144

وحكم القسم الأوّل واضح بداهة انّ الطفل ليس بأخسّ حالاً من الحيوان فكما تصحّ المعاطاة بالإيصال عن طريق الحيوان تصحّ بالإيصال عن طريق الطفل.

وحكم القسم الأخير أيضاً واضح فانّه القدر المتيقن من أدلّة الحجر ومنع تصرّف الطفل انّما الكلام في الأقسام الثلاثة الوسطى هل تكون مشمولة لأدلّة الحجر والمنع أو لا؟

والتحقيق: انّ أدلّة الحجر والمنع الماضية تكون بأحد تعبيرين:

الأوّل ـ التعبير بالجواز وعدمه من قبيل ما مضى من قوله: متى يجوز أمره؟ قال حتى يبلغ أشدّه.

والثاني ـ التعبير بدفع المال إليه وعدمه من قبيل الآية الكريمة ﴿حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ ورواية هشام: انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام وهو أشدّه وان احتلم ولم يونس منه رشده وكان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه وليه ماله.

والقسم الثاني الذي ينشىء فيه الطفل المميز للإنشاء عن وليّه ليس مشمولاً للتعبير الأوّل فانّ جواز أمره أو وصيته أو طلاقه مثلاً ليس عنواناً يصدق إلّا مع مستوى من الاستقلالية له بحيث يجوز وينفذ أمره هو من دون حاجة إلى تنفيذ الولي له بل قد يقال: إنّ العقد في مثل هذا الفرض لا يعدّ من أمر الصبي حتى يشمله دليل عدم جواز أمره وانّما يعد من أمر الولي. وكذلك ليس مشمولاً للتعبير الثاني فانّه بعد وضوح عدم إرادة الإقباض المادّي من الدفع إليه فقد يعطي الولي مال الطفل بيده ويأمره بإيصاله إيّاه إلى المأمن الفلاني وتحت إشرافه، ومن الواضح عدم دخول ذلك في النهي عن دفع المال إليه يكون المقصود من عنوان

145

الدفع إليه جعل المال تحت إدارته وهيمنته ولا علاقة لذلك بما نحن فيه. اذن يتمسّك في المقام بإطلاقات أدلّة المعاملات الدالة على صحّة العقد بالنسبة للولي فانّ هكذا عقد يستند إلى الولي بلا إشكال.

وكذلك الحال في القسم الثالث وهو تجارة الصبي بإشراف الولي وإدارته فهذا أيضاً ليس مشمولاً للعنوان الأوّل، باعتبار انّ جواز الأمر يعني نوعاً من الاستقلالية للشخص ونفوذ أمره بلا حاجة إلى تنفيذ غيره إ يّاه، وفرض الإشراف ينهي هذه الاستقلالية، ولا مشمولاً للعنوان الثاني لما عرفت من انّ المفهوم من إعطاء المال بيده بعد وضوح عدم إرادة الإعطاء الجوارحي هو جعله تحت إدارته وسلطنته، وفرض إشراف الولي عليه ينهي هذه الحالة. فهذه الأدلّة لا تدلّ على بطلان هكذا عقد فيتمسّك بإطلاقات أدلّة المعاملات بالنسبة لهذا الصبي ووجوب التزامه به بعد بلوغه، بل ان الآية الشريفة وابتلوا اليتامى ـ إلى آخره ـ تدلّ على صحّة عقد الصبي المميّز تحت إشراف الولي فانّ ابتلاء اليتيم يكون بهذا.

ولا يقال: إنّ الأمر بابتلاء اليتيم لا يلازم الحكم بصحّة معاملته فلعلّه يبتلى بجعل المعاملة والتجارة تحت يده، ثمّ يحكم ببطلان تلك المعاملة أو التجارة.

فانّه يقال: إنّ الملازمة العقلية وإن كانت غير موجودة في المقام لكن المفهوم العرفي من الأمر بإيقاع التجارة والمعاملة على يد الطفل ولو اختباراً هو صحّة تلك المعاملة أو التجارة.

وأمّا ما أفاده السيّد الإمام (رحمه الله)(1) من أنّ الآية لا تدلّ على صحّة معاملة الصبي لانّها واردة مورد بيان حكم آخر وهو إيجاب الاختبار فلا تدلّ بإطلاقها


(1) راجع كتاب البيع 2: 11.

146

على صحّة المعاملة. ويمكن فرض إيجاب اختباره بتوريطه في المعاملة والتجارة ثم الحكم ببطلان تلك المعاملة أو التجارة.

أقول: نحن لا نتمسّك بإطلاق الآية لإثبات صحّة معاملة الصبي، وانّما نتمسّك بالدلالة الالتزامية العرفية للأمر بتوريط الصبي في المعاملة على صحّتها.

والظاهر انّ السيّد الإمام (رحمه الله) ينظر إلى رد ما نقله عن أبي حنيفة من انّ الآية تدلّ بإطلاقها على ابتلاء الطفل بأي شكل ممكن، ومن أشكال الابتلاء هو توريطه في المعاملة والتجارة، فالآية بإطلاقها دلّت على ابتلاء الطفل بتوريطه في التجارة وبالتالي تدلّ على صحّة تلك التجارة فهنا يقول السيّد الإمام: إنّ الآية واردة مورد حكم الابتلاء فلا إطلاق لها لصحّة المعاملة.

أقول: إنّ ابا حنيفة أيضاً لم يتمسّك ـ في المنقول عنه ـ بإطلاق الآية لإثبات المعاملة مباشرة حتى يورد عليه بانّ الآية ليست في مقام بيان حكم الصحّة، وانّما هي في مقام بيان الأمر بالابتلاء والاختبار، وانّما تمسّك بإطلاق الآية بلحاظ نفس الأمر بالابتلاء وقال: إنّ هذا يشمل ابتلاءه بتوريطه في التجارة وإذا صحّ الأمر بتوريطه في التجارة فهذا يدلّ على صحّة التجارة. وهذا كما ترى لا يردّ عليه إشكال السيّد الإمام (رحمه الله)، نعم يرد عليه: انّه إن أراد بهذه الدلالة دعوى الملازمة العقلية بين إيجاب توريطه في التجارة وصحّتها، فمن الواضح عدم الملازمة العقلية إذ بالإمكان كما أفاد السيّد الإمام أمره بالتجارة ثم الحكم ببطلان تجارته.

وإن أراد بذلك الملازمة العرفية فلا ملازمة عرفية بين الدلالة الإطلاقية للآية على توريطه في التجارة وصحّة التجارة. نعم لو أمرت الآية بخصوص توريطه في التجارة لا ينبغي الإشكال في دلالة ذلك عرفاً على صحّتها.

