70

 

ملكيّة المنافع:

وأمّا ملكيّة المنافع: فلا ينبغي الإشكال عقلائيّاً في اعتبار الملكيّة لها كما تعتبر للأعيان.

وقد نقل المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في كتاب الإجارة إشكالين على ملكيّة المنفعة:

الإشكال الأوّل: أنّ منفعة الدار المستقبليّة حين إيجارها مثلا معدومة، والمعدوم لا يملك.

والإشكال الثاني: أنّ منفعة الدار مثلا سكناها، وهي من أعراض الساكن لا من أعراض الدار، وعرض الساكن لو كان مملوكاً فهو ملك لموضوعه وهو المستأجر مثلا الذي يسكن الدار لا مالك الدار الذي لا يسكنها.

وأجاب (رحمه الله) على الإشكال الأوّل بأنّ الملكيّة ليست من الأعراض المقوليّة كي تحتاج إلى محلّ موجود، بل من الاعتباريّات.

وعلى الإشكال الثاني: (أوّلا) بأنّ سكنى الدار كما هو مبدأ لعنوان الساكنيّة المنتزع من ذات الساكن كذلك هو مبدأ لعنوان المسكونيّة المنتزع من الدار كما في كلّ عنوانين متضايفين(1)، وما هو شأن من شؤون الدار وحيثيّاتها الموجودة بوجودها هي حيثيّة المسكونيّة لا حيثيّة الساكنيّة التي هي من أعراض المستأجر، غاية الأمر أنّ حيثيّة المسكونيّة وجودها بوجود الدار على حدّ وجود المقبول بوجود القابل وفعليّتها بفعليّة مضائفها القائم بالمستأجر في مقام الاستيفاء،


(1) هذا تعبيره (رحمه الله) في كتاب الإجارة. أمّا ما ذكره في رسالته في الحقّ المطبوعة ضمن تعليقته على المكاسب ففرض فيه تشابه مبدأي المتضايفَين. ولعلّ هذا هو حاقّ مقصوده أيضاً ممّا جاء في كتاب الإجارة من فرض السكنى مبدأً لهما.

71

وشؤون العين قابلة لعروض الملكيّة لها كنفس العين.

(وثانياً) أنّ السكنى التي هي من أعراض الساكن في الدار ـ وهو المستأجر ـ رغم كونها عرضاً للساكن جعل زمام أمرها بيد مالك الدار باعتبار ما لها من نسبة إلى الدار، ولا نعني بالملكيّة إلّا ذلك(1).

أقول: لو كنّا نحن وكلام المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) في كتاب الإجارة لعلّه كان يمكننا أن نحمل الجواب الأوّل من جوابيه على أنّ المنفعة المملوكة عبارة عن قابليّة العين للانتفاع وهي قائمة بالعين لا بالمستأجر.

ولكنّه صرّح في رسالته المكتوبة في الحقّ المطبوعة ضمن تعليقته على المكاسب بأنّ المقصود في الجواب الأوّل أنّ منفعة الدار المملوكة هي المسكونيّة الفعليّة المضايفة للساكنيّة وهي المنفعة التدريجيّة، وإلّا فصلاحيّة الدار وقابليّتها للسكنى أمر قارّ ثابت وغير مستوفاة أصلا، بل هي على حالها مادامت الدار باقية على حالها.

ثمّ اختار في تلك الرسالة من هذين الجوابين الجواب الثاني، وأبطل الجواب الأوّل ببيان أنّ الساكن ينتفع بسكناها التي هي عرضٌ قائمٌ بالساكن ولها نسبة إلى الدار، لا بعنوان المسكونيّة المضائف لعنوان الساكن المتأخّر رتبة عن السكنى التي لها نسبة إلى الدار.

التخريج العقلائي لملكيّة المنافع:

أقول: إنّ المفهوم عرفاً وعقلائيّاً في المنفعة المملوكة من الدار ليستهي المسكونيّة أو الساكنيّة أو السكنى ونحوها، بل هي قابليّة العين للانتفاع،وهي قائمة بالعين لا بالمنتفع سواء انتفع أحد بها فعلا أو لا، وهذه القابليّة


(1) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): 14 و 15، وراجع تعليقته على المكاسب: 7 و 8 (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ).

72

تقدّر عرفاً بالزمان، فتقبل التمليك في حصّة زمانيّة، ولا دليل على ضرورة تدريجيّة المنفعة بمعنىً آخر، ولا نعني باستيفاء هذه القابليّة عدا استثمارهاعملا.

نعم، هناك إشكال آخر يمكن إيراده في المقام غير الإشكالين المذكورين اللذين أجاب عليهما المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) وهو أن يقال: إنّ قابليّة العين للانتفاع ليست إلّا كسائر شؤون العين وأوصافها من اللون والشكل، وغيرها لا تتحمّل عقلائيّاً ملكيّة اُخرى غير نفس ملكيّة العين. نعم، هي حيثيّة تعليليّة لماليّة العين وتقييمها ورغبة العقلاء في امتلاكها.

والجواب: أنّ قابليّة العين للانتفاع حالها حال سائر أوصاف العين ملكيّتها مندكّة ضمن ملكيّة العين، ولا تعتبر لها ملكيّة مستقلّة، ولكن نفس الملكيّة المندكّة لها تبرّر عقلائيّاً إمكان نقلها إلى الغير بمثل الإيجار، وتفكيكها في عالم الملكيّة عن العين لعدم اللغويّة الموجودة في نقل سائر الصفات، ولدى تفكيكها عن العين في عالم الملكية وإرجاعها إلى مالك آخر تبرز عقلائيّاً ملكيّتها وتنتفي نكتة اندكاكها في ملكيّة العين، ويصبح مالكها غير مالك العين، فالإيجار مثلا سبب عقلائيّ لانفكاك المنفعة عن العين في عالم الملكيّة، كما أنّ مثل استيفائها غصباً أو الحيلولة بينها وبين المالك بمثل حبس العين سبب لانفكاكها عقلائيّاً عن العين في عالم الضمان. هذا حال ملكيّة المنفعة وتمليكها.

وأمّا ملكيّة الانتفاع وتمليكه فالظاهر أنّها عين ملكيّة المنفعة وتمليكها وليسا شيئين، غاية ما هناك أنّه تارةً تملّك المنفعة ـ أو قل الانتفاع ـ بجميع أنحائها المتبادلة من سكنى فلان، أو إسكانه المجانيّ، أو الإسكان بالإيجار وغير ذلك مثلا، واُخرى يملّك نحو واحد من أنحائها وهو سكناه مثلا من دون أن يحقّ له إسكان غيره، ولا بأس بتسمية الأوّل بتمليك المنفعة، والثاني بتمليك الانتفاع، فإنـّه لا مشاحّة في الاصطلاح.

