359

 

 

 

 

الفصل الخامس عشر

ا لــر جــــــا ء

 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(1).

ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم(2) بسند صحيح عن عبدالرحمن بن الحجاج، عن الصادق(عليه السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «... إن آخر عبد يؤمر به إلى النار فإذا أُمر به التفت، فيقول الجبّار: ردّوه، فيردّونه، فيقول له: لم التفتّ فيقول: يا ربّي لم يكن ظنّي بك هذا، فيقول: وما كان ظنّك بيّ ؟ فيقول: يا ربّ كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي، وتسكنني جنّتك، قال: فيقول الجبّار: يا ملائكتي لا وعزّتي وجلالي وآلائي وعلويّ وارتفاع مكاني ما ظنّ بي عبدي ساعة من خير قط، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه، فأدخلوه الجنّة، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس من عبد يظنّ بالله خيراً إلاّ كان عند ظنّه به، وذلك قوله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾»(3).

قال بعض العرفاء المنحرفين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام): «الرجاء أضعف منازل


(1) السورة 39، الزمر، الآية: 53.

(2) تفسير القمّي 2 / 264 ـ 265.

(3) السورة 41، فصّلت، الآية: 23.

360

المريدين؛ لأنّه معارضة من وجه، واعتراض من وجه، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة، إلاّ ما فيه من فائدة واحدة، ولها نَطَقَ باسمه التنزيل والسُنّة، ودخل في مسالك المحققين، وتلك الفائدة هي.: كونه يفثأ حرارة الخوف حتّى لا تعدو إلى الأياس»(1).

ويقصد بذلك: أنّ الرجاء يكون من ناحية معارضةً للربّ تعالى؛ لأنّ العبد يريد من الله الجنّة مثلاً، في حين أنّ المولى المالك لرقّه قد يريد له النار، فعارض إرادة الله بإرادة أُخرى في مقابلها. ويكون من ناحية اُخرى اعتراضاً على الله؛ لأنّه يقول له: يا ربّ أنت غنيّ عن عذاب عبادك، فعليك أن تعفو عنهم، فلماذا تعذّب. وهذا كلُّه يعني: وقوع العبد في الرعونة، أي: الوقوف مع حظوظ النفس لا مع ما يريده المولى تعالى، إلاّ أنّه مع ذلك أصبح الرجاء مطلوباً في الكتاب والسنّة، ومسلكاً من مسالك المحقّقين لما فيه من مداواة ما قد ينجم من الخوف لولم يقابل بالرجاء، وهو الانتهاء إلى اليأس.

أقول: لا أعرف كيف فرض العيبين في صدر كلامه في الرجاء، في حين أنّ الرجاء لا يعني إرادة رحمة الرب ولو على خلاف إرادة الرب، أي: فيما لو كانت إرادته هي الغضب، بل يعني: الأمل في أن تكون إرادة الربّ هي الرحمة، وذلك على مستوى الأمل لا على مستوى الاعتراض. فالعبد المؤمن مسلّم للعذاب لو أراد الله عذابه، ولكن أحد أسباب رجائه للرحمة وعدم العذاب علمه بأنّ عذابه لن يزيد في مُلك الله تعالى. وهذا غير جعل ذلك إشكالاً واعتراضاً على الله.

ولنعم التعبير الوارد عن إمامنا موسى بن جعفر سلام الله عليه في محراب عبادته: «... إن تعذّبني فإنّي لذلك أهل، وهو يا ربّ منك عدل، وإن تعف عنّي


(1) منازل السائرين قسم الأبواب، باب الرجاء طبق نسخة شرح منازل السائرين للكاشاني: 57 ـ 58.

361

فقديماً شملني عفوك...» إلى أن يقول(عليه السلام): «وليس عذابي ممّا يزيد في ملكك مثقال ذرّة، ولو أنّ عذابي ممّا يزيد في مُلكك لسألتك الصبر عليه، وأحببت أن يكون ذلك لك، ولكن سلطانك اللَّهم أعظم، وملكك أدوم من أن تزيد فيه طاعة المطيعين، أو تنقص منه معصية المذنبين فارحمني يا أرحم الراحمين، وتجاوز عنّي يا ذا الجلال والإكرام، وتب عليّ إنّك أنت التّواب الرحيم»(1).

هذه هي لهجة إمامنا موسى بن جعفر(عليه السلام) في بيان الرجاء، وأين هي عن لهجة الاعتراض ؟ ! لكن أ نّى لمن انحرف عن خطّ أهل البيت أن يدرك حقيقة العرفان ؟ ! ! ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّور﴾.

وكذلك ممّا يبعث بالرجاء علمنا بأنّ في عذابنا سرور عدوّ الله، وفي إدخالنا الجنّة سرور نبيّ الله، كما ورد عن سيّد العارفين وزين العابدين إمامنا السجّاد(عليه السلام)قوله: «... إلهي إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوّك، وإن أدخلتني الجنّة ففي ذلك سرور نبيّك، وأنا والله أعلم أنَّ سرور نبيّك أحبّ إليك من سرور عدوّك...»(2).