147

والتحقيق أنّ الآية قد أمرت بذلك بالخصوص لا بالإطلاق فإنّ المفهوم عرفاً من الأمر بالابتلاء في مورد اختبار الرشد التجاري والمعاملي هو النظر إلى ابتلائه بالتجارة بحيث يكون تخصيصه بنحو آخر من الابتلاء غير عرفي. إذن فتتم الدلالة الالتزامية العرفية للآية على المدعى.

أمّا ما قد يقال من انّ الآية انّما دلّت على صحّة التجارة الاختبارية وهذا هو القدر الذي ادّعى أبو حنيفة فهمه من الآية لا على صحّة تجارته بإشراف الولي بعد إحراز رشده وانتهاء الاختبار فهو أمر بعيد عن فهم العرف فليس من الأمر العرفي التفصيل بين تجارته في خصوص حالة الاختبار وتجارته بعد ذلك مثلاً بإشراف الولي بصحّة الاُولى دون الثانية.

والسر في ذلك انّ حالة الاختبار ليست مستثناة من حكم الحجر المستفاد من نفس الآية المباركة، وهذا شاهد على انّ الاختبار المأمور به انّما يكون باتجار الصبي بإشراف وليه لا باتجاره المستقل عن وليه، وأنّ السر في صحّة تجارته ومعاملته هو إشراف الولي لا كون المعاملة معاملة اختبارية.

أمّا إذا أصررنا على أنّ المعاملات الاختبارية مستثناة من حكم الحجر خصوصاً بناء على انّ الاختبار في كثير من الأوقات يلازم سحب الإشراف كي يرى انّ الطفل كيف يتصرّف من دون إشراف عليه.

فعندئذ يقال: إنّ الآية تدلّ على صحّة معاملات الصبي في الجملة بنحو يمكن ان تروج في سوق المتديّنين، أمّا صحّة خصوص المعاملات الاختبارية فلا تؤدي إلى رواج معاملات الصبي في سوق المسلمين لندرة المعاملات الاختبارية فكيف يمكن عندئذ اختبار الصبي بإ يكال المعاملة إليه من دون إشراف الولي، في حين إنّ المتديّنين لا يعلمون بانّ هذه المعاملة صدفة هي من تلك النادرة كي

148

يقدمون على التعامل معه؟!

أمّا ما هو مقدار المعاملات الصحيحة الرائجة في السوق؟ فطبعاً لا إطلاق للآية في ذلك فلابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقّن من ذلك هو معاملات الصبي بإشراف الولي.

وأمّا القسم الرابع الذي لم يعتمد الطفل فيه في معاملته على إشراف الولي وانّما اعتمد على إذنه فحسب فالظاهر بطلانه، لانّنا لئن شككنا في شمول القسم الأوّل من قسمي دليل البطلان إيّاه وهو ما ورد بعنوان عدم الجواز والنفوذ بدعوى انّ النفوذ مع الاذن لعله لا ينافي عنوان عدم جواز أمره فلا إشكال في شمول القسم الثاني إيّاه وهو ما دلّ على عدم دفع المال إليه، فانّ النهي عن دفع المال إليه الذي كان بمعنى النهي عن تسليطه إيّاه يشمل الاذن الخالي عن الإشراف حتماً، وإلّا للغى هذا النهي عرفاً إذ بإمكان كل ولي يرغب ان يدفع مال الطفل المميز إليه ان يأذنه في التصرّف كي يجوز دفع المال إليه، فمعنى النهي عن تسليط الأطفال على أموالهم هو المنع عن اذنهم بالتصرّف في الأموال من دون الإشراف عليهم.

إذن فالنتيجة هي انّ معاملات الصبي باطلة ولو كان مميزاً ورشيداً إلّا بإشراف الوليّ ولا فائدة في مجرّد الاذن.

نعم في الاُمور الجزئية أو الدوائر الضيقة من التصرّف لا يبدو كثير فرق بين الاذن والإشراف فهما يتقاربان أو يتلازمان خارجاً، فالطفل الذي أخذ توماناً من أبيه مثلاً ليشتري خبزاً واذن له أبوه بذلك فقد أشرف على عمله في نفس الوقت وكذلك الطفل الذي أخذ مبلغاً محقراً من المال من وليه ليشتري ما يشتهيه واذن له الولي من دون الاهتمام بانّه هل سيغبن في ما يشتريه أو لا، لعلمه بحقارة المبلغ على أي حال كان هذا كافياً في صدق الإشراف المقصود، وهذا بخلاف الطفل

149

الذي أخذ من أبيه مالاً لتجارة مفصّلة فاذن له أبوه من دون إطلاع على تفاصيل الأمر فهذا هو الاذن المنفصل عن الإشراف.

ولعلّ المقصود لكثير ممّن شرط إذن الولي في صحّة تعامل الصبي هو ما سمّيناه بالإشراف.

وعلى أيّة حال فقد يقال بعدم اشتراط الاذن أو الإشراف في معاملات الصبي في المحقرات وذلك تمسّكاً بالسيرة.

أقول: إن كان المقصود بالسيرة سيرة المتشرّعة فبناء على ثبوتها مستمرة إلى زمان المعصوم فالمتيقن منها هو ما كان عن اذن أو إشراف، أمّا بدون ذلك فلم يعرف عن غير اللاّمبالين في الفقه والأحكام.

وإن كان المقصود سيرة العقلاء بدعوى انّ النواهي الماضية لا تصلح للردع عنها لانّ ردعها يكون بإطلاقها للمحقرات في حين انّ سيرة عريقة وعميقة من هذا النمط لا يكفي في الردع عنها مجرّد إطلاق من هذا القبيل، بل هي بحاجة إلى ردع أقوى قلنا: أوّلاً إنّ إطلاق الأدلّة للمحقرات إطلاق قويّ مفهوم وكاف للردع عن مثل هذه السيرة.

وثانياً انّ سيرة العقلاء على التعامل مع الصبي بالنسبة لغير دائرة الاذن أو الإشراف من قبل الولي ليست سيرة عميقة الجذور في المرتكزات العقلائية بل هي أيضاً سيرة عدم المبالاة بنفس المرتكزات العقلائية، فمسألة حجر الصغير حتى في المحقرات مسألة عقلائية أيضاً كما هي شرعية، ونحن نرى انّ النظم الوضعية القائمة على أساس التشريعات العقلائية معترفة أيضاً بحجر الصغير من دون تفصيل بين الأموال الجليلة والمحقرة.

