلاّ لارتفع موضوع القبح. فلنتكلّم في هذه النقطة، وهي تنجيزيّة قبح المعصية .

فنقول: إنـّنا لا نساعد على تنجيزيّة قبح المعصية إلاّ بمعنيين:


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 6، وأجود التقريرات: ج 2، ص 241.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 346، والدراسات: ج 3، ص 220.

41

الأوّل: أنـّه ليس للمولى رفع مولويّته حتى تجوز بالتالي معصيته، أي أنّ العبد يجب أن يكون كالخاتم في يد المولى يحرّكه كيفما شاء، ولا يمكن للمولى أن يسلب عن نفسه هذا الحقّ. وهذا كلام صحيح لا إشكال فيه، إلاّ أنـّه غير مرتبط بما نحن فيه، فإنّ المولى بتقديمه تشريعاً لغرضه الأهمّ الذي هو الغرض الترخيصي على غرضه المهمّ لم يسلب عن نفسه حقّ المولويّة، وإدارة المكلّف كيفما شاء، وإنـّما أعمل بذلك حقّ المولويّة.

الثاني: أنـّه بعد أن كان حقّ المولويّةـ الذي هو عبارة عن حقّ تحرّك العبد حسب تحريك مولاه ـ ثابتاً وغير مسلوب عن المولى لا يمكن للمولى أن يرخّص العبد في مخالفة هذا الحقّ، وهتكه لحرمة مولاه. وهذا أيضاً صحيح لا إشكال فيه، إلاّ أنـّه أيضاً غير مربوط بما نحن فيه، فإنّ تقديم المولى لغرضه الأهمّ الترخيصيّ على غرضه المهمّ ليس عبارة عن ترخيص العبد في سلب المولى حقّه وظلمِه، وإنـّما حقّ المولى على العبد هو تحرّكه حسب ما يحبّ المولى بعد إعماله لكلّ ملاحظاته وتشريعاته وحسابه لتمام أقسام التزاحمات بين أغراضه، وليس تقديمه للغرض الأهمّ الترخيصيّ إلاّ إعمالاً لمولويّته، لا ترخيصاً للعبد في هتك حرمته، وكيف تنهتك حرمته بالمشي حسب ميله بعد ملاحظته لتمام أغراضه المتزاحمة؟!

فهذان معنيان لتنجيزيّة قبح المعصية لا إشكال فيهما، لكنّهما لا يرتبطان بالمقام.

وليس هنا شيء ثالث إلاّ دعوى أنـّه ليس للمولى تقديم غرضه الأهمّ الترخيصيّ على غرضه المهمّ الإلزاميّ، ولا بدّ من إطاعة غرضه الإلزاميّ وإن كان غرضه الترخيصيّ أهمّ عنده، وهذا ـ في الحقيقة ـ تحديد لمولويّة المولى كتحديد مولويّته في الاُمور غير المقدورة للعبد، إذ ليس للمولى إلزام العبد بها، ومن المعلوم أنّ تحديد مولويّة المولى في المقام، ومنعه عن أن يُفدي غرضه المهمّ في سبيل غرضه الأهمّ ضروريّ البطلان.

وقد ظهر ممّا بيّنّاه في وجه عدم مضادّة الحكم الظاهريّ للحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال من كونه نتيجة لإعمال قوانين التزاحم بين الأغراض الفرق بين العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ، ووجه عدم إمكان جعل الترخيص في الثاني بخلاف الأوّل، وهو أنـّه في الثاني لا تزاحم بين الأغراض في عالم المحرّكيّة لعدم الاشتباه بينها كي يعمل قوانين باب التزاحم، وتكفي لحفظ الأغراض نفس

42

الخطابات الأوّليّة، ولو جعل الترخيص لأنتج عكس المطلوب من حفظ الأغراض، فإنـّه تفويت محض للغرض بلا أيّ موجب.

هذا، وقد تكلّمنا في بحث القطع في مسألة عدم إمكان الترخيص في مخالفة العلم التفصيليّ بشكل أوسع.

وأمـّا كلام المحقّق الخراسانيّ(1) (قدس سره) في المقام فقد ذكر: أنّ الحكم المعلوم بالإجمال إن فرض بلوغه إلى مرتبة الفعليّة ـ ولو بنفس العلم الإجماليّ، لم يكن الترخيص لا في تمام الأطراف؛ للزوم اجتماع حكمين فعليّين، والحكمان الفعليّان متضادّان، ولا في بعضها؛ لمضادّته له لو كان في ذاك الطرف، والمفروض أنـّه يحتمل كونه في ذاك الطرف، فيلزم احتمال التضادّ، وإن فرض أنـّه لم يصل بعد إلى مرتبة الفعليّة، حتى بنفس العلم الإجماليّ، بل تتوقّف فعليّته على شيء آخر كالعلم التفصيليّ، أمكن الترخيص في المقام.

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ بيان للتضادّ بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ، لا بينه وبين حكم العقل بلزوم الامتثال، عكس الوجه الأوّل.

ويقول (رحمه الله): إنـّه في مورد الشكّ البدويّ ـ أيضاً ـ لو كان الحكم فعليّاً لم يمكن الترخيص في مخالفته، وإنـّما نلتزم فيها بالترخيص؛ لثبوت عدم فعليّة التكليف فيها ولو بقرينة نفس أدلّة الترخيص.

فظهر أنّه(رحمه الله) لايرى ـ في الحقيقة ـ فرقاً بين العلم الإجماليّ والشك البدويّ، بل في كلّ منهمايرى أنّ التكليف إن بلغ مرتبة الفعليّة لا يمكن الترخيص في مخالفته، وإلاّ أمكن الترخيص فيها، وإنـّما جاء الفرق بين الشّك البدويّ والعلم الإجماليّ من ناحية أنـّه في الشّك البدويّ فرض ثبوت عدم فعليّة التكليف ولو بقرينة أدلّة الاُصول، وفي العلم الإجماليّ فرض افتراضاً تعلّقه بالتكليف الفعليّ، فوقع التكلّم في هذا الفرض، وقيل بعدم إمكان الترخيص في أطرافه.

بل يمكن أن يستنتج من مبانيه أنـّه لا يفرّق ـ بحسب الروحـ بين الشكّ البدويّ والعلم التفصيليّ، ففي العلم التفصيليّ ـ أيضاً ـ إن فرض التكليف بالغاً مرتبة الفعليّة لا يمكن الترخيص في الخلاف، وإن كانت فعليّته موقوفة عل أمر غير حاصل


(1) راجع الكفاية: ج 2، أوّل بحث الشكّ في المكلّف به، ص 208 بحسب الطبعة المقرونة بحاشية المشكينيّ.

43

أمكن الترخيص فيه، وإنـّما جاء الفرق بين العلم التفصيليّ والعلم الإجماليّ من ناحية استبعاد أن تكون لفعليّة الحكم بعد تعلّق العلم التفصيليّ به حالة منتظرة، بخلاف فرض تعلّق العلم الإجماليّ به(1).

أقول: إن كان مراده (قدس سره) من فعليّة المعلوم بالإجمال فعليّة تحفّظ المولى عليه، حتى بلحاظ تزاحم الأغراض، فعدم إمكان الترخيص في ذلك صحيح، إلاّ أنّ هذا الكلام مرجعه إلى أنّ التكليف الذي يُلزِم المولى الاحتياط بالنسبة له عند اشتباهه بإباحة لا يمكن أن يرخّص فيه، وهذا واضح، ويشبه قولنا: إنّ التكليف الذي لا يرخّص المولى فيه لا يرخّص فيه، وليس الكلام في هذا، وإنـّما الكلام في أنـّه: هل يمكن للمولى رفع اليد عن تكليفه المعلوم بالإجمال، من قبيل رفعه اليد عن التكليف المشكوك، أو لا؟ وبكلمة اُخرى: أنّ الفعليّة بهذا المعنى هي بنفسها محلّ البحث، فالتكلّم مع فرض هذه الفعليّة أمراً مفروغاً عنه خروج عن محلّ البحث.

وإن كان مراده من فعليّته فعليّته ذاتاً بقطع النظر عن مسألة المزاحمة ـ سواء كان المقصود فعليّة المبادىء، أو كان المقصود فعليّة الموضوع ـ فكون ذلك منافياً للترخيص في الأطراف ممنوع؛ لمابيّنّاه من إمكان الترخيص من باب تفويت غرض مهمّ لأجل غرض أهمّ.