73

تفاسير للمنفعة والانتفاع:

وذكر المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) عدّة تفسيرات للمنفعة والانتفاع:

التفسير الأوّل: ما فرّعه على الجواب الأوّل من جوابيه اللذين أجاب بهما على إشكال كون سكنى الدار قائمة بالساكن فكيف يملكها مالك الدار؟! وهو الجواب بأنّ المملوك لمالك الدار هي مسكونيّة الدار لا سكنى الساكن، وهذا التفسير هو أنّ منفعة الدار مثلا عبارة عن مسكونيّة الدار وهي الحيثيّة القائمة بالدار، والانتفاع عبارة عن سكنى الساكن التي هي حيثيّة قائمة بالمنتفع. ورأى (رحمه الله) أنّ هذا يوجب إشكالا في العارية التي هي تمليك للانتفاع، لأنّ الانتفاع ـ بناءً على هذا ـ حيثيّة قائمة بالمنتفع وليس ملكاً لمالك العين كي يملّكه بالعارية، وليس حلّ ذلك ـ في نظره رضوان الله عليه ـ أن تفسّر العارية بإباحة الانتفاع إباحة مالكيّة تتبعها الإباحة الشرعيّة؛ لأنّ صيرورة الانتفاع مباحة بالإباحة المالكيّة لا تتوقّف على العارية التي تشتمل على إيجاب وقبول قوليّ أو فعليّ من المنتفع، بل الانتفاع يباح بمجرّد إذن المالك، سواء قبله المستعير أوْ لا، وسواء انتفع بالعين فعلا أوْ لا، وإنّما حلّ ذلك ـ في نظره قدّس سرّه ـ هو فرض العارية عبارة عن اعتبار التسليط، أي التسليط الوضعيّ دون التكليفيّ الذي ليس إلّا إباحة مالكيّة أو شرعيّة، فمن شؤون ملك العين أن يصحّ له تسليط غيره على عينه للانتفاع بها.

هذا بناءً على ما اختاره (رحمه الله) من أنّ الملك ليس عبارة عن اعتبار التسليط بل هو عبارة عن اعتبار الإحاطة والاحتواء. وعلى أيّ حال فقد قال (رحمه الله): «حيث إنّ المعير سلّط المستعير على عينه لا أنّه أعطاه ملكه أو سلطانه فليس له نقل الملك أو السلطنة». وكيف ما كان فهذا التفسير ليس هو مختاراً له (قدس سره) لابتنائه على الجواب الأوّل من الإشكال الماضي على ملكيّة المنفعة.


(1) راجع تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 8 - 9.

74

التفسير الثاني: هو التفسير المختار له، وقد بناه على الجواب الثاني من جوابيه على إشكال ملكيّة المنفعة، وهو أنّ سكنى الدار وإن كانت من أعراض الساكن ولكن بما أنّ لها نسبة إلى الدار ومساساً بها جعلت ملكاً لصاحب الدار، وذاك التفسير هو أنّ منفعة الدار هي طبيعيّ سكناها من دون لحاظ قيامها بزيد أو عمرو، فإذا ملّكها المؤجر للمستأجر فقد ملك طبيعيّ السكنى وهي قابلة للتمليك لآخر لتحقّق هذا الطبيعيّ في مقام الاستيفاء من كلّ أحد، بخلاف العارية الموجبة لملك الانتفاع، فإنـّها تمليك سكنى زيد لزيد مثلا، ولا يعقل استيفاؤها إلّا من زيد، فلذا لا يعقل نقلها من المستعير، قال: وحصول هذه النتيجة بعقد الإجارة مع شرط الاستيفاء بنفسه لا يوجب نفي الفرق بين الإجارة والعارية من هذه الناحية، ولا عدم الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، فإنّ اختلاف الحقيقة بالنظر إلى نفس الذات ومقتضياتها محفوظ كما لا يخفى.

التفسير الثالث: ما نقله عن بعض من أنّ ملك العين وملك المنفعة وملك الانتفاع كلّها تقع على العين وإن اختلفت في الشدّة والضعف، فملك العين أقوى مرتبة من ملك المنفعة، وملك المنفعة أقوى مرتبة من ملك الانتفاع، فإنّ ملك العين عبارة عن ملكها بجميع جهاتها، وملك المنفعة عبارة عن ملك العين من جهة تلك المنفعة ملكيّة مستقلّة، وملك الانتفاع أيضاً عبارة عن ملك المنفعة الراجع إلى ملك العين من تلك الجهة ولكن لا بالاستقلال، ولهذا جاز للمستأجر نقل المنفعة لأنّ ملكه للعين في تلك الجهة كان مستقلاًّ، ولم يجز للمستعير نقل المنفعة، لأنّ ملكه للعين في تلك الجهة ليس مستقلاًّ.

وذكر المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): أنّ بعض من عاصره دفع بهذا الوجه إشكال معدوميّة المنفعة وعدم تعلّق الملك بالمعدوم، وإشكال كون المنفعة عرضاً من أعراض المستأجر ولا يملكه المؤجر، حيث قد عرفت أنّ المنفعة ليست هي المملوكة حتى يرد هذان الإشكالان، بل العين هي المملوكة في مدّة خاصّة لجهة مخصوصة.

75

وأورد المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) على هذا الوجه بإيرادين:

أحدهما: أنّ الملك ليس عرضاً قابلا للشدّة والضعف، أو اعتبار عرض كذلك، وإنّما المملوك يقبل السعة والضيق من دون أن يوجب الضيق والسعة في المملوك للضعف والشدّة في الملك، وكذلك كون المعير مسلّطاً على ردّ ملكه لا يوجب ضعفاً في ملكيّة المستعير كما لوثبت للمالك الأوّل حقّ ردّ العين أو المنفعة من مالكها الثاني شرعاً أو بجعل منهما، فإنّ هذا لا يوجب ضعفاً في ملكيّة المالك الثاني.

وثانيهما: أنّه حتى لو فرض قبول الملك للشدّة والضعف فهذا لا يصحّح اجتماع ملكين على مملوك واحد، فإن فرض المستأجر مالكاً للعين من جهة المنفعة والمؤجر مالكاً للعين من باقي الجهات وقصد بذلك حقّاً مالكيّة المستأجر لتلك الجهة لا للعين حقيقة بحيث كانت نسبة الملك إلى العين من باب الوصف بحال المتعلّق، فهذا رجوع مرة اُخرى إلى افتراض ملكيّة للمنفعة التي هي غير ملكيّة العين، ولم يندفع به شيء من المحاذير.

وإن قصد بذلك حقّاً أنّ كلا الملكين متعلّقان بذات العين وإن اختلفا في الجهة لزم اجتماع ملكيّتين على عين واحدة، فإن كان الملك عرضاً لزم قيام عرضين متماثلين بموضوع واحد، وقوّة العرض وضعفه لا يخرجه عن التماثل المانع عن الاجتماع، وإن كان اعتباريّاً فالعقلاء لا يعتبرون ملكيّتين على عين واحدة، هذا بالنسبة لملك العين وملك المنفعة.

أمـّا بالنسبة للاستقلال وعدمه في ملك المنفعة وملك الانتفاع، فإن كان المقصود بذلك الفرق بين الإجارة والعارية بأنّ مالك العين في باب الإجارة يقتصر ملكه للعين على باقي الجهات غير الجهة التي أجّرها لتلك الجهة وملك المستأجر للعين يكون من تلك الجهة بينما في باب العارية يكون ملك المالك للعين ثابتاً لها من كلّ الجهات بما فيها تلك الجهة التي ملّك العين للمستعير من تلك الجهة فملك المستعير للانتفاع ملك غير مستقلّ لزم من ذلك ما قلناه من اجتماع ملكين على عين

76

واحدة، وهما ملك المعير وملك المستعير، وهو غير مقبول عقلا إن كان الملك عرضاً، وعقلائيّاً إن كان الملك اعتباراً لعرض كما مضى.

وإن كان المقصود أنّ الملك من الجهة المعار لأجلها منسوب إلى مجموع المعير والمستعير بأن يكونا معاً طرفاً واحداً للملكيّة فهما بمنزلة مالك واحد لئلاّ يلزم ورود ملكين على عين واحدة، فهذا وإن كان معقولا في الاعتبارات فيعقل بناءً على كون الملك اعتباراً لا عرضاً مقوليّاً، إلّا أنّه هنا غير معقول، لأنّ المفروض أنّ المعير مالك للعين بباقي جهاتها من دون شريك في طرفيّته للملكيّة، وإنّما له الشريك في الطرفيّة لملك العين في هذه الجهة الخاصّة، فلزم أيضاً ورود ملكين على عين واحدة، وهو غير صحيح عقلائيّاً.

