17

الإيمان بالله تعالى

توصّل الإنسان إلى الإيمان بالله منذ أبعد الأزمان، وعبده وأخلص له، وأحسّ بارتباط عميق به قبل أن يصل إلى أيّ مرحلة من التجريد الفكري الفلسفي، أو الفهم المكتمل لأساليب الاستدلال.

ولم يكن هذا الإيمان وليد تناقض طبقي، أو من صنع مستغِلّين ظالمين تكريساً لاستغلالهم، أو مستغَلّين مظلومين تنفيساً لهم؛ لأنّ هذا الإيمان سبق في تاريخ البشرية أيّ تناقضات من هذا القبيل.

ولم يكن هذا الإيمان وليد مخاوف وشعور بالرعب تجاه كوارث الطبيعة وسلوكها المضادّ، ولو كان الدين وليد خوف وحصيلة رعب لكان أكثر الناس تديّناً على مرّ التاريخ هم أشدّهم خوفاً وأسرعهم هلعاً، مع أنّ الذين حملوا مشعل الدين على مرّ الزمن كانوا من أقوى الناس نفساً وأصلبهم عوداً.

بل إنّ هذا الإيمان يعبّر عن نزعة أصيلة في الإنسان إلى التعلّق بخالقه، ووجدان راسخ يدرك بفطرته علاقة الإنسان بربّه وكونه.

في فترة تالية تفلسف الإنسان، واستخلص من الأشياء التي تحوطه في الكون مفاهيم عامّة، كالوجود والعدم، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة، والتركّب والبساطة، والجزء والكلّ، والتقدّم والتأخّر، والعلّة

18

والمعلول، فاتّجه على الأكثر إلى استخدام هذه المفاهيم وتطبيقها في مجال الاستدلال على نحو يدعم ذلك الإيمان الأصيل بالله سبحانه وتعالى، ويفلسفه ويبرّره بأساليب البحث الفلسفي.

وحينما بدأت التجربة تبرز على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة، وأدرك المفكّرون أنّ تلك المفاهيم العامّة لا تكفي بمفردها في مجال الطبيعة لاكتشاف قوانينها والتعرّف على أسرار الكون، آمنوا بأنّ الحسّ والملاحظة العلميّين هما المنطلق الأساس للبحث عن تلك الأسرار والقوانين.

وكان هذا الاتّجاه الحسّيّ في البحث مفيداً على العموم في تطوير الخبرة البشريّة بالكون وتوسيعها إلى درجة كبيرة.

وقد بدأ هذا الاتّجاه مسيرته بالتأكيد على أنّ الحسّ والتجربة أداتان من الأدوات التي ينبغي للعقل وللمعرفة البشريّة أن تستعملهما في سبيل اكتشاف ما يحيط بالإنسان من أسرار الكون ونظامه الشامل، فبدلا عن أن يجلس مفكّر أغريقي كـ (أرسطو) في غرفته المغلقة الهادئة ويفكّر في نوع العلاقة بين حركة الجسم في الفضاء من مكان إلى مكان والقوّة المحرّكة، فيقرّر أنّ الجسم المتحرّك يسكن فور انتهاء القوّة المحرّكة، بدلا عن ذلك يباشر (غاليلو) تجاربه ويمارس ملاحظاته على الأجسام المتحرّكة ليستنتج علاقةً من نوع آخر تقول: إنّ الجسم إذا تعرّض لقوّة تحرّكه فلن يكفّ عن الحركة حتّى إذا انتهت تلك القوّة إلى أن يتعرّض إلى قوّة توقفه.

وهذا الاتّجاه الحسّيّ يعني تشجيع الباحثين في قضايا الطبيعة وقوانين الظواهر الكونيّة على التوصّل إلى ذلك عن طريق مرحلتين:

اُولاهما: مرحلة الحسّ والتجربة وتجميع معطياتهما.

والاُخرى: مرحلة عقليّة، وهي مرحلة الاستنتاج والتنسيق بين تلك

19

المعطيات للخروج بتفسير عامّ مقبول.

ولم يكن الاتّجاه الحسّي في واقعه العلمي وممارسات العلماء له يعني الاستغناء عن العقل. ولم يستطع أيّ عالم من علماء الطبيعة أن يكتشف سرّاً من أسرار الكون، أو قانوناً من قوانين الطبيعة عن طريق الحسّ والتجربة إلّا بالعقل؛ إذ كان يجمع في المرحلة الاُولى الملاحظات التي تزوّده بها تجاربه وملاحظاته، ثمّ يوازن في المرحلة الثانية بينها بعقله حتّى يصل إلى النتيجة.

ولا نعرف فتحاً علمياً استغنى بالمرحلة الاُولى عن الثانية ولم يمرّ بمرحلتين على هذا النحو، حيث تكون قضايا المرحلة الاُولى اُموراً محسوسةً وقضايا المرحلة الثانية اُموراً مستنتجةً ومستدلّةً يدركها العقل ولا تقع تحت الحسّ المباشر.

ففي قانون الجاذبية مثلا لم يحسّ (نيوتن) بقوة الجذب بين جسمين إحساساً مباشراً، ولم يحسّ بأنّها تتناسب عكسياً مع مربّع البعد بين مركزيهما وطردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وإنّما أحسّ بالحجر وهو يسقط على الأرض إذا هوى، وبالقمر وهو يدور حول الأرض، وبالكواكب وهي تدور حول الشمس، وبدأ يفكّر فيها معاً، واستمرّ في محاولة عامّة لتفسيرها جميعاً مستعيناً بنظريات (غاليلو) في التعجيل المنتظم للأجسام الساقطة على الأرض والمتدحرجة على السطوح المائلة، ومستفيداً من قوانين (كبلر) التي تتحدّث عن حركة الكواكب، والتي يقول في أحدها: إنّ مربّع زمن دوران كلّ كوكب حول الشمس يتناسب مع مكعّب بُعده عنها.