على أنّ المقصود بالرجاء هو: الرجاء الباعث إلى العمل لما يرجوه الراجي (وهذا ليس معارضة لإرادة الربّ، ولا اعتراضاً عليه) لا الرجاء الباعث إلى ترك المبالاة وعدم السعي فيما يرجوه. فعن ابن أبي نجران، عن الصادق(عليه السلام)قال: «قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأمانيّ، كذبوا ليسوا براجين، من رجا


(1) راجع حاشية مفاتيح الجنان طبعة طاهر خوشنويس: 592 ـ 594.

(2) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.

362

شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه»(1).

فالعبد إذا بثّ بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، ورجى الربّ تعالى، كان هذا رجاءً حقيقياً محموداً. وكذلك لو كان منهمكاً في المعاصي، ثُمّ أقبل على التوبة راجياً قبولها من الربّ، كان ذلك رجاءً حقيقياً محموداً. أمّا من ينهمك في المعاصي بحجة الرجاء فهو مشمول لقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ...﴾(2).

وإن شئت مثلاً عرفياً لما قلناه مثّلنا لك بمن يملك تربة صالحة للزرع ولاستثمارها في شتّى الأثمار والغلاّت والورود والنّعم، فزرع فيها، وسقاها، وحافظ على نظافتها، وعلى إيصال نورالشمس إليها وما إلى ذلك، وقال: إنّني أرجو هذه التربة الصالحة أن تنفعني كذا وكذا من النّعم الإلهيّة، فأنت ترى أنّ هذا رجاء معقول ومقبول. أمّا لو ضيّع التربة، وسيّبها، ولم يعتن بها، وذلك بترك الزرع، أو بترك السقي، أو بسائر أنحاء التسييب والإضاعة ثمّ قال: أنا أرجو من هذه التربة الصالحة أن تنفعني، لرأيت أن هذا ليس رجاءً، بل هو سفهٌ وخبال. والآية المباركة التي بدأنا بها الحديث يبدو أنّها ظاهرة في نفس المعنى، وأنّ قوله: ﴿... لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ لا يقصد الوعد بالغفران، بلا سبب صالح من قبل العبد، بل يقصد الغفران بسبب التوبة (ولذا لم يستثن حتّى الشرك). والشاهد على أنّ المقصود هو الغفران بالتوبة: الآيات اللاحقة لها، وهي قوله: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(3).


(1) الوسائل 15 / 16، الباب 13 من جهاد النفس، الحديث 2. وقد مضى هذا الحديث في فصل الخوف.

(2) السورة 7، الأعراف، الآية: 169.

(3) السورة 39، الزمر، الآية: 54.

363

وما ذكرناه من أنّ الراجي إنّما هو من يعمل لما يرجوه واضح في رجاء الجنّة والمغفرة، وأوضح في رجاء رضا الربّ، وأوضح منهما في رجاء لقاء الرب بالمعنى الوارد في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(1) وفي مقابل المعنى الوارد في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾(2).

وأختم الحديث بهذه الأبيات الطريفة:

وما في الخلق أشقى من محبٍّ
وإنْ وجدَ الهوى حلوَ المذاقِ
تراه باكياً في كلِّ حين
مخافةَ فرقة أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم
ويبكي إن دنوْا خوفَ الفراقِ(۳)

وأمّا ما ذكره من أنّ الرجاء يمنع من المفسدة التي قد تترتب على الخوف فهو صحيح، كما مضى منّا بيانه في فصل الخوف.

 


(1) السورة 75، القيامة، الآيتان: 22 ـ 23.

(2) السورة 83، المطففين، الآية: 15.

(3) شرح منازل السائرين للكاشاني: 59.

365

 

 

 

 

الفصل السادس عشر

ا لحــــر مــــة

 

قيل: لمّا انفتحت أبواب الغيب على العبد بإشراق نور الحقِّ على القلب وانعكاسه إلى النفس على أثر العمل بنتائج أبحاث البدايات، ثُمّ أبحاث الأبواب، اطّلع القلب على الحضرة الإلهيّة بانفتاح عين البصيرة، وتمرّنت النفس بالطاعة، فكأنّ القلب يأخذ في المعاملة مع الحقِّ لقوّة اليقين وظهور آثار الأُنس بطلوع أنوار القدس(1) فمن هنا إلى الفصل الحادي والعشرين قد تسمّى بقسم المعاملات ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(2).

قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(3).

وقال عزّوجلّ: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ...﴾(4).

وقال عزّ اسمه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ


(1) راجع شرح منازل السائرين للكاشاني: 61.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 111.

(3) السورة 22، الحج، الآية: 32.

(4) السورة 22، الحج، الآية: 30.

366

اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(2).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَات طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الاَْرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾(3).

