277

 

 

 

 

الفصل الثالث

ا لتـفكّر و ا لتـذكّر

 

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَ يَات لاُِوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِل مِّنكُم مِّن ذَكَر أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾(1).

ومن مقدّمات السلوك إلى الله التفكّر والتذكّر. وقد قيل: إنّ التذكر فوق التفكّر؛ لأنّ التفكّر يكون عند احتجاب القلب بصفات النفس، فيلتمس الإنسان البصيرة المطلوبة، والتذكّر يكون عند رفع الحجاب، وخلوص خلاصة الإنسانيّة من قشور صفات النفس، والرجوع إلى الفطرة الأُولى، فيتذكّر ما انطبع فيها في الأزل من


(1) السورة 3، آل عمران، الآيات: 190 ـ 195.

278

التوحيد والمعارف بعد النسيان بسبب التلبّس بغواشي النشأة، وقد يكون التذكّر للمعاني التي حصلت بالتفكّر بعد نسيانها(1).

وعلى أيّة حال، فالتفكّر والتذكّر أمران متفاعلان، وأحدهما يدعو إلى الآخر، فإنّ التفكّر يورث التذكّر لما نسيه بسبب أغشية النفس، كما أنّ التذكّر يورث الانتباه، ومن ثمّ يدعو إلى مزيد من التفكير.

والأمر بالتذكّر وارد في القرآن الكريم بكثرة كاثرة، كقوله تعالى: ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ...﴾(2)، ﴿...مَا لَكُم مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيْع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون﴾(3)، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾(4) إلى غير ذلك من الآيات.

وكأنّ أحد أغصان التذكّر المهمّة المأمور بها في القرآن هو: تذكّر ما عُهِدَ إلينا في عالم الذر، المنطبع في الفطرة سواءٌ فرضنا عالم الذرّ نفس عالم الفطرة، أو عالماً أسبق به تكوّنت الفطرة الطاهرة، فإنّ أغشية النفس أذهلتنا عن ذلك ولا نذكرها، ولكنّنا نستطيع أن نتذكّرها بمعنى: الرجوع إلى الفطرة والتفتيش عمّا فيها والحصول عليها، فقوله تعالى مثلاً: ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ...﴾يعني: أنّ المقدار الذي تفضّلنا به عليكم من العمر كاف لوجدانكم لما هو الكامن في فطرتكم من التوحيد والمعارف.

وقد رُتِّبَ التذكّر في القرآن تارة على الإنابة، وأُخرى على اللب، قال الله تعالى: ﴿... وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾(5)، وقوله تعالى: ﴿... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا


(1) راجع شرح منازل السائرين لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 34.

(2) السورة 35، فاطر، الآية: 37.

(3) السورة 32، السجدة، الآية: 4.

(4) السورة 2، البقرة، الآية: 152.

(5) السورة 40، غافر، الآية: 13.

279

الاَْلْبَابِ﴾(1).

أمّا التفكّر فله أقسام كثيرة، منها ما يلي: فقد يكون تفكّراً في آيات الله كما أشارت إليه الآيات التي بدأنا بها الحديث ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَ يَات لاُِوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾ وهذا تفكّر يبعث بمعرفة الله وبالتوحيد، وفي نفس الوقت يبعث بالتذكير بالوظائف وضرورة الطاعة والإيمان والهرب من العذاب؛ ولهذا أعقبه الله ـ سبحانه ـ بقوله: ﴿... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ...﴾ وأُخرى يكون التفكّر في نعم الله وآلائه، وثالثةً في كتاب الله أو في المناجاة والدعاء والصلاة، كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيما ورد في وصاياه لأبي ذرّ: «... يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه»(2) ورابعةً في النفس وحالاتها ومهالكها وأساليب علاجها ونجاتها، وخامسةً في العِبَر المؤثّرة في النفس، كما ورد عن الحسن الصيقل قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عمَّا يروي الناس: أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟ قال: يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك، أين بانوك، مالكِ لا تتكلمين»(3).