وعلى ضوء كلّ ذلك اكتشف قانون الجاذبية، فافترض قوة جذب بين كلّ كتلتين تتناسب وتتأ ثّر بحجم الكتلة ودرجة البعد.

وكان بالإمكان لهذا الاتّجاه الحسّي والتجريبي في البحث عن نظام الكون

20

أن يقدّم دعماً جديداً وباهراً للإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ بسبب ما يكشفه من ألوان الاتّساق ودلائل الحكمة التي تشير إلى الصانع الحكيم، غير أنّ العلماء الطبيعيّين ـ بوصفهم علماء طبيعة ـ لم يكونوا معنيّين بتجلية هذه القضية التي كانت لا تزال مسألةً فلسفيةً حسب التصنيف السائد لمسائل المعرفة البشرية وقضاياها.

وسرعان ما نشأت على الصعيد الفلسفي وخارج نطاق العلم وما يجري فيه نزعات فلسفية ومنطقية حاولت أن تفلسف أو تمنطق هذا الاتّجاه الحسي، فأعلنت أنّ الوسيلة الوحيدة للمعرفة هو الحسّ، وحيث ينتهي الحسّ تنتهي معرفة الإنسان، فكلّ ما لا يكون محسوساً ولا يمكن تسليط التجربة عليه بشكل وآخر فلا يملك الإنسان وسيلةً لإثباته.

وبهذا استخدم الاتّجاه الحسّي والتجريبي لضرب فكرة الإيمان بالله تعالى، فما دام الله سبحانه ليس كائناً محسوساً بالإمكان رؤيته والإحساس بوجوده فلا سبيل إذن إلى إثباته، ولم يكن هذا الاستخدام على يد العلماء الذين مارسوا الاتّجاه التجريبيّ بنجاح، بل على يد مجموعة من الفلاسفة ذوي النزعات الفلسفية والمنطقية التي فسّرت هذا الاتّجاه الحسّي تفسيراً فلسفياً أو منطقياً خاطئاً.

وقد وقعت هذه النزعات المتطرّفة تدريجاً في تناقض:

فمن الناحية الفلسفية وجدت هذه النزعات نفسها مضطرّةً إلى إنكار الواقع الموضوعي، أي إنكار الكون الذي نعيش فيه جملةً وتفصيلا؛ لأنّنا لا نملك سوى الحسّ، والحسّ إنّما يعرّفنا على الأشياء كما نحسها ونراها لا كما هي، فحين نحسّ بشيء يمكننا أن نؤكّد وجوده في إحساسنا، وأمّا وجوده خارج نطاق وعينا وبصورة مستقلّة وموضوعية ومسبقة على الإحساس فلا سبيل إلى إثباته، فحينما ترى القمر في السماء تستطيع أن تؤكّد فقط رؤيتك للقمر وإحساسك به في

21

هذه اللحظة، وأمّا هل أنّ القمر موجود في السماء حقّاً ؟ وهل كان له وجود قبل أن تفتح عينك وتراه ؟ فهذا ما وجد أصحاب تلك النزعات أنفسهم غير قادرين على تأكيده وإثباته، تماماً كالأحول الذي يرى أشياء لا وجود لها، فهو يؤكّد رؤيته لتلك الأشياء، ولكنّه لا يؤكّد وجود تلك الأشياء في الواقع.

وبهذا قضت النزعة الحسّية الفلسفية في النهاية على الحسّ نفسه كوسيلة للمعرفة، وأصبح هو الحدّ النهائي لها بدلا عن أن يكون وسيلة، وعادت المعرفة الحسّية كلّها مجرّد ظاهرة لا وجود لها بصورة مستقلّة عن وعينا وإدراكنا.

ومن الناحية المنطقية اتّجهت النزعة الحسّية في أحدث تيّار من تيّاراتها إلى الوضعية القائلة بأنّ كلّ جملة لا يمكن التأكّد من صدق مدلولها أو كذبه بالحسّ والتجربة فهي كلام فارغ من المعنى، شأنها شأن حروف هجائية مبعثرة تردّدها على غير هدى. وأمّا الجملة التي يمكن التأكّد من صدق مفادها وكذبه فهي كلام له معنى، فإن أكّد الحسّ تطابق مدلولها مع الواقع فهي جملة صادقة، وإن أكّد العكس فهي كاذبة.

فإن قلت: المطر ينزل من السماء في الشتاء، فهي جملة لها معنى وصادقة في مدلولها.

وإن قلت: المطر ينزل في الصيف، فهي جملة لها معنى وكاذبة في مدلولها.

وإن قلت: إنّ شيئاً لا يمكن أن يُرى أو يحسّ به ينزل في ليلة القدر، فهذه جملة ليس لها معنىً فضلا عن أن تكون صادقةً أو كاذبةً؛ إذ لا يمكن التأكّد من صدق المدلول وكذبه بالحسّ والتجربة، فهي تماماً كما نقول: ديز ينزل في ليلة القدر(1)، فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك لا معنى لتلك.



(1) ديز: كلمة مهملة لا معنى لها، تقال عادةً كمثال للكلمة الفارغة من المعنى. «منه (رحمه الله)».

22

وعلى هذا الأساس لو قلت: الله موجود، لكان بمثابة أن تقول: ديز موجود، فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك تلك؛ لأنّ وجود الله تعالى لا يمكن التعرّف عليه بالحسّ والتجربة.