أقول: لو سلّمنا أنّ العارية عقد مملّك وليس إباحة تصرّف فبالإمكان افتراض كون المعير والمستعير مالكَين للعين من تلك الجهة ملكيّتين طوليّتين، أو مالكَين للمنفعة ملكيّتين طوليّتين، واجتماع ملكين طوليّين على مملوك واحد ليس باطلا عقلائيّاً كما هو في ملك المولى لأموال العبد ـ بناءً على الإيمان بمالكيّة العبد لأمواله ـ.

ولو لم نسلّم أنّ العارية عقد مملّك فبالإمكان أن نمثّل لتمليك الانتفاع بدلا عن التمثيل بالعارية بافتراض إعطاء حقّ الانتفاع لشخص في مقابل ثمن، فهذا عقد مملّك بلا إشكال، وهو يختلف عن إيجار العين بالشكل المتعارف، وهنا لا تتصوّر الملكيّتان الطوليّتان؛ لأنّ جهة الانتفاع خرجت من اختيار مالك العين.

وعلى أيّ حال فالصحيح ما ذكرناه من أنّ منفعة العين المملوكة لمالك العين عرفاً وعقلائيّاً هي قابليّة العين للاستفادة، والانتفاع عبارة عن نفس تلك الاستفادة، وملك المنفعة وملك الانتفاع شيء واحد مع الفرق في سعة وضيق دائرة المملّك.

وأمّا إذا آجر العين واشترط على المستأجر عدم النقل إلى غيره وعدم إسكان الغير فهذا الشرط إن قصد به تضييق دائرة المملّك رجع الأمر إلى تمليك

77

منفعة خاصّة وهي خصوص قابليّتها لسكن زيد مثلا، أو سمّه بتمليك الانتفاع. وإن لم يقصد به تضييق دائرة المملّك بل قصد به مجرّد الشرط بمعنى أنّه لو خالف لم تكن مخالفته غصباً وإن حصل للمؤجر خيار الفسخ، لم يرجع ذلك إلى ما قد يسمّى بتمليك الانتفاع، هذا لو أمكن تصوّر هذين القسمين، وعليه، ينبني ما مضى من المحقّق الإصفهاني من أنّ شرط الاستيفاء بنفسه لا يعدم الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، ولكن الظاهر أنّ تصوّر هذين القسمين مشكل، وأنّ هكذا شرط يعود في واقعه إلى التضييق.

هذا تمام كلامنا في بحث ملك المنفعة.

 

مالكيّة الأعيان والجهات

 

بقي أخيراً ـ من الأبحاث التي أردنا التعرّض لها في مبحث الملك ـ الكلام عن مالكيّة الأعيان والجهات والشخصيّات الحكميّة أو المعنويّة أو الاعتباريّة أو الحقوقيّة في مقابل الشخصيّات الطبيعيّة أو الحقيقيّة.

فدائرة المالكيّة لدى العقلاء أصبحت بالتدريج أوسع بكثير من دائرة الأشخاص من بني آدم، وشملت الأعيان الخارجيّة من ناحية، وعناوين عامّة تشير إلى طائفة من الناس من ناحية اُخرى، وأخيراً عناوين معنويّة واعتباريّة بحتة من ناحية ثالثة. والشريعة الإسلاميّة بنت نظرتها عن المالكيّة منذ البدء على هذا المعنى الواسع الشامل لكلّ هذه الأقسام.

فمثال الأوّل: المسجد ونحوه من أماكن العبادة، والمرافق العامّة التي تمتلك أموالا ومستغلاّت عن طريق الوقف وغيره.

ومثال الثاني: الزكاة التي هي ملك للفقراء مثلا.

78

ومثال الثالث: الدولة أو منصب الإمامة المالك للأنفال وغيرها.

ولم تتوقّف النظرة العقلائيّة إلى الشخصيّة المعنويّة على مجرّد ثبوت الحقّ والملك لها، بل اتّسعت أيضاً إلى ثبوت الحقّ والدَين عليها خصوصاً في الشخصيّة المعنويّة كالدولة، فبإمكانها أن تملك وأن تستدين، ولها ذمّة كذمّة الشخصيّة الحقيقيّة.

وتصوّر الملك للأعيان الخارجيّة سهل رغم أنّها لا تَفهم ولا تَعقِل ولا تكون قادرة على التصرّف، غاية الأمر يكون التصرّف في أموالها بيد وليّ أمرها يصرفها في شؤونها، كما هو الحال في ممتلكات الصبيّ والمجنون التي يصرفها وليّهما في شؤونهما.

وكذلك يسهل تصوّر الملك للعناوين العامّة كالفقراء أو الشخصيّات المعنويّة البحتة كالدولة، بعد أن عرفنا أن الملك ليس إلّا أمراً اعتباريّاً وليس عرضاً بحاجة إلى محلّ خارجيّ.

 

الشخصيّات الحقوقيّة في الفقه الوضعي:

وقد ورد في الفقه الوضعي ذكر عناوين عديدة من الشخصيّات الحقوقيّة من قبيل: المؤسّسات، والجمعيّات، والشركات(1).

وحاجة المؤسسات والجمعيّات إلى افتراض ذمم وديون وممتلكات واضحة، لأنّ أهدافها وأغراضها ومصاريفها تختلف عن الهدف والغرض والمصرف الشخصيّ لأيّ فرد من الأفراد القائمين بها.

وأمّا الشركات فقد قسمّت إلى قسمين: الشركات العاديّة، والشركات


(1) راجع الوسيط 5: 229 - 239 الفقرة 163 - 167، وراجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: 318 - 327 الفقرة 190 - 194 بحسب الطبعة الخامسة.

79

القانونيّة(1). فالشركات العاديّة لا تعتبر لها شخصيّة معنويّة، وليست لها ذمّة ولا ممتلكات، وإنّما الموجود هم الأشخاص المشتركون، وهم أشخاص حقيقيون لهم ممتلكاتهم وذممهم، بينما الشركات القانونيّة هي التي تعتبر لها شخصيّة معنويّة تملك ويثبت لها وعليها الحقّ.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو أنّه ما هي حاجة الشركة إلى الذمم والأملاك والشخصيّة المعنويّة؟ ولئن كانت الشركة راجعة لجماعة مّا تعود نفعها إليهم وضررها عليهم فلِمَ لا نكتفي بذمم وتملّكات المشتركين كما هو الحال في الشركات العاديّة؟! وبالتالي أيّ قيمة تبقى لافتراض قانونيّة الشركة؟ !

والجواب على ذلك يكون بإبراز النتائج التي تترتّب على ثبوت الملك والذمّة للشركة(2) من قبيل:

1 ـ لدائني الشركة حقّ مباشر على مال الشركة، فهم يستوفون حقوقهم من هذا المال دون أن يزاحمهم فيه الدائنون الشخصيّون للشركاء، بينما لو فرض مال الشركة ملكاً شائعاً للشركاء لا ملكاً للشخصيّة المعنويّة للشركة فمعنى ذلك أنّ من داين الشركة فكأنـّما داين الشركاء، وحاله حال الدائنين الشخصيّين للشركاء، وعند التفليس لا يفرّق بين هذا الدائن والديّان الشخصيّين، بل كلّ ما يملكه المفلّس في الشركة وغيرها يوزّع على حصص الديون بالسويّة.

2 ـ لا تقع المقاصّة بين دَين شخصيّ على الشريك ودَين للشركة، فإذا كان دائن شخصيّ للشريك مديناً للشركة لم يحقّ له إسقاط دَينه للشركة بالمقابلة مع ما لَهُعلى الشريك، وذلك لأنّه دائن لشخص حقيقيّ ومدين لشخص آخر معنويّ لا لذاك


(1) راجع الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد 3: 324 آخر الفقرة 192 بحسب الطبعة الخامسة.