قد يلتزم العبد بترك المخالفة لله في ساعات عدم توافر المغريات الملحّة على المخالفة، كإنسان مستغن عن الزنا بما لديه من زوجة أو زوجات، فيترك الزنا، أو مستغن عن السرقة بما لديه من الرفاه الاقتصادي، فلا يقترب من السرقة، أو ما شابه ذلك. وهذا له شيء من الفضيلة، فقد توقّى ـ على أيّة حال ـ النار، بل حصل ـ أيضاً ـ على شيء من الثواب، لكن هذا ليس هو الذي قدر الله حقَّ قدره، أو عظّم شعائر الله، أو عظّم حرمات الله. فالعبد ينبغي له أن يكون تعامله مع مولاه تعامل المعظّم والمقدّر لمولاه حقّ قدره. وهذا له درجتان:

الأُولى: تعظيمه لثواب الله وعقابه بحيث حتّى لو اشتدّت المغريات إلى الشهوات النفسانيّة والملذّات المحرّمة يتركها طمعاً بالثواب وخوفاً من العقاب على أساس أنّهم والجنّة كمن رآها فهم فيها منعّمون، وأنّهم والنار كمن رآها فهم فيها معذّبون. فمن تكون هذه حالته فمن الطبيعي أنّ كثرة المغريات لا تفعل في


(1) السورة 22، الحج، الآيتان: 73 ـ 74.

(2) السورة 39، الزمر، الآية: 67.

(3) السورة 71، نوح، الآيات: 13 ـ 20.

367

نفسه شيئاً.

والثانية: أن يكون معظّماً لرضا الله سبحانه وتعالى ومتهيّباً من سخطه، فالمهمّ عنده ليس الثواب والعقاب المادّيين، بل رضا الله سبحانه وسخطه. ومنطق أصحاب هذا المقام هو: انّنا لو عملنا لأجل الثواب ففي الحقيقة قد عملنا لأنفسنا لا لله سبحانه وتعالى؛ لأنّنا لم نعمل إلاّ بروح التجارة والأُجرة، ولو عملنا خوفاً من العقاب فقد عملنا ـ أيضاً ـ لأنفسنا، فالعمل حقّاً لله لا يكون إلاّ بالعمل لمرضاته بغضّ النظر عن الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب. وعليه، فتعظيم شعائر الله، أو تقدير الله حقَّ قدره، أو تعظيم حدوده لا يكون إلاّ بطلب رضاه والتجنّب عن سخطه بما هو رضاه وسخطه، لا بما هو مقدّمة للثواب والعقاب.

ومطلوبية رضا الله مستقلاًّ لا تعني سلب مطلوبية الجنّة، أو نفي الخوف من العقاب (حتّى يقال: إنّ حبّ اللذائذ النفسانية أو بغض الآلام النفسية من لوازم ذات الإنسان، ولا ينفكّ عن الإنسان ما لم يبدّل إلى مخلوق آخر) وإنّما تعني: أنّه حتّى لولا الثواب والعقاب لكان يكفي في التزام هذا العبد الخالص في العبودية كون المولى سبحانه وتعالى أهلاً للعبودية، أو قلْ: حبّه لله تعالى.

وممّا روي عن مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) قوله: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التّجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»(1).

وكذلك روي عنه أنّه(عليه السلام)قال: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك...»(2).

وحكي عن الأصمعي: أنّه رأى ببعض السواحل جماعة من الفقراء يبكون،


(1) نهج البلاغة: 702، رقم الحكمة: 237.

(2) البحار 70 / 186.

368

وفيهم شاب يضحك، فسأله عن حاله وحالهم فأنشأ يقول:

إنّهم عبدوك(1) من خوفِ نار
ويروْنَ الثوابَ فضلاً جزيلاً
أو لأن يسكنوا الجنان فيُسقوا
من عيون رياضُها سلسبيلاً
ليس لي في الجنان يا قوم رأيٌ
أنا لا أبتغي لحبّي بديلا

قلت: يا فتى ما هذا التجرّئ على حبيبك، وما حيلتك إن طردك ؟ ! فأنشأ:

أنا إن لم أجدْ من الحبِّ وصلا
رمت في النار منزلاً ومقيلا
ثُمّ أزعجت أهلَها بندائي
بكرةً في حميمها وأصيلا
معشرَ المشركين نوحوا عليَّ
أنا عبدٌ أُحبُّ مولىً جليلا
لم أكن في الذي ادّعيت محقّاً
فجزائي به العذاب طويلا(2)

أقول: لاحظ كيف تورّط صاحب هذا الكلام العرفاني في الخلط بين فرض الحبّ وفرض كذبه في الحبّ، وقايس بين هذا العرفان المنحرف عن خط أهل البيت والعرفان الكامن في الكلمة المنقولة عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «... لئن أدخلتني النار لأُخبرنّ أهل النار بحبّي لك ...»(3) وأيضاً المرويّ في نفس الدعاء: «... إلهي لو قرنتني بالأصفاد، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحلت بيني وبين الأبرار، ما قطعت رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي. أنا لا أنسى أياديك عندي، وسترك عليّ في دار الدنيا...»(4).