وتواجه هذه النزعة المنطقية تناقضاً أيضاً؛ بسبب أنّ قولها هذا وما فيه من تعميم هو نفسه شيء لا يمكن التعرّف عليه بالحسّ والمباشرة، فهو كلام فارغ من المعنى بحكم ما يحمل من قرار، فهذه النزعة المنطقية التي تدّعي أنّ كلّ جملة لا يتاح للحسّ والتجربة اختبار مدلولها فهي فارغة من المعنى تصدر بهذا الادّعاء تعميماً، وكلّ تعميم فهو يتجاوز نطاق الحسّ؛ لأنّ الحسّ لا يقع إلّا على حالات جزئية محدودة، وهكذا تنتهي هذه النزعة إلى تناقض مع نفسها إضافةً إلى تناقضها مع كلّ التعميمات العلمية التي يفسّر بها العلماء ظواهر الكون تفسيراً شاملا؛ لأنّ التعميم ـ أيّ تعميم ـ لا يمكن الإحساس به مباشرةً، وإنّما يستنتج ويستدّل عليه بدلالة ظواهر حسّية محدودة(1).

ومن حسن الحظّ أنّ العلم لم يعبأ في مسيرته وتطوّره المستمرّ بهذه النزعات، فكان يمارس عمله الاكتشافي للكون دائماً مبتدئاً بالحسّ والتجربة، ومتجاوزاً بعد ذلك الحدود الضيّقة التي فرضتها تلك النزعات الفلسفية والمنطقية؛ ليبذل جهداً عقلياً في تنسيق الظواهر ووضعها في اُطر قانونية عامّة، والتعرّف على ما بينها من روابط وعلاقات.

وقد تضاءل النفوذ الفلسفي والمنطقي لهذه النزعات المتطرّفة حتّى على صعيد المذاهب الفلسفية المادية، فالفلسفة المادية الحديثة ـ التي يمثّلها بصورة



(1) إذا اُريد التوسّع في استعراض موقف المنطق الوضعي ونقده فليراجع كتابنا الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».

23

رئيسية الماديون الجدليون ـ ترفض تلك النزعات بكلّ وضوح، وتعطي لنفسها الحقّ في أن تتجاوز نطاق الحسّ والتجربة التي يبدأ العالِم بها بحثه، وتتجاوز أيضاً المرحلة الثانية التي يختم بها العالِم بحثه؛ وذلك لكي تقارن بين معطيات العلم المختلفة وتضع لها تفسيراً نظرياً عامّاً، وتعيّن أوجُه العلاقات والروابط التي يمكن افتراضها بين تلك المعطيات.

وبهذا فإنّ المادية الجدلية التي هي الوريث الحديث للفكر المادي على مرّ التاريخ، أصبحت بنفسها غيبيةً من وجهة نظر تلك النزعات الحسّية المتطرّفة حين خرجت بتفسير شامل للكون ضمن إطار ديالكتيكي.

وهذا يعني أنّ المادية والإلهية معاً قد اتّفقتا على تجاوز النطاق الحسّي الذي دعت تلك النزعات المادية المتطرّفة إلى التقيّد به، وأصبح من المعقول أن تتّخذ المعرفة مرحلتين: مرحلة لتجميع معطيات الحسّ والتجربة، ومرحلة لتفسيرها نظرياً وعقلياً، وإنّما الخلاف بين المادّية والإلهية على نوع التفسير الذي تستنتجه عقلياً في المرحلة الثانية من معطيات العلم المتنوّعة، فالماديّة تفترض تفسيراً ينفي وجود صانع حكيم، والإلهية ترى أنّ تفسير تلك المعطيات لا يمكن أن يكون مقنعاً ما لم يشتمل على الإقرار بوجود صانع حكيم.

وسنعرض في ما يلي نمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه، يتمثّل في كلّ منهما معطيات الحسّ والتجربة من ناحية، وتنظيمها عقلياً واستنتاج أنّ للكون صانعاً حكيماً من خلال ذلك.

والنمط الأوّل نطلق عليه اسم الدليل العلميّ أو الاستقرائي، والنمط الثاني نطلق عليه اسم الدليل الفلسفي.

وسنبدأ فيما يلي بالدليل العلمي، ولكن قبل هذا يجب أن نوضّح ما نقصده بالدليل العلمي.

24

إنّ الدليل العلمي: هو كلّ دليل يعتمد على الحسّ والتجربة، ويتّبع منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

وعلى هذا فالمنهج الذي نتّبعه في الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى هو منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات(1)، ومن أجل ذلك نعبّر عن الدليل العلمي لإثبات الصانع بالدليل الاستقرائي، وكلّ هذا ما نوضّحه في ما يلي:



(1) منهج الدليل غير الدليل نفسه، فأنت قد تستدلّ على أنّ الشمس أكبر من القمر بأنّ العلماء يقولون ذلك، والمنهج هنا هو اتّخاذ قرارات العلماء دليلا على الحقيقة.

وقد تستدلّ على أنّ فلاناً سيموت بسرعة بأنّك رأيت حلماً ورأيت في ذلك الحلم أنّه مات، والمنهج هنا هو اتّخاذ الأحلام دليلا على الحقيقة.

وقد تستدلّ على أنّ الأرض مزدوج مغناطيسي كبير ولها قطبان: سالب وموجب بأنّ الإبرة المغناطيسية الموضوعة في مستوىً اُفقيّ تتّجه دائماً بأحد طرفيها إلى الشمال وبالآخر إلى الجنوب، والمنهج هنا هو اتّخاذ التجربة دليلا.