(2) راجع الوسيط 5: 292 - 294 الفقرة 197.

80

الشخص كي يتمّ التساقط أو التقاصّ، وكذلك لو كان المدين الشخصيّ للشريك دائناً للشركة ليس له الامتناع عن أداء حقّ الشريك بحجّة التقاصّ مع دَين الشركة.

وأصل افتراض الملك والذمّة للشركة أثر من آثار افتراض الشخصيّة المعنويّة لها، وتذكر لافتراض الشخصيّة المعنويّة لها آثار اُخرى(1) من قبيل:

1 ـ أنّ للشركة حقّ التقاضي باعتبارها شخصاً معنويّاً فترفع الدعاوى على الغير أو على الشركاء كما ترفع عليها الدعاوى من الغير أو من الشركاء. ويمثّلها في الدعاوى التي ترفع منها أو عليها نائبها دون الحاجة إلى إدخال الشركاء كلّهم أو بعضهم في الدعوى لأنّ شخصيّتها متميّزة عن شخصيّة الشركاء فيها.

2 ـ أنّ للشخصيّة المعنويّة موطناً قد يختلف عن مواطن الشركاء، وهو المكان الذي يوجد فيه مقرّها الرئيسيّ أو مركز إدارتها، ويرتّبون على ذلك أنّ الدعاوى الراجعة لهذه الشركة والمرافعات ترفع إلى محكمة الموطن الذي فيه مقرّ الشركة، وإن كانت الدعوى والمرافعة مخصوصة بفرع من فروع الشركة جاز رفعها إلى المحكمة التي تقع في دائرة ذاك الفرع.

وللشركة جنسيّة لا ترتبط بجنسيّة الشركاء، وتكون جنسيّتها عادةً هي جنسيّة الدولة التي اتّخذت فيها مركز إدارتها الرئيسيّ. فالشركات التي اُسّست في الخارج واتّخذ مركز إدارتها في إقليم دولة أجنبيّة تعتبر شركات أجنبيّة ويسري عليها قانون الدولة التي تنتمي إليها بجنسيّتها.

 

الشخصيّات الحقوقيّة في الفقه الإسلامي:

وهنا يجب أن نبحث عن أنّ الفقه الإسلامي هل يؤمن بهكذا شخصيّة حقوقيّة، وبممتلكات وذمم لها، وبهذه الأحكام وأمثالها ممّا ورد عادةً في الفقه الغربي أوْ لا؟


(1) راجع الوسيط 5: 294 - 297 الفقرة 198 - 200.

81

ونستبعد منذ البدء من هذه الأحكام ما لا موضوع له في الفقه الإسلامي من قبيل افتراض وطن أو جنسيّة للشركة مستقلّ عن وطن أو جنسيّة الشركاء، لأنّ الإسلام لا يعترف من أساسه بتعدّد الأوطان أو تعدّد الجنسيّات، والوطن في باب القصر والإتمام أجنبيّ عن المعنى المقصود في المقام، فلا يبقى موضوع في المقام للبحث عن وطن الشركة أو جنسيّتها.

كما نستبعد من بحثنا منذ البدء التشكيك في إمكانيّة فرض شخصيّة كهذه لأمثال هذه الاُمور وممتلكات وذمم، لما اتّضح في ثنايا الأبحاث السابقة من اعتباريّة هذه الاُمور، والاعتبار سهل المؤونة.

ونحن فارغون أيضاً منذ البدء عن وجود بعض المصاديق لمثل هذه الاُمور الاعتباريّة في الفقه الإسلامي في الجملة، كما في ممتلكات الوقف، وملكيّة الزكاة للفقراء، وممتلكات منصب الإمامة أو الدولة، وامتلاك المسلمين مثلا للأراضي الخراجيّة، والوقف على الجهات.

وإنّما يقع الكلام في أنّ كلّما اعترف به عرف عقلائيّ اليوم من شخصيّات حقوقيّة وما تصوّروا من آثار وأحكام لهذه الشخصيّة من ملك أو ذمّة أو نحو ذلك هل بإمكاننا أن نثبّته بتخريج فقهيّ صحيح وفق أدلّة الفقه الإسلامي أوْ لا؟

ذهب الاُستاد مصطفى الزرقاء(1) إلى القول بصحّة هذه الشخصيّات الحقوقيّة وأحكامها حسب اُسس الفقه الإسلامي. وخلاصة منهجه في هذا البحث هي: أنّه يذكر أوّلا بعض المصاديق للشخصيّة المعنويّة في الفقه الإسلامي، ثمّ يذكر بعض المصاديق للشخصيّة الحقوقيّة والاعتراف بثبوت الأملاك والذمم لها في الفقه الإسلامي، ثمّ يستنتج من مجموع هذه الاُمور موافقة كلّ الشخصيّات


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: 300 - 309 الفقرة 183 - 187، و ص 324 - 326 الفقرة 193، و ص 334 - 335 الفقرة 198 بحسب الطبعة الخامسة.

82

الحقوقيّة وأحكامها المشروحة في الفقه الغربي لاُسس الفقه الإسلامي، وأنّ عدم ذكر الفقهاء القدامى لجملة من هذه الشخصيّات أو لأحكامها كان نتيجة عدم معرفتهم للصوَر الجديدة للشركات المنظّمة بأنواعها وأساليب عملها الاقتصاديّة وطرائق تكوينها وحدود مسؤوليّاتها ممّا هو وليد العرف والتطوّر الاقتصادي الحديث في اُوربا، وهذا لا يعني عدم موافقة تلك الشخصيّات الحقوقيّة وأحكامها لاُسس الفقه الإسلامي.

أمـّا ما ذكره أوّلا من نموذج للشخصيّات المعنويّة في الفقه الإسلامي فهو أمران:

الأوّل: النصّ المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يدعلى من سواهم»(1). فذكر: أنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يسعى بذمّتهم أدناهم» دليل على اعتبار مجموع الاُمّة كشخصيّة واحدة يمثّلها في إعطاء الذمّة والتأمين كلّ فرد منها.

والثاني: الحقوق العامّة والاُمور الحسبيّة التي يصحّ للفرد فيها رفع الدعوى إلى الحاكم من عقوبات الحدود، وإزالة الأذى عن الطريق، وقمع الغِشّ، والتفريق بين الزوجين المستمرّين على الحياة الزوجيّة بعد البينونة بالطلاق، وغير ذلك وإن لم يكن للمدّعي في شيء من ذلك علاقة بالموضوع أو ضرر منه يدفعه عن نفسه ممّا يشترط في صحّة الخصومات والدعاوى في الحقوق الفرديّة، فهذا وأمثاله يدلّ على تصوّر شخصيّة حكميّة لتلك المصلحة العامّة التي يمارس حقّ الادّعاء باسمها.

وأمـّا ما ذكره من نموذج للاعتراف بكامل المعنى الحقوقي الحديث للشخصيّة الحكميّة في الفقه الإسلامي فهو عبارة عن ثلاثة أمثلة:


(1) ورد هذا النصّ عن طرق الشيعة أيضاً، راجع الوسائل 19: 55 و 56، الباب 31 من أبواب القصاص في النفس.

83

الأوّل: شخصيّة بيت المال. ففي بيت المال الذي هو خزينة الدولة العامّة جاء الشرع الإسلامي بنظريّة فصل بيت المال العامّ عن مال السلطان وملكه الخاصّ، فاعتبر الشرع بيت المال جهة ذات قوام حقوقي مستقلّ يمثّل مصالح الاُمّة في الأموال العامّة، فهو يَملِك ويُملَك منه وعليه ويستحقّ الزكاة الخالية عن إرث أو وصيّة، ويكون طرفاً في الخصومات والدعاوى، ويمثّله في كلّ ذلك أمين بيت المال بالنيابة عن السلطان.

