419

 

 

 

 

الفصل الثالث والعشرون

ا لــر ضــــا

 

روي: إنّ الحسين(عليه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، وصلَّى الله على رسوله وسلّم. خُطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأ نّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا اُجور الصابرين ...»(1).

قال بعض: إنّ الرضا من أوائل مسالك أهل الخصوص وأشقّها على العامّة(2)ومن هنا يعتقد هذا الباحث: أنّ مقام الرضا أعلى مرتبة من مقام الصبر؛ لأنّه جَعَل الصبر في البحث الماضي من منازل العامّة. والظاهر: أنّ مقصوده بالرضا في المقام هو: الرضا الذي يكون من ثمرات الحبِّ. ونحن وإن لم نوافق فيما مضى على كون الصبر مخصوصاً بالعامّة، ولكن من الصحيح هنا القول بأنّ الرضا مقام فوق مقام الصبر؛ لأنّ الصبر قد يكون صبراً على مضض، ولكنّ الرضا يعني: عدم المضض،


(1) البحار 44 / 366 ـ 367. والظاهر أن الصحيح تقطّعها عسلان الفلوات.

(2) منازل السائرين، قسم الأخلاق، باب الرضا.

420

ويعني: حبّه لما يريده الله تعالى كما مضى عن الحسين(عليه السلام) قوله: «... رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين».

والرضا على قسمين:

الأوّل: الرضا الذي يكون من ثمار الحبّ، فإنّ رضا المحبّ في رضا محبوبه، وإن كان رضا محبوبه في موت المحبّ لأحبّ الموت، أو في ابتلائه لأحبّ الابتلاء.

وقد ورد في الحديث: «إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه»(1).

وفي حديث طريف نقلاً عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: « سألت النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن سُنّته فقال: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحبّ أثاثي، والشوق مركبي، وذكر الله ـ عزّوجلّ ـ أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعمل سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوّتي، والصدق شفيعي، والطاعة جنّتي، والجهاد خُلُقي، وقرّة عيني في الصلاة»(2).

والرضا الذي هو من ثمرات الحبّ لله هو أفضل قسمي الرضا.

والثاني: قسم آخر للرضا أقلّ مرتبة من ذاك، وهو: الرضا الذي يكون من ثمرات العلم بأنّ الله ـ تعالى ـ لا يقدّر لعبده إلاّ ما فيه خيره.

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «قال الله عزّوجلّ: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلاّ جعلته خيراً له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمّد من الصديقين عندي»(3).


(1) المحجة البيضاء 8 / 88 .

(2) المصدر السابق: ص 101.

(3) اُصول الكافي 2 / 61، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا والقضاء، الحديث 6.

421

وأيضاً عن الصادق(عليه السلام) بسند صحيح: «إنّ فيما أوحى الله ـ عزّوجلّ ـ إلى موسى بن عمران(عليه السلام): يا موسى بن عمران. ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن، فإنّي إنّما أبتليه لما هو خير له، وأُعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شرّ له لما هو خير له. وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري»(1).

وأيضاً عن ابن أبي يعفور بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام) قال: «عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله ـ عزّوجلّ ـ له قضاءً إلاّ كان خيراً له، وإن قُرِّض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له»(2).

وبعد هذا المرور السريع بقسمي الرضا: ما كان من ثمار حبّ الله عزّوجلّ، وما كان من ثمار العلم بحكمة الله وموافقة تقديره لصالح العبد، يناسب المرّ السريع ـ أيضاً ـ برضوان الله تعالى، والذي هو أكبر من نِعَم الجنّة المادّية بصريح القرآن، والذي هو من الغايات القصوى لأولياء الله العارفين.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(3).

وإن أُريد توضيح الفكرة بمستوى الفهم العادي قلنا: ربّ إنسان يجتمع بحبيبه على مائدة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين بالمقدار المتصوّر في الموائد الدنيويّة، وفي بستان زاهر أورقت فيه الأشجار وأينعت فيه الأثمار، وازدهرت


(1) المصدر السابق: ص 61 ـ 62، الحديث 7.

(2) المصدر السابق: ص 62، الحديث 8 .

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 72.

422

فيه الورود، وعلى ماء جار زلال صاف كالزجاج والمرآة، إلاّ أنّه كان يحتمل وجود كدورة ولو مختصرة عنه في قلب حبيبه وعلى الخصوص نفترض ذاك الحبيب وليّاً لكثير من نعمه وعظيماً في صفاته الخلقيّة والإنسانيّة، ثُمّ تطرأ على لسان هذا الحبيب كلمة تكشف عن رضاه عنه، فتراه يثلج قلبه، ويبرد فؤاده، ويلتذّ برضا حبيبه عنه لذّة تُنسيه كلّ ما كان غائراً فيها من تلك اللذائذ الأُخرى، فكيف بالعبد المؤمن بالقياس إلى الله سبحانه وعلا، علماً بأنّ معرفته بالله في الجنّة لاتقاس بمعرفته به في الدنيا.