وهناك وجه آخر لإثبات جواز معاملات الصبي في المحقرات من دون

150

حاجة إلى اذن الولي أو إشرافه وهو التمسّك برواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كسب الإماء فانّها إن لم تجد زنت إلّا أمَة قد عرفت بصنعة يد، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده فانّه إن لم يجد سرق(1).

ووجه الاستدلال هو انّ المتيقن ممّن اريد بهذا الخطاب هو سيّد الأمة وولي الصبي بحيث ليس من الفهم العرفي فرض اختصاص الخطاب بغير السيّد والولي، اذن فيعلم من ذلك ان كسب الصبي لم يكن باذن وليه أو إشرافه وإلّا فلا معنى للتخوّف من فرض عدم وجدانه المؤدّي إلى إقدامه على السرقة، لانّ الولي الذي يأذن له بالكسب أو يشرف على كسبه من الطبيعي انّه يضع مالاً تحت يده كي يكتسب به رغم عدم الاذن والإشراف تفهم من الحديث صحّة معاملة الصبي، لانّه علّل النهي بتخوّف السرقة وخصّه بما إذا لم يحسن الصناعة بيده كي يؤدّي ذلك إلى تخوّف السرقة، فلو كان كسبه باطلاً من أساسه لم يناسب تعليل النهي بالتخوّف من احتمال السرقة ولا التخصيص بفرض ما إذا لم يحسن الصناعة الموجب لذاك التخوّف هذا.

إضافة إلى ما قد يقال من ان هذا النهي تنزيهيّ حفظاً لوحدة السياق بينه وبين النهي عن كسب الإماء المحمول على الكراهة بلا شك.

وأمّا وجه تخصيص الاستدلال بهذا الحديث بالمحقرات فهو انّ الحديث ليس بصدد بيان صحّة معاملات الصبي كي يتم فيه الإطلاق، وانّما هو بصدد بيان النهي عن كسبه حينما لا يحسن الصناعة بيده فإذا لم يتم فيه الإطلاق فلا بد من


(1) الوسائل 12: 118، الباب 33 من أبواب ما يكتسب به.

151

الاقتصار في إثبات صحّة معاملاته على القدر المتيقن وهو فرض كون المعاملة في المحقرات.

هذا. والوجه الأخير للاستدلال بهذا الحديث وهو كون النهي محمولاً على الكراهة وإن أمكن الإيراد عليه بانّ حفظ وحدة السياق لا ينحصر بالحمل على الكراهة، بل يكون أيضاً بحمل النهيين على الجامع بين الحرمة والكراهة، وعلمنا الخارجي بانّ الحكم الواقعي في مورد النهي الأوّل هو الكراهة لا الحرمة لا يقتضي العلم بانّه في مورد النهي الثاني أيضاً كذلك فلا دلالة للحديث بوحدة السياق على نفي الحرمة عن استفادة الولي من كسب الصبي.

ولكن يكفينا للاستدلال الوجه الأوّل وهو انّه لو كانت معاملات الصبي بلا اذن أو إشراف باطلة لما كان من المناسب تعليل ذلك بالتخوّف من احتمال السرقة، وتخصيصه بما إذا لم يحسن الصناعة بيده.

ولكن الانصاف عدم تمامية الاستدلال بهذا الحديث على المقصود بغضّ النظر عن ضعف سنده بالنوفلي وذلك.

أوّلاً ـ لانّه إذا لم يتم الإطلاق في الحديث لعدم كونه بصدد بيان صحّة معاملة الصبي ولزم الاقتصار على القدر المتيقن فبالإمكان تخصيص الحكم بالصحّة بفرض الاذن والإشراف.

أمّا القول بانّه لا يحتمل في مورد الحديث فرض الاذن أو الإشراف إذ معه لا يأتي احتمال عدم كون الصبي واجداً للمال فيسرق لانّ الولي هو الذي يضع المال تحت يده.

فمدفوع بإمكان افتراض انّ الولي اذن له في إيجار نفسه لصنع عمل يستحق به الإجرة لا في مال اعطاه إياه للبيع أو الشراء كما هو المناسب لكلمة

152

«صنـاعة بيـده» الـواردة في الحـديث كمـا نشـير إلى ذلـك أيضاً في الإشكال الثاني.

وثانياً ـ لنفترض أنّ الحديث مطلق ينظر حتى إلى فرض عدم الإذن والإشراف ولكن المقصود بكسب الأمَة والصغير في هذا الحديث هو عملهما صنعة للناس لقاء اُجرة اليد وذلك بقرينة قوله: «إلّا أمَة قد عرفت بصنعة يد» وقوله: «الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده»، ومن الواضح انّ الصغير لو عمل للناس بالاُجرة ملك اُجرة اليد حتى لو كان بغير اذن الولي وإشرافه وافترضنا بطلان الإيجار، فانّ عمل المسلم محترم على أي حال. غاية الأمر انّه مع فرض بطلان الإيجار يملك اُجرة المثل لا المسمّاة، ولو تبرّع صاحب العمل له باجرة أكثر من اُجرة المثل ملكها أيضاً بلا إشكال.

وعليه فالرواية أجنبيّة عن المقام إطلاقاً.

دعوى كون الصبي مسلوب العبارة:

وقد يقال ـ في مقابل ما اخترناه من كفاية إشراف الولي لصحّة معاملات الصبي وكذلك صحّة إنشاء الصبي وكالة عن الولي ـ: انّ الصبي مسلوب العبارة فلا تصحّ منه المعاملة والعقود بأي شكل من الأشكال، وذلك لوجود دليلين آخرين على حجره يثبتان هذا الحجر بمعناه الواسع فلئن كانت الأدلّة السابقة لا إطلاق لها لإثبات هذا المستوى من إبطال عقود الصبي فبالإمكان التمسّك بإطلاق أحد هذين الدليلين.

الدليل الأوّل ـ حديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم فعن ابن ظبيان قال: اُتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال علي (عليه السلام): أمَا علمتَ انّ القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم

153

حتى يستيقظ؟!(1). والسند غير تام.

وفي موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة قال إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة فانْ احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن اتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم(2).

ولعلّ أوّل ما يخطر بالبال من الإشكال على الاستدلال بحديث رفع القلم هو أنّه لم يثبت كون المقصود رفع قلم الحكم، فلعلّ المقصود رفع قلم كتب السيئات مثلاً المستفاد من قوله تعالى: ﴿إنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وكلّ انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً﴾(4).

ولا يقال: إنّ الرفع الصادر من الشارع بما هو شارع يناسب رفع قلم الحكم لا قلم كتب السيئات.

