208

 

إطلاقات أدلّة العقود

وبعد، فالآن نريد أن نبحث عن أنّه هل يوجد لدينا إطلاق في الكتاب أو السنّة يقتضي كفاية مجرّد إبراز المقصود في العقود وعدم اشتراط شكليّة معيّنة نرجع إليه في جميع الموارد إلّا أن يخرج قيد مّا بدليل خاصّ، أوْ لا؟ وهنا تذكر عدة إطلاقات لا بدّ من تمحيصها كي نرى هل يصحّ منها شيء أوْ لا؟

 

آية الوفاء بالعقد:

(أوّلا) قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾(1)، وكون هذه الجملة معقّبة بقوله تعالى: ﴿اُحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم...﴾ لا تكون قرينة على صرف الآية الى العقود الإلهيّة. ولو سلّمت قرينيّة ذلك فإنّما هي قرينة على شمول الآية للعقود الإلهيّة، وهي التكاليف، حيث إنّ التكاليف كما تعتبر عهوداً بمعنى الوصيّة كما قال تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان﴾(2)كذلك تعتبر مواثيق مأخوذة من البشر في عالم الذرّ أو الفطرة كما قال تعالى: ﴿وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين﴾(3) فيصّح تعلّق الوفاء بذلك، ولكنّ هذا لا يعني اختصاص الآية بالعقود والمواثيق الإلهيّة، بل مقتضى إطلاقها شمولها للعقود التي تكون بين الناس. وما مضى من الرواية التي فسّرت العقود في الآية بالعهود(4) (والمقصود


(1) المائدة: 1.

(2) يس: 60.

(3) الأعراف: 172.

(4) تفسير عليّ بن إ براهيم 1: 160، الوسائل 16: 206، الباب 25 من أبواب النذر والعهد، الحديث 3 عن العيّاشيّ.

209

بها المواثيق بقرينة الوفاء) محمولة على التفسير بفرد بارز، لا على الحصر كييخرج مثل البيع لعدم كونه ميثاقاً، فإنّ هذا اللحن وهو التفسير بفرد بارز شايع في الروايات الواردة في تفسير القرآن من قبيل ما ورد من تفسير الصادقين في قوله تعالى: ﴿كونوا مع الصادقين﴾(1) بالأئمة (عليهم السلام)(2). وما ورد من تفسير اُولي الأمر في قوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم﴾(3) بعليّ والحسن والحسين (عليهم السلام)(4).

وهذه الآية هي أكمل إطلاق ورد في المقام، حيث تشمل كلّ العقود حتى التي لا تكون ماليّة والتي هي خارجة ـ كما مضى ـ عن بحثنا.

هذا، والشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) لم يذكر هذه الآية المباركة في عداد أدلّة صحّة المعاطاة، ولكنّه ذكرها في عداد أدلّة اللزوم، ولعلّ السرّ في ذلك النقاش في دلالة هذه الآية على صحّة العقود وحملها على خصوص اللزوم إمّا بدعوى أنّ الوفاء بالعقد عبارة عن الوفاء بآثار العقد، وآثار العقد إنّما تترتّب على العقد الصحيح، فصحّة العقد يجب أن تكون مفروغاً عنها في رتبة الموضوع، أو بدعوى أنّ عدم صحّة العقد يعني عدم انعقاد العقد، وعدم انعقاده يعني فقدانه، فالشكّ فيه شكّ في الموضوع. إلّا أنّ هذا كلّه واضح البطلان، فإنّ انعقاد العقد ليس إلّا عبارة عن ارتباط قرار بقرار سواء نفذ شرعاً أوْ لا، والوفاء بالعقد يعني الوفاء بالأثر الذي قصده المتعاقدان من قرارهما، لا الأثر الشرعيّ. وكلّ هذا حاصل حتى في العقد


(1) التوبة: 119.

(2) راجع تفسير البرهان 2: 169 و 170.

(3) النساء: 59.

(4) اُصول الكافي 1: 286، باب ما نصّ الله عزّ وجلّ ورسوله على الائمة الحديث 1.

210

الباطل شرعاً، إذن فإطلاق الآية يدلّ على صحّة العقد الذي هو ربط قرار بقراربأيّ مبرز عرفيّ ونفوذه شرعاً.

نعم، البطلان الذي يأتي من قِبل عدم مشروعيّة متعلّق العقد لا ينفيه إطلاق ﴿اوفوا بالعقود﴾. فالعقد على المحرّم لا يشمله هذا الإطلاق، لا أنّه خرج بالمخصّص، وذلك إمّا ببيان أنّ مثال هذه النظم الثانويّة كنظام الوفاء بالعقد أو الشرط أو اليمين أو النذر في أيّ شريعة شرّعت تنصرف عرفاً بالمناسبات الى نُظم ضمن إطار تلك الشريعة، ولا يفهم منها نظام يحلّل مخالفة النظم الأوّليّة للشريعة، أو ببيان أنّ المفهوم من هذه النظم كونها أحكاماً حيثيّة، أيّ أنّ العقد من حيث كونه عقداً صدر من الطرفين يجب احترامه من قبل الطرفين، أو أنّ الشرط أو اليمين أو النذر من حيث هو واجب الاحترام. أمّا لو حكم المولى تعالى بنقضه بفرض حرمة متعلّقه فهذا لا ينافي احترام العقد كعقد، أو الشرط والنذر كشرط ونذر.

هذا، وقدجاء في مصباح الفقاهة(1) توجيه آخر لإغفال الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله)لهذه الآية في عداد أدلّة صحّة المعاطاة، ولا يظهر من عبارته نسبة هذا التوجيه الى السيّد الخوئي، لأنّه ذكره تحت الخط لا في متن التقرير.

وذلك التوجيه هو: أنّ الآية إنّما دلّت بالمطابقة على لزوم العقد؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالعقد إنّما يكون إرشاداً الى لزومه وعدم انفساخه بالفسخ. وهذا يدلّ بالملازمة على صحّة العقد، إذ لا معنى للزوم العقد الفاسد، والدلالة الالتزاميّة تسقط عن الحجّيّة إذا سقطت المطابقيّة عن الحجّيّة. وبما أنّ الشيخ الأنصاري (رحمه الله)ذكر قيام الإجماع على عدم لزوم المعاطاة إذن لم يبق عنده مجال للتمسّك بهذه الآية لصحّة المعاطاة لأنّه بسقوط المطابقيّة سقطت الالتزاميّة. وهذا بخلاف آيتي حلّ البيع والتجارة عن تراض، فإنّهما تدلاّن بالمطابقة على صحّة البيع.


(1) مصباح الفقاهة 2: 105.

211

أقول: إنّ دلالة الآية على اللزوم والصحّة في عرض واحد، فالآية تدلّبالمطابقة على وجوب الوفاء وبالالتزام على الصحّة واللزوم، لأنّ وجوب الوفاء لا يكون إن فسد العقد، وكذلك لا يكون إن لم يكن العقد لازماً، فلعلّ الأولى في تقريب النتيجة المقصودة أن يقال: إنّنا إذا قطعنا بعدم اللزوم بسبب الإجماع فقد قطعنا بعدم وجوب الوفاء، فقد سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة، وبسقوطها تسقط الدلالة الالتزاميّة على الصحّة(1).


