59

وتوزيع الموادّ الغذائية الصالحة توزيعاً عادلاً على بلايين الخلايا الحيّة التي يأتلف منها جسم الإنسان، إذ تتلقّى كلّ خليّة مقدار حاجتها، فيتحول إلى عظام وشعر وأسنان وأظافر وأعصاب طبق خطّة مرسومة للوظائف المفروضة عليها في نظام لم تعرف الإنسانية أدقّ منه وأروع»(1).

 

الرابع ـ الخليّة:

قد كشف العلم الحديث النقاب عن الخليّة، وعن تكوّن جسم الإنسان في المعدّل المتوسّط من عشرة ملايين مليار خليّة حيّة.

وأوّل من كشف الخليّة هو عالم يسمّى هوك في القرن السابع عشر الميلادي، ولم يكن يعرف وقتئذ أنّ الخليّة التي اكتشفها تحتوي الواحدة منها على نظام ملتو معقّد محيّر للعقول، والعلماء الذين جاءوا بعده وحذوا حذوه في كشف أسرار الجسم عرفوا أنّ كلّ خليّة لا ترى بغير المجهر ممكن تشبيهها ببلد يحتوي على آلاف المعامل والتأسيسات لتبديل الموادّ الغذائية إلى الموادّ التي يحتاجها الجسم، ولا يمكن أن يقاس أعظم وأحدث المصانع البشرية بهذا المصنع.

وهذا البلد الصغير حجماً، العظيم نظماً ـ الخليّة ـ مؤلّف من ثلاثة أقسام:

الأوّل: القشر وهو بمنزلة جدار البلد.

الثاني: مادّة بيضاء داخل الخليّة.

الثالث: نواتها التي تنظّم كلّ أوضاع الخليّة.

وقشر الخليّة يبلغ من الدقّة والرقّة ما لو ضوعف حجمه خمس مئة ألف مرّة


(1) فلسفتنا: 342.

60

لا يزيد حجمه عن ورقة اعتيادية، وهذه القشرة الرقيقة الدقيقة تقاوم هجوم العوامل الخارجية المزاحمة وكأنّها أحكم من جدار برلين.

وهذا السدّ الخفيف مؤلّف من ثلاثة جدران، أو قل: من قشور ثلاثة، ففي كلّ من طرفيه شبكة من البروتين، وما تحتها مملوء بمادّة دهنية تمنع عن ورود أيّ وارد إلى هذا البلد إلّا الذي يحمل كلمة السّر، وهي أن يقدر ذاك الوارد على تذويب تلك المادّة فذلك آية أنّه صديق وليس عدوّا فيسمح له بالدخول.

وفي داخل هذا البلد قنوات تبدأ من الجدار وتنتهي إلى أطراف النواة، تجري فيها الموادّ الغذائية وتتحوّل إلى بروتينات، ويدخل في هذه القنوات ثلاثة وعشرون نوعاً من الأسيد ويتحصّل البروتين من تركيب عدد من تلك الأنواع.

أمّا النواة المركزية لهذه الخليّة فهي مؤلّفة من طبقات لو قيست إليها ناطحات السحاب في العالم المكوّنة من آلاف الطبقات لعدّت تلك القصور بيوتاً محقّرة.

وتلك النواة مؤلّفة من غشاء وماء وخيوط دقيقة لكلّ واحد منها تكليف معيّن يقوم به.

وهذه النواة مشتملة على جينات تصل في عددها إلى خمسة وعشرين ألفاً، وهي المسيطرة على أعمال الخليّة وعلى أعمال البدن أجمع، ومنها تنقل الصفات الوراثية إلى النسل.

وكلّ واحد من هذه الجينات مؤلّف من ثلاثين ألفاً إلى خمسين ألف طبقة، والعظمة لله الواحد القهّار(1).

أتزعم أنّك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
 


(1) پيام قرآن 2: 69 ـ 71.

61

دواؤك فيك وما تشعر
وداؤك منك وما تُبصر
وأنت الكتاب المبين الذي
بأحرفه يظهر المضمر

وأختم الحديث عن الخلايا بكلمة اُستاذنا الشهيد(قدس سره) إذ قال: «ونظرة واحدة إلى تلك الخلايا الحيّة التي تنطوي على سرّ الحياة تملأ النفس دهشةً وإعجاباً بالخليّة حين تتكيّف بمقتضيات موضعها وظروفها، فكأنّ كلّ خليّة تعرف هندسة العضو الذي تتوفّر على إيجاده مع سائر الخلايا المشتركة معها في ذلك العضو، وتدرك وظيفته وكيف يجب أن يكون»(1).