وصحة كلّ استدلال ترتبط ارتباطاً أساسياً بصحة المنهج الذي يعتمد عليه.« منه (رحمه الله) ».

25

الاستدلال العِلميّ لإثبات الله تعالى

عرفنا سابقاً أنّ الدليل العلميّ لإثبات الصانع تعالى يتّخذ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

ونريد قبل أن نبدأ باستعراض هذا الدليل أن نشرح هذا المنهج، وبعد ذلك نقيّمه؛ لكي نتعرّف على مدى إمكان الوثوق بهذا المنهج والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرّف على الأشياء.

ومنهج الدليل الاستقرائيّ القائم على حساب الاحتمالات له صيغ معقّدة وبدرجة عالية من الدقّة، وتقييمه الشامل الدقيق يتمّ من خلال دراسة تحليلية كاملة للاُسس المنطقية للاستقراء ونظرية الاحتمال(1). ونحن نحرص هنا على تفادي الصعوبات والابتعاد عن أيّ صيغ معقّدة أو تحليل عسير الفهم.

ولهذا سنقوم فيما يلي بأمرين:

1 ـ تحديد المنهج الذي سنتّبعه في الاستدلال، وتوضيح خطواته بصورة مبسّطة وموجزة.

2 ـ تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به، لا عن طريق تحليله منطقياً واكتشاف الاُسس المنطقية والرياضية التي يقوم عليها؛ لأنّ هذا يضطرّنا إلى الدخول في أشياء معقّدة وأفكار على جانب كبير من الدقّة، بل نقيّم المنهج الذي سنتّبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم في ضوء تطبيقاته الاُخرى العملية المعترف بها عموماً لكلّ إنسان سوي، فنوضّح أنّ المنهج الذي يعتمده الدليل على


(1) وهذا ما قمنا به في كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء، لاحظ القسم الثالث.« منه (رحمه الله) ».
26

وجود الصانع الحكيم هو نفس المنهج الذي نعتمده في استدلالاتنا التي نثق بها كلّ الثقة في حياتنا اليومية الاعتيادية، أو في البحوث العلمية التجريبية على السواء.

إنّ ما يأتي سيوضّح بدرجة كافية أنّ منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو المنهج الذي نستخدمه عادةً لإثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية، فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق فمن الضروريّ أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق جميعاً.

فأنت في حياتك الاعتيادية حين تتسلّم رسالةً بالبريد فتتعرّف بمجرّد قراءتها على أنّها من أخيك، وحين تجد أنّ طبيباً نجح في علاج حالات مرضية كثيرة فتثق به وتتعرّف على أنّه طبيب حاذق، وحين تستعمل إبرة (بنسلين) في عشر حالات مرضية وتصابُ فورَ استعمالها في كلّ مرّة بأعراض معيّنة متشابهة فتستنتج من ذلك أنّ في جسمك حسّاسيةً خاصّةً تجاه مادة (البنسلين). أنت في كلّ هذه الاستدلالات وأشباهها تستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائيّ القائم على حساب الاحتمالات.

والعالِم الطبيعي في بحثه العلمي حينما لاحظ خصائص معيّنةً في المجموعة الشمسية فيتعرّف في ضوئها على أنّها كانت أجزاءً من الشمس وانفصلت عنها، وحينما استدلّ على وجود نبتون ـ أحد أعضاء هذه المجموعة ـ واستخلص ذلك من ضبط مسارات حركات الكواكب قبل أن يكتشف نبتون بالحسّ، وحينما استدلّ في ضوء ظواهر معيّنة على وجود الألكترون قبل التوصّل إلى المجهر الذرّي، إنّ العالِم الطبيعي في كلّ هذه الحالات ونظائرها يستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائيّ القائم على حساب الاحتمالات.

وهذا المنهج نفسه هو منهج الدليل الذي نجده فيما يأتي لإثبات الصانع الحكيم، وهذا ما سنراه بكلّ وضوح عند استعراض ذلك الدليل.

27

1 ـ تحديد المنهج وخطواته:

إنّ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه ـ إذا توخّينا البساطة والوضوح ـ في الخطوات الخمس التالية:

أوّلا: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.

ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضيةً صالحةً لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً، ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر أنّها إذا كانت ثابتةً في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلا.

ثالثاً: نلاحظ أنّ هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحةً وثابتةً في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلّها مجتمعةً ضئيلةٌ جدّاً، بمعنى أنّه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقلّ ضئيلةً جدّاً، كواحد في المئة، أو واحد في الألف، وهكذا...

رابعاً: نستخلص من ذلك أنّ الفرضية صادقة، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الاُولى.

خامساً: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها(1) على افتراض كذب الفرضية، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية(2).

 


(1) نقصد باحتمال عدمها: احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقلّ.« منه (رحمه الله) ».
(2) وفقاً للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي، لاحظ الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».
28

وفي الحقيقة هناك مقاييس وضوابط دقيقة لقيمة الاحتمال تقوم على أساس نظرية الاحتمال. وفي الحالات الاعتيادية يطبّق الإنسان بصورة فطرية تلك المقاييس والضوابط، تطبيقاً قريباً من الصواب بدرجة كبيرة، ولهذا سنكتفي هنا بالاعتماد على التقييم الفطري لقيمة الاحتمال، دون أن ندخل في تفاصيل معقّدة عن الاُسس المنطقية والرياضية لهذا التقييم(1).

هذه هي الخطوات التي نتّبعها عادةً في كلّ استدلال استقرائي يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواء في مجال الحياة الاعتيادية، أو على صعيد البحث العلمي، أو في مجال الاستدلال المقبل على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.