فانّه يقال: قد يكون هذا الرفع صادراً من المولى بما هو مولى وكما انّ كتب الحكم من شؤون المولى بما هو مولى فيناسبه رفعه، كذلك كتب السيئات من شؤونه.

ثم يخطر بالبال الجواب على هذا الإشكال بانّنا نتمسك بالإطلاق لإثبات أنّ المرفوع جامع القلم فيشمل قلم كتب السيئات وقلم الحكم.


(1) الوسائل 1: 32، الباب 4 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 11.

(2) نفس المصدر، الحديث 12.

(3) الانفطار: 10 ـ 12.

(4) الإسراء: 13 ـ 14.

154

ولكنّ الواقع انّ التمسّك بالإطلاق هنا ليس في محله وتوضيح ذلك: انّعملية اقتناص الإطلاق من مثل أكرم العالم مثلاً لإثبات انّ المقصود هو الجامع بين العالم العربي والعالم الفارسي يمرّ بمرحلتين: (الاُولى) إثبات انّه قصد بالعالم الجامع بين العالم العربي والعالم الفارسي وذلك ليس بمقدّمات الحكمة، بل بأصالة الحقيقة وبأصالة تطابق المقصود الجدّي للمقصود الاستعمالي.

(والثانية) نفي تقييد لهذا الجامع المقصود بمقدمّات الحكمة.

وأمّا في مثل المقام الذي لم يقصد بالقلم المعنى الحقيقي المفهوم لنا، وإنّما كان المقصود الاستعمالي أو الجدّي معنى مجازياً واستعارياً وكنائياً فالمرحلة الاُولى وهي مرحلة إثبات إرادة الجامع لا نستطيع أن نثبتها ونجتازها إلى المرحلة الثانية، لانّ أحد الأصلين وهما: أصالة الحقيقة أو أصالة تطابق المقصود الجدّي للمقصود الاستعمالي منخرم في المقام يقيناً.

نعم قد يتفق إحراز المرحلة الاُولى بواسطة بعض القرائن أو المناسبات كما لو قال: أكرم الاُسُود وعرفنا انّ المقصود به إكرام الشجعان فالمناسبة المجازية الشائعة بين المعنى الحقيقي والمجازي للكلمة هنا تساعد وفق المركوز العرفي على كون المقصود بالاُسُود جامع الشجعان وتصل النوبة إلى احتمال تقييد هذا الجامع بقيد فينفى ذلك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وأمّا في المقام فلا ارتكاز أو قرينة أو مناسبة تدلّ على إرادة الجامع بين قلم الحكم وقلم كتب السيئات من كلمة القلم، فكما يناسب المقام إرادة الجامع منها أو إرادة خصوص قلم الحكم، كذلك يناسب المقام إرادة خصوص قلم كتب السيئات.

وممّـا يؤيّد احتمال كون المراد بالقلم قلم السيئات، المقارنة بين ما مضى

155

من موثّقة عمّار قال سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ قال إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم.

ورواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع مشفّع فإذا بلغوا اثنتى عشرة سنة كانت (كتبت خ ل) لهم الحسنات فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات(1). فترى انّ في رواية طلحة جعل مكان جملة (جرى عليه أو عليها القلم) جملة (كتبت عليهم السيئات) وليس في السند من يتوقّف لأجله عدا طلحة بن زيد، وقد روى عنه صفوان بن يحيى في سند تام، وقال عنه الشيخ: عامي المذهب إلّا انّ كتابه معتمد.

أمّا إذا غفلنا عن قلم كتب السيئات وحملنا الحديث على قلم كتب الأحكام فلا نشك في انّ القدر المتيقن من ذلك قلم الحكم التكليفي الذي هو مرفوع عن الصغير يقيناً وهل يشمل بالإطلاق قلم الحكم الوضعي أو لا؟

قد يقال بنفس التقريب الذي مضى: إنّ إطلاقاً من هذا القبيل غير ثابت في المقام، لانّ قلم الوضع وقلم التكليف كلاهما قلم مجازي وكنائي فلا يمكن إثبات إرادة الجامع بينهما بالإطلاق.

وإن لم نقبل ذلك وقلنا: إنّ المرتكز العرفي والمتشرّعي يقتضي افتراض انّ كتب الحكم التكليفي وكتب الحكم الوضعي عملان لقلم واحد وهو قلم الحكم


(1) الوسائل 1: 30، الباب 4 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1، وقد ورد الحديث في الكافي 6: 3، كتاب 1 العقيقة، الحديث 8.

156

وليسا قلمين فظاهر الكلام بمناسبة ما عرفت هو إرادة الجامع فقد اجتزنا بذلك المرحلة الاُولى التي نحتاجها في باب الإطلاق، أو أنكرنا أصلاً فرض كون هذه الأقلام أقلاماً مجازية واستعارية وافترضنا انّ القلم موضوع لمطلق ما يثبّت وانّ قلم الأحكام وضعاً وتكليفاً وقلم كتب السيئات كلها مصاديق حقيقية لمعنى الكلمة.

قلنا: إنّ المرحلة الثانية وهي نفي القيد بمقدمات الحكمة لا تتم في المقام وذلك لأمرين:

الأمر الأوّل ـ إنّ كلمة رفع القلم عن الصبي أو جريه عليه تدلّ على رفع ثقل عنه أو جريه عليه على ما هو مفهوم من كلمة عن أو من كلمة على والثقل انّما يكون للحكم التكليفي أو لكتب السيئات، أمّا الحكم الوضعي فحينما يوجب الثقل كما في النجاسة مثلاً فانّما يوجبه بواسطة الحكم التكليفي، وما يثقل الظهر مباشرة إنّما هو الحكم التكليفي أو السيئات، وهذه المناسبة تصرف الكلام إلى نفي الحكم التكليفي أو السيئات أو ـ على الأقل ـ تمنع عن تمامية الإطلاق.

ولا يقاس رفع القلم برفع ما اُكرهوا عليه مثلا الذي نسب الرفع فيه في بادىء النظر إلى ذات الفعل المكره عليه، فقيل: إنّه يشمل بإطلاقه رفعه بلحاظ حكمه الوضعي أيضاً فيبطل البيع المكره عليه، فانّ الرفع في المقام قد نسب إلى قلم الحكم، والقلم الثقيل مباشرة انّما هو قلم التكليف لا قلم الوضع فينصرف ذلك إلى قلم التكليف أو على الأقل لا يتم الإطلاق بالنسبة لقلم الوضع، وهذا بخلاف ما إذا نسب الرفع في بادىء النظر إلى ذات الفعل الذي لا يقصد على أي حال رفع ثقله المباشر فلا يبقى على أي حال بهذا اللحاظ فرق بين رفع الحكم التكليفي ورفع الحكم الوضعي.