وأمـّا كلام المحقّق العراقيّ (قدس سره) في المقام، فهو دعوى مضادّة الترخيص في المقام لحكم العقل والحكم الواقعيّ معاً، وجعل (رحمه الله)مضادّة الترخيص للحكم


(1) كأنّ الفرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ في المقام لدى المحقّق الخراسانيّ هو أنـّه ليس من المحتمل كون تفصيليّة العلم أحد الموانع عن فعليّة الحكم، في حين أنـّه من المعقول افتراض الإجمال مانعاً عن الفعليّة، فيقال: إنـّنا إنـّما نتكلّم عن فرض العلم بحكم كان من سائر الجهات غير جهة الشكّ فعليّاً، فحكم من هذا القبيل لو تعلّق به العلم التفصيليّ أصبح فعليّاً من كلّ الجهات؛ لأنـّه حتى لو كان العلم دخيلاً في الفعليّة فقد حصل. أمـّا لو تعلّق به العلم الإجماليّ لا التفصيليّ بقي احتمال كون تفصيليّة العلم، وعدم اقترانه بالشكّ دخيلاً في الفعليّة، فإن ثبت عدم دخله في الفعليّة، وبالتالي أصبح الحكم فعليّاً من جميع الجهات، كان ذلك علّة تامّة للتنجيز. وإن كانت تفصيليّة العلم دخيلة في الفعليّة، أو قل: إنّ الإجمال والشكّ كان مانعاً عن الفعليّة، فالحكم لم يصبح فعليّاً من جميع الجهات، إذن جازت مخالفته القطعيّة، ولم يكن العلم الإجماليّ مقتضياً للتنجيز فضلاً عن العلّيّة التامّة.

44

الواقعيّ نتيجة مضادّته لحكم العقل.

وتوضيح ذلك يتوقّف على استذكار ما مضى في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ من مختاره في الجمع بينهما، وهو أنـّه (قدس سره)يتصوّر أنّ للمولى في الأحكام الواقعيّة إرادتين مولويّتين: إحداهما: المطلوبيّة النفسيّة لذات الصلاة مثلاً، والاُخرى: الغرض المقدّميّ المتعلّق بخطابه بقوله: (صلِّ)، فإنـّه يخاطب بهذا الخطاب، بغرض تحريك العبد نحو الصلاة، وتحصيل الغرض الأوّل، ويقول: إنّ الحكم الظاهريّ فيه محذوران: أحدهما: محذور مضادّته من حيث المبدأ للغرض الأوّل، والآخر: محذور كونه نقضاً للغرض الثاني، فيدفع (رحمه الله)المحذور الأوّل بتعدّد الرتبة بالتفصيل الذي مضى في محلّه، والمحذور الثاني بأنّ الغرض المقدّميّ المتعلّق بالمقدّمة ـ وهو إيصالها إلى ذي المقدّمة ـ يستحيل أن يكون أوسع من مقدار قابليّة المقدّمة للإيصال إلى المطلوب، ومقدار قابليّة الخطاب للإيصال هو الإيصال على تقدير تنجّزه، فمع عدم تنجّزه، إمّا بنفسه لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، أو بواسطة نفس الترخيص الظاهريّ، لا موضوع للغرض المقدّميّ، حتى يلزم من الترخيص الظاهريّ نقض الغرض .

هذا ما أفاده (رحمه الله) في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وقد مضى تفصيل الكلام فيه والتعليق عليه في محلّه.

أمـّا استثمار هذا المطلب في المقام فكما يلي:

إنّ العلم الإجماليّ يؤثّر في تنجيز المعلوم بالإجمال، وهذا التأثير إن فرضناه معلّقاً على عدم ترخيص الشارع، فلا مانع من ترخيصه في المقام؛ إذ لا يضادّ حكم العقل لارتفاع موضوعه به، ولا الغرض المقدّميّ للخطاب؛ اذ يرتفع بالترخيص تنجيزه، فينتفي موضوع الغرض المقدّميّ، فلا يحصل نقض الغرض، ولا الغرض النفسيّ الواقعيّ؛ لأنّ تعدّد الرتبة بالتقريب الثابت في موارد الشكّ البدويّ ثابت هنا أيضاً. وإن فرضناه تنجيزيّاً فالترخيص يضادّ حكم العقل لتنجيزيّته والغرضَ المقدّميّ لتماميّة موضوعه؛ إذ الخطاب قابل للتحريك والإيصال إلى المطلوب لغرض تنجّزه، فقد تعلّق به الغرض المقدّميّ.

ثمّ يختار (رحمه الله) تنجيزيّة حكم العقل بتقريب: أنّ التضادّ بين الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال والترخيص ارتكازيّ، والتضادّ بينهما معلول لتنجيزيّة حكم العقل، فتثبت بذلك تنجيزيّة حكم العقل.

45

هذا ما أفاده (رحمه الله) في المقام، ويرد عليه عدّة إيرادات:

منها ـ أنـّه سلّمنا وقوع التضادّ بين الترخيص وحكم العقل، لكنّ سراية التضادّ إلى الترخيص والحكم الواقعيّ ـ حسب تصوّراته (قدس سره)ـ ليست في محلّها(1)، وذلك لأنّ الثابت بالبرهان هو أنّ الغرض المقدّميّ لا يكون أوسع من قابليّة المقدّمة واستعدادها، فمن ينصب جهاز تبريد الماء مثلاً في زقاق، لا يقصد بذلك إشباع الجائعين، أو إرواء غير من يمرّ بهذا الزقاق، وإنـّما يقصد إرواء المارّين بهذا الزقاق، لا أنّ الغرض المقدّميّ يجب أن لا يكون أضيق من قابليّة المقدّمة، فقد يكون غرضه مثلاً إرواء خصوص العدول، مع أنّ هذا الجهاز يكون قابلاً لإرواء العدول والفسّاق معاً، غاية الأمر أنـّه لا ينصب شرطيّاً على الجهاز يمنع الفسّاق من الشرب، فمثل هذا الفرض ليس مستحيلاً، ولو جعل في مثل هذا الفرض شرطيّاً على الجهاز لمنعِ الفسّاق من الشرب لم يكن ذلك نقضاً لغرضه المقدّميّ، كما هو واضح، وعليه نقول في ما نحن فيه: إنّ الغرض المقدّميّ لعلّه أضيق من قابليّة المقدّمة، وغير ثابت في مورد العلم الإجماليّ، فلا يكون الترخيص نقضاً لغرضه(2) .

ومنها ـ أنـّه ما هو المقصود من ارتكاز التضادّ بين الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال والترخيص؟ هل المقصود بذلك ارتكاز العقلاء بحسب تعايشهم العقلائيّ، أو المقصود به ارتكازهم بلحاظ حكم العقل محضاً؟ فإن كان المقصود هو الأوّل فهو صحيح لا إشكال فيه، إلاّ أنـّه ينشأ من أنّ الأغراض اللزوميّة إذا كانت معلومة بالإجمال فغالباً تكون أقوى لدى المزاحمة من الغرض الترخيصيّ، ومن الممكن أن يكون الغرض الشرعيّ المعلوم بالإجمال على خلاف ذلك، فبهذا لايثبت عدم إمكان الترخيص ثبوتاً. وإن كان المقصود هو الثاني، قلنا: إنّ المفروض


(1) وعندئذ فلو كان الدليل على المضادّة بين الترخيص وحكم العقل بالتنجّز، أي: الدليل على تنجيزيّة تأثير العلم الإجماليّ في التنجيز عبارة عن ارتكاز التضادّ بين الحكمين ـ كما هو مفروض كلامه ـ إذن لم يبقَ دليل على هذه المضادّة أيضاً.

(2) كأنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) يرى أنّ روح الحكم عبارة عن اهتمام المولى بتحصيل غرضه بقدر ما يصلح الخطاب لكونه مقدّمة مؤثّرة في تحصيل الغرض، ففرض الضيق في هذا الغرض المقدّميّ يساوق تقييد الحكم الواقعيّ، وهذا خلف، فإنّ المفروض تصوير الحكم الظاهريّ مع الحفاظ على الحكم الواقعيّ.

46

أنّ التضادّ بين الحكم الواقعيّ والترخيص إنـّما ينبع من حكم العقل بالتنجيز، حتى مع فرض الترخيص، فكيف يعقل أن يكون حكم العقل به أجلى من حكم العقل بالتنجيز حتى يستدلّ به عليه؟!

والظاهر أنّ ما أوقعه (رحمه الله) في هذا الاشتباه هو الخلط بين الارتكاز العقلائيّ والعقليّ(1).

ومنها: ما أوردناه على المحقّق النائينيّ (قدس سره): من أنّ تنجيزيّة حكم العقل بقبح المعصية لا نتعقّلها بوجه صحيح، إلاّ بمعنيين ليس لهما أثر فيما نحن فيه، كما مضى شرح ذلك.