 

الخامس ـ اللسان:

من الوظائف المحيّرة للسان ما يلي:

1 ـ إرسال الغذاء تحت الأسنان؛ ولولا ذلك لكان بعض أجزاء اللقمة منفلتاً عن مضغ الأسنان، ولكنّا بحاجة إلى تحريك أجزاء اللقمة في الفم بواسطة الإصبع كي تصل تحت الأسنان، ولكن اللسان يتكفّل هذه المهمّة بمهارة كاملة من دون أن يقع هو تحت ضربات الأسنان، وقد يتفق نادراً بسبب غفلة الإنسان أن يقع اللسان تحت الأسنان وينجرح بضغط الأسنان، ولعل الله يريد بذلك أن تتضح لنا عظمة مهارة اللسان التي لولاها لاستفحلت مصيبة اللسان تحت ضغط الأسنان.

2 ـ خلط اللقمة ببزاق الفم المؤثّر في سهولة بلع الغذاء من ناحية، والمولّد لفعل كيماويّ مساعد على الهضم من ناحية اُخرى.

3 ـ الاستعانة به في بلع الغذاء بل والماء، ولولا اللسان لتعسّر أو تعذّر بلع


(1) فلسفتنا: 342.

62

لقمة واحدة.

4 ـ تذوّق الطعام لتشخيص كثير من الأغذية الفاسدة أو المضرّة كي يمتنع الإنسان عن أكلها.

5 ـ تنظيف الفم بعد الانتهاء من الأكل.

6 ـ التكلّم، وهو يتمّ بالتعاون بين المخّ والشفة واللسان والحنجرة.

وقد اعتبره الله تعالى آية من آياته الباهرة في قوله:﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَان﴾(1).

فالفكر يختار أوّلاً من بين مئات الآلاف أو الأكثر من الكلمات أوّل كلمة يريد الشخص أن يلفظها، فيأمر اللسان أن يتحرّك بكلّ سرعة ودقّة على مخارج حروف تلك الكلمة، ثُمّ يختار بالسرعة نفسها الكلمة الثانية ويعيد العملية بواسطة اللسان، وهكذا إلى أن تنتهي الجملة المقصودة وبمعونة الشفة والحنجرة وأوتار الصوت، وحينما يقع صدفة أقلّ خطأ للفكر في اختيار الكلمات أو اللسان في طريقة التحرك تخرج الجملة ملحونة.

 

السادس ـ المخّ:

لا أستطيع أن أتحدّث عن عظمة المخّ وعن أقسامه المرتبطة بالفكر والإدراك والذاكرة والإرادة والعواطف، ثُمّ تأشيره اللازم على أعصاب البدن كافّة بوظائفها الخاصة حتّى إنّ الخلل في بعض أجزائه يوجب الشلل في قسم من الأعصاب، والعظمة لله الواحد القهّار.

ولكنّي أكتفي بالقول بأنّ مِن أبدع ما صنعه البشر، وكان صنعه هذا بواسطة


(1) س 55 الرحمن، الآية: 1 ـ 4.

63

مخّه الجبّار الذي آتاه الله إياه، هو ما يسمّى بالعقل الالكتروني والذي يفترض عملاً جبّاراً وهو يفقد الإرادة والعواطف وإدارة الأعصاب، كما أنّه ليس له الإدراك ولا الذاكرة إلّا ما يكون شبيهاً بهذا أو بذاك ممّا يكون مؤشِّراً إعدادياً لإدراك الناس أو تذكّرهم للاُمور بمخّهم الذي أكرمهم الله تعالى به.

وقد روي عن مصمّم العقل الالكتروني كلودم هزاوي قوله: «طُلب منّي قبل عدّة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائيّة تستطيع أن تحلّ الفرضيات والمعادلات المعقّدة ذات البعدين، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الالكتروميكانيكيّة، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو العقل الالكتروني، وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل وتحمّل شتّى المصاعب، وأنا أسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليّ أن أتقبّل هذه الفكرة وهي: أنّ الجهاز هذا يمكن أن يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمّم ...»(1).

فلئن كان العقل الالكتروني الذي ليس في مقابل المخّ إلّا كجهاز من أجهزة لعب الأطفال لا يمكن أن يوجد من تلقاء نفسه فما رأيك في المخّ الذي أبدعه الله تعالى بهذا الإبداع الرائع؟! ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَل مُّبِين﴾(2).

 

السابع ـ الجنين:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ مِن سُلاَلَة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً


(1) الإلهيّات 1: 41.

(2) س 31 لقمان، الآية: 11.

64

ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين)(1).