وقد ورد في الحديث عن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) قال: «إذا صار أهل الجنّة في الجنّة، ودخل وليّ الله إلى جناته ومساكنه، واتّكى كلَّ مؤمن على أريكته، حفّته خدّامه، وتهدّلت عليه الأثمار، وتفجّرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار، وبسطت له الزرابيّ، ووضعت له النمارق، وأتته الخدّام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك، قال: ويخرج عليه الحور العين من الجنان، فيمكثون بذلك ما شاء الله، ثُمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم، فيقول لهم: أوليائي واهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري ألا هل أُنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه ؟ فيقولون: ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه: فيما اشتهت أنفسنا، ولذّت أعيننا من النعم في جوارك الكريم ؟ ! قال: فيعود عليهم القول فيقولون: ربّنا نعم، فائتنا بخير ممّا نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضائي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه، قال: فيقولون: نعم يا ربّنا، رضاك عنّا ومحبّتك لنا خير وأطيب لأنفسنا. ثُمّ قرأ عليّ بن الحسين(عليهما السلام)هذه الآية: ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾»(1).


(1) تفسير البرهان 2 / 145.

423

 

 

 

 

الفصل الرابع والعشرون

ا لشــــكر

 

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(2).

أثبتت هاتان الآيتان المباركتان خير أَثَرين لشكر الله سبحانه وتعالى:

الأوّل: نفي العذاب عن الشاكر؛ إذ ورد في الآية الأُولى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ...﴾.

ومن الطريف في هذه الآية: أنّ الله ـ سبحانه ـ فرض بلطفه ورحمته أنّ العبد المؤمن كأنّه يُسدي بطاعته وبشكره نعمة على المولى سبحانه وتعالى يستحقّ عليها الشكر فيقول: وكان الله شاكراً عليماً.

والثاني: الزيادة في النعمة؛ إذ ورد في الآية الثانية: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ...﴾.

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «من أُعطي أربعاً لم يحرم أربعاً: مَنْ أُعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومَنْ أُعطي الاستغفار لم يحرم التوبة، (الظاهر: أنّ


(1) السورة 4، النساء، الآية: 147.

(2) السورة 14، إبراهيم، الآية: 7.

424

المقصود توبة الله عليه)، ومَنْ أُعطي الشكر لم يحرم الزيادة، ومن أُعطي الصبر لم يحرم الأجر»(1).

ووجوب شكر المنعم وجوب عقليّ قبل أن يكون وارداً من الشرع، حتّى بالنسبة للمنعم المخلوق الذي لم يكن إلاّ واسطة فيض من قبل الخالق وكان المنعم الحقيقي هو الخالق تبارك وتعالى.

وفي الحديث عن عمّار الدُهني قال: «سمعت عليَّ بن الحسين(عليهما السلام)يقول: إنّ الله يحبّ كلَّ قلب حزين، ويحبّ كلَّ عبد شكور. يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً ؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره. ثُمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس»(2).

وعن الرضا(عليه السلام): «مَنْ لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّوجلّ»(3).

وحقيقة الشكر مكافأة المنعم عن نعمته، وذلك إمّا ببذل نعمة له كالمال أو ـ في الأقلّ ـ الثناء والحمد لله. وأقلّ المراتب بعرفان النعمة بالقلب وبحبّه إيّاه.

وعن الباقر(عليه السلام) عن أبيه، عن جدّه قال: «قال عليّ(عليه السلام): حقٌ على من أُنعم عليه أن يحسن مكافأة المنعم، فإن قصر عن ذلك وسعه فعليه أن يحسن الثناء، فإن كلَّ عن ذلك لسانه فعليه معرفة النعمة ومحبّة المنعم بها، فإن قصر عن ذلك فليس للنعمة بأهل»(4).

فإذا وجب شكر المنعم المخلوق الذي لم يكن في واقع الأمر إلاّ واسطة لفيض


(1) البحار 71 / 44.

(2) المصدر السابق: ص 38.

(3) المصدر السابق: ص 44.

(4) المصدر السابق: ص 50.

425

النعمة والمفيض الحقيقي هو الله فكيف لا يجب شكر الله سبحانه وتعالى ؟ !