ومن هذا النمط الكلام المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول


(1) السورة 13، الرعد، الآية: 19، والسورة 39، الزمر، الآية: 9.

(2) البحار 77 / 82 .

(3) تفسير البرهان 1/331.

280

منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامِدَة، ورياحهم راكِدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية. فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، والنمارق الممهّدة، الصخور والأحجار المسنّدة، والقبور اللاطئة المُلحّدة التي قد بُنيَ بالخراب فِناؤها، وشيد بالتراب بناؤها، فمحلُّها مقترب، وساكنها مغترب بين أهل محلّة موحشين، وأهل فراغ متشاغلين، لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ودنوّ الدار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بِكَلْكَلِهِ البِلى، وأكلتهم الجنادِل والثَّرَى ...»(1).

وقد روي أنّه «سُئِلَ عيسى(عليه السلام) مَنْ أفضل الناس؟ قال: مَنْ كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرةً»(2).

وعن الصادق(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: نبّه بالتفكّر قلبك، وجافِ عن الليل ساجداً، واتّقِ الله ربّك»(3).

وإنّني أختم الحديث في هذا الفصل بذكر روايتين واردتين بشأن الآيات المباركات التي افتتحنا بها هذا الفصل:

الاُولى: رُوي عن ابن عمر(4) قال: «قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فبكت وأطالت، ثُمّ قالت: كلُّ أمره عجب، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي، ثُمّ قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربّي؟ فقلت: يا رسول الله إنّي لأُحبّ قربك، وأُحبّ مرادك، قد أذنت لكَ، فقام إلى قِرْبة من الماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثُمّ قام


(1) نهج البلاغة: 475 ـ 476، رقم الخطبة: 226.

(2) تفسير البرهان 1/331.

(3) المصدر السابق.

(4) التفسير الكبير للرازي 9/133 ـ 134.

281

يصلّي، فقرأ من القرآن، وجعل يبكي، ثُمّ رفع يديه فجعل يبكي حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بِلال يؤذنه بصلاة الغداة، فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبكَ وما تأخّر؟! فقال: يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً، ثُمّ قال: مالي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾ ثُمّ قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها. وروي: ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها».

والثانية: ما رُوِيَ عن حبّة العرني: قال: «بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين(عليه السلام) في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله وهو يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾ قال: ثُمّ جعل يقرأ هذه الآيات، ويمرّ شبه الطائر عقله، فقال لي: أراقد أنت ياحبّة أم رامق؟ قال: قلت: رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى، ثُمّ قال لي: يا حبّة إنّ لله موقفاً، ولنا بين يديه موقفاً لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يا حبّة إنّ الله أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد، يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء. قال: ثُمّ قال: أراقد أنت يا نوف؟ قال: قال: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال: يا نوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ...»(1).


(1) البحار 41/22.

283

 

 

 

 

الفصل الرابع

ا لاعتـصام وا لفـرار

 

قال الله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَة مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(1).

وقال عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(2).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾(3).

وقال جلّ جلاله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَة مِّنْهُ وَفَضْل وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾(4).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾(5).


(1) السورة 3، آل عمران، الآيات: 101 ـ 103.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 146.

(3) السورة 22، الحج، الآية: 78.

(4) السورة 4، النساء، الآية: 175.

(5) السورة 51، الذاريات، الآية: 50.

284

قد فسّر بعض الاعتصام بالله والاعتصام بحبل الله الواردين في القرآن الكريم: بأنّ الثاني هو: الاحتماء بطاعة الله، وهو اعتصام عامّة الناس. والأوّل هو: الانقطاع إلى الله عن كلّ موهوم، وذلك إمّا بمعنى الإعراض عمّا عداه، والتمسّك به وحده، وهو اعتصام الخاصّة، أو بمعنى الاتّصال الذي يعني الوصول إلى شهود الحقّ تفريداً، وهو اعتصام خاصّة الخاصّة(1).