هذا. وللمحقّق العراقيّ (قدس سره) كلام آخر في إثبات تنجيزيّة حكم العقل، غير الذي ناقشناه حتى الآن(2)، وهو أنـّه بعد أن تعلّق العلم بالحكم، فأيّ أثر يتعقّل للإجمال الموجود في المقام؟ وكيف يمنع العلم عمّا له من التنجيز الحتميّ؟ وقال (رحمه الله): لا إجمال أصلاً في المقام فيما هو موضوع التنجيز، فإنـّه وإنْ تردّد الأمر بين وجوب الصلاة ووجوب الصوم مثلاً، لكن موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة ليس هو أمر المولى بالصلاة بخصوصيّة كونه أمراً بالصلاة ـ نظير أن يكون موضوع وجوب إطاعة


(1) وكأنّ مقصود المحقّق العراقي: جعل ارتكاز التضادّ بين الحكم الواقعيّ والترخيص في مورد العلم التفصيليّ شاهداً على تنجيزيّة أثر العلم التفصيليّ، وبالتالي شاهداً على تنجيزيّة أثر العلم الإجماليّ أيضاً، بعد ما بيّن من أنّ العلم الإجماليّ بالقياس إلى المصبّ القابل للتنجيز تفصيليّ، فالإشكال عليه بأنـّه لا يمكن أن يكون حكم العقل بالتضادّ أجلى من حكمه بالتنجيز، وينبغي إيراده عليه بلحاظ نفس العلم التفصيليّ ابتداءً لا بلحاظ العلم الإجماليّ، ولولا هذا كان بإمكانه أن يقول في الجواب عن هذا الإشكال: إنّ ارتكاز التضادّ في التفصيليّ أجلى من التنجيز في الإجماليّ.

(2) الظاهر أنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) يرى هذا الكلام مع الكلام السابق وجهاً واحداً، فهو يثبت أنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ بهذا لبيان الموجود هنا، ويثبت أنّ العلم التفصيليّ تأثيره تنجيزيّ، وليس تعليقيّاً بالبيان الماضيّ، ويستنتج من مجموع الأمرين: أنّ تأثير العلم الإجماليّ إذن تنجيزيّ. راجع المقالات: ج 2، ص 86 ـ 87، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 305 ـ 307.

47

الوالد هو خصوص أمره بما يكون فيه مصلحة للابن ولو في نظر الأب مثلاً(1) ـ وإنـّما موضوع وجوب إطاعته (تعالى) هو ذات أمره، بقطع النظر عن خصوصيّات ما تعلّق به الأمر، ومن المعلوم أنـّه تعلّق العلم بأمره (تعالى) تفصيلاً لا إجمالاً، فلا محالة يكون تأثيره تنجيزيّاً كتأثير العلم التفصيليّ إذ هو علم تفصيليّ.

أقول: نعم، بحسب جوهر المطلب وروحه لا يمكن الفرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ، فإنّ العلم الإجماليّ أيضاً بحسب ما هو موضوع للتنجيز علم تفصيليّ، لكنّنا نقول: إنّ تأثير العلم التفصيليّ أيضاً بحسب الروح معلّق على عدم ترخيص الشارع في المخالفة بلحاظ تزاحم الأغراض، غاية الأمر أنّ المعلّق عليه دائماً حاصل في العلم التفصيليّ، لتعيّن الأغراض، فلا يقع تزاحم بينهما في مقام الحفظ والمحرّكيّة، بخلاف موارد العلم الإجماليّ.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ من الممكن ثبوتاً الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ.

 

المحذور الإثباتيّ

وأمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في تمام الأطراف، فالمشهور عدم مانعيّته إثباتاً عن جريانها في تمام الأطراف، وإنـّما يتمسّكون في مقام إسقاط الاُصول بالمانع الثبوتيّ، والوجه في ذلك هو أنّ كلّ طرف من الأطراف يصدق عليه مثلاً أنـّه ممّا لا يعلمون، فيدخل تحت إطلاق الدليل.

نعم، ذهب المحقّق النائينيّ(2) (قدس سره) في خصوص الأصل التنزيليّ كالاستصحاب إلى وجود مانع إثباتيّ بلحاظ لسان دليل ذلك الأصل يمنع عن جريان الاُصول في الأطراف ولو لم يستلزم المخالفة العمليّة، ويأتي الكلام عن ذلك في بحث الاستصحاب ـ إن شاء الله ـ، وبقطع النظر عن خصوص هذه الجهة، يقولون بعدم مانعيّة العلم الإجماليّ إثباتاً عن جريان الاُصول.

إلاّ أنّ الصحيح هو مانعيّة العلم الإجماليّ عن ذلك إثباتاً، كما يتّضح ذلك


(1) هذا المثال توضيح من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) وليس في كلام المحقّق العراقي (قدس سره).

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 5، وأجود التقريرات: ج2، ص 240 ـ 241.

48

بمراجعة الفهم العرفي، فمثلاً لو قال مولىً عرفيّ لعبده: إذا رأيت شخصاً يغرق ولم تحرز كونه محبوباً لي وأنـّي أهتمّ بنجاته، فليس من اللازم عليك إنجاؤه، ثمّ رأى العبد شخصين يغرقان يعلم إجمالاً بأنّ واحداً منهما محبوب للمولى، ويهتمّ المولى بنجاته، فتركهما حتى غرقا معاً، ثمّ اعتذر عند المولى: بأنـّي رأيت أنّ كلّ واحد منهما داخل تحت العنوان الذي بيّنته من عدم إحراز كونه محبوباً لك فتركته، لعُدّ ذلك من المضحكات.

وبكلمة مختصرة: أنّ عدم شمول دليل الترخيص لأطراف العلم الإجماليّ ـ يكون في المرتبة السابقة عن التفتيش عن نكتة ذلك ـ من الواضحات بحسب الفهم العرفي.

وأمـّا النكتة في ذلك فأمران:

الأمر الأوّل: أنـّنا لا ندّعي أنّ قوله مثلاً: (ما لا يعلمون) غير شامل لهذا الطرف أو لذاك الطرف، حتى يقال: إنّ هذا خلاف الإطلاق ومقدّمات الحكمة، بل إنـّنا نقول: إنّ المحمول الذي حمل على موضوع (ما لا يعلمون) يوجد فيه ضيق، فبالرغم من تطبيقه على موضوعه في ما نحن فيه لا يثبت التأمين، وذلك لأنّ الظاهر عرفاً من الترخيص في المشكوك بما هو مشكوك المستفاد منه عرفاً الحكم الظاهريّ، إنـّما هو عدم الاهتمام بالإلزام الاحتماليّ، والمشكوك بما هو كذلك في قبال الترخيص الاحتماليّ، وتقدّم الثاني على الأوّل لأقوائيّته محتملاً كما في الاُصول، أو احتمالاً كما في الأمارات، فليكن فيما نحن فيه ـ أيضاً ـ الإلزام الاحتماليّ في كلّ واحد من الجانبين بما هو كذلك غير مهتمّ به في قبال الترخيص الاحتماليّ، لكنّ هذا لا ينافي الاهتمام من جهة اُخرى، وذلك بأن يهتمّ بالإلزام القطعيّ في قبال ما اشتبه من ترخيص قطعيّ أو احتماليّ، فبالنتيجة إنـّما تثبت البراءة في خصوص تزاحم الأغراض في باب الشبهات البدويّة.

وبكلمة اُخرى: أنّ هنا لونين من التزاحم: أحدهما: تزاحم غرض إلزاميّ احتماليّ لغرض ترخيصيّ احتماليّ، والآخر: تزاحم غرض إلزاميّ قطعيّ لغرض ترخيصيّ قطعيّ، وهذان القسمان كما هما مختلفان ذاتاً، قد يختلفان حكماً، فيحفظ مثلاً جانب الإلزام قطعيّاً أو احتماليّاً في مورد العلم الإجماليّ، في حين أنـّه لم يحفظه في الشكّ البدويّ، ولا ملازمة بين تقديم جانب الترخيص في مورد الشكّ البدويّ، وتقديمه في مورد العلم الإجماليّ، فإنّ الذي يخسر المولى في مقابل

49

الحفظ القطعيّ لغرضه الترخيصيّ في مورد الشكّ البدويّ هو فوت غرض إلزاميّ احتماليّ لغرضه، لكنّ الذي يخسر المولى في مقابل الحفظ القطعيّ الترخيصيّ في مورد العلم الإجماليّ هو فوت غرض قطعيّ، وهذا المحذور أشدّ، فقد يكون مقتضى إعمال قوانين باب التزاحم بين الغرض الإلزاميّ والترخيصيّ الاحتماليّين تقديم الثاني، ومقتضى إعمالها بين الغرض الإلزاميّ القطعيّ والغرض الترخيصيّ تقديم الأوّل، وفي مورد العلم الإجماليّ يكون كلا اللّونين من التزاحم ثابتاً، فبلحاظ كلّ طرف في نفسه يوجد تزاحم غرض احتماليّ إلزاميّ لغرض احتماليّ ترخيصيّ، وبلحاظ كلا الطرفين يوجد تزاحم غرض إلزاميّ قطعيّ لغرض ترخيصيّ، فيجب إعمال قوانين باب التزاحم بلحاظ كلّ واحد منهما، ومثل قوله: (رفع ما لا يعلمون) لا تكفي دلالته بالإطلاق على تقديم جانب الغرض الترخيصيّ في مورد العلم الإجماليّ في التزاحم الأوّل لإثبات تقدّمه في التزاحم الثاني أيضاً؛ لما عرفت من عدم الملازمة بينهما، والعُرف إنـّما يفهم ـ بحسب المناسبات اللغويّة واللفظيّة ـ من مثل (رفع ما لا يعلمون) تقديم جانب الغرض الترخيصيّ بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم، ولا يفهم تقديمه بلحاظ القسم الثاني أيضاً، والنكتة في ذلك هي مناسبة العنوان المأخوذ في الكلام مع الحكم(1)، حيث إنّ العنوان المأخوذ في الكلام هو