(1) لا يخفى أنّ الاستدلال بمثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ على صحّة مثل البيع لا يخلو من إشكال، فإنّ البيع ليس عقداً على الالتزام بعمل كي يتصوّر فيه الوفاء وعدم الوفاء مباشرةً، وإنّما الذي يتصوّر فيه مباشرةً هو النفوذ وعدم النفوذ. نعم يتصوّر فيه الوفاء وعدم الوفاء بمعنى الوفاء بآثاره أو عدم الوفاء بها، فقد يقال: إنّ وجوب الوفاء بآثاره المقصودة من قِبل المتعاقدين يدلّ بالالتزام على نفوذه، إذ لو لم يكن نافذاً لما وجب الوفاء بآثاره من تسليم العوضين ونحو ذلك، ولكنّ الجواب على ذلك هو: أنّ الأمر بالوفاء بالعقود أمرٌ حيثيّ أي بيان لكون العقد بما هو عقد محترماً وواجب الوفاء، فلكي تثبت فعليّة هذا الأمر لا بدّ من ثبوت كون المتعلّق مشروعاً، فلو كان المتعلّق غير مشروع ولذلك لم يجب الوفاء به لم يكن ذلك تخصيصاً في الأمر بالوفاء بالعقد، لأنّ هذا لا ينافي كون العقد من حيث هو عقد محترماً والعقد إذا كان عقد فعل كما لو تعاقدا على الاجتماع في مكان مّا كانت مشروعيّة متعلّقه عبارة عن إباحته، فالتعاقد على الاجتماع في الحرم الشريف نافذ ولكنّ التعاقد على الاجتماع في مجلس المنادمة على مائدة الخمر ليس نافذاً لحرمة متعلّقه. وإذا كان عقد نتيجة كالبيع كانت مشروعيّة متعلّقه عبارةً عن نفوذه فلا يعقل دلالة الأمر بالوفاء بالعقد على النفوذ، لأنّ مشروعيّة المتعلّق يجب أن تكون أمراً مفروغاً عنه مسبقاً. نعم بعد ثبوت نفوذه ومشروعيّته يدلّ الأمر بالوفاء على حرمة مخالفة الآثار وعلى اللزوم. ومن هنا يظهر أيضاً الإشكال في الاستدلال ببعض الإطلاقات الآتية كآية الميثاق أو رواية: المؤمنون عند شروطهم.

212

وعلى أيّة حال، فلعلّه يأتي في المستقبل بيان منع تحقّق إجماع حجّة على عدم اللزوم في المقام.

 

أحلّ الله البيع:

(وثانياً) قوله تعالى: ﴿أحلّ الله البيع﴾(1). وهذا وإن كان خاصّاً بالبيع إلّا أنّه يتعدّى من البيع الى كلّ ما لا يحتمل الفرق بينه وبين البيع، فمثلا لو كان المقصود تصحيح المعاطاة ولم يحتمل الفرق بين البيع وسائر المعاملات الماليّة في صحّة المعاطاة وعدمها صحّ التمسّك بهذه الآية لإثبات صحّة المعاطاة في المعاملات الماليّة على الإطلاق على أنّه لو عثرنا في كلّ معاملة ماليّة على نصّ لإمضاء تلك المعاملة من سنخ هذا النصّ في البيع جرى فيه بلحاظ تلك المعاملة نفس البحث الذي يجري في ﴿أحلّ الله البيع﴾ بلحاظ عقد البيع.

وربّما تذكر على التمسّك بهذا الإطلاق عدة إشكالات:

إشكال التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة:

الإشكال الإوّل: انّ أسامي المعاملات لو كانت اسماً للأعمّ صحّ التمسّك بإطلاق أدلّة المعاملات. أمّا لو كانت اسماً للصحيح فالتمسّك بإطلاقها مشكل، لأنّ الشكّ في الصحّة يعني الشكّ في موضوع العامّ، فيصبح التمسّك به تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ، وهذا لا يجوز قطعاً.

ولعلّ هذا الإشكال يسري الى مثل الإطلاق الماضي، وهو: ﴿أوفوا بالعقود﴾، أو الإطلاق الآتي وهو: ﴿إلّا أن تكون تجارة عن تراض﴾ بدعوى أنّ العقد أيضاً اسم للعقد الصحيح، أو أنّ التجارة تعني المعاملات الصحيحة.


(1) البقرة: 275.

213

ولكنّي أحسّ بفطرتي العرفيّة أنّ عدم اختصاص العقد بخصوص الصحيح أوضح من عدم اختصاص البيع بخصوص الصحيح، فالعقد ليس عدا قرار مرتبط بقرار، أو ربط قرار بقرار، أمّا نفوذ ذاك القرار شرعاً أو عرفاً ووجوب الوفاء به شرعاً أو عرفاً فخارج عن مفاد العقد، فحتى لو تعاقدا مثلا على أعظم المناكير الشرعيّة والعرفيّة والتي لم يرَ الشرع ولا العرف مصلحة في إمضاء التعاقد عليها لم يكن ذلك خارجاً عن معنى العقد.

وعلى أ يّة حال، فالذي يبدو أنّ الإشكال في الإطلاق بفرض عناوين المعاملات أسماء للصحيح كان بحاجة الى نوع من التعميق، إذ يتبادر الى الذهن الجواب عليه ـ لولا التعميق ـ بأنّ المعاملات ليست كالعبادات التي هي من مخترعات الشارع حتى يأتي احتمال كون أساميها أسام للصحيح، بل هي ثابتة لدى العرف قبل الشرع الإسلاميّ، وجاء الشرع الإسلاميّ فأدخل في شروطها بعض التعديلات، وهذا لا يوجب انتقال الوضع من معناه اللغوي والعرفي الى وضع جديد.

وكأنّه لهذا حاول الشيخ الأنصاري (رحمه الله) تعميق صيغة الإشكال ببيان(1)يرجع بعد إدخال شيء من التعديل عليه بأنّ البيع يمكن افتراضه من أوّل الأمر اسماً للصحيح، لكنّ الصحيح في نظر الشرع يختلف عن الصحيح في نظر العرف، فما يكون صحيحاً عرفاً وباطلا شرعاً يكون بيعاً عرفاً ولا يكون بيعاً شرعاً، فالتمسّك لدى الشكّ في ذلك بدليل ﴿أحلّ الله البيع﴾ يعود عليه إشكال التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ.


(1) راجع المكاسب: 80 و 81.

214

وأجاب الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على هذا الإشكال ـ بناءً على فرض حمل﴿أحلّ الله البيع﴾ على هذا المعنى ـ بأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف يحمل هذا الكلام بالإطلاق المقامي على إرادة ما هو الصحيح المؤثّر عند العرف، فلدى الشكّ في شرط جديد يرجع الى إطلاق الدليل لنفيه.