أمّا المثل الذي ورد في القرآن لتوضيح ضرورة أن نقدّر الله حقّ قدره، فهو مثل يوضّح تفاهة قدرة ما سوى الله، وانحصار القدرة الحقيقيّة في الله تعالى. وهو ما


(1) مقتضى وزن الشعر أن يقول: (عابدوك).

(2) راجع شرح منازل السائرين للكاشاني: 67 ـ 68.

(3) و (4) دعاء أبي حمزة.

369

مضى في مستهلّ الحديث من الآيتين (73 ـ 74) من سورة الحج. ومورد نزول الآية وإن كان ـ في الأكثر ـ مشركي مكّة والذين ورد أنّهم كانوا يطْلون أصنامهم بالمسك والعنبر أو الزعفران والعسل، وكان الذباب يقع عليها ويسلب منها هذه الأُمور، ولم يكونوا يقدرون على استنقاذ ما أخذوه، لكن قد يستظهر من الآية إرادة الإطلاق لكلِّ معبود صنميّ أو بشريّ أو غير ذلك، بل لكلِّ جبّار يطاع أو قدرة يعتمد عليها منفصلاً عن الله تعالى؛ وذلك بقرينة أنّ الخطاب في صدر الآية لم يوجّه إلى المشركين خاصّة، بل إلى جميع الناس؛ إذ قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ وفي ذيل الآية أثبت القدرة والعزّة لله في مقابل الضعف الذي أوضحه في صدر الآية لغير الله.

وكذلك في الآية الأُخرى وهي قوله: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ جاء تعليل ضرورة رجاء الوقار لله تعالى بالإشارة إلى ما يبدي قدرته الواسعة؛ إذ قال ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ والمخاطبون المباشرون في هذه الآية أيضاً ـ في أغلب الظنّ ـ هم مشركو قوم نوح، ولكن لا يبعد أن يكون مفاد الآية مطلقاً شاملاً لجميع الناس، فالمشركون يطالَبون بأن يرجوا لله وقاراً ولو بمعنى ترك الشرك والإيمان بالله وبالتوحيد، والموحّدون يطالَبون بأن يرجوا لله وقاراً بمعنى: أن يقدّروا حقّ قدره، أو يعظّموا حرماته وشعائره بالمستويين اللذين مضت الإشارة إليهما.

والمقصود بقوله: ﴿خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ ـ في أغلب الظنّ ـ أحد معنيين أو كلاهما:

الأوّل: خلق الناس مختلفين في الأطوار: من اللهجات المختلفة، أو الألوان المختلفة، أو الشُعور المختلف، أو العواطف المختلفة، أو الهيئات المختلفة، أو ما إلى ذلك من الاختلاف في الأطوار. وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَمِنْ

370

آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَات لِّلْعَالِمِينَ﴾(1).

والثاني: خلق كلّ إنسان في أطوار متبادلة خلقاً بعد خلق. وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾(2).

وكذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(3).

ثمّ إنّ المستوى الثاني من تعظيم شعائر الله، أو حرماته، أو حدوده، أو تقدير الله حقَّ قدره، أو رجاء الوقار لله (وهو ما أشرنا إليه من كون المطلوب والمقصود للعبد رضا الله تعالى وبغضّ النظر عن جنّة أو نار) ينقسم ـ أيضاً ـ في ذاته إلى مستويات ودرجات إلى أن يصل إلى المحو الكامل في ذات الله. ونموذجه ما هو مرويّ عن إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام) من أنّه كان في صلاته يستغرق في الله إلى حدّ استخرج السهم من رجله في حال الصلاة فلم يلتفت(4).

ولا تستغرب من ذلك، فلئن كان انمحاء صويحبات يوسف في جمال يوسف الذي ليس إلاّ قطرة من بحر جمال الربّ تعالى يؤدّي إلى أن يقطعن أيديهنّ من


(1) السورة 30، الروم، الآية: 22.

(2) السورة 23، المؤمنون، الآيات: 12 ـ 16.

(3) السورة 40، غافر، الآية: 67.

(4) راجع تفسير «نمونه» 4 / 428، وأنوار المواهب للشيخ النهاوندي: 160 والمحجة البيضاء للفيض الكاشاني 1 / 397 ـ 398.

371

غير التفات، فلماذا نستغرب من انمحاء أولياء الله في ذات الله وفي جماله وجلاله إلى حدّ لا يحسّون بإخراج السهم من الجسد أو غير ذلك. قال الله تعالى:

﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَل مُّبِين * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾(1).


(1) السورة 12، يوسف، الآيات: 30 ـ 32.

373

 

 

 

 

الفصل السابع عشر

ا لإ خـــــلا ص

 

قال عزّ من قائل: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(1).

والمخلِص (بكسر اللام) يعكس انتساب خلوص الفعل إلى العبد، أي: أنّه هو الذي أخلص الفعل من كلّ غاية سوى الله. و (بالفتح) يعكس خلوص نفس الإنسان من كلّ رجاسة ونجاسة. فالأوّل مقدّمة للثاني، والثاني نتيجة الأوّل. والتعبير الثاني ـ أيضاً ـ وارد في عدد من الآيات وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿... كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(2).