بل إنّ بيت المال يقسّم إلى أقسام وفروع كلّ منها يعود إلى جهة من الحقوق والنفقات، ويكاد يعتبر كلّ قسم من أقسامه ذا شخصيّة حكميّة منفصلة عن شخصيّة القسم الآخر ضمن الشخصيّة الكبرى لبيت المال العامّ، لأنّ لكلّ قسم استحقاقات وأحكاماً تخصّه، فلا ينفق من قسم فيما يعود إلى آخر على سبيل الخلط، بل على سبيل القرض بين تلك الفروع، كما عليه الفكرة الماليّة القانونيّة الحديثة في تنظيم خزينة الدولة العامّة وفروعها.

الثاني: شخصيّة الوقف. فنظام الوقف في الإسلام قائم على أساس اعتبار شخصيّة حكميّة للوقف بالمعنى الحقوقيّ الحديث، فللوقف ملك محجور عن التمليك والتملّك والإرث والهبة ونحوها، وهو مرصد لما وقف عليه الوقف يستحقّ ويُستحق عليه، وتجري العقود الحقوقيّة بينه وبين أفراد الناس من إيجار وبيع وغلّة واستبدال وغير ذلك، ويمثّله في كلّ هذا المتولّي، ويكون المتولّي مسؤولا عن صيانة حقوق الوقف تجاه السلطة القضائيّة، ويشتري المتولّي للوقف ما يحتاج إليه، فيملكه الوقف ويدفع ثمنه من غلّته، وكذلك يستدين المتولّي لجهة الوقف عند الحاجة بإذن القاضي.

الثالث: شخصيّة الدولة. فقد قرّر الفقهاء من الأحكام لتصرّف السلطان ما لا يمكن تفسيره إلّا باعتبار أنّ الدولة شخصيّة حكميّة عامّة، ويمثّلها في التصرّفات والحقوق والمصالح رئيسها ونوّابه من سائر العمّال والموظّفين في فروع الأعمال كلّ بحسب اختصاصه في كلّ من النواحي الخارجيّة والداخليّة والماليّة.

84

فمن تلك الأحكام ما يلي:

1 ـ في الناحية الخارجيّة اعتبروا أنّ ما يبرمه الإمام من صلح أو معاهدات محترم وملزم للاُمّة، لا تجوز للإمام أو الرعيّة مخالفته ما لم ينتهِ أجله، أو ينقض نقضاً مشروعاً بعد إنذار وإمهال، أو يخلّ الطرف الثاني بعهده، وما يفتح من البلدان صلحاً يجري الإمام فيه على موجب الصلح، ولا يجوز للإمام الذي يأتي بعده تغييره، ومعنى هذا اعتبار الدولة من الوجهة السياسيّة الخارجيّة شخصاً حكميّاً يمثّله الإمام ويتعاقد باسمه وفقاً لنظريّات الحقوق الدوليّة الحديثة.

2 ـ وفي الناحية الداخليّة ذكروا أنّ القضاة والعمّـال ـ أي الموظّفين ـلا ينعزلون بموت السلطان الذي عيّنهم.

3 ـ وفي الناحية الماليّة ـ وهي التي يبرز فيها وجه الذمّة الماليّة في شخصيّة الدولة ـ ذكروا أنّ القاضي إذا أخطأ في قضائه بما لا يكون فيه التلافي كان الضمان على بيت المال.

ومقتضى هذه النصوص وأمثالها أنّ الفقهاء قد اعتبروا الدولة شخصيّة حكميّة ذات أهليّة وذمّة مستقلّة عن شخصيّات أفراد الاُمّة، ولها ماليّة خاصّة مستقلّة عن أموالهم وإن كانت تجبى منهم، وهي بيت المال.

ثمّ يذكر الاُستاذ الزرقاء بحثاً عن الشخصيّة الحكميّة في النظر القانوني وأنواعها وأحكامها، ثمّ يقول: أنّه بالرجوع إلى القواعد الفقهيّة في الشريعة الإسلاميّة وما أسلفناه يتّضح أنّ النظريات الحقوقيّة الحديثة والأحكام القانونيّة المعتبرة اليوم في الشخصية الحكميّة تتّفق كلّها مع قواعد الفقه الشرعي، ولو أنّ هذه المؤسّسات ذات الشخصيّة الحكميّة القانونيّة اليوم وجدت في العصور الفقهيّة الماضية لدينا لأقرّ لها الفقهاء هذه الأحكام التي جاء الشرع بأمثالها في شخصيّة الدولة وبيت المال والوقف كما تقدّم، فالأحكام القانونيّة المتعلّقة بالأشخاص الحكميّة العامّة والخاصّة كالجمعيّات والمؤسّسات يمكن إدخالها في صلب الفقه وكتبه.

85

أقول: إنّ جملة من الأمثلة التي ذكرها الاُستاذ الزرقاء لا تخلو من مناقشة:

فذكر بيت المال كشخصيّة معنويّة ثمّ ذكر الدولة كذلك مع التمثيل في ناحيتها الماليّة بما يجري في بيت المال لا يخلو من مسامحة. فلئن كان بيت المال عبارة عمّا يرجع للدولة أو لعموم المسلمين من مال فالشخصيّة المعنويّةّ إنّما هي شخصية الدولة أو شخصيّة عموم المسلمين لا شخصيّة بيت المال. وما ذكره من فرض شخصيّات حقوقيّة لفروع بيت المال فالواقع أنّ توزيع أموال بيت المال على عدّة شعب وأقسام يكون بشكلين:

الأوّل: ما لا يعدو ـ حتى عرفاً وعقلائيّاً ـ عن أن يكون مجرّد تنظيم للمصاريف، سنخ أنّ شخصاً تاجراً مثلا يمتلك أنواعاً عديدة من الأموال الكثيرة فلأجل تدقيق الحساب وتنظيم اُموره الماليّة يفترض عدّة حسابات لعدّة أقسام من ماله يصرف كلّ قسم في مصارف معيّنة، وإذا أراد صدفةً أن يصرف شيئاً ممّا خصّصه لقسم مّا في قسم آخر يفترضه كأنّه دَين لهذا القسم على ذاك القسم، ثمّ يوفّيه من أموال ذاك القسم، لا بمعنى أن يكون هذا دَيناً حقيقة، أو أن تكون لكلّ قسم شخصيّة حقوقيّة خاصّة به، بل بمعنى مجرّد ترتيب وتنظيم للحساب لا أكثر من ذلك.

الثاني: ما قد يتّفق من أنّ الجهة المالكة لبعض أقسام ما في بيت المال تختلف عن الجهة المالكة لبعض آخر، كما لو كان قسم من المال من أرباح الأرض الخراجيّة بناءً على أنّها ملك للمسلمين، وقسم آخر من الزكاة التي هي ملك للفقراء، وكما لو قلنا: إنّ الأقسام الثمانية لمصارف الزكاة يمتلك كلّ قسم منها ثمن الزكاة وتجب التسوية بينها في التقسيم، وهذا أيضاً لا يعني شخصيّة معنويّة لأقسام الأموال، وإنّما يعني شخصيّة معنويّة لتلك الجهات.