أقول: الاعتصام معناه: الدخول في عصمته وحصنه، والاحتماء به على اختلاف درجات ذلك باختلاف درجات عرفان العبد.

وتعابير القرآن اتَّفقت على الاعتصام بالله، أمّا الاعتصام بحبل الله فلم يرد إلاّ في مورد واحد. والظاهر أنّ سبب الفرق هو: أنّ المقصود في باقي الموارد في القرآن كان هو بيان أنّ الحصن الوحيد الواقي من جميع الأخطار هو الله تعالى، فلابدّ من الاعتصام بعصمته بالشهادة المخلصة بالوحدانية. وفي خصوص المورد الذي عُبّر بالاعتصام بحبل الله كان الكلام عن توحيد الصفّ وعدم التفرّق، فناسب التعبير بالحبل الذي هو عِقد يوحّد المفردات المختلفة، وإشراب الاعتصام معنى التمسك، فالمعنى ـ والله العالم ـ تمسّكوا بحبل الله، وتوحّدوا بذلك ولا تفرّقوا. وقد فُسّر حبل الله في أكثر رواياتنا بعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) أو بالأئمّة المعصومين(عليهم السلام)(2).

ومن الروايات الطريفة الواردة بشأن الاعتصام بالله ما ورد عن عبدالله ابن سنان بسند صحيح، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «أ يّما عبد أقبل قِبَل ما يحبّ الله عزّوجلّ أقبل الله قِبَل ما يحبّ، ومَنْ اعتصم بالله عصمه الله، ومَنْ أقبل الله قِبَله


(1) منازل السائرين باب الاعتصام، وهوالباب السابع من البدايات. ويُحتمل في عبارته أن يكون المقصود ماهو من خرافات العرفان الكاذب فراجع.

(2) راجع تفسير البرهان 1/305 ـ 307.

285

وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة، كان في حزب الله بالتقوى من كلّ بليّة، أليس الله يقول: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَام أَمِين﴾»(1).

وأمّا الفرار إلى الله فهو قريب المعنى من الاعتصام بالله، إلاّ أنّ الاعتصام يشتمل على التركيز على الجانب الإيجابي، وهو: الالتجاء إلى الله، والفرار يشتمل على التركيز على الجانب السلبي، وهو: الهروب ممّا يخاف منه.

وعلى أيّة حال، فالاعتصام بالله والفرار إليه ممّا لابدّ منه في تزكية النفس؛ إذ لا حول ولا قوّة إلاّ به: ﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً ...﴾(2).

 


(1) الوسائل 15/211، الباب 10 من جهاد النفس، الحديث 1، والآية: 51 في السورة 44، الدخان.

(2) السورة 24، النور، الآية: 21.

287

 

 

 

 

الفصل الخامس

الرياضة ومجاهدة النفس

 

قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(2).

لاشكَّ في أنّ النفس أمّارة بالسوء، وميّالة للكسل، والدِّعة، ومحبّة للتحرّر من قيود الدين ﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾(3) إذن لا يمكن حبسها على سبيل الخير والإصلاح إلاّ بترويضها ومجاهدتها.

وأيضاً من خواصّ النفس أنّها تخادع نفسها، وتغطّي الحقيقة، وتجعل الإنسان غافلاً عن معايبه، فلابدّ من رياضة النفس ومجاهدتها في كشف المعايب، كما لابدّ من الرياضة في رفعها وتصفية النفس منها.

وقد ذكر بعض(4) أنّ هناك طرقاً أربعة لكشف معايب النفس ينبغي سلوك


(1) السورة 79، النازعات، الآيتان: 40 ـ 41.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

(3) السورة 75، القيامة، الآية: 5.

(4) راجع المحجة 5/112 ـ 114 نقلاً عن كتاب الإحياء.