وقوله تعالى عن لسان إبليس: ﴿... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(3).

وبما شرحناه تبيّن: أنّه يقرب إلى الذهن الفرق بين التعبير بالمخلِص (بكسر


(1) السورة 39، الزمر، الآيات: 1 ـ 3.

(2) السورة 12، يوسف، الآية: 24.

(3) السورة 15، الحجر، الآيتان: 39 ـ 40، والسورة 38، ص، الآيتان: 82 ـ 83 .

374

اللام) والتعبير به (بفتح اللام) بأنّ الأوّل يصدق على العبد من بدايات سلوكه، والثاني يصدق في النهايات.

والإخلاص مع التضحية في سبيل الله هما سيّدا الأوصاف الفاضلة. وتوضيح ذلك: أنّ وزن كلِّ عمل وقيمته عند الناس إنّما يكون بمقدار نتائجه الخارجيّة، فالخادم الذي يكون أكثر نتاجاً في خدمته خارجاً مثلاً يكون هو المقرّب عند صاحب العمل، والمقاتل الذي يكون أكثر نتاجاً في فتح البلاد يكون هو المقرّب لدى السلطان، وما إلى ذلك، وحتّى بالنسبة للمؤمنين الذين يستأجرون أُناساً للخدمات الإسلاميّة يكون المقرَّب منهم أكثر ـ لدى أُولئك المؤمنين ـ مَن ينتج خارجاً أكثر في خدمته الموكّلة إليه، كخدمة التبليغ مثلاً للإسلام أو أيّ خدمة أُخرى، ولكنَّ الوزن والقيمة للأعمال لدى الربّ سبحانه وتعالى ليس بكثرة النتاج الخارجي، بل بمدى الخلوص الباطني للعبد من ناحية، ومدى تضحية العبد في عمله هذا من ناحية اُخرى وإن قلّت النتائج الخارجيّة، فربّ جنديٍّ ضعيف قليل الإنتاج تحت راية زعيم حرب فاتح عظيم يكون خيراً عندالله من ذاك الزعيم الفاتح؛ لكونه أكثر إخلاصاً، وأكثر تضحية منه. ومن هنا فُسّر قوله تعالى: ﴿... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...﴾(1) من قبل الإمام الصادق (عليه السلام)في حديث بقوله: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً. وإنّما الإصابة خشية الله، والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّوجلّ...»(2).

وفُسِّر في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: «أتمّكم عقلاً، وأشدّكم لله


(1) السورة 11، هود، الآية: 7، والسورة 67، الملك، الآية: 2.

(2) تفسير البرهان 2 / 207، والكافي 2 / 16.

375

خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلّكم تطوّعاً»(1).

وبكلمة أُخرى: إنّ الإخلاص هو روح الأعمال جميعاً؛ لأنّ الله هو الكمال المطلق الذي مَنْ أراده وجده، ولم يتحوّل مقصوده إلى السراب، وذلك بخلاف مَنْ أراد غير الله، فإنّ أيَّ هدف آخر غير الله ناقصٌ، وبتكامل العبد يتّضح له نقصه، أو يصبح لدى الوصول إليه سراباً، أو يلتفت لدى نزع الروح أو بعد الموت إلى كونه سراباً.

وبكلمة ثالثة: إنّ الإخلاص هو سيّد الصفات الفاضلة؛ لأنّه يدعو إلى باقي الصفات؛ لأنّ الذي يخلص لله يريد ما أراده الله، والله قد أراد من عبده الصفات الفاضلة.

وأقلَّ درجات الإخلاص اللازم أن تكون عبادته خالصة لله بالمعنى الفقهي من الخلوص الذي لا ينافي كون الهدف الأخير الداعي له إلى هدف امتثال أمر الله عبارةً عن الوصول إلى الجنّة أو الفرار من النار، أو أيَّ هدف آخر دنيوي أو أُخروي، وأن يترك العبد المناهي على إلاطلاق.

وأقوى درجاته أن يكون إخلاصه في كلِّ شيء، لا في خصوص العبادات بالمعنى المصطلح الفقهي، وأن يكون إخلاصه بمعنى: أن يكون هدفه محضاً هو الله تعالى ورضوانه، لا جنته أو الهرب من ناره، وإن كانت تلك أهدافاً جانبية وحاصلة ضمناً بلطف الله وكرمه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاءَ لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ


(1) تفسير «نمونه» 44 / 317.

376

لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَ إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ...﴾(1).

وفي تفسير هذه الآيات اتّجاهان(2) بيانهما ـ بتكميل أو تنقيح منّي ـ ما يلي:

1 ـ أن يكون قوله تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ خطاباً للذين ذكروا فيما قبل هذه الآية من أصحاب جهنّم، فقوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناء منقطع يشمل جميع أهل الجنّة، وعندئذ يناسب أن يكون المقصود بالرزق المعلوم في قوله: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾: إجمالاً عن التفصيل الذي جاء بعد ذلك في قوله: ﴿فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ...﴾ إلى آخر الآيات التي تبيّن نعماً مادّيّةً مزيّنةً بنعم معنويّة مفهومة لعامّة الناس وذلك من قبيل كونهم مكرمين أو غير ذلك. فإذن كأنّ الملحوظ في ذلك أدنى درجات الجنّة؛ لأنّه الذي يتصوّر ثبوته لتمام أهل الجنّة.