وما ذكره في الناحية الداخليّة للدولة ليس تكييفه المفهوم عرفاً وعقلائيّاً منحصراً بفرض شخصيّة معنويّة لمنصب الإمامة، بل يمكن تكييفه عرفاً وعقلائيّاً

86

أيضاً بفرض تضمّن الإمامة معنى الولاية لشخص الإمام المنصوب من قبل الله على رأي الشيعة، أو من قِبل الجمهور على رأي آخر مع فرض الولاية ناظرة إلى ما بعد موته أيضاً، بمعنى أنّ الولاية وإن كانت خاصّة بزمان حياته لكنّها تشمل تصرّفاته التي تقع في زمان حياته والتي يمتّد نظرها إلى ما بعد وفاته من قبيل نصب القضاة والقيّمين والعمّال، فلا ينعزل المنصوب من قبله بعد موته إلّا بعزله من قبل الوليّ الجديد.

وأمّا النصّ المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: «يسعى بذمّتهم أدناهم» فأيضاً ليس واضحاً في التفسير بفرض الشخصيّة المعنويّة للمسلمين، بل يمكن تفسيره بأنّ شخصيّة كلّ مسلم مهما تفترض دانية يجب على الآخرين مواساتها فيما أعطاها بالنيابة عن الكلّ من الأمان.

وإن شئت فقل: إنّ التفسير الذي فرضه الاُستاذ الزرقاء في المقام يعني في الحقيقة الالتزام بأمرين كلّ منهما في نفسه خلاف الأصل، أحدهما افتراض شخصيّة معنويّة للمسلمين، والثاني افتراض نيابة كلّ واحد منهم عن تلك الشخصيّة المعنويّة في إعطائه للأمان. بينما يكفي لتفسير هذا الالتزام بالأمر الثاني فقط وهو النيابة دون الأمر الأوّل وهو فرض الشخصيّة المعنويّة، وذلك بأن نفترض أنّ الإسلام أعطى لكلّ فرد من المسلمين في إعطاء الذمّة والأمان النيابة عن كلّ المسلمين من دون أن نفترض شخصيّة معنويّة للمسلمين يكون كلّ فرد نائباً عنها.

وأمـّا فرض رفع الدعوى في الحقوق العامّة وفي الحدود وما شابهها إلى القاضي فأيضاً ليس تفسيره منحصراً بما قال من افتراض شخصيّة معنويّة لمصلحة عامّة يمارس حقّ الادّعاء باسمها، فإنّ تلك الاُمور التي يرفع أحد المسلمين الدعوى بالنسبة لها إلى القاضي ـ رغم عدم علاقة شخصيّة بينها وبين المدّعي ـ تنقسم إلى قسمين:

87

الأوّل: حقوق عامّة للمسلمين يكون على الوالي المحافظة عليها والتفتيش عن حقيقة الحال عند الشكّ فيها، كما في حفظ أمن البلاد وراحة العباد، وهنا لا دليل على اعتبار رفع دعوى أحد على أحد لإخلاله بالأمن أو راحة الناس من دون أداء ذلك إلى ضرر بالمدّعي داخلا في باب المرافعة المألوفة في باب القضاء التي تدور مدار بيّنة المدّعي ويمين المنكر، وإنّما أثر رفع الدعوى هنا هو إيجاد احتمال الخلل بالأمن والراحة في ذهن الوالي، فيتمّ بالنسبة للوالي موضوع وجوب الفحص والتفتيش لحفظ أمن الناس وراحتهم.

والثاني: المعاصي الموجبة للحدّ أو التعزير كما في رفع دعوى الزنا أو اللواط على شخص، وهذا أيضاً لا دليل على إدخاله في باب المرافعة المألوفة التي يدور الأمر فيها على البيّنة والأيمان، بل هذا مجرّد إخبار للوالي بالأمر، فإن لم يقترن الإخبار بالبيّنة بالقدر المثبت لمدّعاه لم يطالب القاضي المدّعى عليه باليمين، ولم يثبت عليه شيء، بل قد يحدّ المدّعي حدّ القذف من دون توقّف ذلك على يمين المنكر.

وإن اقترن الإخبار للوالي بالبيّنة بالعدد الكافي لإثبات ذاك المدّعى تمّ بذلك ثبوت ما يوجب على القاضي إقامة الحدّ أو التعزير، وهذا ما يجب عليه بقطع النظر عن باب المرافعة والقضاء بين المترافعين، أي لو ثبت له ذلك من دون وجود مدّع في المقام كانت عليه أيضاً إقامة الحدّ أو التعزير، ولا علاقة لذلك بباب القضاء بالمعنى الخاصّ.

نعم، رغم كلّ هذه المناقشات لا ننكر صحّة بعض المصاديق التي ذكرها الاُستاذ الزرقاء في الجملة، ولو تمّت كلّ المصاديق التي ذكرها فهي غير كافية لدينا لإثبات كلّ الشخصيّات المعنويّة والحقوقيّة الواردة في الفقه الغربي بعرضها العريض في فقهنا الإسلامي، وإن كان ذلك قد يكفي لإثبات المقصود لدى أمثال الاُستاذ الزرقاء على أساس مباني القياس والاستحسان والمصالح المرسلة،

88

أمّا نحن الذين لا نؤمن بهذه المباني فهذا المقدار من البيان لا يكفينا لإثبات المقصود، بل لا بدّ من استئناف البحث في المقام.

وإذا أردنا استئناف البحث في المقام فلا ينبغي أن يكون ذلك بالروح الموجودة خطأً لدى بعض كتّابنا الإسلاميّين الذين يرون من ناحية في النظم الغربيّة ومفاهيمها اُبّهة ورقيّاً وكمالا، ومن ناحية اُخرى يريدون أن يثبتوا كمال الإسلام وعظمته فيحمّلونه نُظم الغرب ومفاهيمه كي يكونوا بذلك مدافعين عن الإسلام ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. وقد وقع مثل هذا الخطأ في كثير من المفاهيم والاُمور من قبيل الديمقراطيّة التي قد تحمّل على الإسلام بتخيّل أنّ هذا تعظيم للإسلام وتمجيد له بعد افتراض أنّ الديمقراطيّة هي النظام المتقدّم الكامل للحكم مثلا.

وعلى أ يّة حال، فهنا طرق ثلاثة لإثبات الشخصيّات الحقوقيّة الثابتة وفق المنهج الغربي وتصحيحها وفق اُسس فقهنا الإسلامي.

التمسّك بإمضاء الشارع للارتكاز العقلائي:

الطريق الأوّل: التمسّك بإمضاء الشارع لهذه الشخصيّات الحقوقيّة وأحكامها الثابت بعدم الردع. وتوضيح ذلك: أنّه لا إشكال ـ كما نقّحناه في أبحاثنا الاُصوليّة ـ في أنّ السيرة العقلائيّة المعاصرة لزمن المعصوم وارتكازاتهم بقدر ما ترجمت وقتئذ بالعمل يثبت إمضاؤها بعدم الردع.