ورد في توحيد المفضّل: «قال المفضّل: فقلت: صف نشوء الأبدان ونموّها حالاً بعد حال حتّى تبلغ التمام والكمال. فقال(عليه السلام): أوّل ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد، ويدبّره حتّى يخرج سويّاً مستوفياً جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح والعوامل إلى ما في تركيب أعضائه: من العظام واللحم والشحم والمخّ والعصب والعروق والغضاريف...»(2).

سبحان الذي كشف الغطاء قبل أربعة عشر قرناً عن المراحل الهامّة للجنين حينما لم يكن يمكن للعلم امتلاك الوسائل التي تكشف عن وضع الجنين الذي يعيش في ظلمات ثلاث(3): البطن والرحم والمشيمة، ثُمّ اكتشف العلم ذلك بوسائله بعد حين، فكانت نفس المراحل وهي: النطفة ـ وهذه كانت معلومة بالحسّ منذ البدء ـ ثُمّ العلقة بمعنى تبدّل النطفة إلى دم منجمد، ثُمّ المضغة بمعنى قطعة لحم بمقدار تمضغ، ثُمّ العظام بمعنى تبدّل تلك القطعة بالعظام، ثُمّ إلباس العظام اللحم، فسبحان الذي أخبر قبل ولادة العلم عن أنّ خلق العظام في الجنين يكون قبل اللحم ثُمّ يكسوه اللحم، ومن كان يعلم أنّه هل يخلق اللحم أوّلاً ثُمّ يخلق في وسطه العظام، أو هل يتحوّل لحم المضغة إلى العظام ثُمّ تكسى العظام لحماً؟!

وأمّا المرحلة الأخيرة للجنين ـ وهي مرحلة نفخ الروح ـ فقد عبّر عنها


(1) س 23 المؤمنون، الآية: 12 ـ 14.

(2) البحار 3: 68، الباب 4 من كتاب التوحيد.

(3) إشارة إلى الآية 6 من سورة 39 الزمر.

65

القرآن بتعبير متميّز عن باقي المراحل فقال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر﴾. وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) تفسير إنشائه خلقاً آخر بنفخ الروح فيه(1). وطبعاً المقصود بذلك نفخ الروح الإنسانية، فلا ينافي ذلك ما لا يشكّ فيه العلم من حياة الجنين من أوّل يومه حياة أشبه بالحياة النباتية، فترى الجنين يمتلك في مرحلة معيّنة من الحسّ والحركة ما لم يكن يمتلكهما من قبل. ويحكم الفقه على من قتله بالدية الكاملة بينما لم يكن يحكم بذلك من قبل. ثُمّ عبّر القرآن لتبجيل هذا الخلق في هذه المرحلة الجديدة وتبريكه بتعبير لم يعبّر عنه في أيّ خلق آخر وهو قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾ وحتّى خلق السماوات والأرض الذي وصفه الله تعالى بأنّه أكبر من خلق الناس(2) لم يبارك له الله بتعبير كهذا.

نزرٌ يسير من آيات الحكمة في الجنين:

1 ـ مقرّ الجنين:

﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين﴾(3).

أيّ قرار أمكن له وأحفظ من الصدمات ممّا وقع بين سلسلة الفقرات والأضلاع والخاصرتين وعظام الظهر وعضلات البطن من ناحية وجعل في مشيمة مليئة بماء لزج من ناحية اُخرى، فيعلّق في هذا الماء الذي يأخذ عنه ثقله فيأمن من الضغوط التي قد تتجه إلى بدن الاُم أو بطنها، فلا تؤثّر فيه على رغم من نعومته ودقّته، وأيضاً يحفظ له هذا الماء وهذه المشيمة ضمن درجة حرارة في مستوى معتدل أمام الحرارة أو البرودة التي قد يتعرّض لها جسم الاُم


(1) راجع پيام قرآن 2: 77 نقلاً عن تفسير نور الثقلين 3: 541، الحديث 56 و57.

(2) إشارة إلى الآية: 57 من سورة (40) غافر.

(3) س 23 المؤمنون الآية: 13.

66

فجأة؟!

2 ـ تغذية الجنين:

الجنين بحاجة إلى الغذاء والماء ومعدته بعدُ لم تتهيّأ للعمل، وبحاجة إلى الاُوكسجين ورئتاه لم تتهيّأ بعدُ للتنفس، فيصله الطعام والماء بواسطة العروق والأوردة التي تأخذهما له بعد التصفية من قلب الاُمّ من ناحية، وبواسطة الحبل المتصل بصرّته من ناحية اُخرى، ويصله الاُوكسجين بعد تصفية الهواء الذي تتنفّسه الاُمّ عن طريق جريان الدم في جسمها.

3 ـ ولادة الجنين:

﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾(1).