288

بعضها؛ لكشف تلك العيوب لغير من كملت بصيرته، فإنّ الله ـ تعالى ـ إذا أراد بعبد خيراً بصّره بعيوب نفسه، فمن كملت بصيرته لم تخْفَ عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكنّ أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يقف على عيوب نفسه فله أربع طرق:

الأوّل: أن يجلس بين يدي بصير بعيوب النفس، مطّلع على خفايا الآفات، فارغ عن تهذيب نفسه، فيحكّمه على نفسه، ويتّبع إشاراته في مجاهدته، ومَنْ وجد ذلك فقد وجد الطبيب، فليلازمه، فهو الذي يخلّصه من مرضه، وينجيه من الهلاك، إلاّ أنّ هذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده.

والثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، فينصبه رقيباً على نفسه؛ ليراقب أحواله وأفعاله، فما يكرهه من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبّهه عليه حيث قد تغفل النفس عن عيوب نفسه ولكن تلتفت إلى عيوب غيره، فإن كنتُ أغفل أنا عن عيوب نفسي كان بإمكاني أن أستعين في كشفها بغيري من صديق صدوق متديّن بصير، فهكذا كان يفعل الأكابر، وكان بعضهم يقول: رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي، وكلّ مَنْ كان أوفر عقلاً، وأعلى منصباً كان أقلّ إعجاباً، وأعظم اتّهاماً لنفسه.

إلاّ أنّ هذا ـ أيضاً ـ قد قلّ وعزّ، فإنّ الصديق قد يكون حسوداً، أو صاحب غرض، أو يكون صديقاً حقّاً، ولكنّه يداهنك بإخفاء عيبكَ عليك(1)، وقلّ الصديق الذي يترك المداهنة فيخبر بالعيب.

وقد كانت شهوة ذوي الدين أنّ ينبَّهوا على عيوبهم بنصيحة غيرهم. وإذا بِنا


(1) وقد يكون حبّه لك مانعاً عن التفاته إلى عيبك كما قيل:

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة
ولكنّ عين السخط تبدي المساويا
289

يكون أبغض الخلق إلينا من ينصحنا، ويعرّفنا عيوبنا، ويكاد يكون هذا مفصحاً عن ضعف الإيمان.

والثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من لسان أعدائه، فإنّ عين السخط تبدي المساوي، ولعلّ انتفاع الإنسان بعدوّ مشاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه، ويمدحه، ويخفي عنه عيوبه، إلاّ أنّ الطبع مجبول على تكذيب العدوّ، وحمل ما يقوله على الحسد، ولكنّ البصير لا يخلو من الانتفاع بقول اعدائه، فإن مساويه لابدّ وأنّ تنتشر على ألسنتهم.

الرابع: أن يخالط الناس، فكلّ ما يراه مذموماً فيما بين الخلق يطالب نفسه بتركه، وما يراه محموداً يطالب نفسه به؛ لأنّ الإنسان يعمى عن رؤية عيوب نفسه، ولكنّه يرى عيوب غيره، إذن فبإمكانه أن يعرف أوّلاً عيوب الآخرين، ثُمّ يسري الأمر إلى نفسه عن طريق المقايسة، فيتفقّد نفسه، ويطهّرها من كلّ ما يذّمه من غيره، كما ويحاول ارتداء ما يراه محموداً من غيره، وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلُّهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدِّب. انتهى ملخصاً وبشيء من التصرف في الألفاظ.

وأمّا روايات مجاهدة النفس فنقتصر على ذكر بعضها، نرويها عن كتاب الوسائل(1):

1 ـ «إن النبيّ(صلى الله عليه وآله) بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس».

2 ـ عن الصادق(عليه السلام): «احمل نفسك لنفسك، فإن لم تفعل لم يحملك غيرك».

3 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال لرجل: «إنّك قد جُعِلت طبيب نفسك، وبُيّن لك الداء،


(1) الوسائل 15/161 ـ 162، الباب 1 من جهاد النفس، الأحاديث 1 و 2 و 3 و 4 و 6 و 8 .