(1) إنـّي أرى أنّ هذا المقدار من المناسبة لا يصلح نكتة لظهور دليل الترخيص في المعنى المدّعى في المقام، فالصحيح ذكر نكتة اُخرى لذلك: وهي أنّ أدلّة الترخيص عادةً تدلّ ـ بحسب الفهم العرفي ـ على الحكم الحيثيّ، فإذا قال المولى مثلاً: (الجبن حلال) لا يفهم من ذلك أكثر من أنّ الجبن من حيث هو جبن حلال. أمـّا لو فرضت حرمته صدفة في مورد مّا لكونه مغصوباً، أو لكونه مضرّاً بسلامة جسم الآكل، أو لسبب آخر كنهي الوالد مثلاً، فهذا لا يعتبر تقييداً لإطلاق قوله: (الجبن حلال)، ولا يقع التعارض مثلاً بالعموم من وجه بين دليل حلّيّة الجبن ودليل حرمة أكل المغصوب، كي يقدّم الثاني على الأوّل ببعض البيانات، بل يقال رأساً: إنّ قوله: (الجبن حلال) إنـّما دلّ على حلّيّة الجبن في ذاته، وهذا لا ينافي حرمته من حيث الغصب، وعليه فقوله: (رفع ما لا يعلمون) أيضاً من هذا القبيل، فهو يدلّ على أنّ (ما لا يعلمون) من حيث إنـّه (ما لا يعلمون) لا محذور في ارتكابه، وهذا لا ينافي وجود محذور في ارتكابه صدفةً من حيث كونه معلوماً بالإجمال.

50

عنوان (ما لا يعلمون)، وعنوان المشكوك وشبه ذلك، والمشكوك عبارة عمّا فيه احتمالان: احتمال غرض إلزاميّ واحتمال غرض ترخيصيّ، فالعرف يفهم من ذلك أنّ المولى قدّم احتمال الغرض الترخيصيّ على احتمال الغرض الإلزاميّ بلحاظ التزاحم بينهما، وهذا لا ينافي عدم تقديم الغرض الإلزاميّ القطعيّ عند تزاحمهما.

وقد يخطر بالبال في المقام إشكال (ولنجعل مصبّ كلامنا فرض ما إذا علمنا


وهذا الذي ذكرناه واضح في الفهم العرفي، إلاّ أنـّه قد يثار سؤال فنيّ في المقام، وهو أنـّه ما هي النكتة في الفرق بين الإباحة والتحريم مثلاً، حيث يفهم من دليل الإباحة الحكم الحيثيّ، ولكن يفهم من دليل التحريم التحريم المطلق، فإذا قال: (الجبن حلال) ثمّ عرفنا أنّ الجبن المغصوب حرام من ناحية الغصب لا يعتبر هذا تقييداً لدليل الحلّ؛ لأنّ دليل الحلّ إنـّما دلّ على أنّ الجبن من حيث هو حلالٌ، ولم يدلّ على أكثر من ذلك، ولكن إذا قال: الجبن حرام، ثمّ عرفنا أنّ الجبن يحلّ حينما يصبح دواءً للمريض، يكون هذاتقييداً لإطلاق دليل الحرمة، فما هي النكتة في الفرق بين الأمرين؟

ويمكن الجواب على ذلك بأحد وجهين:

إمـّا بإبداء نكتة الغلبة، وهي غلبة كون الأحكام الترخيصيّة العقلائيّة حيثيّة، وغلبة الخلاف في الأحكام الإلزاميّة. فالغلبة في الأحكام العقلائيّة هي التي أثّرت في ظهور الكلام في الموردين.

وإمـّا بإبداء نكتة اُخرى، وهي أنّ دليل الحرمة يكون مفهومه عرفاً أنّ الحيثيّة المأخوذة في الكلام تأتي منها الحرمة، فمثلاً لو قال: (يحرم الخمر) فهذا يعني أنّ الخمريّة حيثيّة توجب الحرمة، ومقتضى إطلاق الدليل كون هذه الحيثيّة غالبة على أيّ حيثيّة اُخرى مزاحمة لها، فلو كان الخمر صدفةً دواءً للمريض كان مقتضى إطلاق دليل الحرمة حرمته عليه أيضاً؛ لأنّ حيثيّة الحرمة موجودة على أيّ حال. وأمـّا دليل الحلّ فحتى إذا قلنا: إنّ الحلّ حكم وجوديّ مجعول من قبل المولى، يكون المدلول الأقصى النهائيّ له عرفاً نفي كون تلك الحيثيّة موجبة للحرمة، وعدم كون تلك الحيثيّة كحيثيّة الجبن مثلاً موجبة للحرمة لا تنافي فرض حيثيّة اُخرى في بعض الموارد كالغصب توجب الحرمة. وهذا البيان صادق حتى في الحلّيّات الاقتضائيّة، ولا يختصّ بالحلّيّات اللااقتضائيّة، فإنّ دليل الحلّ في الحلّيّات الاقتضائيّة ـ أيضاً ـ ليس مفاده العرفي بأكثر من أنّ تلك الحيثيّة لا تخلق الحرمة، ولو فرض أنّ سبب عدم خلقها للحرمة وجود ملاك يقتضي الحلّ، وهذا لا ينافي فرض حيثيّة اُخرى صدفةً في بعض الموارد تخلق الحرمة.

51

إجمالاً ـ أيضاً ـ بوجود غرض ترخيصيّ، كما علمنا إجمالاً بوجود غرض إلزاميّ، أي: أنـّنا علمنا إجمالاً بأنّ أحد الإنائين نجس مثلاً يوجد غرض إلزامي في تركه، وعلمنا إجمالاً بأنّ الآخر طاهر مشتمل على غرض ترخيصيّ)، فنقول: إنـّه وإن كان محذور الترخيص في مورد الشبهات البدويّة عبارة عن الفوت الاحتماليّ للغرض الإلزاميّ، وفي مورد العلم الإجماليّ عبارة عن الفوت القطعيّ له، لكن محذور الإلزام ـ أيضاً ـ في الشبهات البدويّة عبارة عن الفوت الاحتماليّ للغرض الترخيصيّ، وفي العلم الإجماليّ عبارة عن الفوت القطعيّ للغرض الترخيصيّ، إذن فلو كان الغرض الترخيصيّ أهمّ، ولذا جعلت البراءة بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم، فلا بدّ أن تجعل البراءة أيضاً بلحاظ القسم الثاني من التزاحم، لانحفاظ نفس تلك النسبة بين المتزاحمين، فدليل البراءة وإن كان بالمطابقة إنـّما يدلّ على تقديم الغرض الترخيصيّ بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم، لكنّه يدلّ بالالتزام أيضاً على تقديمه بلحاظ القسم الثاني منه.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنـّه لو بنينا على ما بنى عليه السيّد الاُستاذ وغيره، من كون الحكم الظاهريّ ناشئاً من ملاك في نفسه، فعدم الملازمة بين الترخيص بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم والترخيص بلحاظ القسم الثاني واضح، إذ لعلّ الملاك موجود في الأوّل دون الثاني. وأمـّا لو بنينا على ما هوالمختار(1) من كون


(1) اختيار ذلك في مقابل السببيّة ينشأ إمّا من فرض عدم إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعيّ على السببيّة ثبوتاً، وإمّا من افتراض أنّ السببيّة خلاف ظاهر أدلّة الأحكام الظاهريّة. والأوّل مضى بحثه في مبحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وكان مختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في الدورة التي حضرتها إمكان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ على السببيّة، ونقل عن الدورة المتأخّرة عدوله عن ذلك في الأحكام الظاهريّة الترخيصيّة، راجع ذلك البحث في الجزء الثاني من القسم الثاني من كتاب مباحث الاُصول.

وأمـّا لو سلّمنا إمكان ذلك ثبوتاً، فالصحيح من الناحية الإثباتيّة أنّ السببيّة التي تكون خلاف ظاهر دليل الحكم الظاهريّ إنـّما هي السببيّة المحضة؛ لأنّ الدليل ظاهر في نظر الحكم الظاهريّ إلى الحكم الواقعيّ، وحفظ أغراضه ببعض مستويات الحفظ. وأمـّا فرض حظّ من السببيّة مع أخذ الطريقيّة إلى الأغراض الواقعيّة أيضاً بعين الاعتبار، وحفظها ببعض مستويات الحفظ، فليس خلاف الظاهر.

52

الأحكام الظاهريّة ملاكها عين ملاكات الأحكام الواقعيّة، وأنّ الحكم الظاهريّ حافظ ثان للأغراض في طول الحافظ الأوّل، وهي الخطابات الواقعيّة، فنقول في مقام حلّ الإشكال: إنّ جعل المولى للبراءة في مورد الشكّ، يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن يلحظ المولى الشكّ في الحكم بنحو القضيّة الفرضيّة، ويرى قوّة المحتمل في جانب الترخيص فيجعل البراءة.