من الذي علّم الطفل حين الولادة أن ينقلب على رأسه بالرغم من أنّه حين استقراره في الرحم تكون رجلاه هما اللتين تليان باب الخروج؟ أفهل كان يعلم صعوبة بدء الخروج من جهة الرجلين؟! ومن الذي يجعل كلّ عضلات الاُم تضغط بشدّة على الجنين لإخراجه؟! ومن الذي يرطّب ويليّن عضلات الباب قبيل الخروج؟!

العبرة:

﴿أَوَلَمْ يَرَ الاِْنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِين﴾(2).

سبحان القادر الحليم الذي يخلق الإنسان من أقذر شيء وهي النطفة، ثُمّ إذا قوي بقدرة الله تعالى وإفاضته المستمرّة أصبح خصيماً لله عزّ وجلّ ومنازعاً له ومخالفاً لأوامره ونواهيه، وما ألأم هذا الإنسان!

 


(1) س 40 غافر، الآية: 67.

(2) س 36 يس، الآية: 77.

67

ولنعم ما قالته الشاعرة الفارسية:

(۲۱) كشتى اى زآسيب موجى هولناك
رفت وقتى سوى غرقاب هلاك
(۲۲) تند بادى كرد سيرش را تباه
روزگار اهل كشتى شد سياه
(۲٥) بندها را تار وپود از هم گسيخت
موج از هر جا كه راهى يافت ريخت
(۲٦) هر چه بود از مال ومردم آب برد
زان گروه رفته طفلى ماند خرد
(۲۷) طفل مسكين چون كبوتر پر گرفت
بحر را چون دامن مادر گرفت
(۲۸) موجش اوّل وهله چون طومار كرد
تندباد انديشه پيكار كرد
(۲۹) بحر را گفتم دگر طوفان مكن
اين بناى شوق را ويران مكن
(۳٠) در ميان مستمندان فرق نيست
اين غريق خُرد بهر غرق نيست
(۳۱) صخره را گفتم مكن با او ستيز
قطره را گفتم بدان جانب مريز
(۳۲) اَمر دادم باد را كان شير خوار
گيرد از دريا گذارد در كنار
(۳۳) سنگ را گفتم بزيرش نرم شو
برف را گفتم كه آب گرم شو
(۳٤) صبح را گفتم برويش خنده كن
نور را گفتم دلش را زنده كن
(۳٥) لاله را گفتم كه نزديكش بروى
ژاله را گفتم كه رخسارش بشوى
(۳٦) خار را گفتم كه خلخالش مكن
مار را گفتم كه طفلك را مزن
(۳۷) رنج را گفتم كه صبرش اندك است
اَشك را گفتم مكاهش كودك است
(۳۸) گرگ را گفتم تَنِ خردش مَدَر
دزد را گفتم گلو بندش مبر
(۳۹) بخت را گفتم جهانداريش ده
هوش را گفتم كه هشياريش ده
(٤٠) تيرگيها را نمودم روشنى
ترسها را جمله كردم ايمنى
(٥۲) وا رهانديم آن غريق بى نوا
تا رهيد از مرگ شد صيد هوا
(٥۳) آخر آن نور تجلّى دود شد
آن يتيم بى گنه نمرود شد(۱)
 

تفترض هذه الشاعرة أنّ قصّة «نمرود» هذا الخصيم المبين الذي حُفظ من

 


(1) ديوان «پروين اعتصامي»، القصيدة: 182.

68

الغرق حين طفولته ونعومة أظفاره قد اُلقيت بالوحي أو الإلهام إلى اُمّ موسى بن عمران(عليه السلام)حين ألقت ابنها في البحر بأمر من الله تعالى كما ورد في القرآن: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * ... وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾(1) فكأنّ الربط على قلبها كان بإيحاء قصة نمرود إليها حينما تشوّشت على ولدها فقد قالت الشاعرة:

(٥) وحى آمد كاين چه فكر باطل است
رهرو ما اينك اندر منزل است
(٦) پرده شك را بر انداز از ميان
تا ببينى سود كردى يا زيان
(۷) ما گرفتيم آنچه را انداختى
دست حقّ را ديدى ونشناختى
(٦۱) ما كه دشمن را چنين ميپروريم
دوستان را از نظر چون ميبريم
(٦۲) آنكه با نمرود اين احسان كند
ظلم كى با موسى عمران كند(2)
 

ويناسب البيتين الأخيرين بيتان رائعان فارسيان للشاعر المعروف سعدى:

اى كريمى كه از خزانه غيب
گبر وترسا وظيفه خور دارى
دوستان را كجا كنى محروم
تو كه با دشمنان نظر دارى
 

 

الثامن ـ السماوات والأرض:

﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(3).