290

وعرفت آية الصحّة، ودللت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك».

4 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال لرجل: «اجعل قلبك قريناً برّاً وولداً واصلاً، واجعل علمك والداً تتّبعه، واجعل نفسك عدوّاً تجاهده، واجعل مالك عارية تردّها».

5 ـ عن الصادق(عليه السلام): «مَنْ لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوّه من عنقه».

6 ـ عن الصادق(عليه السلام): «مَنْ ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، وإذا غضب، وإذا رضي، حرّم الله جسده على النار».

 

291

 

 

 

 

الفصل السادس

ا لســــما ع

 

ذكر بعض أهل العرفان الكاذب المنحرف عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام) أنّ من بدايات السلوك إلى الله الالتزام الهادف بالسَماع؛ لأنّ السَماع ـ وهو الغناء ـ يحدو كلّ أحد إلى مقصده، فيؤثّر في نفس السالك إلى الله ـ أيضاً ـ في حدوه إلى مقصده الخاص به(1).

ومن المضحك استشهاده(2) لذلك بقوله تعالى: ﴿لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لاَسْمَعَهُمْ ...﴾(3).

في حين أنّه لا علاقة للسماع بمعنى الغناء بسماع الخير والهداية، إلاّ توهّمه الذي ذكرناه آنفاً، وحتّى لو غضضنا النظر عمّا هو ثابت في فقه أهل البيت(عليهم السلام) من حرمة الغناء نقول:

إنّ السَماع يحرّك في النفس الهواجس الكامنة تحريكاً لهويّاً، وليس السالك إلى الله مفنياً ومُنهيا لتلك الهواجس، وغاية ما يفترض بشأنه سيطرته عليها


(1) راجع منازل السائرين باب السَماع، وهو الباب العاشر من البدايات، وشرحه لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 44.

(2) راجع منازل السائرين باب السَماع، وهو الباب العاشر من البدايات، وشرحه لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 44.

(3) السورة 8، الأنفال، الآية: 23.

292

لمحاولة خنقها كالنار تحت الرماد، والسماع يُذكيها مرّة أُخرى، ويسلك بصاحبه إلى الشيطان لا إلى الله.

إلاّ أنّ الذي ينحرف عن خط أهل البيت(عليهم السلام) لا نتوقّع منه أكثر من هذا الفهم ﴿... وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّور﴾(1).

ويقول السيّد الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) نقلاً عن اُستاذ له: إنّ أكثر ما يسبّب فقد الإنسان العزم والإرادة هو استماع الغناء(2).

 


(1) السورة 24، النور، الآية: 40.

(2) كتاب (الأربعون حديثاً) في ذيل الحديث الأوّل: 25.

293

 

 

 

 

الفصل السابع

ا لحـــــز ن

 

ومن هنا إلى تسعة فصول أي: إلى الفصل الخامس عشر سُمّيت بقسم الأبواب، في مقابل ما مضى المسمّى بقسم البدايات بدعوى أنّ البدايات كانت لعامّة الناس، وهم أهل الظاهر الذين لم يتجاوزوا إلى الباطن، واشتغلوا برفع الموانع وقطع العلائق وعندئذ انفتحت عليهم أبواب الباطن، فدخلوها، وهي انفعالات وآثار من أنوار القلوب(1).

قال الله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾(2).

قيل بشأن نزول هذه الآية المباركة: إنّ سبعة من فقراء الأنصار جاؤوا إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) وطلبوا منه تمكينهم ممّا يمكّنهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعدم وجدانه لذلك، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنزلت هذه الآية بشأنهم، وعُرِفوا بعد ذلك باسم البكّائين(3).

الحزن قد يكون بمعنى التوجّع على ما فات ممّا يقبل التدارك بمثل القضاء أو


(1) راجع شرح منازل السائرين لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 46.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 92.

(3) راجع تفسير «نمونه» 8 / 80 .