2 ـ أن يكون قوله تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ خطاباً لتمام الناس من المؤمنين والمجرمين، فقوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناء متّصل. وقد رجّحنا فيما سبق أن يقصد بالمخلَصين (بالفتح): الذين هم في نهايات مستويات الإيمان، وهم الذين أخلصوا أنفسهم لله، أو أخلصهم الله ـ تعالى ـ لنفسه من كلّ شائبة أو درَن. فكأنّ الآية تقول ـ والله العالم ـ: إنّ النعم المادّيّة والمزيّنة بنعم معنوية قابلة للتصوّر ولو مختصراً لعامّة الناس إنّما تعتبر جزاءً للأعمال الحسنة أو تجسّماً لها، وكذلك العذاب يعتبر جزاءً للأعمال السيّئة أو تجسّماً لها (على


(1) السورة 37، الصافات، الآيات: 39 ـ 62.

(2) راجع تفسير «نمونه» 19 / 51 مع ما قبله وما بعده.

377

المسلكين المعروفين من مسلك تجسّم الأعمال أو عدمه). وأمّا المخلَصون فلا يكفي بشأنهم جزاء أعمالهم، وليسوا هم من الذين عملوا للجزاء، بل عملوا لذات الله سبحانه وتعالى، فهم يُعامَلون معاملة تختلف عن معاملة الأجير، فجزاؤهم خارج عن حيطة أعمالهم، وهو فضل خاصّ من الله لهم، وكأنّما يعاملهم الله ابتداءً لذواتهم الذائبة في الله لا لأعمالهم، فجزاؤهم الأوفى يكون جزاءً معنوياً محضاً: من لقاء الله، والالتذاذ بجمال الله بالمعنى الممكن، وغير ذلك ممّا لا يمكن لعامة الناس تصوّره، فعندئذ يناسب أن يقال: إنّ قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾ليس إجمالاً للتفصيل الآتي في تتمّة الآيات، بل إشارة إجماليّة إلى تلك النعم المعنوية التي لا يمكن توضيحها لمن لم يُرزَقها بعدُ، ثُمّ جاءت تتمة الآيات لتوضّح أنّ هؤلاء المخلَصين ـ أيضاً ـ ليسوا محرومين من تلك النعم المادّية، بل هي لهم ـ أيضاً ـ كما للآخرين، ويزيدون على الآخرين بتلك النعم المعنوية التي هي فوق تصوراتنا في هذه الدنيا، وذلك لأنّ المخلَصين هم ـ على أيّ حال ـ بشر، والبشرُ بذاته يملك الجسد الذي هو أمر مادّي، كما يملك الروح التي تعالت إلى مستوى الخلوص لله، فكما يُكرَم بروحه العالية الراقية مرقاة الخلوص كذلك يكرم بالإكرامات المادية المناسبة لجانبه المادي، وهو جسده الذي هو مركوب لروحه، تماماً من قبيل ما لو دخل شخص عزيز راكباً فرسه على ملك كريم، فذلك الملك يكرم الشخص في غرفته الخاصة بما يناسب عزّته ومقامه، ويكرم مركوبه ـ أيضاً ـ وهو الفرس في الإصطبل الخاص به بالعلف المناسب له.

والقرآن الكريم قد تكرّرت منه التعابير الإجماليّة عن نعم أُخروية غامضة إلى صفّ تعابيره التفصيلية المفهومة، ويحتمل أن تكون تلك التعابير المجملة جميعاً إشارة إلى ما ذكرناه من النعم المعنوية التي هي فوق تصوّراتنا، والتي لم يكن يمكن شرحها وتوضيحها لنا، وذلك من قبيل قوله تعالى:

378

1 ـ ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن ...﴾(1).

2 ـ ﴿يَا أَ يَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(2).

يا ترى ما هو المقصود بقوله تعالى: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ هل المقصود الدخول في محشر العباد الذي يضمّ جميع الناس دخولاً مكانياً وجسدياً ضمن سائر البشر المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾(3) أو بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ...﴾ أوَليس هذا الدخول أمراً واقعاً بوضوح وغير مخصوص بالنفس المطمئنة ؟ ! فالذي يقرب للذهن أنّ المقصود هو: الدخول في عباد الله المخلَصين بمعنى الانحساب منهم ووقوعه في صفوفهم.