 


(1) س 28 القصص، الآية: 7 والآية: 10.

(2) ديوان «پروين اعتصامي»، القصيدة 182.

(3) س 40 غافر، الآية: 57.

69

إشارات مختصرة:

1 ـ سعة السماوات:

قالوا(1): إنّ منظومتنا الشمسيّة تتعلّق بمجرّتنا المشتملة على مئة مليار من الكواكب، وشمسنا تعتبر من الكواكب المتوسطة الحجم علماً بأنّ الشمس أكبر من الأرض بمليون مرّة على الأقل، وأنّ مجرّتنا واحدة ـ على الأقل ـ من مليار مجرّة، هذا في حدود ما اكتشف حتّى زمان قريب، والله أعلم بما سيكتشف مستقبلاً أو ما يبقى مجهولاً للبشرية إلى الأبد.

2 ـ ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالاَْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون﴾(2).

يبدو أنّ هذه الآية الشريفة تحدّثنا من قبل ما يزيد على أربعة عشر قرناً عن توسيع السماء المحيطة بنا، أو قل: عن توسيع العالم، واليوم أي بعد أربعة عشر قرناً يقول العلماء: إنّ فضاء العالم الذي يضم مليارات من المجرّات هو في حالة توسع وانبساط سريع(3).

3 ـ أعمدة السماء:

﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُون﴾(4).

تنبئنا هذه الآية عن أعمدة غير مرئية رفعت السماوات عليها، وكأنّ المقصود بذلك ـ في حدود اكتشافات القرن الرابع عشر من بعد نزول الآية ـ هو التعادل بين القوّتين الجاذبة والدافعة.

 


(1) راجع پيام قرآن 2: 175 ـ 176.

(2) س 51 الذاريات، الآية: 47 ـ 48.

(3) راجع پيام قرآن 2: 170.

(4) س 13 الرعد، الآية: 2.

70

والغفلة عن كلمة ﴿تَرَوْنَهَا﴾ أوجبت توهّم أحد الرواة ـ وهو الحسين بن خالد ـ بأنّ هذه الآية تنفي الأعمدة نفياً تامّاً، فلا يبقى ارتباط أو تشابك بين السماء والأرض، ومن هنا نرى أنّه حينما سأل الرضا(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُك﴾(1) فقال له الإمام(عليه السلام): «هي محبوكة إلى الأرض» وشبك بين أصابعه، قال له: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول:(رفع السماء بغير عمد ترونها)؟ فقال(عليه السلام): «سبحان الله ! أليس الله يقول: ﴿بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا﴾؟» قال: بلى، فقال(عليه السلام): «ثَمّ عمد ولكن لا ترونها ...»(2).

ولعل المقصود بعمود من نور في الحديث الآتي أيضاً هو تعادل القوّتين الجاذبة والدافعة، والحديث هو صحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور، طول ذلك العمود في السماء مسيرة مئتين وخمسين سنة»(3).

4 ـ السقف المحفوظ:

﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون﴾(4).

جاء في كتاب پيام قرآن(5): يحتمل أن تكون السماء هنا إشارة إلى كرة الهواء المطوّقة للأرض والبالغ حجمها مئات الكيلومترات، وهي تمنع عن نفوذ الأشعّة المهلكة من ناحية، وعن اصطدام الأحجار السماويّة بالأرض من ناحية اُخرى، فإنّها تقلل سرعة تلك الأحجار من جهة، وتؤدّي إلى احتراقها باحتكاكها بالكرة الهوائية من جهة اُخرى، ثُمّ ينقل عن لسان أحد العلماء


(1) س 51 الذاريات، الآية: 7.

(2) تفسير القمّي 2: 328.

(3) البحار 58: 91.

(4) س 21 الأنبياء، الآية: 32.

(5) پيام قرآن 3: 171 ـ 172.

71

المكتشفين باسم فرانك آلن أنّ جوّاً مملوءاً بالغازات الحافظة محيط بالأرض يقرب حجمه من ثمان مئة كيلومتر، وهو كالدرع الواقي لها من بلاء عشرين مليون من الأحجار السماويّة التي تهبط بسرعة خمسين كيلومتراً في الثانية.

ثُمّ يقول: صحيحٌ أنّ بعض الشهب النازلة من السماء خفيفة يصل وزنها إلى جزء واحد من ألف جزء من الغرام، ولكن الطاقة التي تتولّد من سرعة نزولها تساوي طاقة انفجار نووي ذرّي، وقد يتّفق أن يكون بعض الشهب ثقيلاً فيخرق الغلاف الجوي ويُضرم الحرائق في الأرض، وكأنّه تنبيه للبشريّة على أنّه لولا هذا الغلاف الواقي ماذا سيحلّ بكم؟!