2 ـ أن يلحظ المولى الشكّ بنحو القضيّة الفرضيّة أيضاً، ويدخل في الحساب جانب الاحتمال أيضاً، كما لو رأى مثلاً أنّ المحرّمات تصل عادةً إلى العبد، فنفس شكّ العبد أمارة على الإباحة، فجعل البراءة، ولا يلزم من ذلك تحوّل البراءة من كونها أصلاً إلى كونها أمارةً؛ لأنـّنا نفرض أنّ هذا الحساب إنـّما اعتمد المولى عليه لنكتة ثابتة في خصوص مادّة معيّنة، وهي باب التحريمات والترخيصات مثلاً. أمـّا لو حصل مثل هذا الحساب في باب اشتباه الواجب بالحرام، أو في باب آخر، فقد لا يعتمد المولى عليه هناك، فتمام الملاك للتقديم ليس هو حساب الاحتمال، بل للمحتمل دخل في المطلب.

3 ـ أن يفترض أنّ المولى لاحظ الشكوك الخارجيّة، وجعل البراءة باعتبار مجموع ما للترخيصات من الكميّة والكيفيّة.

وعلى أيّ نحو من هذه الأنحاء الثلاثة، لا ملازمة بين الترخيص بلحاظ التزاحم الأوّل والترخيص بلحاظ التزاحم الثاني.

أمـّا على الأخير فواضح، إذ قد تختلف نسبة الكميّة بلحاظ الشبهات البدويّة والشبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ(1) .

وأمـّا على الثاني فواضح أيضاً؛ إذ قوّة الاحتمال الثابتة في جانب الترخيص


(1) أو يُفترض أنّ النسبتين متساويتان، ولكن مقدار الترخيص الذي حصل بجعل البراءة في الشبهات البدويّة أشبع شدّة الحاجة إلى الترخيص والتوسعة على العباد بالمستوى الذي كان قد أوجب تقديم جانب الترخيص، وبكلمة اُخرى: يفترض أنّ رجحان ملاك الترخيص على ملاك الإلزام لم يكن بلحاظ كلّ فرد فرد من الترخيص، بل كان بلحاظ شدّة حاجة العبد إلى مبلغ من الترخيصات، بحيث كان جعل الاحتياط في تمام الموارد موجباً لوقوع العبد في حرج يفوق خسارة ملاك الإلزامات الواقعيّة، وقد انحلّ ذلك بجعل البراءة في موارد الشبهات البدويّة، فلم تبقَ حاجة إلى جعل البراءة في موارد العلم الإجماليّ.

53

في مورد عدم وصول الحرمة إلى العبد، لا تثبت في مورد وصولها بنحو العلم الإجماليّ، كما هو واضح(1).

وأمـّا على الأوّل فأيضاً لا ملازمة بين الترخيص بلحاظ التزاحم الأوّل والترخيص بلحاظ التزاحم الثاني؛ إذ من الممكن افتراض أنّ درجة الغرض الترخيصيّ كانت مساوية للغرض الإلزاميّ، فقدّمه على الغرض الإلزاميّ لنكتة خارجيّة(2)، كأنْ يطابق جعله ما هو مركوز في ذهن العقلاء في أوامر الموالي العرفيّة من عدم الإلزام في الشبهات البدويّة، وثبوت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) عندهم، وعدم رفع موضوعها عادةً عندهم بإيجاب الاحتياط، أو كأن يقال: بأنّ العبد لو اُلزِم في الشبهات البدويّة لأخذ يشعر بالضيق أزيد منه في موارد العلم الإجماليّ، فأصبح هذا مرجّحاً للترخيص هنا، ومن الواضح أنّ هذا لا يستلزم الترخيص في موارد العلم الإجماليّ؛ إذ قد لا تكون تلك النكتة موجودة فيها، وتكون نكتة اُخرى أوجبت


(1) إذا كان المفروض وجود علم إجماليّ بالترخيص في أحدهما، كما نعلم إجمالاً بالإلزام، فقوّة احتمال الترخيص فيه لا تختلف عن مورد انتفاء كلا العلمين، لأنّ العلم الإجماليّ بالإلزام الذي هو الموجب لضعف احتمال الترخيص، مزاحم بالعلم الإجماليّ بالترخيص، فلقائل أن يقول: إنّ جريان البراءة في مورد فقد العلمين يثبت بالملازمة جريانها في مورد ثبوت العلمين، بل وحتى لو لم يكن علم إجماليّ بالترخيص، فصحيح أنّ العلم الإجماليّ بالإلزام يوجب ضعف احتمال الترخيص، لكن بالإمكان قياس المورد بموارد الشّك البدويّ التي كان احتمال الترخيص فيها ضعيفاً بنفس المقدار على أساس أمارة اُخرى غير العلم الإجماليّ على الإلزام، مع فرض عدم حجّيّة تلك الأمارة، فيقال: إنّ البراءة في هذا المورد جارية، إذن يثبت بالملازمة جريانها في مورد العلم الإجماليّ الذي لم يكن احتمال الترخيص في كلّ طرف فيه بأضعف من مورد شكّ بدويّ من ذاك القبيل.

(2) وهذا لا ينافي دعوى كون السببيّة خلاف الظاهر، فإنّ المقصود من السببيّة التي تدّعى كونها خلاف الظاهر هو فرض تفريط المولى بنسبة من حفظ الأغراض الواقعيّة بسبب ملاك جديد غير تلك الملاكات الواقعيّة، وفي ما نحن فيه لم يفترض تفريط بالحفظ لملاك جديد، لأنـّنا فرضنا أنّ الغرض الترخيصيّ والغرض الإلزاميّ كانا متساويين في الدرجة، فتقديم أحدهما لنكتة خارجيّة لا يعني تفريطاً ببعض درجات حفظ الملاكات الواقعيّة، كي يكون خلاف الظاهر.

54

تقديم جانب الإلزام، أو أنّ نفس تلك النكتة التي اقتضت تقديم جانب الترخيص في الشبهات البدويّة، وهي المطابقة لمرتكزات العقلاء مثلاً، اقتضت هنا العكس.

وقد يفرض أنّ الغرض الترخيصيّ لم يتعلّق بمطلق إطلاق العنان، بل تعلّق ـ كما هو الظاهر المحدوس ـ بإطلاق العنان تجاه المباحات الذي لا يساوق إطلاق العنان تجاه المحرّمات، بأن يكون العبد ـ بعد فرضه غير مطلق العنان بلحاظ المحرّمات ـ مطلق العنان بلحاظ المباحات. وعليه ففي مورد الشكّ البدويّ يحتمل المولى ثبوت الغرض الترخيصيّ، بأن يكون المشكوك في الواقع حلالاً، لكن في مورد العلم الإجماليّ لا يحتمله، لأنّ الترخيص ـ ولوفي أحد الجانبين تخييراً ـ مساوق لإطلاق العنان بوجه من الوجوه تجاه المحرّمات. وهذا واضح لو فرض أنّ المقصود بمساوقة الترخيص للترخيص تجاه الحرام مساوقته له ولو في نظر العبد.

وأمـّا لو كان المقصود مساوقته له في نظر المولى وفي الواقع، فهنا قد يستشكل في المقام بأنـّه ليس كلّ علم إجماليّ حصل للعبد لا بدّ أن يكون مطابقاً للواقع، وتامّاً في نظر المولى. وعليه فقد يقع التزاحم بين الأغراض حتى في مورد العلم الإجماليّ بنحو يوجب تقديم جانب الترخيص.

لكن لا يخفى أنـّه لو دلّ دليل بالخصوص في أطراف العلم الإجماليّ على الترخيص، أمكن أن يستكشف بذلك تزاحم الأغراض عند المولى ولو من باب تخطئته للعلوم الإجماليّة لعبده مثلاً، لكن لو كنّا نحن والدليل المتعارف، لا يمكننا التعدّي إلى موارد العلم الإجماليّ؛ لعدم الملازمة، والعبد العالم بالعلم الإجماليّ يرى ـ لا محالة ـ أنّ هذا العلم مطابق للواقع، وتامّ في نظر المولى، وهذا نظير أنـّه لا يتعدّى في الترخيص إلى موارد العلم التفصيليّ، مع أنـّه في موارد العلم التفصيليّ ـ أيضاً ـ قد يكون علم العبد خاطئاً في الواقع، وعند المولى، فيقع التزاحم بين الأغراض.

الأمر الثاني: ارتكاز المضادّة بين الحكم الواقعيّ والترخيصيّ في الأطراف، الذي أدركه الأصحاب بسلامة وجدانهم وإن تخيّلوه ارتكازاً عقليّاً، فاختاروا المانع الثبوتي من جريان الاُصول، ونحن قلنا: إنـّه ارتكاز عقلائيّ ناشىء من تعايشاتهم العقلائيّة، لا من عقلهم صِرفاً، وهذا الارتكاز ـ بعد أن علمنا من ظاهر أدلّة الاُصول، أو من الخارج أنـّها ليست بصدد نسخ الحكم الواقعيّ ونفيه ـ يصبح قرينة على عدم إرادة الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ ولو بنحو الضيق في المحمول.