2 ـ تقييم المنهج:

ولنقيّم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة كما وعدنا سابقاً، وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتيادية أوّلا.

قلنا آنفاً: إنّك حين تتسلّم رسالةً بالبريد وتقرأها فتتعرّف على أنّها من أخيك، لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك، تمارس بذلك استدلالا استقرائياً قائماً على حساب الاحتمال. ومهما كانت هذه القضية ـ وهي أنّ الرسالة من قبل أخيك ـ واضحةً في نظرك فهي في الحقيقة قضية استنتجتها بدليل استقرائي وفقاً للمنهج المتقدم.

فالخطوة الاُولى تواجه فيها ظواهر عديدة، من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كُتبت فيها الحروف جميعاً بنفس الطريقة التي


(1) من أجل التوسّع يمكنك أن تلاحظ الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».
29

يكتب بها أخوك الألف والباء والجيم والدال والراء إلى آخر الحروف، وقد نسّقت الكلمات والفوارق بينها بنفس الطريقة التي اعتادها أخوك، واُسلوب التعبير ودرجة متانته وما يشتمل عليه من نقاط قوة أو ضعف يتماثل مع ما تألفه من أساليب التعبير لدى أخيك، وطريقة الإملاء وبعض الأخطاء الإملائية المتواجدة في الرسالة هي نفس الطريقة ونفس الأخطاء التي اعتادها أخوك في كتابته، والمعلومات التي تتحدّث عنها الرسالة هي معلومات يعرفها أخوك عادةً، والرسالة تطلب منك أشياء وتعلن عن آراء تتوافق تماماً مع حاجات أخيك وآرائه التي تعرفها عنه.

هذه هي الظواهر.

وفي الخطوة الثانية تتساءل: هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقّاً، أو أنّها من شخص آخر يحمل نفس الاسم ؟

وهنا تجد أنّ لديك فرضيةً صالحةً لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر، وهي: أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقّاً، فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعيّ أن تتوافر كلّ تلك المعطيات التي لاحظتها في المرحلة الاُولى.

وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي، بل كانت من شخص آخر فما هي فرصة أن تتواجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص التي لاحظتها في الخطوة الاُولى ؟

إنّ هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات؛ لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة يجب أن نفترض أنّ شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويشابه أخاك تماماً في طريقة رسم كلّ الحروف من الألف والباء والجيم والدال وغيرها، وتنسيق الكلمات، ويشابهه أيضاً في اُسلوب التعبير، وفي مستوى الثقافة اللغوية والإملائية، وفي عدد من المعلومات

30

والحاجات، وفي كثير من الظروف والملابسات. وهذه مجموعة من الصدف يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جدّاً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف التي لابدّ من افتراضها، تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.

والاُسس المنطقية للاستقراء تُعلمنا كيف نقيس الاحتمال ؟ وتفسّر لنا كيف يتضاءل هذا الاحتمال ؟ ولماذا يتضاءل تبعاً لازدياد عدد الصدف التي يفترضها ؟ ولكن ليس من الضروري أن ندخل في تفاصيل ذلك؛ لأنّها معقّدة وصعبة الفهم على القارئ الاعتيادي.

ومن حسن الحظّ أنّ ضآلة الاحتمال لا تتوقّف على فهم تلك التفاصيل، كما لا يتوقّف سقوط الإنسان من أعلى إلى الأرض على فهمه لقوة الجذب واطّلاعه على المعادلة العلمية لقانون الجاذبية، فلستَ بحاجة إلى شيء لكي تحسّ بأنّ احتمال أن يتواجد شخص يشابه أخاك في كلّ تلك الظروف والحالات بعيد جدّاً، وليس البنك بحاجة إلى استيعاب الاُسس المنطقية للاستقراء لكي يعرف أنّ درجة احتمال أن يسحب كلّ زبائنه ودائعهم في وقت واحد ضئيل جدّاً، بينما احتمال أن يسحب واحد أو اثنان ليس كذلك.

وفي الخطوة الرابعة تقول: ما دام تواجد كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا أن تكون الرسالة من أخيك.

وفي الخطوة الخامسة تربط بين الترجيح الذي قرّرته في الخطوة الرابعة ـ ومؤدّاه أنّ الرسالة قد اُرسلت من أخيك ـ وبين ضآلة الاحتمال التي قرّرتها في الخطوة الثالثة، وهي ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة بدون أن تكون من أخيك، ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أنّ درجة ذلك الترجيح

31

تتناسب عكسياً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجةً كان ذلك الترجيح أكبر قيمةً وأقوى إقناعاً. وإذا لم تكن هناك قرائن عكسية تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأنّ الرسالة من أخيك.

هذا مثال من الحياة اليومية لكلّ إنسان.

ولنأخذ مثالا آخر للمنهج من طرائق العلماء في الاستدلال على النظرية العلمية وإثباتها.

وليكن هذا المثال نظرية نشوء الكواكب السيّارة، ونصّها: أنّ الكواكب السيّارة التسع أصلها من الشمس، حيث انفصلت عنها كقطع ملتهبة قبل ملايين السنين، والعلماء يتّفقون على العموم في أصل النظرية، ويختلفون في سبب انفصال تلك القِطَع عن الشمس.

والاستدلال على أصل النظرية التي يتّفقون عليها يتمّ ضمن الخطوات التالية:

الخطوة الاُولى: لاحظ فيها العلماء عدّة ظواهر أدركوها بوسائل الحسّ والتجربة:

منها: أنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها، كلّ منها من غرب لشرق.

ومنها: أنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها، أي من غرب لشرق.