157

الأمر الثاني ـ انّ المفهوم بالبداهة عدم ارتفاع أكثر الأحكام الوضعية عن الطفل كالنجاسة والضمان والجنابة وغيرها فيدور الأمر عندئذ بين تخصيص هذه الاُمور بعد فرض شمول الحديث لرفع قلم الحكم الوضعي وتفسير القلم بغير قلم الحكم الوضعي، والثاني أولى وأنسب في فهم العرف.

ولا يقاس حديث رفع القلم بحديث رفع الإكراه أو رفع ما اضطروا إليه الذي يقال فيه: إنّه لا يشمل مثل الإكراه على ما يوجب النجاسة أو الجنابة أو الاضطرار إليه، لانّ الرفع هناك منسوب في بادىء النظر إلى فعل المكلّف المنتسب إلى المكلّف ويفهم منه عرفاً انّ رفع ما اكرهوا عليه أو اضطروا إليه يكون بلحاظ ضعف انتساب الفعل إلى المكلّف وقدرته لدى الإكراه والاضطرار فلا يشمل الآثار التي لا علاقة لها بجانب الانتساب والقدرة، كالنجاسة المترتبة على ذات ملاقاة النجس لليد ولو لم تكن الملاقاة من فعل المكلّف بأي وجه من الوجوه، وكذلك الجنابة المترتبة على أسبابها ولو لم تكن من فعل المكلّف وباختياره أصلاً كما لو خرج منه المني دون شعور واختيار، فانّ الرفع في ما نحن فيه انّما هو رفع للقلم وليس رفعاً للفعل كي يصرف إلى النظر إلى ضعف انتسابه إلى الشخص.

اذن فلا بد إمّا من إخراج أكثر الأحكام الوضعية عن إطلاقه بالتخصيص، أو تفسير القلم بغير قلم الحكم الوضعي والثاني أولى عرفاً.

ثم لو تمّ إطلاق لحديث رفع القلم أو لما يأتي من حديث عمد الصبي وخطأه واحد ـ ولكن تم ما مضى منّا من تقريب الاستدلال على صحّة معاملات الصبي بإشراف الولي بآية ﴿ابتلوا اليتامى﴾ ـ كانت الآية مقيدة لهذين الإطلاقين.

158

الدليل الثاني ـ ما ورد بسند تام عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: عمد الصبي وخطأه واحد(1)، ولا يقيد ذلك بموثّقة اسحاق بن عمّار عن جعفر (عليه السلام) عن ابيه ان عليّاً (عليه السلام) كان يقول: عمد الصبي خطأ يحمل على العاقلة(2). باعتبار اختصاص الموثّقة بباب الديات بقرينة قوله: يحمل على العاقلة، وذلك لانّهما مثبتان ولا تنافي بينهما كي يقيد أحدهما بالآخر.

فإذا عملنا بإطلاق حديث محمّد بن مسلم كانت النتيجة انّ الصبي مسلوب العبارة وانّ العقد الذي يصدر منه عن عمد كأنه صدر منه خطأً فهو باطل بتمام الأحوال.

وقد يجاب على هذا الإطلاق بعدة أجوبة:

الأوّل ـ ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(3) من أنّه لا يتصوّر في باب العقود عمد وخطأ، وانّما يتصوّر فيه القصد وعدم القصد، وهذا غير العمد والخطأ فالعمد والخطأ يتصوّران في سبب قد يترتب عليه المسبّب قهراً على خلاف ما قصدناه، وقد يتحقّق نفس ما قصدناه أي انّ الإنسان يعمد لتوجيه ذلك السبب بنحو يهدف به الوصول إلى مسبّب معيّن فقد يصيب الهدف وقد يخطأه من قبيل من يرمي لإصابة زيد وقتله فيصيب الهدف، وهذا هو القتل العمدي أو يرمي لإصابة طير في الهواء فيخطىء الهدف ويصيب زيد ويُقتَل بذلك، وهذا هو القتل الخطأ.

وأمّا العقد فلا يترتّب عليه أثر قهري وبلا اختيار وحينما يترتب عليه أثر فانّما يترتب عليه الأثر المقصود لا غيره فلا يتصوّر فيه العمد وإصابة الهدف تارة


(1) و (2) الوسائل 19: 307، الباب 11 من أبواب العاقلة، الحديث 2 و 3.

(3) راجع تعليقته على المكاسب 1: 115.

159

والخطأ وإصابة غير الهدف اُخرى، وانّما يتصوّر فيه قصد الأثر الذي يمكن ان يترتّب عليه تارة وعدم قصده اُخرى.

نعم قد يتّفق في بعض الموارد على بعض الاتجاهات الفقهية ترتّب أثر غير مقصود على العقد كما في العقد المعاطاتي بناء على مبنى انّ الأثر المترتب عليه غير الأثر المقصود فالمتعاطيان يقصدان حصول الملك ولكن الذي يحصل هو الإباحة مثلاً، لكن هذا أيضاً ليس خطأ في العقد والمعاملة، لانّ قوام العقد والمعاملة يكون بالقصد فإذا ترتّب عليه أثر غير مقصود فهذا حكم شرعي ترتّب عليه أو مسبّب ترتّب على السبب، ولا يصدق انّ العقد أو المعاملة بعنوانه اخطأ فانّه لم يكن يقصد بالعقد والمعاملة عدا الملك، وقوام المعاملة كان بالقصد والعاقد لم يخطأ في ذلك، فكم فرق بين ذلك وبين الرمي الذي ليس قوامه بالقصد وهو يصيب الهدف المقصود تارة ويخطىء اُخرى.

على أنّه لو صدق الخطأ في المقام فقد كان قوام صدق الخطأ بترتّب الأثر الآخر وهو الإباحة مثلاً وذاك الأثر الآخر هو بعينه حكم الشرع وليس موضوعاً لحكم الشرع، كما في القتل الخطأ الذي هو موضوع لكون الدية على العاقلة. اذن فلا يعقل فرض عمد الصبي خطأ مع استنتاج ما هو المقصود من نفي الأثر نهائياً من معاملة الصبي، فانّ فرض عمده خطأ يعني فرض الحكم الشرعي فانّهما متضادان.

وقد أجاب عليه السيّد الإمام(رحمه الله)(1) بانّ تصوير الخطأ والعمد لا ينحصر بفرض ترتّب مسبّب على العقد قهراً وعلى خلاف المقصود تارة وإصابة المسبّب


(1) راجع كتاب البيع 2: 26.