294

التوبة أو نحو ذلك، وأُخرى يكون بمعنى التأسّف على الممتنع كما في مورد الآية المباركة.

وعلى أيّ حال، فهو آية الإيمان، وعلامة الشوق إلى الخير وإلى الله سبحانه وتعالى، ويسبّب دفع الإنسان ـ دائماً ـ إلى جهة الكمال. ومن فوائده في موارد إمكان التدارك البعث إلى التدارك، ومن فوائده ـ أيضاً ـ دفع السرور الزائد الذي يميت القلب، ويبعث إلى التميّع وعدم المبالاة في أقلّ تقدير، ويسبّب الأشر والبطر، وذلك من المهلكات.

وعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): في الخطبة المعروفة بخطبة همام أو خطبة المتّقين التي أوردها سلام الله عليه في ذكر أوصاف المتّقين: «... قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيّاماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم...»(1).

ولا يخفى أنّ الحزن بالمعنى الذي يشلّ الإنسان عن العمل الاجتماعي، وعن الانشراح مع إخوانه المؤمنين، ويوجب انقباضه عن الناس، وانقباض الناس عنه، إنّما يناسب أهل العرفان الكاذب. أمّا العارف الصحيح فحزنه يكون كامناً في قلبه، يمنعه عن الأشر والبطر والبطالة، ولكنّ بشره في وجهه، محبّب إلى الناس، وجلاّب لعواطف القلوب، ومهتمّ بقضاء حوائج المؤمنين الخاصّة،

وبهموم المسلمين والإسلام العامّة.

وعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في


(1) نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

295

قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد»(1).

قوله(عليه السلام): «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه» إنّ هاتين الصفتين تكاسر إحداهما الأُخرى، وترفع الآثار السيّئة عنها، فإنّ الحزن وحده يؤدّي إلى الانكماش عن المجتمع وعن الأعمال الاجتماعيّة، كما أنّ البِشر لو كان وحده يؤدّي إلى البطالة والبطر، ولكن متى ما اجتمع الحزن الإلهي في القلب مع البِشر المأمور به المؤمن أمام الناس، يتم الإعتدال، وتكون كلّ من الصفتين كمالاً محضاً، ونافعاً له ولمجتمعه ولدينه ودنياه وآخرته.

قوله(عليه السلام): «أوسع شيء صدراً وأذلّ شيء نفساً» حينما يصبح الإنسان واسع الصدر ـ وسعة الصدر آلة الرئاسة ـ قد يأخذه الغرور بسبب نجاحه في الاُمور وقدرته على حلّ المشاكل بسعة الصدر، ولكن يعالج ذلك وصفُهُ الآخر، وهو: أنّه «أذل شيء نفساً» فهو دائماً يلحظ نقائص نفسه، ويُذلّ نفسَه أمام قلبه، ويؤنّبها على أخطائها، وهذا يمنع عن بروز تلك الحال، ويؤدّي إلى الاعتدال المطلوب.

قوله(عليه السلام): «ضنين بخلّته» يُحتمَل في كلمة (الخلّة) فتح الخاء وضمها(2) فعلى الفتح تكون بمعنى الفقر والحاجة، ويكون المعنى: أنّ المؤمن يبخل بعرض حاجته على الناس، فلا يمدّ يد الحاجة إليهم. وعلى الضمّ يكون معناها: من الإخلاص والصداقة.وعلى هذا المعنى فسّره ابن أبي الحديد بمعنى كونه قليل المخالطة والتوفّر على العُزلة.

أقول: إنّ هذا شأن العرفان الكاذب، بل الأولى أن يكون المقصود على هذا


(1) نهج البلاغة: 724، رقم الحكمة: 333.

(2) راجع مجمع البحرين 5/365.

296

المعنى هو: الاحتفاظ بالخُلّة، أي: الصداقة أو الاصدقاء، بمعنى أنّه يكون وفيّاً للذين اتّخذهم أخلاّء في الله حافظاً لهم للغيب بما حفظ الله باذلاً لهم النصح والمعونة.