ومنها: أنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار يوازي خطّ استواء الشمس بحيث تكون الشمس كقطب والأرض نقطةً واقعةً على الرحى.

ومنها: أنّ نفس العناصر التي تتأ لّف منها الأرض موجودة في الشمس

32

تقريباً.

ومنها: أنّ هناك توافقاً بين نسب العناصر من ناحية الكمّ بين الشمس والأرض، فالهيدروجين مثلا هو العنصر السائد فيهما معاً.

ومنها : أنّ هناك انسجاماً بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها.

ومنها: أنّ هناك انسجاماً بين عمرَي الأرض والشمس حسب تقدير العلم لعمر كلّ منهما.

ومنها: أنّ باطن الأرض ساخن، وهذا يثبت أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّةً جدّاً.

هذه بعض الظواهر التي لاحظها العلماء في الخطوة الاُولى بوسائل الحسّ والتجربة.

الخطوة الثانية: وجد العلماء أنّ هناك فرضيةً يمكن أن تفسّر بها كلّ تلك الظواهر التي لوحظت في الخطوة الاُولى، بمعنى: أنّها إذا كانت ثابتةً في الواقع فهي تستبطن هذه الظواهر جميعاً وتبرّرها، وهذه الفرضية هي: أنّ الأرض كانت جزءاً من الشمس، وانفصلت عنها لسبب من الأسباب، فإنّه على هذا التقدير يُتاح لنا أن نفسّر على أساس تلك الظواهر المتقدمة.

أمّا الظاهرة الاُولى وهي أنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها؛ لأنّ كلاًّ منهما من غرب لشرق، فلأنّ سبب هذا التوافق في الحركة يصبح واضحاً على تقدير صحة تلك الفرضية؛ لأنّ أيّ جسم يدور إذا انفصلت منه قطعة وبقيت منشدّةً إليه بخيط أو غيره، فإنّها تدور بنفس اتّجاه الأصل بمقتضى قانون الاستمرارية.

وأمّا الظاهرة الثانية، وهي أنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران

33

الشمس حول نفسها، أي من غرب لشرق، فالفرضية المذكورة تكفي لتفسيرها أيضاً؛ لأنّ الجسم المنفصل من جسم يدور من غرب لشرق يأخذ نفس حركته بمقتضى قانون الاستمرارية.

وكذلك الأمر في الظاهرة الثالثة أيضاً.

وأمّا الظاهرة الرابعة والخامسة اللتان تعبّران عن توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها، فهما مفهومتان بوضوح على أساس أنّ الأرض جزء من الشمس؛ لأنّ عناصر الجزء نفس عناصر الكلّ.

وأمّا الظاهرة السادسة، وهي الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها، فقد عرفنا أنّ فرضية انفصال الأرض من الشمس تعني أنّ حركتي الأرض ناشئتان من حركة الشمس، وهذا يفسّر لنا الانسجام المذكور ويحدّد سببه.

وأما الظاهرة السابعة، وهي الانسجام بين عمرَي الأرض والشمس، فمن الواضح تفسيرها على أساس نظرية الانفصال، وكذلك الأمر في الظاهرة الثامنة التي يبدو منها أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّةً جدّاً، فإنّ فرضية انفصالها عن الشمس تستبطن ذلك.

الخطوة الثالثة: يلاحظ أنّه على افتراض أنّ نظرية انفصال الأرض عن الشمس ليست صحيحةً، فمن البعيد أن تتواجد كلّ تلك الظواهر وتتجمّع؛ لأنّها تكون مجموعةً من الصدف التي ليس بينها ترابط مفهوم، فاحتمال تواجدها جميعاً على تقدير عدم صحة النظرية المذكورة ضئيل جدّاً؛ لأنّ هذا الاحتمال يتطلّب منّا مجموعةً كبيرةً من الافتراضات لكي نفسّر تلك الظواهر جميعاً.

فبالنسبة إلى انسجام حركة الأرض حول الشمس مع حركة الشمس حول نفسها في أنّها من غرب لشرق، لابدّ أن نفترض أنّ الأرض كانت جرماً بعيداً عن

34

الشمس، سواء خلقت وحدها أو كانت جزءً من شمس اُخرى انفصلت عنها ثمّ اقتربت من الشمس. ونفترض أيضاً أنّ الأرض المنطلقة حينما دخلت في مدارها حول الشمس دخلت في نقطة تقع في غرب الشمس، فتدور حينئذ من غرب لشرق، أي مع اتّجاه حركة الشمس حول نفسها، إذ لو كانت قد دخلت في مدار الشمس في نقطة تقع في شرق الشمس لكانت تدور من شرق لغرب.

وبالنسبة إلى التوافق بين حركة الأرض حول نفسها ودوران الشمس حول نفسها في الاتّجاه من غرب لشرق، نفترض مثلا أنّ الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض افتراضاً كانت تدور من غرب لشرق.

وبالنسبة إلى دوران الأرض حول الشمس في مدار يوازي خطّ استواء الشمس، نفترض مثلا أنّ الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض كانت واقعةً في نقطة عمودية على خطّ الاستواء للشمس.

وبالنسبة إلى توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها، لابدّ أن نفترض أنّ الأرض أو الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض قد كانت تشتمل على نفس عناصر هذه الشمس وبنسب متشابهة.

وبالنسبة إلى الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها، نفترض مثلا أنّ الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض انفجرت بنحو أعطت للأرض المنفصلة نفس السرعة التي تتناسب مع حركة شمسنا.