160

المقصود تارة اُخرى، بل يمكن تصوير الخطأ والعمد في ذات اللفظ الذي يجريه العاقد فقد يقصد الشخص الإيجار ويتلفّظ خطأ بصيغة البيع فلا يترتّب عليه الأثر الشرعي وهذا هو الخطأ، وقد يقصد الشخص البيع حقيقة ويتلفّظ بصيغة البيع وهذا هو العمد، وعمد الصبي يكون بمنزلة الخطأ أي انّه لا يترتّب عليه أثر.

الثاني ـ ما ذكره السيّد الخوئي(1) من انّ الحديث لو كان منزّلاً للعمد منزلة نقيضه وهو عدم العمد لكان معنى ذلك نفي أثر العمد لكنّه لم ينزّل العمد منزلة نقيضه وانّما نزّله منزلة ضدّه وهو الخطأ، وهذا يعني ترتيب أثر ذاك الضد فيختص الحديث بما يكون لعمده أثر ولخطأه أثر آخر كما في الجنايات، ولا يشمل العقود التي لا أثر لخطأها، ومقتضى إطلاق الحديث شموله لما يوجب خطأه في الصلاة سجدتي السهو ولبعض كفارات الحج التي تختلف في فرض الخطأ من فرض العمد، ولكن بما انّ الصبي قد رفع عنه التكليف فلا تجب عليه كفارة ولا سجدتا السهو فبالتالي يختص حديث عمد الصبي وخطأه واحد بباب الجنايات.

أقول: إنّ عدم التكليف على الصبي لا يوجب خروج تلك الكفّارة أو سجدتي السهو عن إطلاق حديث عمد الصبي وخطأه واحد، ويظهر أثر الإطلاق بالنسبة لما بعد بلوغه فإن كان عمده خطأ كانت عليه الكفّارة أو سجدتا السهو يجب عليه الإتيان بها بعد البلوغ إن لم يأت بها قبله، وإن لم يكن عمده خطأ فصلاته باطلة وعليه كفّارة العمد بعد البلوغ إن لم يأت بها قبله.

وعلى أ يّة حال فالمهم تمحيص أصل الوجه الذي ذكره حيث يمكن الإيراد على هذا المقدار من البيان الموجود في تقريري بحثه بان الخطأ في العقد وإن لم


(1) راجع المحاضرات 2: 225 ـ 226، ومصباح الفقاهة 3: 253 ـ 254.

161

يكن يترتّب عليه أثر، ولكن لم لا نفترض شمول إطلاق الحديث لتنزيل عقد الصبي منزلة العقد الخطئي في انّه لا أثر له؟! فإن كان المدّعى انّ التنزيل الشرعي يجب أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي لا بلحاظ نفي الأثر الذي هو أزلي قلنا: إذن كيف وافقتم على التنزيل بمعنى نفي الأثر في تنزيل الشيء منزلة نقيضه؟ وحلّه انّ نفي الأثر وإن كان أزلياً لكنّه بيد الشارع بقاء باعتبار انّ بإمكانه خلق الأثر وبإمكانه إبقاءه على النفي وان اعترف بانّ التنزيل بلحاظ نفي الأثر ممكن فلا شك انّ العقد الخطئي لا أثر له، فأي عيب في تنزيل عقد الصبي منزلة العقد الخطئي في نفي الأثر.

ولكن من المحتمل أن يكون مقصود السيّد الخوئي ممّا ذكره في المقام هو انّ العقد الخطئي وإن كان لا أثر له ولكن ليس سلب الأثر عنه لأجل كونه خطأ، وانّما هو لأجل عدم العمد فانّ ما يرفع أثر الموضوع هو نقيضه لا ضدّه. وعندئذ فمقتضى التعبير العرفي هو انْ يعبّر عن نفي الأثر بتنزيل الموضوع منزلة نقيضه لا بتنزيله منزلة ضده.

وبكلمة اُخرى: لعلّ نظر السيّد الخوئي ليس إلى برهان عقلي كي يورد عليه بما عرفت، بل إلى مناسبة عرفية في المقام إن قبلت انتجت النتيجة المقصودة له.

الثالث ـ ما ذكره السيّد الخوئي أيضاً(1) من أنّنا نقطع بعدم إمكان الأخذ بإطلاق قوله عمد الصبي وخطؤه واحد بعد فرض عدم اختصاصه في ذاته بباب الجنايات وإلّا لزم تأسيس فقه جديد بأن يقال مثلاً ان إتيان الصبي بمبطلات الصوم لا يبطل صومه لانّه بمنزلة الخطأ، وكذلك الحال في مبطلات الصلاة التي


(1) راجع المحاضرات 2: 225، ومصباح الفقاهة 3: 254 ـ 255.

162

لا تبطل لدى السهو، وكذلك لو سلّم لا يجب عليه ردّ السلام بل يلزم أن لا تكون عباداته من صلاة وصوم وغيرهما مشروعة لانّها جميعاً مبتنية على الصدور بالإرادة والاختيار وقد فرض انّ عمده خطأ.

أقول: إن اريد توجيه هذا الوجه بشكل معقول يجب إرجاعه إلى نظير ما مضى منّا في أحد وجوه الجواب على حديث رفع القلم وذلك بأن يقال: إذا دار الأمر بين تفسير الحديث بباب الجنايات أو تفسيره بمطلق الأبواب مع إخراج هذه الاُمور الكثيرة منه بالتخصيص فالأوّل أولى وأنسب عرفاً.

ولكن مع هذا يمكن الجواب على هذا الوجه بأن يلتزم بإطلاق هذا الحديث المستلزم لعدم مشروعية عبادات الصبي، فانّ هذا ليس أمراً ضروري البطلان وبالالتزام بذلك يرتفع موضوع لزوم عدم مبطلية مبطلات الصلاة والصوم بالنسبة للصبي، وإن كانت إطلاقات أدلّة العبادات تقتضي مشروعية عبادات الصبي فحديث عمد الصبي وخطأه واحد حاكم عليها لانّها ناظرة إلى كل أحكام العقد ولا تبقى إلّا مسألة ردّ السلام، فإمّا أن يلتزم بعدم وجوبه إن لم نقل بضرورة وجوبه، أو يلتزم بخروجه تخصيصاً من إطلاق الحديث، وهذا تخصيص مختصر لا يستوحش منه.

وقد يقال: تبقى أيضاً مسألة الحج إذ لا شك في مشروعية حج الصبي، وعندئذ يأتي الكلام أيضاً في صلاة الطواف وصلاة طواف النساء فيلزم عدم مبطلية المبطلات التي لا تبطل لدى السهو بل لعله يعود الكلام أيضاً في الصوم إذا لم يجد الهدي.