55

والفرق بين هذين الأمرين واضح، فإنّ الأمر الأوّل عبارة عن دعوى نكتة لفظيّة قائمة على أساس ارتكازهم بلحاظ اللغة والألفاظ، والأمر الثاني عبارة عن نكتة معنويّة قائمة على أساس ارتكازهم بما لهم موالي وعبيد ومصالح ومفاسد وأغراض، فلو فرضنا أنّ مناسبات الألفاظ واللغة لا تقتضي اختصاص مفاد الدليل بإعمال قوانين التزاحم في القسم الأوّل من التزاحم، فدلّ الكلام ـ لولا النكتة الثانية ـ على الترخيص في موارد العلم الإجماليّ، كَفَت النكتة الثانية للانصراف، ومع الانصراف لا بدّ عقلاً من الاحتياط، بل لا تبعد دعوى أنـّه توجب تلك النكتة دلالة الحكم الواقعيّ بالملازمة العرفيّة على إيجاب الاحتياط في مورد العلم الإجماليّ.

وتظهر ثمرة عمليّة بين هاتين النكتتين في الشبهات التحريميّة الموضوعيّة بلحاظ قوله: «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»، حيث إنّ كلمة (بعينه) قرينة على النظر إلى تقديم جانب الترخيص، حتى بلحاظ الغرض الإلزاميّ المعلوم بالإجمال، فالنكتة الاُولى غير جارية هنا، وإنـّما تختصّ بمثل (رفع ما لا يعلمون)، (وكلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)، ونحو ذلك ممّا لم تؤخذ فيه كلمة (بعينه)، لكنّ الارتكاز ثابت ـ أيضاً ـ في موارد الشبهات التحريميّة الموضوعيّة، فيقيّد به إطلاق الحديث، ولوكنّا نحن والنكتة الاُولى، لكنّا نلتزم في الشبهات التحريميّة الموضوعيّة بجواز المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ.

ولا يقال: إنّ كلمة (بعينه) صريحة في الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ، وليست دلالة الحديث على ذلك بالإطلاق، كي يقيّد الإطلاق بالارتكاز.

فإنـّه يقال: إنّ دلالة الحديث على البراءة في أطراف العلم الإجماليّ وإن كانت واضحة بلحاظ كلمة (بعينه)، لكنّ الارتكاز المانع عن جريان البراءة ليس ثابتاً في تمام موارد العلم الإجماليّ، فمثلاً في مورد الشهبة غير المحصورة، لا يكون هذا الارتكاز ثابتاً، وكذلك في بعض موارد اُخرى، كما يأتي تفصيل ذلك ـ إن شاء الله ـ، فالارتكاز يمنع عن انعقاد الإطلاق في الحديث لموارد العلم الإجماليّ الواجد لشرائط معيّنة.

وتظهر الثمرة ـ أيضاً ـ بين النكتتين في الاُصول التي جعلت بلسان الكشف، فإنّ النكتة الثانية تجري فيها، لكنّ النكتة الاُولى لا تجري فيها، وذلك لأنّ العرف لا يتعقّل التبعيض في الكشف، ولا يساعد في باب الكشف على التفكيك بين الأمرين، بأن يقال: إنّ هذا الاحتمال كاشف عن الواقع، في قبال الاحتمال الآخر، لكنّه غير كاشف في قبال وجود غرض إلزاميّ معلوم بالإجمال، وهذا بخلاف باب الترجيح، فلا بأس بأن يقال: إنّ هذا الاحتمال يقدّم على الاحتمال الآخر بما هو، ولا يقدّم على

56

الغرض الإلزاميّ المعلوم بالإجمال.

وقد ظهر من تمام ما ذكرناه: أنّ الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ إنـّما ينفى لمحذور إثباتيّ من دون أن يكون في ذلك محذور ثبوتيّ، ولذا لو دلّ دليل على الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ ـ كما في بعض موارد جوائز السلطان، وآخذ الربا الذي تاب، وبعض موارد اُخرى قد يقف عليه المتتبّع ـ نلتزم بالترخيص فيها، وجواز المخالفة القطعيّة إن تمّ عندنا الحديث سنداً ودلالة.

ثمّ إنّ ما عرفته من النكتتين المانعتين عن إجراء الاُصول المرخّصة في قبال العلم الإجماليّ بالإلزام، لا تمنعان عن إجراء الاُصول الملزمة في قبال العلم الإجماليّ بالترخيص، فلو علمنا إجمالاً بحلّيّة أحد الأمرين ولو مع احتمال حلّيّة كليهما أيضاً، وكان مقتضى الأصل العمليّ الاجتناب عنهما، وجب الاجتناب عنهما، ولايمنع عن ذلك شيء من النكتتين، أمـّا النكتة الثانية، فلوضوح عدم ارتكاز التصادم في نظر العرف والعقلاء بين الإلزامين الظاهريين والغرض الترخيصيّ المعلوم بالإجمال. وأمـّا النكتة الاُولى، فلأنّ غاية ما تقتضيه هو احتمال أن يكون الغرض الترخيصيّ المعلوم بالإجمال مقدّماً عند المولى على احتمال الإلزام في كلّ من الطرفين، لكن احتمال ذلك لا يفيد شيئاً، ولا بدّ من الاحتياط في كلا الجانبين، حتى على القول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، ما دام أنـّه قد ثبت أنّ احتمال الإلزام في كلّ واحد من الطرفين لا يرضى المولى بمخالفته في نفسه، في قبال احتمال الترخيص، فإنّ هذا كاف في عدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)(1)، فلا يبقى لنا مؤمّن في المقام، لا عقليّ؛ لعدم جريان القاعدة، ولا شرعيّ؛ لأنّ الترخيص بملاك التزاحم الثاني لم يثبت، وبملاك التزاحم الأوّل قد ثبت خلافه.


(1) الأقوى من هذا أن يتمسّك بما مضى في بعض تعليقاتنا السابقة من أنّ النكتة الصحيحة لكون مثل (رفع ما لا يعلمون) ظاهراً في الترخيص الحيثيّ، أي: الترخيص من حيث الشكّ وعدم العلم، من دون أن ينافي ذلك فرض الإلزام من حيث العلم الإجماليّ بحكم إلزاميّ، إنـّما هي ما شرحناه من أنّ العرف يحمل جميع الأدلّة الترخيصيّة على الحكم الحيثيّ، وذلك بأحد بيانين مضيا: من نكتة الغلبة، ومن نكتة أنّ الإباحة تعني نفي كون الحيثيّة الفلانيّة موجبة للتحريم، لا أنـّها تخلق الحلّ، وكلا هذين البيانين لا يأتيان في طرف التحريم، فلا يأتيان في المقام في الأصل الإلزاميّ، وإنـّما يختصّان بالأصل الترخيصيّ.

57

 

 

 

هل يمكن الترخيص في بعض الأطراف؟

 

وأمـّا المقام الثالث: وهو البحث عن مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في بعض الأطراف، فهنا ـ أيضاً ـ تارةً يقع الكلام في مانعيّته عن ذلك ثبوتاً، واُخرى في مانعيّته عنه إثباتاً.

 

المحذور الثبوتيّ

أمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً عن جريان الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف، فبناءً على ما اخترناه في المقام الثانيّ ـ من عدم مانعيّته ثبوتاً عن جريان الأصل الترخيصيّ في تمام الأطراف ـ لا يبقى محلّ للبحث عن مانعيّته عن الترخيص في بعض الأطراف، فلئن كان الترخيص في تمام الأطراف جائزاً، فما ظنّك بالترخيص في بعض الأطراف.

وإنـّما يقع البحث هنا بعد فرض تسليم مانعيّته ثبوتاً عن الترخيص في تمام الأطراف، كما هو المعروف لديهم، فقد تعارف بينهم التسليم بكون العلم الإجماليّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، واختلفوا في أنـّه هل هو أيضاً علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة أو لا، فذهب المحقّق العراقيّ (رحمه الله) إلى العلّيّة، والمشهور عن المحقّق النائينيّ (قدس سره)هوالاقتضاء، وهو مذكور في بعض عبائر تقرير الشيخ الكاظميّ على تشويش في ذلك، بحيث كأنّ مفاهيم العلّيّة والاقتضاء لم تكن واضحة الحدود عنده آنذاك.

والكلام تارةً يقع في الموقف الحلّيّ في المقام، واُخرى في الموقف النقضيّ، إذ أنّ كلّ واحد من الطرفين تصدّى للنقض على القول الآخر.

أمّا الموقف الحلّيّ، فالذي يمكن أن يستخلص من كلمات المحقّق

58

النائينيّ(1)(رحمه الله) ـ وإن لم يذكره بهذه الصورة ـ هو أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، لأنـّه لا يمكن الترخيص فيها من قبل الشارع، إذ الترخيص فيها يكون ترخيصاً في المعصية، وهو مقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، لا علّة تامّة له، لأنـّه يمكن الترخيص في بعض الأطراف من قبل الشارع، إذ ليس الترخيص في بعض الأطراف وحده ترخيصاً في المعصية.