5 ـ ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾(1).

نحن على العموم غير مطّلعين على الأمر الذي أوحى به الله في كلّ سماء، ولكنّنانعلم بشيء واحد وهو دقّة النظم الحاكم على السماء كدقّة النظم الحاكم على الأرض، وعلى سبيل المثال ورد في پيام قرآن(2) ما يلي:

أ ـ أرسل الإنسان سفينة فضائيّة إلى القمر وأنزلها على نقطة معيّنة منه ثُمّ أرجعها إلى الأرض، ولا شك أنّ الأرض كانت تدور حول نفسها خلال أيّام هذا السفر، وكان يتغيّر مكانها حول الشمس، وكان القمر أيضاً يدور حول نفسه ويدور أيضاً حول الأرض، فهل يمكن تضمين نزول السفينة على النقطة المقصودة في القمر، ثُمّ إرجاعها إلى النقطة المقصودة في الأرض لولا دقّة هذه الحركات جميعاً ونظمها حتّى يمكن حسابها دقيقاً بالعقول الالكترونية؟! ولو كان يتخلّف شيء من هذه الحركات عن النظم في ثانية من الوقت لاختلطت المحاسبات ولعقمت التجربة.

ب ـ الفلكيّون يتنبّؤون بحوادث الخسوف والكسوف لمدّة عشرات السنين


(1) س 41 فصّلت، الآية: 12.

(2) پيام قرآن 2: 177 ـ 178.

72

المستقبلية، ويتنبّؤون بمقادير ساعات الليل والنهار وطلوع الشمس والقمر وغروبهما، فهل كان ذلك بالإمكان لولا النظم الدقيق في حركات هذه الكواكب؟!

ج ـ لولا تعادل قوّتي الجذب والدفع لجميع الكواكب السيّارة لتضاربت أو تناثرت، ونحن نعلم أنّ قوّة الجذب متناسبة طردياً لأجرام الموجودات وعكسياً لمجذور الفاصل بينها، إذن لابدّ من حفظ النظم الدقيق في مقادير الأجرام وفي الفواصل بينها وسرعة حركتها وبطئها، وهل يمكن ذلك كله من دون دخل علم لا متناه وإدراك بالغ؟!

العبرة:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِّوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد﴾(1).

انظر في هذه الآيات كيف ربطت بين ملاحظة آيات الله في السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والذي كان هو دليلنا على وجود الله، وبين الاعتبار الروحي بهذه الآيات المذكّرة بالله والنافية لاحتمال خلقها خلقاً باطلاً من دون حساب أو كتاب لمن خُلقت له هذه الآيات ألا وهو الإنسان.

وقد روي عن ابن عمر أنّه قال: «قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت


(1) س 3 آل عمران، الآية 190 ـ 194.

73

من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فبكت وأطالت ثُمّ قالت: كلّ أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي ثُمّ قال لي: يا عائشة، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربّي؟ فقلت: يا رسول الله، إنّي لاُحبّ قربك واُحبّ مرادك قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضّأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثُمّ قام يصلّي فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثُمّ رفع يديه فجعل يبكي حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! فقال: يا بلال، أفلا أكون عبداً شكوراً؟! ثُمّ قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ...﴾، ثُمّ قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها». وروي «ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها»(1).

وقال الشيخ الطبرسي(قدس سره) في مجمع البيان: «ورد عن الأئمّة من آل محمّد (صلى الله عليه وسلم)الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة وفي الضجعة وبعد ركعتي الفجر»(2).

وقد روى الشيخ الطوسي(رحمه الله) بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول ـ وذكر صلاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ: كان يؤتى بطهور فيخمّر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثُمّ ينام ماشاء الله، فإذا استيقظ جلس ثُمّ قلّب بصره في السماء، ثُمّ تلا الآيات من آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَار ...﴾، ثُمّ يستنّ ويتطهّر ثُمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتّى يقال: متى يرفع رأسه؟ ويسجد حتّى يقال: متى يرفع رأسه؟ ثُمّ يعود إلى فراشه فينام ماشاء الله، ثُمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلّب بصره في


(1) تفسير فخر الرازي 9: 133 ـ 134.

(2) مجمع البيان، في ذيل هذه الآيات.

74

السماء، ثُمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد فيصلّي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك، ثُمّ يعود إلى فراشه فينام ماشاء الله، ثُمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويقلّب بصره في السماء، ثُمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلّي الركعتين، ثُمّ يخرج إلى الصلاة»(1).