إلاّ إنّ شكره سبحانه وتعالى بالنحو المألوف فيما بين المخلوقين أنفسهم غير معقول. ويمكن بيان ذلك بعدّة تعابير:

1 ـ إنّ الشكر عبارة عن مكافأة المنعم بنعمه، ولا معنى لمكافأته سبحانه وتعالى؛ فإنّه غنيّ عن العالمين، وهو المنعم على الخلق ولا يُنعم عليه، ولا ينفعه شكرنا إيّاه، بل تعود منفعة شكرنا إيّاه إلينا.

2 ـ إنّ الشاكر لو أراد أن ينعم على المنعم بشيء جزاءً لنعمته فعليه أن ينعم عليه بما يملكه، ولا أقلّ من الإنعام عليه بلسانه بالثناء، أو بقلبه بعرفان النعمة وببذل الحبّ، ولكنّا نحن لا نملك شيئاً أمام الله سبحانه كي نبذله إيّاه، فلو شكرناه بلساننا فلساننا مملوك له، ولو شكرناه بقلبنا فقلبنا مملوك له. وليس لنا شيء كي نكافئ الله سبحانه به على نعمه.

3 ـ إن تمكّنّا من الشكر ووُفِّقنا له، فهو نعمة جديدة أنعم الله بها علينا، وبحاجة إلى شكر جديد.

وعن الصادق(عليه السلام): «ما أنعم الله على عبد بنعمة بالغة ما بلغ فحمد الله عليها إلاّ كان حمد الله أفضل من تلك النعمة وأعظم وأوزن»(1).

إذن فشكر الله يجب أن ينتهي إلى أحد معنيين:

1 ـ معرفة العبد: بأنّ هذه النعمة من الله، وبعجزه عن شكره، وإقراره بذلك، وبالثناء عليه تبارك وتعالى برغم غناه عن ثنائنا.

وعن الصادق(عليه السلام): «أوحى الله إلى موسى(عليه السلام): يا موسى اشكرني حقَّ شكري، فقال: يا ربّ كيف أشكرك وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ.


(1) المصدر السابق: ص 51.

426

فقال: يا موسى شكرتني حقَّ شكري حين علمت أن ذلك منّي»(1).

2 ـ أن يبذل العبد نعمه سبحانه وتعالى في طاعته، ولا يبذلها في معصيته.

وعن الصادق(عليه السلام) قال: «شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين»(2).

ولا يعصي أحد الله سبحانه وتعالى إلاّ بنعمته؛ فإن عصى بلسانه فلسانه نعمة من الله عليه، وإن عصى بيده أو بأيّ جارحة من جوارحه فكلُّ الجوارح نعم الله عليه، أو بأيّ قوّة من قواه فكلّها نعم الله عليه، أو بأيّ مال من أمواله فهي جميعاً من نعم الله عليه ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوها ...﴾(3). ومَثَلُ معصية الله بنعمه مَثَلُ مَنْ أنعم عليه شخص بسيف فضرب به وجه المنعم أو ابنه.

وأختم الحديث هنا عن الشكر بذكر رواية عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم»(4).

 


(1) المصدر السابق. وقد مضى تخريجه عن الكافي في بحث اليقظة ص216.

(2) المصدر السابق: ص 40.

(3) السورة 14، إبراهيم، الآية: 34.

(4) البحار 71 / 50.

427

 

 

 

 

الفصل الخامس والعشرون

ا لحيـــــاء

 

قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾(1).

الحياء انقباض النفس عن القبيح خجلاً، وهو من الناس قد ينتج كتم القبيح، ولكن من الله لا يمكن أن يكون إلاّ بترك القبيح؛ لأنّ العالَم بأسره في محضر الله تعالى، والله تعالى يعلم بكلِّ شيء علماً حضوريّاً، فلا يُعقَل الكتمان عنه.

وفي الحديث: «يا أبا ذر، أُعبد الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك ...»(2).

وعن عليّ بن الحسين(عليهما السلام): «خفِ الله تعالى لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك »(3).

قيل: إنّ شخصاً من أهل الحال كان قد تاب بعد معصية، وكان يبكي، فقيل له: لِمَ تكثر البكاء ألا تعلم بأنّ الله ـ تعالى ـ غفّار ؟ ! قال: نعم، يمكن أن يعفو عنّي،


(1) السورة 96، العلق، الآية: 14.

(2) البحار 77 / 74.

(3) المصدر السابق 71 / 336.

428

ولكن ماذا أفعل بخجل رؤيته لي في حال المعصية ؟ !(1).

گيرم كه تو از سر گنه در گذرى
زان شرم كه ديدى كه چه كردم چه كنم(2)
 

وعن الصادق(عليه السلام): «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة»(3).