وأنت ترى أنّ الدليل المذكور في ذلك على المدّعى لا يرجع إلى محصّل، وإنـّما هو تكرار للمدّعى بعبارات اُخرى مع شيء من الاختلاف عن مفهوم المدّعى، ولعلّه (قدس سره) لم يكن يقصد الاستدلال على مدّعاه، وإنـّما كان يقصد شرح المدّعى وتنبيه الوجدان تجاهه مثلاً.

وعلى أيّة حال، فلو كان المقصود هو الاستدلال على المدّعى بما عرفت، ورد عليه: أنّ المعصية بالمعنى الذي لا يجوز للمولى الترخيص فيها ـ أيّاً كان معناها اللغويّ ـ عبارة عن مخالفة حقّ المولى وظلمه بترك ما تنجّز علينا من قبله، فلا بدّ أن نرى أوّلاً أنّ تأثير العلم الإجماليّ هل هو تنجيزيّ، وغير معلّق على عدم مجيء الترخيص، أي: أنّ حقّ المولويّة يكون ثابتاً بلا تعليق على ذلك أو أنـّه معلّق عليه؟. فإن قيل بالأوّل، كان الترخيص في المخالفة ترخيصاً في المعصية، فلم يجز مجيء الترخيص من قبل المولى. وإن قيل بالثاني لم يكن الترخيص في المخالفة ترخيصاً في المعصية، فجاز مجيء الترخيص من قبله، فلا معنىً للاستدلال على التنجيزيّة والاقتضاء بعدم جواز الترخيص من قبل المولى؛ لكونه ترخيصاً في المعصية، أو جوازه؛ لعدم كونه ترخيصاً في المعصية، بل لابدّ أن نعرف أوّلاً أنّ تأثير العلم الإجماليّ هل هو بنحو التنجيز أو الاقتضاء، ثمّ نفرّع على ذلك أنّ الترخيص في المخالفة ترخيص في المعصية أو لا، وإذا وصلت النوبة إلى النظر ابتداءً في أنّ تأثير


(1) والذي استخلصه من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) هو أنّ السرّ في عدم علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، مع كونه علّة لحرمة المخالفة القطعيّة، هو أنّ العلم لا يتطلّب أكثر من الامتثال الجامع بين الامتثال الوجدانيّ والتعبديّ، وإذا فرض الترخيص في المخالفة القطعيّة، فقد الامتثال بكلا وجهيه . أمـّا لو رخّص في بعض الأطراف فهذا يعني جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، وهذا يعني تماميّة الامتثال التعبّدي. راجع فوائد الاُصـول : ج4، ص 62.

59

العلم الإجماليّ علّيّ أو اقتضائيّ لم يبقَ للمحقّق النائينيّ (رحمه الله) إلاّ أن يقول ـ من دون هذا اللّف والدوران ـ : إنّ الوجدان حاكم بكون تأثيره اقتضائيّاً.

وأمـّا المحقّق العراقيّ (قدس سره) فقد ذكر في المقام(1) : أنـّنا لا نحتاج إلى إقامة برهان على العلّيّة، لأنـّنا متّفقون على أنّ العلم الإجماليّ ينجّز شيئاً، وأنـّه ينجّزه بنحو العلّيّة، وإنـّما الخلاف بيننا في أنـّه هل ينجّز الجامع، أو ينجّز الواقع، وقد أثبتنا أنـّه ينجّز الواقع.

وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ لا يرجع إلى محصّل، فإنّ تسليم الخصم للعلّيّة بالنسبة للجامع يكون لأجل أنّ العلم الإجماليّ بلحاظ الجامع علم تفصيليّ، فحاله حال العلم التفصيليّ في العلّيّة. وأمـّا بلحاظ الطرفين فهو علم إجماليّ، فلم يثبت أنـّه على تقدير تأثيره لوجوب الموافقة بلحاظ كلا الطرفين يكون هذا التأثير ـ أيضاً ـ بنحو العلّيّة، فليس له (قدس سره) في المقام عدا أن يقول بأنّ الوجدان حاكم بكون تأثيره علّيّاً.

وإذا آل الأمر في الموقف الحلّيّ من كلا الجانبين إلى دعوى الوجدان، قلنا: إنـّنا قد حلّلنا فيما سبق هذا الوجدان بالبرهان، وأثبتنا أنّ تأثير العلم الإجماليّ ليس بنحو العلّيّة حتى بلحاظ المخالفة القطعيّة، فضلاً عن الموافقة القطعيّة، بل قلنا: إنّ العلم التفصيليّ أيضاً تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة بحسب الروح يكون تعليقيّاً، غاية الأمر أنّ المعلّق عليه ـ وهو عدم وصول الترخيص ـ يكون ثابتاً دائماً؛ لعدم تعقّل جعل الترخيص الظاهريّ على أساس عدم انحفاظ موضوع الحكم الظاهريّ وهو الشكّ(2).

 


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 87، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص307 ـ 308.

(2) وهنا شبهة في عدم إمكان جعل الحكم الظاهريّ في موارد العلم التفصيليّ بالحكم على الإطلاق، لا بأس بالتعرّض لها هنا بالمناسبة وإن كانت ـ في الحقيقة ـ أجنبيّة عن محلّ الكلام، وتلك الشبهة تتوجّه على المسلك المختار في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ من إعمال قانون التزاحم من قبل المولى على التزاحم في التحريك، لا التزاحم في الامتثال أو الجعل، وتلك الشبهة هي: أنـّه قد يتّفق إمكان جعل الحكم الظاهريّ رغم العلم التفصيليّ بالحكم بنفس الروح التي حقّقنا إمكانيّة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ في سائر الموارد، مثاله: ما لو علمنا تفصيلاً بوجوب علاج مؤمن من مرض له بتقديم الدواء له، ولكن علم إجمالاً بحرمة

60

وأمـّا الموقف النقضيّ، فقد أورد المحقّق النائينيّ(1) (قدس سره)النقض على القول بالعلّيّة بأنـّه في موارد العلم التفصيليّ قد ثبت الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ونحوهما، فهل صار العلم الإجماليّ أعلى وأشدّ تأثيراً من العلم التفصيليّ؟!

وأفاد المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في مقام الجواب عن ذلك(2) : أنّ بعض الأعاظم خلط بين الأصل الجاري في مرحلة الامتثال والأصل الجاري في مرحلة التكليف، فإنّ قاعدة الفراغ وشبهها جارية في مرحلة الامتثال، ومثبتة لجعل البدل لحصول


سلوك أحد طريقيّ الذهاب إلى محلّ تواجد ذاك الدواء؛ لمغصوبيّة الطريق مثلاً، فهنا بالرغم من العلم التفصيليّ بوجوب علاج المؤمن، وتقديم الدواء له يمكن فرض الترخيص الظاهريّ في تركه؛ لأهمّيّة حرمة سلوك الطريق المغصوب مثلاً، وذلك لأنّ الترخيص الظاهريّ ـ حسب الفرض ـ هو الترخيص الناشىء عن تزاحم الغرضين في عالم المحرّكيّة، وهنا قد تزاحم غرض علاج المؤمن وغرض ترك الطريق المغصوب في المحرّكيّة، لا لعدم القدرة على الجمع بينهما، لكي يكون تزاحماً في عالم الامتثال، فإنـّه قادر على سلوك الطريق المباح والوصول إلى علاج المؤمن، من دون ابتلاء بالغصب، بل للجهل بما هو الطريق المغصوب، وعدم تمييزه عن الطريق المباح، فأيّ فرق بين الترخيص هنا والترخيص في موارد عدم العلم التفصيليّ كي يفترض إمكانيّة اجتماع الثاني مع الحكم الواقعيّ، بخلاف الأوّل؟ مع أنّ النكتة فيهما واحدة، وهي التزاحم في مقام المحرّكيّة.

وقد أفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الجواب عن ذلك: أنّ هذا المثال بابه باب التزاحم في مقام الامتثال بين وجوب الانقاذ واقعاً، ووجوب الاحتياط بترك كلا الطريقين ظاهراً، وبكلمة اُخرى: إنـّنا نقصد بالحكم الخطاب، أو ما يكشف عنه الخطاب، الناشئ عن داعي حصول التحريك على تقدير الوصول، وهذا غير ممكن في باب التزاحم الامتثاليّ بما هو أهمّ مثلاً، فلا يوجد داعي التحريك في هذا المثال نحو علاج المؤمن، حتى مع وصول هذا الحكم، كما لا يوجد داعي التحريك نحو غير الأهمّ في باب الصلاة والإزالة مثلاً، وإنـّما يمكن ذلك في خصوص فرض عدم العلم التفصيليّ بالحكم الواقعيّ، فهذا الفرض هو الذي يمكن فيه انحفاظ الحكم الواقعيّ مع الترخيص الظاهريّ.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 12.