وروى حبّة العرني قال: «بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين(عليه السلام) في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبه الواله وهو يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ...﴾. قال: ثُمّ جعل يقرأ هذه الآيات ويمرّ شبه الطائر عقله، فقال: أراقد يا حبّة أم رامق؟ قلت: رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى ثُمّ قال لي: يا حبّة، إنّ لله موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يا حبّة، إنّ الله أقرب إليك وإليّ من حبل الوريد، يا حبّة، إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء. قال: ثُمّ قال: أراقد أنت يا نوف؟ قال: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد ولقد أطلت بكائي هذه الليلة. فقال: يا نوف، إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله عزّ وجل قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ، يا نوف، إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله إلّا أطفأت بحاراً من النيران، يا نوف، إنّه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله وأحبّ في الله وأبغض في الله، يا نوف، من أحبّ في الله لم يستأثر على محبّته، ومن أبغض في الله لم ينل مبغضيه خيراً، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان. ثُمّ وعظهما وذكّرهما وقال في أواخره: فكونوا من الله على حذر فقد أنذرتكما، ثُمّ جعل يمرّ وهو يقول: ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عنّي أم ناظر إليّ؟ وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في


(1) تهذيب الأحكام 2: 334، الباب 15 من كتاب الصلاة، الحديث 233.

75

نعمك عليّ ما حالي؟ قال: فوالله ما زال في هذا الحال حتّى طلع الفجر»(1).

أختم حديثي عن آيات الله سبحانه وتعالى بالكلمة المرويّة عن الإمام الرضا(عليه السلام): «إنّي لمّا نظرت إلى جسدي فلم يُمكنّي زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمت أنّ لهذا البنيان بانياً، فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أنّ لهذا مقدِّراً ومُنشئاً»(2).

وهنا أترك الحديث عن آيات الله ودلائل قصده وحكمته علماً بأنّ هذا البحث لو مُدّد إلى يوم القيامة لما بلغ منتهاه:

﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾(3)، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾(4).

 

 

 

 


(1) فلاح السائل: 266 ـ 267.

(2) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 132، الباب 11 ما جاء عن الرضا(عليه السلام) من الأخبار في التوحيد، الحديث 28.

(3) س 18 الكهف، الآية: 109.

(4) س 31 لقمان، الآية: 27.

77

اللّه جلّ جلاله

2

 

 

 

التوحيد

 

 

○ التمهيد.

○ فطرية الإيمان بالتوحيد.

○ أغصان التوحيد.

○ أدلّة التوحيد.

 

 

79

 

 

 

 

 

التمهيد

 

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.

كرّرت هذه الآية الشريفة في القرآن مرّتين في سورة النساء مرّة في الآية (48) وذيّلت بقوله تعالى:﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾، ومرّة اُخرى في الآية (116) وذيّلت بقوله تعالى:﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾.

والآيتان تعنيان أنّ الشرك أعظم ذنب يمكن أن يصدر من البشر، وهذا يعني أنّ الشرك لا يقلّ عن أصل إنكار الله تبارك وتعالى، فمن يؤمن بالله ويشرك به غيره يكون على حدّ من لا يؤمن نهائياً بالله تعالى.

وقد يكون السبب في ذلك أنّ افتراض قبول الله تعالى للشريك يعني أنّ له حدّاً؛ لأنّ ما لا حدّ له لا يتصوّر له شريك، وإذا أصبح محدوداً لم يصبح كاملاً، فلا تثبت له صفات الجلال ولا صفات الجمال، وهذا يعني في الحقيقة عدم الإيمان بالله، فإنّ «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم»(1).


(1) البحار 69: 293.

80

آنچه پيش تو غير از او ره نيست
غايت فهم تو است الله نيست

ولدى عدم الإيمان بوجود كامل مطلق لا سبيل لارتقاء البشرية مراقي الكمال.

وعند عدم الإيمان بوجود إله واحد لا سبيل للنظر الوحداني إلى عالم الوجود كعِقد واحد تنتظم فيه كل المجوهرات ويرتبط بعضها ببعض، وبالتالي لا سبيل إلى الرؤية الفلسفية الصحيحة للعالم، ولا إلى تشخيص موقفنا ووظيفتنا بشكلهما المعقول.

ولقد ثبّت إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في رواية رواها الصدوق(قدس سره) في كتاب التوحيد أنّ محاربته لأعدائه إنّما كانت في الحقيقة لأجل التوحيد، فقد روى(رحمه الله): «أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إنّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابيّ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟! فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال: يا أعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أماترى أنّه كفر من قال: ثالث ثلاثة؟ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذان يثبُتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء

81

شبه كذلك ربّنا، وقول القائل: إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم(1) كذلك ربّنا عزّ وجلّ»(2).