وعن أحدهما(عليه السلام) قال: «الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه»(4).

وعن الصادق(عليه السلام): «لا إيمان لمن لا حياء له»(5).

وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رحم الله عبداً استحيى من ربّه حقّ الحياء: فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر القبر والبلى، وذكر أنّ له في الآخرة معاداً»(6).

وعن مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «والحياء خمسة أنواع: حياء ذنب، وحياء تقصير، وحياء كرامة، وحياء حبّ، وحياء هيبة. ولكلُّ واحد من ذلك أهل، ولأهله مرتبة على حدة»(7).

وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشهد لكون أوّل شرّ في العبد انتزاع الحياء منه. فعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أوّل ما ينزع الله من العبد الحياء، فيصير ماقتاً ممقّتاً، ثُمّ ينزع منه الأمانة، ثُمّ ينزع منه الرحمة، ثُمّ يخلع دين الإسلام عن عنقه، فيصير شيطاناً لعيناً»(8).

وإلى جانب الحياء الممدوح يوجد لدينا حياء مذموم: فالحياء الممدوح هو: الاستحياء من الأمر القبيح، والحياء المذموم هو: الاستحياء من الأمر الحسن كمن


(1) و (2) تفسير «نمونه» 27 / 168.

(3) البحار 71 / 329.

(4) و (5) المصدر السابق: ص 331.

(6) و (7) المصدر السابق: ص 336.

(8) المصدر السابق: ص 335.

429

يحتلم ثُمّ لا يغتسل استحياءً من أهل البيت الذين لو اغتسل لعرفوا أنّه قد احتلم مثلاً، وكمن يستحي من السؤال؛ لأنّه ينكشف بذلك جهله مثلاً وما إلى ذلك.

وقد ورد عدد من الروايات فيها إشارة إلى الحياء القبيح، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): الحياء على وجهين: فمنه الضعف، ومنه القوّة، وإسلام وإيمان»(1).

2 ـ عن الصادق(عليه السلام): «من رقّ وجهه رقّ علمه»(2).

3 ـ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الحياء حياءان: حياء عقل، وحياء حمق: فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل»(3).

أي حياء العقل ينشأ من العلم، وحياء الحمق ينشأ من الجهل، أو حياء العقل يوجب العلم، وحياء الحمق يوجب الجهل.

 

 


(1) البحار: 71 / 334.

(2) المصدر السابق: ص 330.

(3) المصدر السابق: ص 331.

431

 

 

 

 

الفصل السادس والعشرون

ا لصـــــد ق

 

قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاَْمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾(1).

الصدق قد يُطلق على ثلاثة معان:

الأوّل: الصدق في مقابل الكذب. وهو الصدق في الحديث: بأن لا يتحدَّث إلاّ بما يعتقده مطابقاً للواقع. والكذب حرام.

وإليك بعض الروايات:

1 ـ ورد عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ثلاث من كنَّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف. قال الله ـ عزَّوجلَّ ـ في كتابه: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾(2) وقال: ﴿أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾(3) وفي قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ


(1) السورة 47، محمَّد (صلى الله عليه وآله)، الآيتان: 20 ـ 21.

(2) السورة 8، الأنفال، الآية: 58.

(3) السورة 24، النور، الآية: 7.

432

كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾»(1).

2 ـ وعن محمَّد بن مسلم في سند تامٍّ، عن الباقر(عليه السلام) قال:« إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ جعل للشرِّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرُّ من الشراب»(2).

وكأنّ المقصود بذلك: أنَّ مَنْ شرب الشراب فَقَدَ العقل، وإذا فَقَدَ العقل جاء احتمال ارتكابه لأيِّ جريمة من الجرائم، ولكنَّ الكذب شرٌّ من الشراب؛ لأنَّ الشخص لو التزم بالصدق ترك الجرائم؛ لأنَّه في غالب الأحيان إمَّا أن يتوقَّف على الكذب الموجب لإغفال الناس عمَّا يعجزه عن ارتكاب الجرم، أو يتوقَّف حفظ ماء وجهه أمام الناس على الكذب؛ لكي لا ينفضح بجرمه. ففتح باب الجرائم يكون بالكذب. والسكران إنَّما يفعل الجرم عن غير شعور وعمد. ولكنَّ الكاذب يفعل الجرم عن عمد وقصد، ويتقصَّد ما يشاء من الجرائم مهما بلغ في السعة والكثرة، فكان الكذب شرَّاً من الشراب.

3 ـ وعن الحسين بن أبي العلاء بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر»(3).