وقد فسّر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) كلام الشيخ الأنصاري في المقام إشكالا وجواباً ـ على ما جاء في تقرير الشيخ الآملي (قدس سره)(1) ـ بتفسير غريب، وهو: أنّ الإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات راجعة الى إمضاء المسبّبات لا الأسباب، إذ لا معنى مثلا لحمل ﴿أحلّ الله البيع﴾ على حلّيّة مجرّد إنشاء الإيجاب والقبول، وإنّما المقصود حلّيّة المسبب، فإذا شككنا في تحقّق المسبّب للشكّ في دخل شيء شرطاً أو شطراً في السبب كان التمسّك فيه بالعامّ تمسّكاً في الشبهة المصداقيّة للعامّ. ومن هنا عمّم المحقّق النائينيّ (رحمه الله) الإشكال على مثل ﴿اُوفوا بالعقود﴾ حيث يقول: إنّ هذا أيضاً راجع الى ناحية المسبّب ضرورة أنّ العقد عبارة عن العهد الموثَّق الحاصل بالإيجاب والقبول لا نفس الإيجاب والقبول. هذا تفسير الإشكال.

وأمّا تفسير الجواب الذي ذكره الشيخ الأنصاري فقد نقله ببيان أنّ الدليل وإن كان ناظراً الى إمضاء المسبّبات لكن إمضاء المسبّبات يدلّ بالملازمة على إمضاء أسبابها، إذ لا يتحقّق المسبّب من دون السبب. وعندئذ أورد عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بأنّ إمضاء المسبب إنّما يقتضي إمضاء السبب في الجملة، إذ يكفي في تحقّق المسبّب تحقّق السبب في الجملة، ولا يقتضي إمضاء السبب بقول مطلق كي نتمسّك لدى الشكّ بالإطلاق.


(1) راجع الجزء الأوّل من تقريره: 111 ـ 115.

215

ثمّ تصدّى هو (رحمه الله) لحلّ الإشكال بما حاصله: أنّ ترتّب الـمُنشأ على ألفاظالعقود والإيقاعات ليس من قبيل ترتّب المسبّبات على أسبابها، كترتّب الإحراق على الإلقاء في النار، أو كترتّب حصول السنبل على إلقاء البذر، فمثل هذين المثالين يكونان من ترتّب المسبّب على السبب، بفرق أنّ السبب في المثال الأوّل سبب تامّ، ويكون المسبّب فعلا لفاعل السبب حقيقة، إلّا أنّه فعل غير مباشر، وفي المثال الثاني مقدّمة إعداديّة، ويفصل بينه وبين المسبّب ما يكون خارجاً عن قدرة فاعل السبب واختياره، فلا ينسب المسبّب حقيقة الى فاعل السبب.

وأمّا ما نحن فيه فليس من هذا القبيل، وإنّما هو من باب إيجاد ذي الآلة بالآلة كالتكلّم باللسان، أو الكتابة بالقلم، وهذا يكون فعلا مباشراً للفاعل لا مسبّباً توليديّاً وفعلا غير مباشر. نعم، هذه المنشآت تارةً ينظر إليها باعتبار ذاتها من حيث هي هي بقطع النظر عن انتسابها الى الفاعل، واُخرى ينظر إليها باعتبار انتسابها الى الفاعل، وإن شئت فعبّر عن الأول بالمعنى الاسم المصدري، وعن الثاني بالمعنى المصدري.

ودليل إمضاء هذه المنشآت إن كان ناظراً إليها بالمعنى المصدري، فإمضاء المنشأ بالإنشاء عين إمضاء إنشائه بالآلة المعدّة لإنشائه، فإنّ إمضاء الكتابة بمعناها المصدري عين إمضاء إيجادها بالقلم، وإن كان ناظراً إليها بالمعنى الاسم المصدري فكذلك. لأنّ التغاير بين المعنى المصدري والمعنى الاسم المصدري ليس إلّا بالاعتبار.

أقول: إنّ هذا البيان ـ إشكالا وجواباً ـ يشتمل على خلط غريب بين الـمُنشأ والثمرة التي تثبت بالشرع أو القانون أو عرف العقلاء، وذلك لأنّ تصوير الإشكال ـ بكون الشكّ في المسبّب شبهة مصداقيّة للعامّ ـ يتوقّف على كون المراد

216

بالمسبّب تلك الثمرة القانونيّة أو الشرعيّة، أو على تخيّل كون ما يثبت بإمضاء القانون هو عين الـمُنشأ بالإيجاب والقبول وتصوير الجواب ـ بأنّ ما نحن فيه من قبيل الآلة وذي الآلة ـ يتوقّف على كون المراد بالمسبّب هو الـمُنشأ. والواقع أنّ المنُشأ هو غير الثمرة القانونيّة، فكلاهما أمران اعتباريّان، لكنّ الاول أمر اعتبره الناقل، ونسبته الى اعتباره نسبة الوجود الى الإيجاد. والثاني أمر اعتبره المقنّن، ونسبته الى اعتبار المقنّن له نسبة الوجود الى الإيجاد، وليس هذا نسبته الى فعل الناقل نسبة ذي الآلة الى الآلة، وإنّما هي نسبة الحكم الى الموضوع.

ومع الالتفات الى أنّ الثمرة القانونيّة غير المنُشأ وإنّ عدم إمضاء القانون للمنُشأ لا يعني عدم تحقّق المنُشأ يتّضح أنّ فرض البيع أو العقد اسماً للمنُشأ لا يصوّر إشكالا في المقام بلزوم كون التمسّك بالعامّ تمسّكاً به في الشبهة المصداقيّة حتى يجاب عليه بالجواب الذي نسبه الى الشيخ الأنصاري، أو الجواب الذي اختاره هو.

أمّا لو فرضنا أنّ المقصود الواقعي للشيخ الأنصاري (رحمه الله) هو تصوير الإشكال ـ بناءً على فرض كون البيع اسماً لما يثمر الثمرة القانونيّة ـ فهنا اختلاف في تصوير تلك الثمرة القانونيّة المقصود للشيخ بالنحو الذي يؤدّي الى تصوير الإشكال في المقام.

فالسيّد الخوئيّ (رحمه الله) نسب الى الشيخ أنّه يفسّر فرض كون البيع اسماً للصحيح بمعنى كونه اسماً لما هو المؤثّر واقعاً أثر الملكيّة والانتقال، وما يقع أحياناً من مخالفة الشرع للعرف في صحّة بعض المعاملات مرجعه الى تخطئة العرف في تشخيصه للواقع، وعندئذ أورد عليه بمنع كون الملكيّة أمراً واقعيّاً،

217

وإنّما هو أمر اعتباري صرف(1).

إلّا أنّ المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) فسّر كلام الشيخ (قدس سره) بتفسير آخر وهو أن يكون معنى فرض البيع اسماً للصحيح فرضه اسماً للبيع المؤثّر على ما هي عليه كلمة المؤثّر من معنى متقوّم بالاعتبار المختلف باختلاف الأنظار، ومخالفة الشرع للعرف ليست بمعنى تخطئته في تشخيصه للواقع، بل بمعنى كون اعتبار أحدهما مغايراً لاعتبار الآخر(2).