ولكن هناك كلاماً في أنّ الإمضاء الثابت بعدم الردع هل يختصّ بالمقدار المترجم بالعمل وقتئذ؟ أو يشمل المقدار الذي كان كامناً في الارتكاز العقلائيّ وإن لم يترجم بالعمل في ذلك الزمان؟

ومثاله قانون مملّكيّة الحيازة التي هي مرتكزة في ذهن العقلاء وقد ترجمت في زمن المعصوم في العمل بمقدار الحيازات الجزئيّة التي يقدر عليها الفرد غير المسلّح بالأدوات الحديثة وقد سكت الشارع عنها ولم يردعها، فهل

89

هذا إمضاء لمملّكيّة الحيازة بالمقدار المتعارف وقتئذ فحسب؟ أو إمضاء لأصل ارتكاز مملّكيّة الحيازة بعرضها العريض؟! فالحيازات الواسعة التي تقع اليوم بالوسائل الحديثة وإن لم تكن موجودة في عصر المعصوم لكنّها لو كانت قد وجدت لَحكمَ العقلاء وقتئذ بحصول الملك على أثرها، لأنّ القاعدة المرتكزة لديهم في ذلك أوسع من المقدار الواقع خارجاً في ذاك الزمان، وضيق دائرة التملّك بالحيازة كان ناتجاً عن ضيق القدرات لا عن ضيق الارتكاز، فهل يشمل الإمضاء المنكشف بعدم الردع لهذا الارتكاز بعرضه العريض أوْ لا؟

وهناك وجهة نظر تقول: نعم، الإمضاء يشمل الارتكاز العقلائيّ بعرضه العريض، ولا يختصّ بالمقدار المترجم بالعمل، وذلك لأنّ شأن الشارع ليس مجرّد تصحيح العمل الفعليّ للمسلمين، بل هو تصحيح عملهم ومفاهيمهم ومرتكزاتهم التي يؤمنون بها في شؤون القضايا التي تمسّ التشريع، فسكوت الشارع عنها يدلّ على إمضائها بعرضها الواسع.

وبناءً على هذا نقول فيما نحن فيه: إنّ أصل الملكيّة والذمّة والمعاملات وما شابه ذلك هي من الاُمور الارتكازيّة لدى العقلاء، والمعمول بها في زمن المعصوم في حدود الشخصيّات الحقيقيّة بعرضها الواسع وفي حدود الشخصيّات الحقوقيّة في الجملة وفي دائرة ضيّقة، لكن ضيق الدائرة كان نتيجة عدم التعرّف وقتئذ على المصاديق المعاصرة لنا، ولو التفتوا إليها لاعترفوا بها ورتّبوا عليها أحكامها. إذن فأصل الارتكاز يكون أوسع من المقدار المعمول به وقتئذ وسكوت الشارع إمضاء لكلّ دائرة الارتكاز كما هو الحال في مثال مملّكيّة الحيازة تماماً.

إلّا أنّ الصحيح: أنّ قياس ما نحن فيه بمثال مملّكيّة الحيازة قياس مع الفارق. وتوضيح ذلك: أنّ التمسّك بإمضاء ارتكاز عقلائيّ في زمن المعصوم لإثبات الحكم على مصداق جديد في زمننا للكبرى المرتكزة إنّما يعقل فيما إذا كان لدينا حكم مرتكز ولهذا الحكم موضوع كان يتمثّل في بعض مصاديقه في

90

زمن المعصوم ثمّ تمثّل في زمننا في مصداق جديد، وكان هذا المصداق مصداقاً حقيقيّاً وتكوينيّاً لذاك الموضوع وإن لم يوجد مثله في ذاك الزمان.

وهذا من قبيل ما يقال في الحيازة من أنّ المملّكيّة حكم مرتكز في ذهن العقلاء على موضوع الحيازة، وكان المصداق المتواجد في زمن المعصوم هو الحيازة المختصرة باليد أو بالأدوات اليدويّة، وقد وجد بعد ذلك مصداق جديد وهو الحيازة المفصّلة وبالوسائل الحديثة، وهو مصداق حقيقيّ وتكوينيّ للحيازة. فهنا يمكن أن يقال: إنّ الحكم بالمملّكيّة يثبت لهذا المصداق الجديد، لأنّه كامن في الحكم الارتكازيّ الذي كان ثابتاً وقتئذ لدى العقلاء، وكان الضيق في المصداق الخارجيّ لا في الارتكاز.

أمـّا إذا افترضنا أنّه لم يوجد مصداق حقيقيّ جديد لذاك الموضوع، ولكن العقلاء توسّعوا في الحكم إمـّا بمعنى مجرّد التوسّع في نفس الحكم أو بمعنى إيجاد فرد اعتباريّ لذاك الموضوع فهنا لا يمكن إسراء الحكم الممضى عمّا كان في زمن المعصوم إلى المورد.

مثاله: ما لو فرضنا أنّ العقلاء حكموا أخيراً بأنّ من أشعل مصباحاً واتّسع نوره على أجسام كانت من المباحات الأصليّة فقد ملك تلك الأجسام، وذلك إمـّا بمعنى مجرّد توسيع لنطاق التملّك، أو بمعنى فرض وقوع أشعّة المصباح على جسم من الأجسام مصداقاً من مصاديق الحيازة جعلا واعتباراً. فهذا لا يكفي لإثبات حكم الحيازة وهو المملّكيّة على هذا المورد. أمـّا في فرض مجرّد توسيع الحكم فالأمر واضح، لأنّ هذا حكم جديد للعقلاء لم يكن مستبطناً في الارتكاز السابق. وأمـّا في فرض جعل انتشار النور حيازة بالاعتبار فلأنّ روح الاعتبار ـ إذا اُريد له أن يكون أمراً مفيداً عقلائيّاً ـ إنّما هو توسيع الحكم، فهذا أيضاً يعني الحكم الجديد للعقلاء غير المستبطن في الارتكاز السابق.

91

نعم، لو فرضنا فرضاً غير واقع أنّ المملّكيّة التي كانت حكماً ارتكازيّاً للعقلاء ـ مثلا ـ لم يكن موضوعها عبارة عن الحيازة الحقيقيّة بل كان موضوعها عبارة عمّا يشمل الحيازة الاعتباريّة بالنسبة لكلّ زمان بحسب ذلك الزمان فعندئذ سيكون اعتبار انتشار النور على الأجسام حيازةً لها خلقاً لمصداق حقيقيّ وتكوينيّ لموضوع الحكم الارتكازيّ، فيثبت الحكم هنا لأنّه رجوع إلى القسم الأوّل.

إذا عرفت ذلك قلنا في المقام: إنّ الملكيّة أو الذمّة أو المعاملة التي يراد إثباتها بالارتكاز هي الحكم، وموضوعها الموجود في زمن المعصوم كان عبارة عن الشخص الحقيقيّ وبعض الشخصيّات الحقوقيّة. وأمـّا مثل شخصيّة الشركة القانونيّة أو الجمعيّة أو المؤسّسة التي لم تكن اعتبرت وقتئذ شخصيّة حقوقيّة ـ إذ لم تكن خاطرة على البال أصلا ـ فاعتبارها في يومنا هذا شخصيّة حقوقيّة يرجع بروحه إلى توسيع جديد لدائرة الحكم والارتكاز.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذه الشخصيّات الحقوقيّة ليست عقلائيّة بحتاً، بل فيها عنصر من تشريع المشرّع في رأي أصحاب القانون، وهو الدولة لا العقلاء، فإنّهم يشترطون في الشخصيّات الحقوقيّة مطابقتها لتشريعات الدولة وشروطها التي قد تختلف من دولة إلى اُخرى.

ولو غضضنا النظر عن كلّ ما مضى وافترضنا هذه الشخصيّات الحقوقيّة من الاُمور الارتكازيّة في نظر عامّة العقلاء في يومنا هذا ولم نلتفت إلى الشرح الذي شرحناه من أنّ اعتبار فرد جديد يرجع بروحه إلى توسيع الحكم قلنا في المقام: إنّ دعوى ثبوت هذه الأفراد الجديدة في الارتكاز العقلائيّ في زمن المعصوم كي يثبت إمضاؤها بعدم الردع وإن تأخّر وجودها الخارجيّ إلى زماننا هذا بحاجة إلى دليل، فليس علينا أن نبرهن على عدم ذلك بل على من يدّعيه البرهنة عليه، والطرق التي شرحناها في علم الاُصول لإثبات امتداد السيرة والارتكاز من زماننا إلى زمان المعصوم لا تأتي هنا.