4 ـ وعن إسحاق بن عمَّار وغيره بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «لا تغترُّوا بصلاتهم ولا بصيامهم؛ فإنَّ الرجل ربَّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة»(4).

والثاني: الصدق في مقابل الخُلف. وهو الصدق في الوعد، فلو كان الوعد عن


(1) السورة 19، مريم، الآية: 54، والحديث في الوسائل 15 / 340، الباب 49 من جهاد النفس، الحديث 4.

(2) الوسائل 12 / 244، الباب 138 من أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) البحار 71 / 2.

(4) المصدر السابق.

433

علم بأنَّه سيُخلف لكان كذباً بالمعنى الأوَّل، ولكنَّ الشخص ربَّما لا يقصد الخُلف حين الوعد، ثُمَّ يبدو له أن يخلف. وهذا الوعد إن كان على مستوى التعاهد والتعاقد فخُلفه حرام بلا إشكال؛ لأنَّ الوفاء بالعقد والعهد واجب. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...﴾(1).

وقال عزّوجلّ: ﴿... أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾(2).

وإن لم يكن على هذا المستوى، بل كان وعداً ابتدائيَّاً بحتاً، فالمشهور لدى الفقهاء كراهة خلفه وعدم حرمته، ولكن شبهة الحرمة قويَّة لأجل الروايات المشدِّدة في ذلك مع صحّة أسانيد بعضها:

وقد ورد عن شعيب العقرقوفي بسند تام، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد»(3).

وعن هشام بن سالم بسند تامٍّ قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: عدّة المؤمن أخاه نذر لا كفَّارة له. فمَنْ أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرَّض، وذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾»(4).

وعن سماعة بن مهران بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممَّن حَرُمت غيبته، وكملت مروءته، وظهر عدله، ووجبت أخوّته»(5).

وعن منصور بن حازم بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّما سُمِّي إسماعيل(عليه السلام)


(1) السورة 5، المائدة: الآية: 1.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 34.

(3) الوسائل 12 / 165، الباب 109 من أحكام العشرة، الحديث 2.

(4) المصدر السابق: الحديث 3، والآية: 32 في السورة 61، الصف.

(5) الوسائل: 12 / 279، الباب 152 من أحكام العشرة، الحديث 2.

434

صادق الوعد؛ لأنّه وعد رجلاً في مكان، فانتظره سنة، فسمَّاه الله صادق الوعد. ثُمَّ إنَّ الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك»(1).

والثالث: الصدق بمعنى الإحكام وواجديّة كلِّ الحقيقة (يقال: رمح صدوق أي: صلب قويٌّ) وهو الصدق في الإيمان بمعنى: أن لا يكون الإيمان مجرَّد لقلقة لسان، بل ولا مجرَّد الاعتقاد في مستوى العقل، بل يكون الإيمان قد نزل في الإنسان إلى مستوى العواطف والأحاسيس والجوارح. ولعلَّه يشير إلى هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿... فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾(2).

والإيمان غير الصادق فيه خطر: أن يكون عارية تُسلَب في ساعة نزع الروح أو قبل ذلك. نعوذ بالله من ذلك.

ولعلَّ خير تعبير عن الإيمان الصادق التعبير الوارد في خطبة همَّام عن إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام) في وصف المتّقين: «... عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ...»(3) فهذا كما ترى لا يعطي مجرّد معنى الاعتقاد بعظمة الخالق وصغر ما دونه، فالاعتقاد بذلك قد يجتمع مع عدم الإحساس في النفس بعظمة الخالق وعدم صغر ما عداه في رؤيته الباطنيّة، فهو يرى الظالم الجبار مثلاً عظيماً، ويرى الدنيا وزبرجها عظيماً على رغم اعتقاده بانَّ هذه رؤية خياليَّة وغير مطابقة للواقع، ولكنَّ الصادق في إيمانه يلمس ويتحسَّس برؤيته الباطنية عظمة الربِّ وصغر ما سواه.

ومثال ذلك في الرؤية الظاهرية: أنَّ الشخص يرى الشيء الصغير الموضوع تحت آلة مُكبِّرة كبيراً. وهو يعلم أنَّه صغير، ويرى الشيء الكبير الموضوع تحت


(1) المصدر السابق: ص 164، الباب 109 من أحكام العشرة، الحديث 1.

(2) السورة 47، محمَّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 21.