وقد يقال في قبال ذلك: لا استيحاش في افتراض أنّ حجّ الصبي المميّز كحجّ الصبي غير المميز يحجه وليّه، ويصلّي عنه عملاً بقاعدة عمد الصبي وخطؤه واحد.

163

الرابع ـ ما يمكن إرجاع كلام السيد الإمام (رحمه الله) في كتاب البيع(1) إليه من انّهمن المحتمل أن تكون قضية لحوق العمد في الصبيان بالخطأ في باب الجنايات مركوزة ومعهودة وقت صدور النص في الأذهان إلى حدّ أوجب انصراف الحديث إليه، وهذا من احتمال اتصال القرينة من القسم الذي لا يمكن نفيه بسكوت الراوي عنه بجعل سكوته شهادة على العدم، لانّ هذا ليس ممّا يجلب نظر الراوي على أساس احتمال انه سيأتي زمان لا تكون هذه القرينة واضحة فلا بد من التصريح بها منذ الآن.

وإذا اتضح بطلان الاستدلال في المقام بكل من حديثي رفع القلم وتنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ في نفسهما قلنا: إنّ هناك كلاماً في تمامية الدلالة بلحاظ الرواية التي جمعت بينهما فصحيح انّ رفع القلم وحده لا يدل على المقصود، وتنزيل العمد منزلة الخطأ وحده لا يدلّ على المقصود لكن الجمع بينهما في نص واحد يدلّ على المقصود وذاك النص هو رواية أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام)عن أبيه عن عليّ (عليه السلام) انّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة وقد رفع عنهما القلم(2). والحديث ساقط سنداً.

ووجه دعوى تمامية دلالة الحديث على المقصود بسبب الجمع بين النصّين هو دعوى انّ الجمع بين قوله: عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقوله قد رفع عنهما القلم ظاهر في نحو علاقة بينهما وهي علاقة العلية والمعلولية وذلك إمّا بأن يكون رفع القلم علّة لكون عمدهما خطأ فلانّ القلم مرفوع عن الصبي والمجنون جعل


(1) كتاب البيع 2: 26.

(2) الوسائل 19: 66، الباب 36 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

164

عمدهما خطأ أو بالعكس أي لانّ عمدهما كالخطأ رفع عنهما القلم، وهذا يدل على انّ رفع القلم لا يختص بقلم السيئات أو المؤاخذة الاُخروية ولا بقلم الحكم التكليفي لانّ كون عمدهما خطأ تحمله العاقلة ناظر إلى الحكم الوضعي والمؤاخذة الدنيوية فلا بد من تفسير علّته أو معلوله بما ينسجم معه.

وبهذا ترتفع كل الإشكالات الماضية أو أكثرها التي مرّ ذكرها في التمسّك بحديث رفع القلم:

فالإشكال الأوّل هو احتمال إرادة قلم السيئات فحسب وهو مدفوع بعدم مناسبته لكون عمدهما خطأ تحمله العاقلة.

والإشكال الثاني هو احتمال إرادة خصوص قلم الحكم التكليفي وهذا أيضاً جوابه نفس الجواب.

والإشكال الثالث ان الثقل المستفاد من كلمة (عن) يناسب حمل القلم على قلم التكليف أو قلم السيئات لانّ هذا هو الموجب للثقل مباشرة أمّا الحكم الوضعي فلا يوجب الثقل إلّا عبر الحكم التكليفي.

وهذا أيضاً جوابه انّنا نضطر إلى غضّ النظر عن هذه المناسبة في سبيل حفظ الارتباط بين رفع القلم وكون عمده خطأ تحمله العاقلة.

والإشكال الرابع بداهة عدم ارتفاع أكثر الأحكام الوضعية عن الطفل كالنجاسة والجنابة وغيرهما.

وهذا الإشكال إن قصد به مجرّد دعوى انّ حمل رفع القلم على قلم التكليف أو السيئات أولى من ارتكاب هذه التخصيصات فأيضاً يرتفع بنكتة حفظ الارتباط بين رفع القلم وكون عمده خطأ تحمله العاقلة، فهذه النكتة تحملنا على غض النظر عن هذه الأولوية.

 

165

وإن قصد به أنّ ارتكاب هذه التخصيصات من دون حمل القلم على مثل قلم التكليف أو السيئات غير صحيح عرفاً فقد يشكل رفع الإشكال بتلك النكتة ويصبح الحديث مجملاً متهافتاً، لانّ حفظ الارتباط بين الجملتين يتطلب من ناحية حمل رفع القلم على معنى مطلق ومن ناحية اُخرى يكلّفنا الإطلاق الالتزام بتقييدات لا تصحّ عرفاً.

إلّا انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) استظهر من رفع القلم رفع قلم المؤاخذة فرأى انّ حفظ الارتباط بين الجملتين لا يكلّفه إلّا تعميم المؤاخذة للمؤاخذة الدنيوية كي تشمل دية الجنايات وقصد بالمؤاخذة الدنيوية معنى واسعاً يشمل مثل مؤاخذة البائع للمشتري بالثمن، أو مؤاخذة المشتري للبائع بالمثمن وبهذا تمّم دلالة الحديث على بطلان معاملات الصبي، ومن هنا لم يبتل (رحمه الله) بإشكال ضرورة ثبوت الأحكام الوضعية على الطفل من قبيل النجاسة والجنابة إذ لا مؤاخذة اخروية ولا دنيوية عليه في تلك الاُمور، ولكن بقي عليه الإشكال بلحاظ قسم من الأحكام الوضعية وهو ضمان الاتلاف حيث لا شك في انّ الصبي كالبالغ يضمن ما اتلفه من أموال الناس واستبعد (رحمه الله) ارتكاب التخصيص بلحاظ باب الضمان.

وعالج الإشكال عندئذ بانّ حفظ الارتباط بين الجملتين كما يمكن بفرض كون رفع القلم علّة لكون عمده خطأ تحمله العاقلة كذلك يمكن بفرض العكس بأن يكون التحاق عمده بالخطأ علّة لرفع القلم عنه، والإشكال بلحاظ باب الضمان انّما يأتي على الفرض الأوّل باعتبار انّ رفع قلم المؤاخذة الدنيوية مطلق يشمل باب ضمان الاتلاف.

إذن فنحن نختار الفرض الثاني وهو كون التحاق عمده بالخطأ هو العلّة لرفع

166

القلم فيختص عندئذ رفع القلم بالموارد التي يكون العمد والقصد دخيلاً في حكمها كما في باب الجنايات وباب العقود، ولا يشمل ما ليس العمد والقصد دخيلاً فيه بلحاظ البالغين كما في ضمان الاتلاف فانّ البالغ يضمن بالاتلاف حتى إذا صدر منه خطأً.