92

ونحن نحتمل أنّ الارتكاز الثابت في هذا اليوم يكون أحد أجزاء العامل المكوّن له تطوّر الحياة وتجدّد الحاجة إلى هذه الشخصيّات، فلنفترض أنّه لو كان هذا التطوّر في الحياة ثابتاً في زمن المعصوم وكانت الحاجات الفعليّة ثابتة وقتئذ لحصل هذا الارتكاز آنذاك، ولكن المفروض أنّ هذا التطوّر وهذه الحاجة لم يكونا وقتئذ، فلا دليل على ثبوت هذا الارتكاز آنذاك.

ونتيجة البحث: أنّ هذا الطريق الأوّل لتصحيح الشخصيّات الحقوقيّة في الفقه الإسلامي وهو التمسّك بالارتكاز العقلائيّ باطل.

ولكن مع هذا قد يقال بإمكان الاستفادة من الارتكاز في المقام في الجملة وتوضيح ذلك: أنّ هناك شخصيّات حقوقيّة كانت موجودة في زمن المعصوم كالدولة المالكة للأنفال، والمسجد المالك لما يوقف عليه، وعنوان الفقير المالك للزكاة ـ مثلا ـ ولكن قد لا نحصل على إطلاقات كافية في النصوص الواصلة إلينا لإثبات كلّ الحقوق المطلوبة لهذه الشخصيّات أو عليها.

فمثلا قد نمتلك دليلا لفظيّاً دلّ على ملكيّة الدولة للأنفال ولكن لا نمتلك دليلا لفظيّاً دلّ على صحّة هبة شيء للدولة، أو على صحّة اقتراض الدولة مالا، أو نحو ذلك، وقد نمتلك دليلا على صحّة الوقف على المسجد ولا نمتلك دليلا على صحّة هبة النقود مثلا لمسجد مّا، أو اقتراض المسجد لمال مّا، وقد نمتلك نصّاً يدلّ على مالكيّة كلّيّ الفقير للزكاة ولا نمتلك نصّاً يدلّ على صحّة اقتراض كلّيّ الفقير أو هبة شيء له، وما إلى ذلك.

فقد يمكن علاج هذا النقص بأن يقال: إنّ الارتكاز العقلائيّ يحكم بأنّ الشخصيّة الحقوقيّة لا تتفكّك، فما يقبل الملك يقبل الاستدانة، وما يقبل الوقف عليه يقبل الهبة، فبإمضاء هذا الارتكاز بعدم الردع تثبت كلّ الأحكام الحقوقيّة للشخصيّات التي كانت في زمن المعصوم وعليها.

بل إنّ هذا البيان لو تمّ لأمكن إثبات جميع الشخصيّات الحقوقيّة به حتى

93

التي لم تكن موجودة في زمن المعصوم، فمثلا الشركة القانونيّة نثبت الشخصيّة الحقوقيّة لها بالبيان التالي: إنـّنا لو لم نعترف بالشخصيّة الحقوقيّة والقانونيّة لهذه الشركة فلا إشكال في أنّ هناك مؤسّسة لها غاياتها، أو قل: شركة عاديّة مملوكة بالاشتراك لأصحابها.

ولا إشكال في أنّ من حقّ أحد أن يوقف شيئاً مّا على هذه المؤسّسة أو الشركة تصرف منافعه في مصالحها إن كان يعتبر ذلك أمراً خيرياً، وذلك تمسّكاً بعمومات الوقف، وهذا يعني إثبات شيء من الشخصيّة الحقوقيّة لهذه الشركة أو المؤسّسة، وهو امتلاك العين الموقوفة بناءً على أنّ الصياغة العقلائيّة لفهم مغزى الوقف على شيء أو جهة هي امتلاك الموقوف عليه للعين الموقوفة التي تحبس وتسبل منفعتها لذاك الشيء أو لتلك الجهة.

فإذا ثبت بدليل الوقف هذا الجزء من الشخصيّة الحقوقيّة لتلك الشركة ضممنا ذلك إلى ما يحكم به الطبع العقلائيّ من ارتكاز عدم إمكان التفكيك بين الحقوق للشخصيّة الحقوقيّة وعليها، وبناءً على أنّ هذا ارتكاز ناشئ من طبع العقلاء فهو ممتدّ إلى زمان المعصوم (عليه السلام)، فبناءً على أنّ عدم الردع يدلّ على إمضاء الارتكاز حتى المقدار غير المترجم بالعمل في زمن المعصوم تثبت صحّة هذا الارتكاز، وبهذا تصحّح كلّ الشخصيّات الحقوقيّة المألوفة في الفقه الغربي في منطق فقهنا الإسلامي.

بل النتيجة أوسع بكثير ممّا ألفه الفقه الغربي، فلا فرق عندنا بين الشركة العادية والشركة القانونيّة لإمكان وقف عين على الشركة العادية. وكلّ عنوان من العناوين أو جهة من الجهات أمكن الوقف عليه يأتي فيه هذا البيان، فبما أنّه يصحّ وقف شيء على عنوان العلماء مثلا إذن فللعلماء شخصيّة حقوقيّة، لأنّ هذا العنوان يملك ما يوقف عليه، وبالتالي تثبت له وعليه كلّ الحقوق، وهكذا نسري الفكرة إلى دائرة أوسع بكثير من الدائرة المألوفة في الفقه الغربيّ. نعم، كلّ هذا يختصّ بالاُمور الخيريّة.

94

ولكن الواقع أنّ ثبوت هذا الارتكاز ـ أعني ارتكاز عدم التفكيك في الشخصيّات الحقوقيّة بين الحقوق خاصّة في زمن المعصوم (عليه السلام) ـ غير واضح، إلّا في عنوان طبّق بالفعل على إنسان فأصبح الإنسان مالكاً لما يملكه العنوان كعنوان الدولة أو الإمام المنطبق على شخص الإمام، فملك بذلك ممتلكات الإمام، فهذه الممتلكات وإن كانت لا تنتقل الى وارثه لأنّها ليست ملكاً له بما هو شخص بل هي ملك له بما هو إمام وبما هو متقمّص قميص الدولة لكن هذا الإنسان الذي أصبح يمتلك بعض الممتلكات بوصفه إماماً يستطيع أن يستدين بهذا الوصف، أو أن توهب له أموال بهذا الوصف.

فلو سلّمنا عدم تعقّل العرف والعقلاء التفكيك بين الحقوق له وعليه فى إنسان انطبق عليه عنوان فامتلك ممتلكات ذاك العنوان بوصفه متلبّساً بذاك اللباس لا نسلّم ذلك في مثل الشركات والجمعيّات والمؤسّسات وما شابه ذلك.

إذن فغاية ما يثبت بعمومات الوقف هو جواز امتلاك أيّ جهة خيريّة لشيء مّا بالوقف، أمّا ثبوت كامل الشخصيّة الحقوقيّة لتلك الجهة لكي تثبت كلّ الأحكام الحقوقيّة لها وعليها فلا.

نعم، يمكن التعدّي من الوقف الذي هو تحبيس لعين خاصّة إلى تمليك الماليّة التي يمكن تبديل تجسّدها من عين إلى عين اُخرى فراراً من مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة، فيجوز للمتولّي البيع والتبديل بما يراه صالحاً في أيّ وقت أراد، وذلك تمسّكاً بإطلاق روايات الصدقة الجارية(1) بدعوى أنّ الجريان ليس مصداقه الوحيد عبارةً عن انحباس العين وتوقيفها عن البيع وهو المصداق الرائج في زمن صدور النصّ، بل له مصداق آخر أيضاً وهو أن يكون المحبوس على المشروع الخيري هو ماليّة الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن أعيان مختلفة


(1) راجع الوسائل 13: 292 ـ 294، الباب 1 من أبواب الوقف والصدقات.