ثُمّ يا تُرى ما معنى ﴿ادْخُلِي جَنَّتِي﴾ أوليست الجنان كلُّها جنان الله سبحانه وتعالى ؟ فأيّ جنّة هذه التي أضافها الله تعالى إلى نفسه ؟ ! ! أفلا تحدس معي أنّ هذه جنّة الفوز بلقاء الله بالمعنى المعقول من لقاء الله وجنّة الرضوان ورضوان من الله أكبر، وأنّها إشارة إلى تلك النِّعم المعنوية التي هي فوق تصوّراتنا، والتي يكون الالتذاذ بها فوق جميع الالتذاذات على الإطلاق.

3 ـ ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾(4) فإذا كان لهم ما يشاؤون (ومن الطبيعي أن يشاؤوا كلَّ ما رأت عين أو سمعت أُذن أو خطر على قلب بشر) فما معنى قوله تعالى: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ أليس هذا إشارة اجماليّة إلى ما لم يكن يمكن


(1) السورة 32، السجدة، الآية: 17.

(2) السورة 89، الفجر، الآيات: 27 ـ 30.

(3) السورة 18، الكهف، الآية: 47.

(4) السورة 50، ق، الآية: 35.

379

شرحه وتفصيله أو بيانه وتوضيحه ؟ !

أمّا ما أشرنا إليه من أنّ الآيات المباركات ذكرت نعماً مادية مزينة بنعم معنوية يدركها أهل الدنيا ولو في صورة مصغّرة، فقد قصدنا بتلك النّعم المعنوية ما يلي:

1 ـ هم مكرَمون، ففرق بين أن يُنعَم على أحد بالفواكه والمأكولات الشهية والمشروبات اللذيذة من دون حالة الاحترام والإجلال والإكبار، وأن يُنعم على أحد بتلك النّعم مقترنةً بتلك الحالة، ولا يقاس الالتذاذ في الفرض الثاني به في الفرض الأوّل.

2 ـ الجلسة الإخوانية على سرر متقابلين، ولا يخفى على أحد أنّ التفكّه الإخواني في مجلس من هذا النمط التذاذه أشدّ من أصل الالتذاذ بالماديات الموجودة في المجلس.

3 ـ اطّلاعهم على أهل الجحيم والعذاب الموجود فيه، فالله يعلم ما يتداخلهم من السرور نتيجة المقايسة والتقابل بين ما هم فيه من النّعم العظيمة التي لا تتناهى، وعذاب الكفّار الذي لا يتناهى.

ولتوضيح الكلام أكثر ممّا مضى في درجات الإخلاص نقول: إنّه يمكن أن يذكر للإخلاص في العمل درجات:

الدرجة الاُولى: هو الإخلاص بالمعنى الذي يكون فقهياً مصححاً للعبادة، وتوضيح الأمر: أنّه لا شكّ فقهيّاً في اشتراط العبادة بالقربة، ومن هنا يقع الإشكال فيمن يأتي ببعض العبادات لهدف قضاء حاجة دنيوية: من شفاء مرض، أو دفع عدوّ، أو رفع فقر، أو ما إلى ذلك؛ إذ يقال: إنّ الهدف من هذه العبادة لم يكن هو التقرّب إلى الله، بل كان هو قضاء الحاجات، بل إنّ الإشكال يتّسع أكثر من ذلك ليشمل عبادة كلِّ من يعبد الله التماساً لثواب الآخرة أو هرباً من عذاب الله، ولم تكن عبادته عبادة الأحرار الذين يعبدون الله لكونه أهلاً للعبادة، وهذا يعني:

380

بطلان عبادة جميع العبّاد ما عدا النادر من المؤمنين كالمعصومين(عليهم السلام) ومن قارب العصمة.

إلاّ أنّ هذا الإشكال له حلّ على مستوى الفقه، وهو ما يقال من أنّ العبادة إنّما تصدر عن المؤمن غير المرائي امتثالاً لأمر الله أو للتقرب إليه، إلاّ أنّ الذي دعاه إلى هذا التقرب أو إلى هذا الامتثال هو الوصول إلى حاجته الدنيوية أو الأُخروية، فبرغم أنّ الهدف النهائي كان عبارة عن تلك الحاجة إلاّ أنّ تلك الحاجة صارت من قبيل الداعي إلى الداعي، والداعي الثاني الطولي هو داع القربة، وهذا كاف في تصحيح العبادة فقهياً.

الدرجة الثانية: أن يكون هدف العامل هو الله سبحانه وتعالى، إلاّ أنّ له هدفاً جانبياً أيضاً، وهو: قضاء الحاجة أو الثواب الأُخروي أو النجاة من النار. ولا شكَّ أنّ هذه الدرجة خير من الدرجة الأُولى، إلاّ أنّه قد يفترض هذا ـ أيضاً ـ ناقصاً نتيجة عدم تمحضه في ذات الله.

الدرجة الثالثة: أن يكون هدفه ـ أيضاً ـ هو الله سبحانه وتحصيل رضاه، ولكن يسهم مع هذا الهدف في الغاية التذاذه برضوان الله وبالتقرب إليه أو الوصول إليه، لا الثواب أو نفي العقاب أو قضاء الحاجة.