 

 

* * *


(1) قيل في تفسيره: أي لا في الخارج كانقسام الإنسان إلى بدن وروح، ولا في عقل كانقسام الماهية إلى أجزائها الحدّية، ولا في وهم كانقسام قطعة خشب إلى النصفين في التصوّر. (راجع كتاب التوحيد: 84 تحت الخط).

وأيضاً قيل: إنّ المقصود بالواحد في باب الأعداد الذي نفاه أمير المؤمنين(عليه السلام) هو كون الشيء واقعاً تحت مفهوم عام وجد منه مصداق واحد، وذلك مثل مفهوم الشمس القابل للانطباق على كثيرين، غير أنّه لا يوجد في عالم الحسّ منه إلّا مصداق واحد مع إمكان وجود مصاديق كثيرة له، فهذا هو المصطلح عليه بالواحد العددي. أمّا الوحدة الحقيقيّة فهي عبارة عن كون الموجود لا ثاني له، بمعنى أنّه لا يقبل الاثنينيّة ولا التكثّر ولا التكرّر، وذلك كصِرف الشيء المجرّد عن كلّ خليط، المطلق عن كلّ قيد، فلا يعقل فرض ثان له؛ لأنّ الثاني بحكم نفي القيد، والخلط يكون كالأوّل فلا يتميز ولا يتشخّص حتّى يكون ثانياً، فالكثرة رهن دخول شيء مغاير في حقيقة الشيء، وهذا هو أوّل معنيي الوحدة التي ثبّتها أمير المؤمنين(عليه السلام)في كلامه.

وأمّا المعنى الثاني للوحدة المثبَّت أيضاً في كلامه(عليه السلام) فهو كونه أحديّ الذات، ويهدف إلى كونه بسيطاً لا جزء له في الخارج ولا في الذهن في عقل ولا وهم. (راجع الإلهيّات 1: 356 ـ 358).

(2) التوحيد: 83 ـ 84.

82

 

فطرية الإيمان بالتوحيد

 

قد مضى في بحث إثبات الصانع أنّ بعض الآيات القرآنية دلّت على فطريّة الإيمان بوجود الله، واحتملنا في تفسير الفطرية احتمالين: البداهة والعلم الحضوري، وأوضح تلك الآيات في الدلالة على فطرية الإيمان بوجود الله ثلاثة:

1 ـ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(1).

2 ـ ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدون﴾(2).

3 ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون﴾(3).

وهذه الآيات الثلاث كما تدلّ على فطرية أصل الإيمان بالله كذلك تدلّ على فطرية الإيمان بالتوحيد:

أمّا الآيتان الاُوليان فلأنّهما تدلاّن على فطرية الدين، ومن الواضح أنّ أساس الدين هو التوحيد.

وأمّا الآية الثالثة فلتصريحها بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا ...﴾.


(1) س 30 الروم، الآية: 30.

(2) س 2 البقرة، الآية: 138.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 172 ـ 173.

83

وأمّا بناءً على جعل الآيات التي تذكر التجاء البشر لدى الاضطرار إلى الله سبحانه دليلاً على فطرية الإيمان بالله فكثير منها صريحة في الالتفات إلى مسألة التوحيد والشرك أيضاً كقوله تعالى:

1 ـ ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون﴾(1).

2 ـ ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون﴾(2).

3 ـ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون﴾(3).

4 ـ ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون﴾(4).

5 ـ ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْب ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُون﴾(5).

بل وجميع آيات التجاء البشر لدى الاضطرار إلى الله سبحانه حتّى التي ليس فيها التصريح بالتوحيد ترمز إلى التوحيد؛ لوضوح: أنّ الذي يلجأ إليه البشر لدى الاضطرار ليس إلّا إلهاً واحداً، فيدخل في هذا المضمار مثل


(1) س 29 العنكبوت، الآية: 65.

(2) س 30 الروم، الآية: 33.

(3) س 6 الأنعام، الآية: 40 ـ 41.

(4) س 16 النحل، الآية: 53 ـ 54.

(5) س 6 الأنعام، الآية: 63 ـ 64.

84

قوله تعالى:

1 ـ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّار كَفُور﴾(1).

2 ـ ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾(2).

3 ـ ﴿فَإِذَا مَسَّ الاِْنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم﴾(3).

4 ـ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾(4).

 

 

 

* * *

 


(1) س 31 لقمان، الآية: 31 ـ 32.

(2) س 10 يونس، الآية: 22 ـ 23.

(3) س 39 الزمر، الآية: 49.

(4) س 10 يونس، الآية: 12.