وهذا الكلام يمكن أن يذكر كتقريب لتماميّة الإطلاق في ﴿أحلّ الله البيع﴾بدعوى أنّ البيع اسم لجامع المؤثّر ولا يختصّ بالمؤثّر الشرعي حتى يكون الشكّ في التأثير الشرعي شكّاً في المصداق، ويمكن أن يذكر كتقريب للإشكال على الإطلاق بدعوى أنّ البيع لئن كان اسماً للمؤثّر فالمؤثّر لدى كلّ متكلّم يختلف عن المؤثّر لدى متكلّم آخر، فإذا شككنا في ثبوت التأثير لدى الشارع يكون التمسّك بإطلاق كلامه تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، وعندئذ نكون بحاجة الى الجواب بمثل دعوى الإطلاق المقامي، وإنّ خطاب الشارع المتوجّه الى العرف ينصرف الى إرادة ما هو المؤثّر لدى العرف مثلا.

إلّا أنّ السيّد الخوئي (رحمه الله) لم يقبل صلاحيّة هذا التقريب كبيان للإشكال على الإطلاق، فهو يرى أنّ التقريب الوحيد لفرض البيع اسماً للصحيح بنحو يصلح تقريباً للإشكال هو أن نتخيّل أنّ الملكيّة والانتقال من الاُمور الواقعيّة. أمّا إذا اعترفنا بأنّ تأثير البيع ليس عدا أمر اعتباري بحت ولا وجود واقعيّ للملكيّة فلا


(1) راجع مصباح الفقاهة 2: 80، والمحاضرات 2: 40.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 1: 21 و 22.

218

يبقى موضوع للإشكال فإنّه إذا فرض البيع اسماً للمؤثّر فإن قصد بذلك التأثير الشرعي قلنا: إنّ كلمة البيع موضوعة من قبل العرف قَبل الشرع، وليست موضوعة من قِبل الشرع، والعرف لا يضعها للمؤثّر الشرعيّ، وإن قصد بذلك جامع التأثير كان هذا في صالح الإطلاق، لأنّ جامع التأثير لا يشكّ فيه بالشكّ في التأثير الشرعي. وإن قصد به التأثير في الاعتبار الصحيح الناشئ عن المصلحة الواقعيّة قلنا: إنّ موافقة الاعتبار للمصلحة وعدمها أجنبية عن المفهوم العرفي الذي تجري عليه الاستعمالات العرفيّة(1).

أقول: يمكن افتراض وضع البيع للصحيح بمعنى المؤثّر اعتباراً لا واقعاً، مع تصوير الإشكال في الإطلاق رغم اعتباريّة الأثر، وذلك بأن يُقال: إنّ البيع موضوع ليس لجامع المؤثّر على شكل الوضع العامّ والموضوع له العامّ على حدّ وضع الرجل مثلا للجامع بين أفراد الرجل كي يقال: إنّ هذا بإطلاقه يشمل المؤثّر باعتبار العقلاء والمؤثّر باعتبار الشرع، وهذا لا يوجب إشكالا في إطلاق الآية، بل يؤكّد إطلاقها، وإنّما هو موضوع للمؤثّر في اعتبار أيّ معتبر على حدّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ مثلا، فيحمل في لسان أيّ متكلّم على الاعتبار الذي يرتئيه هو، وذلك سنخ أنّ كلمة (الحَسَن) مثلا ـ بناءً على كون الحُسْن والقُبح أمرين اعتباريّين عقلائيّين لا واقعيّين ـ يحمل في لسان كلّ متكلّم على الاعتبار الذي يرتئيه هو فيكون هذا تصويراً للإشكال بناءً على وضع البيع للصحيح.

وعلى أيّة حال، فالجواب على هذا الإشكال ـ حسب ما حملنا عليه كلام


(1) راجع المحاضرات 2: 40، أمّا في مصباح الفقاهة 2: 81 فقد حذف التنبيه على إشكال الشقّ الثالث.

219

الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ـ هو التمسّك بالإطلاق المقاميّ لـ ﴿أحلّ الله البيع﴾ الذيهو خطاب موجّه الى العرف، فيحمل على الصحيح العرفيّ.

إلّا أنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله)(1) فسّر جواب الشيخ (رحمه الله) بتفسير آخر، وهو التمسّك بالإطلاق المقاميّ لـ ﴿أحلّ الله البيع﴾ ببيان أنّ إمضاء المسبّب المنُشأ بجعله مؤثّراً شرعاً مع إهمال سببه لغو. إذن فيصبح الكلام بإطلاقه المقامي ظاهراً في إمضاء كلّ الأسباب العرفيّة، لأنّ إمضاء سبب ما على الإجمال يكون بمنزلة إلغاء كلّ الأسباب، فقرينة صون كلام الحكيم عن اللغويّة تثبت لنا الإطلاق.

وأجاب السيّد الخوئيّ (رحمه الله) على ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يكن في الأسباب العرفيّة ما هو متيقّن الاعتبار بالإضافة الى غيرها، وإلّا كفى ذلك في صون كلام الحكيم عن اللغويّة ولم يتمّ الإطلاق.

واختار هو جواباً آخر ـ بناءً على القول بالصحيح ـ وهو أنّ ظهور النصّ في الإمضاء يصرفه الى الصحيح العرفي، لأنّ الصحيح الشرعي لا معنى لإمضائه.

وعلى أيّة حال، فالظاهر أنّ الإشكال من أساسه غير وجيه، لأنّه كان مبنيّاً على كون أسماء المعاملات موضوعة للصحيح، والواقع خلاف ذلك. فالحقّ هو أنّها لم توضع إلّا للاعتبار المبرز بغضّ النظر عن إمضائه من قِبل العقلاء، أو من قِبل الشرع وعدمه، كما اختار ذلك السيّد الخوئيّ (رحمه الله)(2).

أمّا عدم أخذ الإمضاء الشرعي في مفهوم مثل البيع فواضح، لما مضى من أنّ هذه الأسماء ثابتة لدى العرف لمعانيها قبل الشرع، ولم يتدخّل الشرع إلّا في بعض التعديلات ممّا لا يستوجب انتقال اللفظ الى معنى جديد.


(1) راجع المحاضرات 2: 41 - 42، ومصباح الفقاهة 2: 83 - 85.

(2) راجع المحاضرات 2: 27 و 42، ومصباح الفقاهة 2: 53 و 84.

220

وأمّا عدم أخذ الإمضاء العقلائيّ أو مطلق الإمضاء في مفهومه فلوضوح أنّالبيع مثلا في نظر العرف فعل للبائع أو للمتبايعين، والتأثير العقلائيّ أو الشرعيّ حكم له، وليس من المعهود في اللغة أو العرف أخذ الحكم ضمن مفهوم الموضوع.