الدرجة الرابعة: أن يكون الهدف محضاً هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ من دون أيّ نظر ولو جانبي: لا إلى حاجة دنيوية، ولا إلى الثواب والعقاب، ولا إلى التذاذه بعبادة الله وتحصيل رضوانه، أو قربه، أو الوصول إليه؛ وذلك لأنّه قد نسي ذاته، وقطع من نفسه جذور حبِّ الذات، فانحصر ما في نفسه في حبِّ الله تعالى.

إلاّ أنّ هناك اتّجاهاً يقول باستحالة انقطاع حبِّ الذات من النفس، إلاّ بتبدّل هوية الإنسان وحقيقته؛ لأنّ حبّ الذات ذاتيٌ للإنسان(1). والنقل شاهد لهذا


(1) راجع فلسفتنا: 35 ـ 36.

381

الرأي الأخير، لأنّ المعصومين(عليهم السلام) على رغم بلوغهم مستوى عبادة الأحرار وكون غايتهم القصوى رضوان الله والتقرب إليه والذوب فيه والوصول إليه وفناءهم في ذات الله تعالى وفي حبّه، نرى أنّ الأدعية الكثيرة الواردة عنهم (عليهم السلام)واضحة في طلب الجنّة وما فيها من النِّعم المادية، وطلب الابتعاد من النار. وحملها جميعاً على التصنّع المحض؛ لغرض تعليمنا نحن الذين لم نصل إلى تلك المستويات، في غاية الصعوبة والإشكال.

وعليه، فمنتهى درجات الإخلاص أو ما قد يُسمّى بالتهذيب ليس هو تهذيب النفس عن شائبة حبّ الثواب أو حبّ الالتذاذ؛ فإنّ هذا الحبّ ذاتي للإنسان، و نقصُ الإنسان المانع عن الوصول الحقيقي إلى الله أي: إلى كنه ذاته ـ أيضاً ـ ذاتيٌّ للممكن، بل منتهى درجات التهذيب أو الإخلاص هو: أن يصل إلى مستوى كفاية حبّ الله مُحرِّكاً له إلى ما أراده الله، أي: إنّه لولا الثواب والعقاب لكان يتحرّك ـ أيضاً ـ نحو ما يريده الله؛ وعلامة ذلك أنّ الإنسان لن يحسّ ـ عندئذ ـ بالفتور والكسل في الطاعة أو بحالة الإكراه عليها؛ لأنّ رضا الله رضاه، وحبّه حبّه، فيفعل ما يفعل بكلِّ طواعية ورغبة لا كرهاً لخوف العقاب أو لتحصيل الثواب. والنقطة المقابلة تماماً لذلك هم المنافقون الذين قال الله ـ تعالى ـ عنهم:

﴿إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء ...﴾(1).

وقال تعالى أيضاً: ﴿... وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾(2) وفيما بين هاتين النقطتين المتقابلتين متوسّطات كثيرة.

وإن شئت نموذجاً للإخلاص الكامل ولما شرحناه: من أنّ الإخلاص الكامل


(1) السورة 4، النساء، الآيتان: 142 ـ 143.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 54.

382

لا يعني عدم الالتفات إلى الثواب والعقاب، فانظر إلى رواية أبي الدرداء، وإليك نصّها: ورد عن عروة بن الزبير قال:

«كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أُخبركم بأقلّ القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة ؟ قالوا: مَنْ ؟ قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه. ثُمّ انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائل ما رأيت، وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا: شهدت عليَّ بن أبي طالب بشويحطات النجَّار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممّن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبعد عليّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ وهو يقول: إلهي كم من موبقة حَلِمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعَظُمَ في الصحف ذنبي، فما أنا بمؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك. فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثُمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى، فكان ممّا به الله ناجاه أن قال: إلهي أُفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثُمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي، ثُمّ قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء، ثُمّ قال: آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى(1)


(1) (بفتح الشين) جمع شُواء بضمّه، وهي: جلدة الرأس، وقيل: الآخر من اليد والرجل وغيرهما. مجمع البحرين 1 / 253.

383

آه من غمرة من ملهبات لظى، قال: ثُمّ أنعم في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر اُوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون مات والله عليّ بن أبي طالب، قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة(عليها السلام): يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قِصّته ؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ثُمّ أتوه بماء، فنضحوه على وجهه فأفاق، فنظر إليّ وأنا أبكي، فقال: ممّ بكاؤك يا أبا الدرداء ؟ فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(1).

نختم حديثنا عن الإخلاص بذكر بعض روايات الباب:

1 ـ عن داود بن سليمان، عن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): الدنيا كلّها جهل إلاّ مواضع العلم، والعلمُ كلّه حجّة إلاّ ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلاّ ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يُختم له»(2).

2 ـ عن دارم، عن الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما أخلص عبد لله ـ عزَّوجلَّ ـ أربعين صباحاً إلاّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(3).


(1) البحار 41 / 11 ـ 12.

(2) المصدر السابق 70 / 242.

(3) المصدر السابق: ص 242 ـ 243.