أقول: إنّ هذا الكلام معناه تضييق المعلول بواسطة العلّة كما تعارف القول بانّ العلّة توسّع وتضيّق فقوله: رفع عنهما القلم وإن كان في نفسه مطلقاً يشمل حتى الموارد التي ليس الحكم فيها مخصوصاً بالعمد، لكن العلّة المذكورة وهي كون عمدهما خطأً خاصة بما يكون الحكم المرفوع مخصوصاً بالعمد، فالعلّة تضيق المعلول ولكنّنا إذا انسجمنا مع هذا المسلك فلم لا نتمشّى معه حتى النهاية بان نقول انّ المعلول يضيّق إلى ان يختص بموارد العلّة فحسب وهي الجنايات فالمقصود انّما هو رفع القلم في باب الجنايات؟! وإن قيل: إنّ وضوح وارتكازية رفع القلم عن الصبي في سائر الموارد يمنع عن هكذا حمل قلنا: أليس هذا اذن دليلاً على انّ رفع القلم ليس معلولاً إذ لو كان معلولاً لوجب ان يكون نظره قاصراً على مقدار موارد العلّة؟! فإن كان ولا بد من علاقة العلية والمعلولية بين الجملتين فالجملة الثانية هي العلّة كما سيأتي بيان ذلك قريباً أيضاً من المحقّق النائيني (رحمه الله).

وعلى أيّة حال فعلى هذا المسلك الذي اتّخذه الشيخ الأنصاري (رحمه الله) من حمل القلم على قلم المؤاخذة وتوسيعها للمؤاخذة الدنيوية بنحو يشمل مؤاخذة أحد المتعاقدين للآخر بعوض المال قد يقال: إنّ دلالة الحديث اذن أقصر من مقدار المدعى في المقام، وذلك لانّ المدّعى هو كون الصبي مسلوب العبارة فلا تصحّ معاملاته وعقوده في أمواله ولو باذن الولي أو إشرافه ولا تصحّ أيضاً معاملاته وعقوده في أموال غيره من البالغين ولو بالاذن والتوكيل في مجرّد

167

الإنشاء، في حين انّ رفع مؤاخذته بعوض الأموال انّما يدلّ على بطلان الاُولى ولا يدلّ على بطلان الثانية، إذ لا مؤاخذة عليه في العقود الراجعة إلى أموال غيره من البالغين وانّما المؤاخذة تكون في أموال الموكّلين.

وكأنّ الشيخ (رحمه الله) حاول معالجة هذا النقص فذكر(1): انّنا نفهم من رفع المؤاخذة عن الصبي في أمواله لدى صدور عقد منه سلب عبارته، لانّ رفع المؤاخذة لو لم يكن بنكتة سلب العبارة بل كان بنكتة الحجر على ماله واحتياجه إلى الولي لكان المناسب صحّة مؤاخذته في أمواله حيث يكون عقده باذن الولي وإشرافه، في حين انّ الدليل مطلق يشمل حتى فرض الاذن والإشراف.

فكأنّ الشيخ (رحمه الله) يريد أن يقول: إنّنا إذا استظهرنا كون الحكم بنكتة سلب العبارة عرفنا انّ الحكم ثابت حتى في فرض الوكالة عن الكبير في إنشاء بيع ماله مثلاً.

وصحّة هذا الكلام مبنية على ان يدّعى انّ الفهم العرفي يستبعد افتراض بطلان عقد الصبي في ماله تحت اذن الولي وإشرافه بنكتة يخصه، بل إمّا ان يكون ذلك بنكتة إلحاق الصبي المميز بغير المميز وسلب عبارته. اذن يبطل حتى العقد الذي يصدر منه بالوكالة عن البالغ في مال البالغ، أو انّه لا يلحق المميز بغيره ولا تسلب عبارته وتكون نكتة بطلان عقده إلحاق الرشيد منهم بغير الرشيد وفرض الحاجة إلى إشراف الولي (ولو بعنوان الاحتياط لصالحه من قِبَل المولى تعالى)، وهذا يعني عدم بطلان عقده تحت اذن الولي وإشرافه.

وعلى أيّة حال فيرد على هذا المنهج الذي نهجه الشيخ (رحمه الله) ـ من حمل القلم على قلم المؤاخذة بمعنى يشمل مؤاخذة أحد المتعاملين للآخر بعوض المال ـ انّه


(1) راجع المكاسب 1: 115، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

168

إن سلّم حمل القلم على قلم المؤاخذة إمّا باستظهار ذلك ابتداء كما هو مفروض الشيخ (رحمه الله)، أو لأجل الفرار من إشكال النقض بالأحكام الوضعية من قبيل النجاسة والجنابة، فالحمل على معنى عام للمؤاخذة يشمل مطالبة أحد المتعاملين لصاحبه بعوض ماله لا دليل عليه، ويحتمل الحمل على قلم المجازاة الشاملة للمجازاة الدنيوية وهي دية الجنايات دون المطالبة بعوض المال في العقود، ودعوى إجراء الإطلاق في استعمال مجازي من هذا القبيل قد مضى جوابه، على انّ مفهوم الثقل أيضاً المستفاد من كلمة «عن» يكون أنسب بالمؤاخذة بمعنى المجازاة من المؤاخذة بالمعنى الشامل لضمان عوض المال في المبادلة، وهذا الإشكال قد أخذنا أصله من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)في المقام(1).

وأمّا بحث أصل المطلب فقد أورد السيّد الخوئي عليه بانّه لا يمكن فرض رفع القلم علّة لكون عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة ولا فرضه معلولاً له.

أمّا انّه لا يمكن فرضه علّة له فلأن رفع القلم عن الصبي لا ربط له بحال العاقلة فلا يصلح علّة لكون الدية على العاقلة، فلئن كان رفع القلم عنه يناسب عدم الدية عليه فأي مناسبة توجد بين رفع القلم عنه وثبوت الدية على العاقلة كي يكون الأوّل علّة للثاني؟!

نعم يمكن أن يقال: إنّ رفع القلم عنه بنفي القصاص والدية على نفسه ملازم لثبوت الدية على العاقلة على أساس أنّه لا يهدر دم امرء مسلم.

بل هذه الملازمة أيضاً ممنوعة إذ بالإمكان أن لا ترفع الدية عن الصبي ولا يهدر دم المسلم ولا تثبت الدية على العاقلة بل تثبت الدية في بيت المال أو على جميع المسلمين.


(1) راجع المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 403.