ثمّ إنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) رتّب على ما اختاره من كون البيع اسماً للاعتبار المبرز وعدم دخل الإمضاء الشرعي ولا العقلائيّ في مفهومه أنّ الإطلاق الذي يثبت لـ ﴿أحلّ الله البيع﴾ بناءً على ذلك يكون أوسع من تقريب إطلاقه بكونه ناظراً بالإطلاق المقامي أو بقرينة عدم معقوليّة إمضاء البيع الشرعي الى ما هو المؤثّر عند العرف، وذلك لأنّه لو صرف الى ما هو المؤثّر عند العرف فإنّما يتمّ التمسّك بالإطلاق إذا تحقّق المؤثّر العرفي وشككنا فى إضافة شرط جديد فى الشريعة، ولا يتمّ التمسّك به عند الشكّ في اعتبار قيد في صحّة المعاملة عرفاً، وهذا بخلاف فرض القول بأنّ الإمضاء العرفي كالإمضاء الشرعيّ ليس دخيلا فى مفهوم البيع، فعندئذ يتمّ التمسّك بالإطلاق حتى لدى الشكّ في اعتبار قيد في صحّة المعاملة عرفاً(1).

أقول: لا ينبغي الإشكال في عدم إمكان نفي شرط ما شرعاً بإطلاق ﴿أحلّ الله البيع﴾ حينما يكون مقتضى الارتكاز العقلائيّ دخله في صحّة البيع حتى على القول بأنّ الصحّة العقلائيّة غير مأخوذة في مفهوم البيع، وذلك لأنّ هذا الارتكاز العقلائيّ يمنع عن انعقاد الإطلاق.

وعندئذ نقول: إنّه إن قصد السيّد الخوئيّ (رحمه الله)بالشكّ في دخل قيد عرفاً وعقلائياً احتمالنا لدخله عرفاً، أي أنّ حكم العقلاء في ذلك كان مجهولا لدينا،


(1) المحاضرات 2: 43.

221

فهنا لا يصحّ التمسّك بإطلاق ﴿أحلّ الله البيع﴾، لأنّ احتمال ذلك احتمال لمايصرف الإطلاق. والصحيح في مثل احتمال وجود قرينة كالمتصل عدم تماميّة الإطلاق ما لم يكن فرض القرينة منفيّاً بأصالة عدم الغفلة.

وإن قصد بذلك فرض إجمال الأمر على العرف نفسه بأن لم يكن واضحاً لدى العرف دخل هذا القيد وعدمه، فقد يقال: إنّنا عندئذ نتمسّك بالإطلاق لعدم وجود احتمال الارتكاز الصارف للإطلاق، وقد يقال: إنّ عقلائيّة المعاملات تصرف إطلاقاتها الى دائرة ما يتقبّله العقلاء بحيث يصبح الإجمال والتردّد عند نفس العقلاء موجباً لإجمال الدليل الشرعيّ وعدم تماميّة الإطلاق.

عدم كون الآية في مقام البيان:

الإشكال الثاني: أنّ ﴿أحلّ الله البيع﴾ إنّما هو بصدد تشريع أصل البيع، وليس بصدد بيان الشروط. وقد أجاب على ذلك المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) بعد إيراده على التمسّك بإطلاق الآيّة لتصحيح المعاطاة باشتهار التمسّك به من علماء الإسلام في موارد الشكّ، ثمّ استشهد على تماميّة الإطلاق بحديث عمر بن يزيد التامّ سنداً قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إنّ الناس يزعمون أنّ الربح على المضطرّ حرام وهو من الربا، قال: وهل رأيت أحداً يشتري غنيّاً أو فقيراً إلّا من ضرورة؟! يا عمر قد أحلّ الله البيع وحرّم الربا، فاربح ولا ترب، قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل(1). قال المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): والظاهر أنّه إشارة الى الآية الشريفة وليس الربح على المضطرّ بأظهر ولا باغلب من المعاطاة ليمنع عن شمولها بإطلاقها(2).


(1) الوسائل 12: 329، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(2) تعليقة الشيخ الإصفهاني على المكاسب 1: 26.

222

أقول: إنّ مجرّد تمسّك العلماء ليس دليلا إلّا إذا كشف عن الفهم العرفي،ولم يحتمل كونه خطأً فنيّاً مشتركاً بين الكلّ.

ويمكن الجواب على أصل الإشكال بأنّه إن قصد بذلك الجانب الإيجابي، وهو كونه بصدد التشريع من دون نفي كونه بصدد بيان كلّ قيود ما شرّعه ـ لو كانت له قيود ـ ، فهذا لا ينافي الإطلاق. وإن قصد بذلك نفي كونه بصدد بيان قيود ما شرّعه فهذا ليس إشكالا فنيّاً على الإطلاق، وإنّما هو مجرّد دعوى عدم كونه بصدد البيان المنافي لأصالة كون المتكلّم إثباتاً بصدد بيان كلّ ما قصده ثبوتاً، فهذا الإشكال لا محصّل له.

إلّا أن يرجع هذا الإشكال الى تقريب آخر، وهو أنّ الآية بصدد المقايسة بين البيع والربا ونفي التسوية بينهما، حيث تقول: ﴿أحلّ الله البيع وحرّم الربا﴾وليست بصدد بيان حكم البيع في ذاته، أو أنّ الآية إنّما كانت بصدد بيان حرمة الربا. أمّا حليّة البيع فلم تبيّن إلّا استطراقاً.

إلّا أنّ هذا البيان الثاني أيضاً لا محصّل له، إذ لئن كان بصدد بيان حرمة الربا فحسب دون حلّيّة البيع فلِمَ لم يقتصر على ذكر حرمة الربا دون حلّيّة البيع؟! إلّا أن يرجع حاقّ المقصود الى البيان الاول، وهو أنّ الآية بصدد المقايسة بين البيع والربا ونفي التسوية لا بصدد بيان حكم البيع في ذاته.

والجواب على ذلك ما ذكره السيّد الإمام الخميني (رحمه الله) من أنّ بيان نفي التسوية تارةً يكون بنفي التسوية مباشرة بأن يقول مثلا: ليس البيع مثل الربا، واُخرى يكون ببيان حكم كلّ منهما الذي يؤدّي بالملازمة الى نفي التسوية، والآية من قبيل الثاني. وهذا يعني أنّه كان في مقام بيان الحكمين حتى يتجلّى بذلك عدم تسويتهما في الحكم، وهذا لا يضرّ بالأخذ بإطلاق كلّ من الحكمين

223

وحمل ذلك على نفي التسوية بينهما في حكميهما المطلقين(1).

دلالة الآية على حلّيّة الآثار:

الإشكال الثالث: إنّ قوله تعالى:﴿أحلّ الله البيع﴾ إنّما دلّ على حلّيّة التصرّفات المترتّبة على البيع ـ باعتبار أنّ حلّيّة نفس البيع لا معنى لبيانها لعدم مبرّر لاحتمال الحرمة ـ وحلّيّة التصرّفات أعمّ من صحّة البيع بمعنى افادته لمقصود المتعاملين وهو الملك. فإن دلّ هذا النصّ على صحّة البيع فإنّما هي صحّة بمعنى أنّه أثمر ـ على أيّ حال ـ ثمرة شرعيّة، وهي حلّيّة التصرّفات ولم يدلّ على الصحّة بالمعنى الذي قصدناه من إفادته لمقصود المتعاملين. ولئن أصررنا على توقّف حلّيّة بعض التصرّفات على الملك وعدم قبول ذلك للاستثناء، أمكن فرض حصول الملكيّة قبل التصرّف آناً مّا مثلا، فالآية ـ على كلّ حال ـ لا تدلّ على إفادة البيع المعاطاتي، أو أيّ بيع شككنا في صحّته للملك مباشرة.