(2) راجع المقالات : ج 2، ص 88 ـ 89، ونهاية الأفكار : القسم الثاني من الجزء الثالث ص309 ـ 315.

61

الامتثال القطعيّ تعبّداً، ونحن لا نقول: إنّ العلم علّة تامّة لوجوب تحصيل القطع بالامتثال الوجدانيّ، وإنـّما نقول: إنـّه علّة تامّة لوجوب تحصيل القطع بالامتثال، سواء كان وجدانيّاً أو تعبّديّاً، ونقول بمثل ذلك في العلم الإجماليّ أيضاً، فإذا علمنا إجمالاً مثلاً بوجوب الظهر أو الجمعة، وورد دليل تعبّديّ على أنّ ذلك الواجب هو الظهر، فهنا نلتزم بجواز الاقتصار على الظهر؛ لأنـّه إن لم يكن هو الواقع فقد جعل بدلاً عنه، وحصلت الموافقة القطعيّة تعبّداً.

والخلاصة: أنّ العلم بالتكليف ـ سواء كان تفصيليّاً أو إجماليّاً ـ يستدعي الفراغ اليقينيّ: إمـّا بالوجدان، أو بالتعبّد، ومعه لا بأس بإجراء البراءة في الطرف الآخر. وأمـّا إجراؤها في أحد الطرفين من دون تحصيل القطع بالفراغ ـ ولو الفراغ التعبّديّ ـ فغير صحيح.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ (قدس سره) في المقام.

والمحقّق النائينيّ (رحمه الله) ذكر في المقام: أنّ العلم الإجماليّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وإنـّما هو مقتض له، فإنّ العلم الإجماليّ لا يزيد على العلم التفصيليّ، وفي العلم التفصيليّ يمكن الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة؛ لأجل جعل البدل من قبل الشارع، وحصول القطع بالامتثال التعبّديّ، كما في مثال موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، نعم يصحّ أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ، يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة؛ بتعميم الموافقة القطعيّة إلى الوجدانيّة والتعبّديّة، لا خصوص التعبّديّة.

فكأنـّه (رحمه الله) يقول بالاقتضاء بلحاظ خصوص الموافقة القطعيّة الوجدانيّة، وبالعلّيّة بلحاظ الأعمّ من الوجدانيّة والتعبّديّة، ويحمل كلام الخصم القائل بالعلّيّة على علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة الوجدانيّة، وإلى هذا الحدّ من الكلام كأنـّه يبدو عدم وجود خلاف حقيقيّ بينه وبين المحقّق العراقيّ.

ولكن كان ينبغي له أن يفرّع على ذلك عدم إمكان جريان الأصل الواحد في أحد الأطراف، كما فرّع ذلك عليه المحقّق العراقيّ، إلاّ أنـّه خالفه في التفريع، ففرّع على المطلب إمكان إجراء الأصل الواحد في أحد الأطراف؛ لأنـّه يفيد جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، ويوجب حصول الموافقة القطعيّة التعبّديّة.

62

ثمّ يقول (قدس سره) بعد أسطر ما هذا لفظه: العلم الإجماليّ إنـّما يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة إذا كانت الاُصول النافية للتكليف الجارية في الأطراف متعارضة(1).

وهذا الكلام وإن كان يقبل التأويل، لكنّ ظاهره يوافق ما في أجود التقريرات، من أنّ العلم الإجماليّ لا يقتضي أصلاً وجوب الموافقة القطعيّة، إلاّ بلحاظ تعارض الاُصول.

هذا، والمحقّق العراقي (رحمه الله) ينظر إلى ما أفاده المحقّق النائينيّ (قدس سره) من كون جريان الأصل في أحد الطرفين مساوقاً لجعل البدل، وحصول الموافقة القطعيّة التعبّديّة، فيقول(2) : إنّ جعل الأصل في المقام مساوق لجعل البدل إن اُريد به: أنّ الأصل يدلّ على جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، فهذا غير صحيح، فإنّ الأصل لا يدلّ على ذلك، لا بالمطابقة كما هو واضح، فإنّ مفاده إنـّما هو البراءة عن هذا الطرف، ولا ينظر إلى حال الطرف الآخر، ولا بالالتزام(3) ؛ لعدم حجّيّة المداليل الالتزاميّة للاُصول. وإن اُريد بذلك: أنّ دليل الأصل ـ كقوله: (رفع ما لا يعلمون) الذي هو أمارة ـ يدلّ بالالتزام على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل، لأنّ المفروض أنّ الأصل لا يجري في هذا الطرف إلاّ مع فرض جعل البدل حتّى تتحقّق الموافقة القطعيّة التعبّديّة، ورد عليه: أنّ الأصل لا يتوقّف على مجرّد جعل البدل في المرتبة السابقة، فإنـّه لا تتحقّق بذلك الموافقة القطعيّة التعبّديّة، بل يتوقّف على وصول جعل البدل في المرتبة السابقة، فيستحيل تحقّق الوصول من نفس دليل الأصل، وبكلمة اُخرى: أنّ دليل الأصل لا بدّ أن يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنـّك عالم بجعل البدل، وهذا كذب، فالدلالة الالتزاميّة ساقطة في المقام، فلا يجري الأصل(4).

 


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 13.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 313 ـ 315.

(3) مقصود المحقّق العراقيّ (رحمه الله) من الدلالة الالتزاميّة في المقام هو أنّ الأصل المرخّص إن كان تنزيليّاً، فكان لسانه لسان أنّ هذا الطرف حلال واقعاً، فقد يقال: إنّ لازم كونه حلالاً واقعاً كون الآخر حراماً؛ للعلم الإجماليّ بحرمة أحدهما، فيجيب عن ذلك بأنّ هذا تمسّك بالأصل المثبت.

(4) نعم، لو كان دليل الأصل صريحاً في جريانه في أحد الطرفين، كان هذا كناية عرفاً

63

أقول: إنّ الصحيح ـ بحسب الإطار الفكري الذي يعيشه هذان العلمان ـ هو ما أفاده المحقّق العراقيّ، لا ما أفاده المحقّق النائينيّ.

وما أفاده المحقّق النائينيّ مشوّش بناءً، ومفرّع عليه ما لا يناسبه، وما أفاده المحقّق العراقيّ غير مشوّش بناءً، ومفرّع عليه ما يناسبه.

لكنّنا نقول: إنّ الفرق بين جعل البدل وجعل البراءة ليس إلاّ فرقاً لسانيّاً، وإنّ التعبير تارةً بهذا واُخرى بذاك تفنّن في العبارة، ولا يرتبط ذلك بفرق جوهريّ بين الاُصول، وإنـّما روح الحكم الظاهريّ في الجميع يرجع إلى درجة اهتمام المولى بغرضه الواقعيّ عند الشكّ، فلو لم يهتمّ بغرضه إلى درجة يكلّف العبد كلفة إعادة العمل عند الشكّ في صحّة عمله، رخّص العبد في ترك الإعادة، إمـّا بلسان: لا تُعِد، وإمـّا بلسان: بلى قد ركعت مثلاً، أفهل ترى أنـّه لو قال: بلى قد ركعت، فهذا ليس تحدّياً لحكم العقل، لأنـّه عبّدنا بحصول الامتثال، ولو قال: لا تُعِد(1) كان ذلك تحدّياً لحكم العقل؛ لأنـّه رخّص من دون التعبّد بذلك؟.

نعم، مثل هذه التفرقة بين اللسانين ليس غريباً على اُصول كانت تفرّق بين لسان جعل الكاشفيّة ولسان إيجاب الاحتياط، فترى أنّ موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) يرتفع بوضوح بجعل الكاشفيّة، ولكن تشكل كيفيّة تصوير ارتفاعه بمجرّد إيجاب الاحتياط، لأنّ المفروض أنّ الشارع لم يجعل البيان.

والحاصل: أنـّه لا فرق ـ بحسب الروح والجوهرـ بين أن يرخّص المولى بلسان جعل البدل، والتعبّد بحصول الامتثال، أو يرخّص بلسان جعل البراءة. واعتراف المحقّق العراقيّ بإمكان الأوّل اعتراف ضمنيّ منه بحسب وجدانه بإمكان الثاني، فتحصّل أنّ نقض المحقّق النائينيّ يكون ـ وبحسب الواقع ـ وارداً عليه.

هذا. وللمحقّق العراقيّ نقضان في المقام:

الأوّل: نقض موجود في تقرير بحثه، ولم يذكره في مقالاته، وهو أنـّه بعد أن فرّق بين العلم التفصيليّ والعلم الإجماليّ في التنجيز، كما سلّم الخصم بذلك، يلزم من عدم علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة وجواز إجراء الأصل في


عن جعل الطرف الآخر بدلاً، بناءً على أنّ جريان الأصل لا يتصوّر إلاّ مع حفظ الامتثال التعبّديّ القطعيّ.

(1) ولم يكن ذلك كناية عن معنى: بلى قد ركعت.