(3) نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

435

آلة مُصغِّرة صغيراً وهو يعلم أنّه كبير. فكما أنَّ الصغر والكبر في الإحساس الظاهري غير مجرّد الاعتقاد بالصغر والكبر، كذلك الصغر والكبر في الإحساس الباطني غير مجرّد الاعتقاد بالصغر والكبر. وصدق الإيمان عبارة عن بلوغ الإيمان هذا المستوى من الإحساس الباطني. رزقنا الله ذلك بحقِّ محمّد وآله الأطهار(عليهم السلام).

ويشهد لما قلناه: من أنَّ من شرط الإيمان الصادق هو جريانه في الجوارح الروايات الكثيرة(1) التي جعلت العمل بالأركان جزءاً من الإيمان، وذلك من قبيل:

1 ـ ما ورد عن عبدالرحيم القصير قال: «كتبت على يَدَيْ عبد الملك بن أعين إلى أبي عبدالله(عليه السلام) أسأله عن الإيمان: ما هو ؟ فكتب: الإيمان هو إقرار باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان. فالإيمان بعضه من بعض، وقد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً، ولا يكون مؤمناً حتّى يكون مسلماً. فالإسلام قبل الإيمان، وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عنها، كان خارجاً من الإيمان، وساقطاً عنه اسم الإيمان، وثابتاً عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان، ولم يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال: إذا قال للحلال هذا حرام، وللحرام هذا حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجاً من الإيمان والإسلام إلى الكفر ...»(2).

2 ـ وعن ابن البختري، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ليس الإيمان


(1) راجع البحار 69 / 18 فصاعداً، كتاب الإيمان والكفر، الباب 30 أنَّ العمل جزء الإيمان.

(2) البحار 69 / 73.

436

بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكنَّ الإيمان ما خلص في القلب، وصدَّقه الأعمال»(1).

3 ـ وعن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان العقول»(2).

4 ـ وعن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالجوارح»(3).

ويشهد لما قلناه: من أنَّ من شرط الإيمان الصادق سريانه في الاحاسيس والعواطف، الروايات التي جعلت الحبَّ من الإيمان أو الدين، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الصادق(عليه السلام): «لايمحض رجل الإيمان بالله حتّى يكون الله أحبَّ إليه من نفسه وأبيه وأُمّه وولده وأهله وماله، ومن الناس كلِّهم»(4).

2 ـ وما عن الفضيل بن يسار بسند صحيح قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الحبِّ والبغض: أمن الإيمان هو ؟ فقال: وهل الإيمان إلاّ الحبُّ والبغض ؟ ! ثُمّ تلا هذه الآية: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾»(5).

3 ـ وما عن سعيد بن يسار بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام) قال: «هل الدين إلاّ الحبّ ؟ ! إنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ...﴾»(6).

4 ـ وما عن ربعي بن عبدالله قال: «قيل لأبي عبدالله(عليه السلام): جُعِلت فداك: إنَّا


(1) المصدر السابق: ص 72.

(2) المصدر السابق: ص 68.

(3) المصدر السابق .

(4) المصدر السابق: 70 / 25.

(5) اُصول الكافي 2 / 125، والآية: 7 في السورة 49، الحجرات.

(6) البحار: 69 / 237، والآية: 31 في السورة 3، آل عمران.

437

نسمّي بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك ؟ فقال: إي والله، وهل الدين إلاّ الحبّ ؟ ! قال الله: ﴿... إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ...﴾»(1).

5 ـ وما عن بريد بن معاوية قال: «كنت عن أبي جعفر(عليه السلام) إذ دخل عليه قادم من خراسان ماشياً، فأخرج رجليه وقد تغلَّفتا، وقال: أما والله ما جاء بي من حيث جئت إلاّ حبُّكم أهل البيت، فقال أبو جعفر(عليه السلام): والله لو أحبَّنا حجر حشره الله معنا. وهل الدين إلاّ الحبُّ ؟ ! إنَّ الله يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ...﴾ وقال: ﴿ ... يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ...﴾(2). وهل الدين إلاّ الحبُّ ؟ !»(3).

ويشهد ـ أيضاً ـ لكون الإيمان الصادق متقوِّماً بالحبِّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(4).

هذا، وليس المقصود بما أشرنا إليه واستشهدنا له بالنصوص من كون روح الإيمان هو الحبُّ: إمكان اكتفائنا بحبِّ أهل البيت(عليهم السلام)، والتحرُّر من كثير من الواجبات، أو ترك المحرَّمات كما قد يتوهَّمه بعض عوام الشيعة بتخيل كفاية هذا الحبّ للنجاة. ولو كان الأمر المستنتج من النصوص ذلك، لكان معناه: أنَّ أ ئمّتنا (عليهم السلام)أصبحوا باباً لتوريط الشيعة في المعاصي، في حين أنَّه من الضروريَّات أنَّهم باب للهداية ولإبعاد الناس عن المعاصي، بل المقصود: أنّ الإيمان لو وصل


(1) البحار 104 / 130، وأيضاً ورد الحديث في 27 / 95.