وبالنسبة إلى الانسجام بين عمرَي الأرض والشمس وحرارة الأرض في بداية نشوئها، نفترض مثلا أنّ الأرض كانت قد انفصلت عن شمس اُخرى لها نفس عمر شمسنا، وأنّها انفصلت على نحو أدّى إلى حرارتها بدرجة كبيرة جدّاً.

وهكذا نلاحظ أنّ تواجد جميع تلك الظواهر على تقدير عدم صحة فرضية

35

الانفصال يحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف التي يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جدّاً، بينما فرضية الانفصال وحدها كافية لتفسير كلّ تلك الظواهر والربط بينها.

وفي الخطوة الرابعة نقول: ما دام تواجد كلّ هذ الظواهر الملحوظة في الأرض أمراً غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الأرض ليست منفصلةً عن هذه الشمس، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا، أن تكون الأرض منفصلةً عن الشمس.

وفي الخطوة الخامسة نربط بين ترجيح فرضية انفصال الأرض عن هذه الشمس ـ كما تقرّر في الخطوة الرابعة ـ وبين ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الأرض بدون أن تكون منفصلةً عن هذه الشمس، كما تقرّر في الخطوة الثالثة، ويعني الربط بين هاتين الخطوتين: أنّه كلّما كانت ضآلة الاحتمال الموضّحة في الخطوة الثالثة أشدّ كان الترجيح الموضّح في الخطوة الرابعة أكبر.

وعلى هذا الأساس نستدلّ على نظرية انفصال الأرض والشمس، وبهذا المنهج حصل العلماء على قناعة كاملة بذلك.

كيف نطبّق المنهج لإثبات الصانع؟

بعد أن عرفنا المنهج العامّ للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، وبعد أن قيّمنا هذا المنهج من خلال تطبيقاته المتقدمة، نمارس تطبيقه الآن على الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم، وذلك باتّباع نفس الخطوات السابقة:

الخطوة الاُولى:

نلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة

36

الإنسان ككائن حيّ وتيسير الحياة له، على نحو نجد أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها.

وفيما يلي نذكر عدداً من تلك الظواهر كأمثلة:

تتلقّى الأرض من الشمس كمّيةً من الحرارة تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة، لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ علمياً أنّ المسافة التي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملا مع كمّية الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن لَما وجدت حرارة بالشكل الذي يتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة التي لا تطيقها حياة.

ونلاحظ أنّ قشرة الأرض والمحيطات تحتجز ـ على شكل مركّبات ـ الجزء الأعظم من الأوكسجين، حتّى إنّه يكوّن ثمانيةً من عشرة من جميع المياه في العالم، وعلى الرغم من ذلك ومن شدّة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيمياوية للاندماج على هذا النحو، فقد ظلّ جزء محدود منه طليقاً يساهم في تكوين الهواء، وهذا الجزء يحقّق شرطاً ضرورياً من شروط الحياة؛ لأنّ الكائنات الحيّة من إنسان وحيوان بحاجة ضرورية إلى أوكسجين لكي تتنفّس، ولو قُدّر له أن يُحتجز كلّه ضمن مركّبات لَما أمكن للحياة أن توجد.

وقد لوحظ أنّ نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تماماً مع حاجة الإنسان وتيسير حياته العملية، فالهواء يشتمل على 21 % من الأوكسجين، ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرّضت البيئة إلى حرائق شاملة باستمرار، ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذّرت الحياة أو أصبحت صعبة، ولَما توفّرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهماتها.

ونلاحظ ظاهرةً طبيعيةً تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن تنتج

37

الحفاظ على قدر معيّن من الأوكسجين باستمرار، وهي أنّ الإنسان والحيوان عموماً حينما يتنفّس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقّاه الدم ويوزّع في جميع أرجاء الجسم، ويباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسلّل إلى الرئتين ثمّ يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار، وهذا الغاز بنفسه شرط ضروريّ لحياة كلّ نبات، والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويلفظه ليعود نقياً صالحاً للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمّية من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائياً إنّ هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية التي تجمّعت حتى أنتجت هذه الظاهرة التي تتوافق بصورة كاملة مع متطلّبات الحياة.

ونلاحظ أنّ النتروجين بوصفه غازاً ثقيلا أقرب إلى الجمود يقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه. ويلاحظ هنا أنّ كمّية الأوكسجين التي ظلّت طليقةً في الفضاء، وكمّية النتروجين التي ظلّت كذلك منسجمتان تماماً، بمعنى أنّ الكمّية الاُولى هي التي يمكن للكمّية الثانية أن تخففها، فلو زاد الأوكسجين أو قلّ النتروجين لَما تمّت عملية التخفيف المطلوبة.

ونلاحظ أنّ الهواء كمّية محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكمّية بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض، فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلّت لتعذّرت الحياة أو تعسّرت، فإنّ زيادتها تعني ازدياد ضغط الهواء على الإنسان الذي قد يصل إلى ما لا يُطاق، وقلّتها تعني فسح المجال للشهب التي تتراءى في كلّ يوم لإهلاك

38

من على الأرض واختراقها بسهولة.

ونلاحظ أنّ قشرة الأرض التي كانت تمتصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين محدّدة على نحو لا يتيح لها أن تمتصّ كلّ هذا الغاز، ولو كانت أكثر سمكاً لامتصّته، ولهلك النبات والحيوان والإنسان.

ونلاحظ أنّ القمر يبعد عن الأرض مسافةً محدّدةً، وهي تتوافق تماماً مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض، ولو كان يبعد عنّا مسافةً قصيرةً نسبياً لتضاعف المدّ الذي يحدثه وأصبح من القوة على نحو يزيح الجبال من مواضعها.

ونلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحيّة المتنوّعة، ولئن كانت الغريزة مفهوماً غيبياً لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر فما تعبّر عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبياً، بل يعتبر ظاهرةً قابلةً للملاحظة العلمية تماماً. وهذا السلوك الغريزيّ ـ في آلاف الغرائز التي تعرّف عليها الإنسان في حياته الاعتيادية أو في بحوثه العلمية ـ يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها، وأنّه يبلغ أحياناً إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان، وحينما نقسّم ذلك السلوك إلى وحدات نجد أنّ كلّ وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تماماً مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يمثّل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية، وكلّ ظاهرة في تكوينها ودورها الفيسيولوجيّ وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

فمثلا: نأخذ مجموعة الظواهر التي ترابطت على نحو يتوافق تماماً مع مهمّة الإبصار وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة. إنّ عدسة العين تلقي صورة على الشبكية التي تتكوّن من تسع طبقات، وتحتوي الطبقة الأخيرة منها

39

على ملايين الأعواد والمخروطات، قد رتّبت جميعاً في تسلسل يتوافق مع أداء مهمّة الإبصار، من حيث علاقات بعضها بالبعض الآخر وعلاقاتها جميعاً بالعدسة، إذا استثنينا شيئاً واحداً وهو: أنّ الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنّه استثناء مؤقّت؛ فإنّ الإبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحسّ بالأشياء وهي مقلوبة، بل اُعيد تنظيم الصورة في ملايين اُخرى من خويطات الأعصاب المؤدّية إلى المخّ حتّى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتمّ عملية الإبصار، وتكون عندئذ متوافقةً بصورة كاملة مع تيسير الحياة.

حتّى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعية نجد أنّها تتواجد في المواطن التي يتوافق تواجدها فيها مع مهمّة تيسير الحياة ويؤدّي دوراً في ذلك، فالأزهار التي ترك تلقيحها للحشرات لوحظ أنّها قد زوّدت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتّفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح، بينما لا تتمّيز الأزهار التي يحمل الهواء لقاحها عادةً بعناصر الإغراء. وظاهرة الزوجية على العموم والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لاُنثاه في الإنسان وأقسام الحيوان والنبات على النحو الذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة، مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمّة تيسير الحياة ﴿ وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(1). هذه هي الخطوة الاُولى.

الخطوة الثانية:

نجد أنّ هذا التوافق المستمرّ بين الظاهرة الطبيعية ومهمّة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يمكن أن يفسّر في جميع هذه المواقع بفرضية


(1) النحل: 18.
40

واحدة، وهي أن نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة ويُيسّر مهمّتها، فإنّ هذه الفرضية تستبطن كلّ هذه التوافقات.

الخطوة الثالثة:

نتساءل: إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتةً في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كلّ تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمّة تيسير الحياة، دون أن يكون هناك هدف مقصود ؟ ومن الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصُدَف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المُبْرَدَة إليك في مثال سابق من شخص آخر غير أخيك ولكنّه يشابهه في كلّ الصفات بعيداً جدّاً؛ لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها بكلّ ما تضمه من صنع مادة غير هادفة ولكنّها تشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات ؟

الخطوة الرابعة:

نرجّح بدرجة لا يشوبها الشكّ أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحةً، أي أنّ هناك صانعاً حكيماً.

الخطوة الخامسة:

نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلةً كلّما ازداد عدد الصدف التي لابدّ من افتراضها فيه كما عرفنا سابقاً، فمن الطبيعيّ أن يكون هذا الاحتمال ضئيلا بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علمي؛ لأنّ عدد الصدف التي لابدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر

41

من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروريّ أنيزول(1).

 


(1) بقيت مشكلتان لابدّ من تذليلهما:
إحداهما: أنّه قد يلاحظ أنّ البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم تبعاً لمنهج الدليل الاستقرائي هو أن تكون كلّ ظاهرة من الظواهر المتوافقة مع مهمة تيسير الحياة ناتجةً عن ضرورة عمياء في المادة، بأن تكون المادة بطبيعتها وبحكم تناقضاتها الداخلية وفاعليتها الذاتية هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر، والمقصود من الدليل الاستقرائي: تفضيل فرضية الصانع الحكيم على البديل المحتمل؛ لأنّ تلك لا تستبطن إلّا افتراضاً واحداً وهو افتراض الذات الحكيمة، بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة بعدد الظواهر موضوعة البحث، فيكون احتمال البديل احتمالا لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضاءل حتى يفنى. غير أنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنةً لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضاً، مع أنّه قد يبدو أنّها مستبطنة لذلك؛ لأنّ الصانع الحكيم الذي يفسّر كلّ تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علوماً وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الذي تستبطنه هذه الفرضية من هذه العلوم و القدرات بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء، فأين التفضيل ؟
والجواب: أنّ التفضيل ينشأ من أنّ هذه الضرورات العمياء غير مترابطة، بمعنى أنّ افتراض أيّ واحدة منها يعتبر حيادياً تجاه افتراض الضرورة الاُخرى، وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال أنّها حوادث مستقلّة، وأنّ احتمالاتها احتمالات مستقلّة.
وأمّا العلوم والقدرات التي يتطلّبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر موضوعة البحث فهي ليست مستقلّة؛ لأنّ ما يتطلّبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلّبه صنع بعض آخر من علم وقدرة، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات ليس حيادياً تجاه افتراض البعض الآخر، بل يستبطنه أو يرجّحه بدرجة كبيرة، وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال أنّ