والجواب على ذلك يكون بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه بعد فرض حمل الحلّيّة في الآية المباركة على حلّيّة التصرّفات تدلّ الآية بالملازمة العرفيّة على صحّة البيع بالمعنى المقصود للمتعاملين، وذلك:

إمّا بتقريب أنّ حلّيّة جميع التصرّفات بما فيها الموقوفة على الملك تدلّ عرفاً على حصول الملك بالفعل. وهذا هو المفهوم ممّا نسبه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)إلى مختار الشيخ (قدس سره)(2) والمفهوم من بعض عباير مصباح الفقاهة(3). أمّا فرض


(1) كتاب البيع 1: 61 و 62.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 1: 25.

(3) مصباح الفقاهة 2: 104.

224

حصول الملك قبل التصرّف آناً مّا أو الاستثناء عن شرط الملك، فهو بعيد عن فهم العرف لدليل تلك الحلّيّة.

أو بتقريب أنّ العرف لمّا كان يعتقد بكون حلّيّة التصرّفات مستندة الى إفادة البيع للملك بالفعل، فتوجيه الخطاب إليه بحلّيّة البيع ينصرف الى ما يطابق مرتكزهم.

أو بتقريب أنّ نسبة الحلّيّة في الآية الى البيع ظاهرة عرفاً في كون حلّيّة التصرّف بسبب إمضاء البيع، وهذا هو الذي اختاره السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ـ على ما في المحاضرات ـ على تقدير كون الحلّيّة في الآية تكليفيّة(1).

الوجه الثاني: أنّنا نمنع حمل الحلّيّة في الآية المباركة على الحلّيّة التكليفيّة المتعلّقة بالتصرّفات، حيث إنّ لازم ذلك كون إسناد الحلّ في الآية إلى البيع إسناداً للشيء إلى غير ما هو له، بل نحملها على الحلّيّة المنتسبة حقيقة إلى البيع. والظاهر من إسناد الحلّ إلى الاُمور الاعتباريّة كالبيع هو الحلّ الوضعيّ بمعنى الإمضاء والصحّة.

إلّا أنّه يقع الكلام في حمل الحلّ على الحلّ الوضعيّ هل هو حمل له على معنىً حقيقيّ أو مجاز؟ فإن كان مجازاً لم يكن هذا الوجه وجهاً مستقلاًّ للجواب في قبال الوجه الاول، بل يصاغ من الوجهين وجه واحد للاستدلال ببيان أنّ الحلّ في الآية مردّد أمره بين الحلّ الوضعيّ والحلّ التكليفيّ، إذ في كلّ منهما وجه للتجوّز، حيث إنّ الحلّ الوضعيّ معنىً مجازيّ للحلّ، والحلّ التكليفيّ يكون


(1) راجع المحاضرات 2: 51.

225

إسناده ـ في الواقع ـ إلى التصرّفات، فإسناده إلى البيع إسناد إلى غير ما هو له، وسواء حمل الحل على الوضعي أو التكليفي تثبت صحة البيع أما على الاول فبالدلالة المطابقيّة، وأمّا على الثاني فبالدلالة الالتزاميّة العرفيّة بأحد التقريبات الثلاثة الماضية.

أمّا إذا افترضنا استعمال الحلّ في مورد الحلّ الوضعيّ حقيقة، فهذا الوجه يصبح دليلا مستقلاًّ على المدّعى، حيث يقال: إنّ الحلّ هنا مستند بظاهره الى ذات البيع، فهو حلّ وضعيّ بمعنى إمضاء البيع وصحّته.

ويرى السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أنّ حمل الحلّ في المقام على الحلّ الوضعي لا يستلزم المجاز وذلك بدعوى أنّ الحلّ في الآية الشريفة يكون بمعنى الإرسال وإطلاق السراح وإرخاء العنان في مقابل الشدّ والعقد. وهذا نسبته إلى الحلّ التكليفيّ والحلّ الوضعيّ على حدّ سواء، وفي كلّ مورد يحمل على ما يناسبه، فإذا اُسند الى أفعال المكلفين أو الموضوعات الخارجيّة أعطى معنى الحلّ التكليفيّ، وإذا اُسند إلى الاعتبارات العرفيّة أعطى معنى الحلّ الوضعيّ والإمضاء(1).

وذكر المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): أنّ حمل الحلّ في المقام على معنى الحلّ في مقابل الشدّ غير صحيح، لأنّ الحلّ في مقابل الشدّ يتعدّى بنفسه إلى ما يحلّ، ولا مجال لتعديته إليه بتحويله إلى باب الإفعال، والموجود في الآية الكريمة هو صيغة «أحلّ» أي من باب الإفعال، فالمفروض أن يحمل الحل على ما يشتقّ من الحلول بمعنى القرار فإنّه يتعدّى إلى ما يحلّ بأدوات التعدية، فيقال مثلا: أحلّه


(1) المحاضرات 2: 48 و 49، ومصباح الفقاهة 2: 94.

226

الدار. وهذا يناسب التكليف والوضع، فالمعنى ـ والله أعلم ـ: أنّه ـ تعالى ـ أحلّ البيع محلّه وأقرّه مقرّه، ولم يجعله كالقمار بحكم العدم(1).

وأورد عليه السيّد الخوئيّ (رحمه الله): بأنّ حمل الحلّ في الآية الكريمة على معنى الحلول والقرار خلاف الظاهر، خصوصاً بملاحظة مقابلته بـ «حرّم الربا»، إذ لو كان المقصود به الحلول والقرار لكان المناسب مقابلته بالإزالة، فيقول: وأزال الربا(2).

أقول: الظاهر أنّ «أحلّ» في الآية المباركة ليس من الحلّ بفتح الحاء في مقابل الشدّ والعقد لأنّه يتعدّى إلى ما يحلّ بنفسه لا بباب الإفعال، ولا من الحلول بمعنى القرار، لأنّه لا يناسب المقابلة بـ «حرّم الربا»، بل المفروض أن يقابل بـ (أزال الربا)، وإنّما هو مِنَ الحِل ـ بكسر الحاء ـ في مقابل الحرمة، كما تشهد له مقابلته بـ «حرّم الربا». وهذا حقيقة في الحلّيّة التكليفيّة، ومجاز في الحلّيّة الوضعيّة. فالصحيح أن نصوغ من الوجهين دليلا واحداً على المقصود بالتقريب الذي مضى.