(2) السورة 59، الحشر، الآية: 9.

(3) البحار 27 / 95.

(4) السورة 9، التوبة، الآية: 24.

438

إلى مستوى الحبِّ والجريان في العواطف والأحاسيس والسريان في العروق مجرى الدم، منع عن التورط في المعاصي. وحبُّ أهل البيت(عليهم السلام) باعث للطاعة لا للمعصية؛ فإنَّ الأعمال ـ على ما دلّت عليه الروايات ـ تصلهم، فتأذيهم المعاصي، ولو كنّا نحبّهم حبّاً صادقاً لما رضينا بإيذائهم.

فعن سماعة بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام): «ما لكم تسؤون رسول الله(صلى الله عليه وآله) ! ؟ فقال رجل: كيف نسؤوه ؟ فقال: أما تعلمون أنَّ أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك. فلا تسؤوا رسول الله، وسرُّوه»(1).

وعن يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: ﴿اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ...﴾(2) قال: هم الأئمّة»(3).

وعن محمّد بن الحسن الصفار، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إن أعمال العباد تعرض على رسول الله(صلى الله عليه وآله) كلَّ صباح: أبرارها وفجّارها، فاحذروا، فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(4).

وقد مضى في فصل الورع والتقوى حديث جابر عن الباقر(عليه السلام): «يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيُّع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه...»(5).

ويشهد لما قلناه: من أنَّ تحويل الإيمان إلى الحبِّ إنَّما يكون لإحكام عُراه وللابتعاد عن المعاصي، لا لأجل الالتهاء بحبِّ أهل البيت(عليهم السلام) والاكتفاء به والتورط في المعاصي بأمل الشفاعة، أنَّ الحبَّ المذكور في الآيات والروايات


(1) اُصول الكافي 1 / 219.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 105.

(3) اُصول الكافي 1 / 219.

(4) البحار 23 / 340.

(5) اُصول الكافي 2 / 74.

439

جُعِلَ بشكل شامل: لله، وللرسول، ولأهل البيت، وللمؤمنين، وللأعمال الصالحة وترك الأعمال الفاسدة، فبغض الأعمال الفاسدة وحبّ الأعمال الصالحة جزء من الإيمان، وذلك لا يكون إلاّ مع فعل الصالح وترك الفاسد.

فمن نصوص حبِّ الله قوله تعالى: ﴿... وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلّهِ ...﴾(1).

ومن نصوص حبِّ الله والرسول والجهاد الذي هو من الأعمال الصالحة آية: ﴿... أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ ...﴾(2).

ومن نصوص حبِّ أهل البيت حديث: «...والله لو أحبّنا حجر حشره الله معنا...»(3).

ومن نصوص حبِّ المؤمنين قوله تعالى: ﴿... يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ...﴾(4).

ومن نصوص حبِّ الطاعة وكره المعصية قوله(عليه السلام): «وهل الإيمان إلاّ الحبُّ والبغض، ثُمّ تلا هذه الآية: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ...﴾»(5).

ويشهد لما قلناه: من أنّ الإيمان غير الصادق ـ أي: الذي لا يطابقه عمل الشخص ـ فيه خطر انتزاعه من الإنسان قبل الموت، ما روي عن المفضَّل الجعفي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «انّ الحسرة والندامة والويل كلَّه لمن لم ينتفع بما أبصر، ومن لم يدر الأمر الذي هو عليه مقيم أنفع هو له أم ضر. قال: قلت فبما يعرف الناجي من هؤلاء ؟ قال: من كان فعله لقوله موافقاً، فأثبت له الشهادة بالنجاة، ومن


(1) السورة 2، البقرة، الآية: 165.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 24.

(3) البحار 27 / 95.

(4) السورة 59، الحشر، الآية: 9.

(5) اُصول الكافي 2 / 125، والآية: 7 في السورة 49، الحجرات.

440

لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنّما ذلك مستودع»(1).

ولك أن تُرجع القسم الثالث من الصدق وهو: الصدق في الإيمان إلى القسم الثاني، وهو: الوفاء بالعهد كما قال الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(2).

فإنَّ الله قد أخذ منَّا التعهد بالاُصول وبالفروع. ويدلُّ على أخذ التعهد منّا بالاُصول قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾(3) ويدلُّ على أخذ التعهد منّا بالأُصول والفروع قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾(4).