على أنّه يرد على جعل تفسير الحلّ بالحلّيّة الوضعيّة دليلا مستقلاًّ في مقابل الوجه الاول: أنّ الربا اسم لذات الربح، بينما البيع اسم للعقد الذي هو أمر اعتباريّ، وكما يحتمل حمل الربا بقرينة المقابلة بالبيع على معنى البيع الربوي مثلا كذلك يحتمل حمل البيع بقرينة المقابلة بالربا على الربح البيعي. وعلى هذا التقدير يتعيّن الحلّ في الحلّيّة التكليفيّة.


(1) تعليقة الشيخ الاصفهاني على المكاسب 1: 25.

(2) المحاضرات 2: 49، ومصباح الفقاهة 2: 95 و 96.

227

 

آية التجارة عن تراض:

وثالثاً ـ قوله ـ تعالى ـ: ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم﴾(1).

والاستدلال بهذه الآية يكون بتقريبين:

التقريب الاول ـ هو الاستفادة من النهي عن أكل المال واستثناء فرض التجارة عن تراض. وتوضيح ذلك: أنّ المقصود بالأكل هنا ليس هو معناه اللغوي الأصليّ حتماً كما هو واضح، وإنّما هو كناية إما عن مطلق التصرّف، وإمّا عن التملّك.

فإن كان كناية عن التملّك فالنهي المتعلّق به نهي وضعي يقصد به البطلان، وقد استثني من هذا البطلان فرض التجارة عن تراض، وهذا يعني صحة التجارة عن تراض ومقتضى إطلاق ذلك عدم اشتراط شكلية معيّنة في التجارة.

وإن كان كناية عن مطلق التصرّف فالنهي المتعلّق به تكليفيّ، واستثناء فرض التجارة عن تراض يعني حلّيّة التصرّف بالتجارة عن تراض. وهذا يدلّ بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة على صحّة التجارة إمّا بتقريب أنّ حلّيّة جميع التصرّفات بلا إذن البايع الموقوفة على الملك دالّة عرفاً على الملكيّة الفعليّة، أو بتقريب أنّ الخطاب متوجّه الى العرف الذي يرى التجارة عن تراض مملّكة، فينصرف الخطاب الى إمضاء ذلك، أ و بتقريب أنّ إسناد حلّ الأكل الى التجارة عن تراض إسناد المسبّب الى سببه ظاهر عرفاً في إمضاء التجارة بنفس المعنى المقصود للمتعاملين، ومقتضى الإطلاق عدم اشتراط شكليّة معيّنة في التجارة عن تراض.


(1) النساء: 29.

228

التقريب الثاني ـ هو الاستفادة من كلمة (الباطل)، حيث إنّ الاستثناء سواءفرض متّصلا أو منقطعاً يدلّ على أنّ التجارة عن تراض ليست باطلة، إذ لا يتقبّل عرفاً أن يقال: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا هذا الباطل». وهذا يعني صحّة التجارة المنصرفة إلى الصحّة بالمعنى الذي قصده المتعاملان من التمليك والتملّك، فهذه الدلالة تتمّ سواء فرضنا أنّ الاستثناء منقطع تمسّكاً بأصالة عدم التقدير، أو فرضناه متّصلا بأن قدّرنا شيئاً يناسب المورد كأن نقول: إنّ التقدير ما يلي: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بكلّ سبب فإنّه باطل، إلّا أن تكون تجارة عن تراض» وذلك باعتبار أنّ الاستثناء المنقطع بطبعه وبلا نكتة ومناسبة ليس عرفيّاً، بخلاف التقدير والحذف، فإنّه وإن كان خلاف الأصل لكنّه أمر عرفيّ ومقبول، وكثير الوقوع فى الاستعمالات.

ثمّ إنّه ذكر في بلغة الفقيه(1) إشكالا على التمسّك بهذه الآية لصحّة المعاطاة، وهو أنّ هذه الآية وزانها وزان: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة إلا بطهور، ونحو ذلك ممّا يكون مركز عموم الحكم فيه هو حكم المستثنى منه لما عدا موارد المستثنى، وليس مركز العموم هو حكم المستثنى لجميع موارده. فقوله مثلا: «لا صلاة إلّا بطهور» يعني عموم بطلان الصلاة لكلّ موارد عدم الطهارة، ولا يعني عموم صحّة الصلاة لكلّ موارد الطهارة بحيث لو صلّى متطهّراً مستدبراً للقبلة مثلا لكان هذا الكلام دليلا على صحّة صلاته. فآية التجارة عن تراض من هذا القبيل، فهي إنّما تدلّ على عموم حرمة أكل المال لكلّ موارد فقدان التجارة عن تراض، ولا تدلّ على جواز أكل المال في كلّ موارد حصول التجارة عن تراض، أي أنّها مسوقة لبيان شرطيّة المستثنى من دون نفي شرطيّة شيء آخر.


(1) راجع بلغة الفقيه 2: 103 - 104.

229

وأجاب على ذلك: بأنّ الاستثناء هنا منقطع بخلاف الحال في مثل لا صلاةإلّا بفاتحة الكتاب، أو لا صلاة إلّا بطهور. وفي مورد الاستثناء المنقطع لا يكون مركز العموم هو حكم المستثنى منه لما عدى موارد المستثنى، لأنّ مغايرة المستثنى للمستثنى منه بالجنسية في المنقطع تبطل كون ما عدا المستثنى من جنس المستثنى منه كلّيّة حتـى يؤخذ بعموم الحكم فيـه، إذن فمركز العموم إنّما هو حكم المستثنى، ويكون الكلام مسوقاً لبيان حكم المستثنى فقط، وإنّما ذكر المستثنى منه توطئة لذلك. فهذا الإشكال إنّما يمكن تماميّته بناءً على حمل الآية الكريمة على الاستثناء المتّصل.

إلّا أنّ حملها على الاستثناء المتّصل غير صحيح، إذ أوّلا يستلزم الحذف والتقدير، وهو خلاف الأصل. وثانياً يستلزم الالتزام بالنسخ أو كثرة التخصيص المستهجن، إذ لو كان الاستثناء متّصلا لدلّت الآية على حرمة الأكل بكلّ ما عدا التجارة عن تراض، مع أنّه كما يحلّ الأكل بذلك كذلك يحلّ بالهبات والوقوف والصدقات والوصايا واروش الجنايات وسائر النواقل الشرعيّة والإباحات بقسميها الشرعيّة والمالكيّة. فكيف يكون مطلق غير التجارة عن تراض أكلا بالباطل، ولا كذلك على المنقطع لرجوعه إلى ذكر السبب الخاص لا حصر الأسباب به؟

أقول: إنّ هذا الكلام من أوّله إلى آخره لا يمكن المساعدة عليه.

أمّا كون الحذف خلاف الأصل فيمكن الجواب عليه بكون الاستثناء المنقطع من دون مناسبة مقبولة أمر غير مطبوع عرفاً، بخلاف الحذف الذي هو مقبول وكثير الوقوع في الاستعمالات.

وأمّا لزوم النسخ أو كثرة التخصيص المستهجن، فقد أجاب عليه السيّد

230

الخوئيّ (رحمه الله) أنّ ما عدّه من أسباب جواز الأكل كلّما كان منها مشتملا على القبول كالهبات والصدقات والوصايا بناءً على اعتبار القبول في الوصيّة داخل في التجارة عن تراض. وأمّا ما لا يشتمل على القبول كالوقوف والإباحات والوصايا بناءً على عدم اعتبار القبول فيها، فهي وإن لم تكن من التجارة لكنّها أوّلا ليست في الكثرة بمقدار يوجب استهجان التخصيص، وثانياً هي خارجة عن حدود المستثنى والمستثنى منه من الآية تخصّصاً لا تخصيصاً؛ لأنّ المستثنى منه إنّما هو أكل مال الغير بعنوان التملّك، وهذا إنّما يكون فيما يحتاج إلى القبول(1).

أقول: لعلّ مقصوده: أنّ الأكل في الآية كناية عن التملّك، فما يدخل في ملك الإنسان من دون تملّك أو يباح للإنسان من دون تملّك ليس داخلا في مورد الآية. أمّا إذا فسّرنا الأكل بمعنى التصرّف فهذا البيان الأخير لا يأتي:

وعلى أيّة حال، فحتى لو تسجّل إشكال صاحب البلغة على فرض كون الاستثناء متّصلا من لزوم كثرة التخصيص مثلا فهذا لا يهمنا، فإنّه لا علاقة له بما هو المقصود من الاستدلال بالآية، إذ لم يكن متوقّفاً على كون الاستثناء متّصلا.

وأمّا ما ذكره من أنّ الاستثناء إذا كان منقطعاً فالعموم لا يتركّز في المستثنى منه لعدم صحّة شموله لجميع ما عدا الاستثناء، فيتركّز في المستثنى، فهو مع أصل الإشكال الذي يفرض هذا جواباً عليه من أنّ العموم في موارد الاستثناء يتركّز في شمول حكم المستثنى منه لجميع الموارد ما عدا المستثنى لا في المستثنى غريب، فلا أدري ما هو الوجه في افتراض أنّ العموم يتركّز في طرف المستثنى منه فحسب؟! وهل أنّ أداة الاستثناء هي التي تخلق العموم في المستثنى منه فيقال


(1) مصباح الفقاهة 2: 104 - 105.

231

مثلا: إنّ أداة الاستثناء إنّما تخلق العموم في المستثنى منه لا في المستثنى؟! ولو تمّ ذلك فلا أدري ما هو الوجه في الجواب عليه بأنّه في الاستثناء المنقطع حيث لا يمكن تركّز العموم في المستثنى منه يتركّز في المستثنى؟ ومن الواضح أنّ تركّز العموم في المستثنى منه بلحاظ أفراد المستثنى منه ممكن، بلا فرق بين الاستثناء المتّصل والمنقطع، وتركّز العموم في أفراد اُخرى غير أفراد المستثنى منه وغير المستثنى لا يمكن، بلا فرق بين الاستثناء المتّصل والمنقطع.

وأمّا أصل النقض بمثل لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، أو لا صلاة إلّا بطهور فهذا هو الإشكال المنقول عن أبي حنيفة على دلالة الاستثناء على عموم المفهوم، والذي أجاب عليه صاحب الكفاية في كفايته تارةً بأنّ الصلاة إمّا هي اسم للصحيح أو محمولة في مثل هذا النصّ على الصلاة التامّة المأمور بها، فالنص يدل على أنّ الصلاة التامة لا تكون إلّا مع طهور، أمّا أن تتمّ الصلاة الناقصة بنقص آخر بواسطة الطهور فلا. واُخرى بأنّه إن لم يثبت المفهوم في مورد لعلمنا بالحال فهذا لا يعني إنكار المفهوم على الإطلاق(1). وأجاب عليه في تعليقته على الكفاية بأنّ المراد من المستثنى منه في مثل هذا المثال هو نفي الإمكان، ومقتضاه إمكان ثبوته مع المستثنى لا وقوعه.

أقول: الحمل على الإمكان خلاف الظاهر، فإنّ الفعل المقدّر المتعلّق به الظرف هو من أفعال العموم عادة كالوجود لا الإمكان، وأمّا علمنا بالقرينة بعدم المفهوم فقد يكون مقصود أبي حنيفة وضوح عدم دلالة (لا صلاة إلّا بطهور، أو إلّا


(1) راجع الكفاية 1: 326 - 327 مع تعليقته هو على الكفاية في الصفحة 326 بحسب الطبعة التي معها تعليقة المشكيني.

232

بفاتحة الكتاب) على المفهوم العامّ بقطع النظر عن القرينة وعلمنا الخارجيّ. والانصاف أنّه لا ينبغي الشكّ في عدم الدلالة في مثل هذا المثال.

وأمّا الجواب الأوّل لصاحب الكفاية في كفايته ـ فبناءً على كون الصلاة اسماً للأعمّ ـ لا يتم أيضاً، إذ لا موجب لحمل الكلام على نفي الصلاة التامّة، بل يحمل على نفي الصلاة نفياً تشريعيّاً، ولو تمّ هذا الوجه فإنّما يتمّ في مقابل دعوى التمسّك بإطلاق كلمة (الصلاة)، ولكن القائل بعموم المفهوم في باب الاستثناء يتمسّك بإطلاق المستثنى، فقد ينقض عليه بأنّه لو تمّ هذا الإطلاق في المستثنى لتمّ في مثل لا صلاة إلّا بطهور أو إلّا بفاتحة الكتاب، وهو يعني أنّ الطهور أو الفاتحة يصحّح الصلاة حتّى لو كان المصلّي مستدبراً للقبلة مثلا، ومن الواضح عدم دلالة له من هذا القبيل.

والتحقيق في المقام: إنّه لا مجال لدلالة مثل لا صلاة إلّا بطهور أو بفاتحة الكتاب على صحّة كلّ صلاة حتّى المستدبرة للقبلة مثلا بواسطة الطهور أو الفاتحة، وذلك لأنّه إن فرضت هذه الدلالة ناتجة من إطلاق كلمة (الصلاة) الشاملة للصلاة المستدبرة للقبلة ـ لو قلنا بأنّها اسم للأعمّ ـ، فالجواب هو أنّ الخبر المحذوف في المقام هو كلمة (موجود) أو نحو ذلك، وقد حقّقنا في علم الاُصول أنّه متى ما كان المحمول عبارة عن مثل الوجود لم يتمّ للموضوع إطلاق شموليّ، فإنّ الطبيعيّ يوجد بوجود فرد واحد منه.

وإن فرضت هذه الدلالة ناتجة من إطلاق الطهور أو الفاتحة فالجواب هو أنّ الحكم المحمول على الطهور أو الفاتحة ليس هو وجود الصلاة وتحقّقها، بحيث لو أنّ أحداً تطهّر مثلا حصلت الصلاة سواء فعل شيئاً آخر أو لا، وليس مدّعى من يفترض الإطلاق ذلك، وإنّما مدّعاه أنّ الإطلاق يصحّح الصلاة الفاقدة لبعض