(1) الكافي 2 / 419.

(2) السورة 33، الأحزاب، الآيتان: 23 ـ 24.

(3) السورة 7، الاعراف، الآيتان: 172 ـ 173.

(4) السورة 36، يس، الآيات: 60 ـ 62.

441

 

 

 

 

الفصل السابع والعشرون

ا لإ يثـــا ر

 

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالاِْيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْء فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(2).

3 ـ ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾(3).

الإيثار تقديم غيرك من المؤمنين على نفسك في المال أو الراحة أو ما إلى ذلك من نعم الله. وقد أُكّد عليه في الآيات والروايات. وهو من أعظم الصفات الحسنة. وهو على مستويين:


(1) السورة 59، الحشر، الآية: 9 وذيلها كرّر في السورة 64، التغابن، الآية: 16.

(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 92.

(3) السورة 76، الإنسان، الآيات: 7 ـ 10.

442

الأوّل: الإيثار عن كره، بمعنى: أنَّ الشخص يحسّ بكلفة ومؤونة حينما يؤثر أخاه المؤمن على نفسه؛ وذلك نتيجةً لحبّ نفسه وحبّه لمصالحها، وصعوبة رفع اليد عنها في سبيل غيره؛ باعتبار ما لدى الإنسان من الشحّ الذي يكاد أن لا ينفكّ من الإنسان، كما يشهد له قوله في الآية الماضية: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ...﴾ فكأنَّ الشحّ ثابت مع كلِّ نفس، إلاّ أنَّه قد يقي الله أحداً من شرّ شحّه، ويشهد لذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى: ﴿... وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ...﴾(1) وهذا الإيثار نوع جهاد مع النفس وثوابه عظيم عند الله.

والثاني: الإيثار عن طوع ورضا ورغبة نفسية. وهذا أعظم وأثوب من الأوَّل. ولا يكون إلاّ بعد تربية النفس تربية كبيرة، فيصل الإنسان نتيجة لصفاء النفس الذي حصل عليه بالتربية إلى مستوى فقدان الشحّ، فيؤثر غيره على نفسه طواعية.

أمّا الآيات المباركات التي أوردناها في صدر الحديث:

فالآية الأُولى وهي قوله: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾قيل: إنَّها نزلت يوم انتصار المسلمين على يهود بني النضير، ووصول غنائمهم إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان المهاجرون أحوج إلى تلك الغنيمة من الأنصار؛ لأنَّهم جاؤوا بالهجرة عن وطنهم متأ خِّرين، فكانوا أبناء سبيل، في حين أنَّ الأنصار كانوا يعيشون في بيوتهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)للأنصار: «إن شئتم قسَّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة، فقال الأنصار: بل نقسِّم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها» فنزلت: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾(2).


(1) السورة 4، النساء، الآية: 128.

(2) مجمع البيان: مج 5 / 9 / 430.

443

وقيل: نزلت في سبعة عطشوا في يوم أُحد، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم: ناول فلاناً حتّى طيف على سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنى الله ـ سبحانه ـ عليهم بهذه الآية(1).

وقيل: «أُهدي لبعض الصحابة رأسٌ مشويٌّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جار له، فتداولته تسعة أنفس، ثُمَّ عاد إلى الأوّل، فنزلت: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾»(2).

والتفسير الأوَّل هو المناسب لسياق الآية المباركة، ويمكن أن تكون باقي الموارد من قبيل التطبيق، أو تكراراً في التنزيل.

وقد روى الشيخ في أماليه بسند له عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى بيوت أزواجه، فقلن: ما عندنا إلاّ الماء، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مَنْ لهذا الرجل الليلة ؟ فقال عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): أنا له يا رسول الله، فأتى فاطمة(عليها السلام)، فقال لها: ما عندك يا ابنة رسول الله ؟ فقالت: ما عندنا إلاّ قوت الصبية، لكنَّا نؤثر ضيفنا، فقال عليّ(عليه السلام): يا ابنة محمّد نوّمي الصبية، وأطفي المصباح ـ كي يعتقد الضيف أنّ صاحب البيت يأكل معه ـ فلمَّا أصبح عليّ(عليه السلام) غدا على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾»(3).

وعن الصادق(عليه السلام): «بينا عليّ(عليه السلام) عند فاطمة (عليها السلام) إذ قالت له: يا عليّ اذهب إلى أبي، فابغنا منه شيئاً، فقال: نعم، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأعطاه ديناراً، وقال: يا عليّ


(1) المصدر السابق.

(2) مجمع البيان: مج 5 / 9 / 430.

(3) تفسير البرهان 4 / 317.