قوله(عليه السلام): «نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد» وهاتان الصفتان أيضاً تصلح إحداهما الأُخرى، فإنّ الصلادة والصلابة وإن كان يقصد بها الشجاعة في ذات الله والمقاومة للحقّ وضدّ الباطل، ولكن قد توجب هذه الحالة ـ والتي هي نوع اعتماد على النفس ـ الغرور والتكبّر، ولكنّه حينما كان ـ أيضاً ـ متّصفاً بأنّ نفسه أذلّ عنده من العبد تكون الصفتان نافعتين وكمالاً عظيماً للنفس. هكذا كان الأئمّة(عليهم السلام) يربّون العارفين بالله الحقيقيين، ويدرّبونهم على أن يكونوا رُهباناً بالليل أُسداً بالنهار.

والحزن الشديد يكون من مَظاهره البكاء، وكذلك الخوف الذي سنبحثه في المستقبل إن شاء الله.

والروايات المادحة للبكاء من خشية الله أو من الحزن كثيرة أُسجل لك هنا بعضها من كتاب الوسائل:

1 ـ عن الصادق(عليه السلام) عن آبائه، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) في حديث المناهي: قال: «ومَنْ ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصرٌ في الجنّة، مكلّل بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

وقد تستغرب من ثواب عظيم كهذا ممّا يوصف بأنّه لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كيف رُتِّب على مجرّد قطرة من الدمع؟! ولكن يزول هذا الاستغراب إذا التفتنا إلى أمرين:


(1) الوسائل 15 / 223، الباب 15 من جهاد النفس، الحديث 1.

297

الأوّل: ما يكشف عنه البكاء، إنّ البكاء يكشف عن التحوّل العظيم في نفس الباكي، والتفاعل الكامل مع الله سبحانه وتعالى ومع أوامره ونواهيه، وتجلّي عظمته تعالى في قلبه وخشوعه له، ومن هنا يكون البكاء ـ أيضاً ـ كاشفاً عن مستوىً عال من الندم على المعاصي، وموجباً لغفران الذنوب كما ورد في الحديث التالي:

2 ـ عن الحسن العسكري(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام)، عن الصادق(عليه السلام): «إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرى إلى العرش؛ لكثرة ذنوبه، فما هو إلاّ أن يبكي من خشية الله ـ عزّ وجلّ ـ ندماً عليها حتّى يصير بينه وبينها أقرب من جفنه إلى مقلته»(1).

وطبعاً هذا لا ينفي سائر شرائط التوبة، بل كأنّه ينظر إلى أنّ البكاء لو كان بكاءً مرتبطاً بالندم ارتباطاً حقيقيّاً فهو يلازم تحقيق باقي شرائط التوبة.

والثاني: ما يترتّب على البكاء من الاقتراب العاطفي الكبير من الله جلّت عظمته، وخَرق حُجُب النفس ممّا يؤدّي إلى تركّز التفاعل مع الله في النفس أكثر من ذي قبل؛ ولذا ينبغي للباكي أن يغتنم فرصة تلك الحالة الذهبيّة التي حصلت له في تهذيب نفسه وتزكيتها؛ فإنّ هذه الفرصة لا تحصل في أيّ وقت شاء الشخص.

وجميع الروايات الواردة في مدح البكاء من خشية الله أو الشعور بعظمته والاندهاش أمامه تُحمل على هذين التفسيرين اللَذيْن عرفتهما وذلك من قبيل:

3 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام): قال: «ما من شيء إلاّ وله كيل ووزن، إلاّ الدموع؛ فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمها الله على النار، ولو أنّ باكياً بكى في أُمّة لرحموا»(2).


(1) المصدر السابق: ص 226 ـ 227، الحديث 10.

(2) المصدر السابق: ص227، الحديث 11.

298

4 ـ عن الرضا(عليه السلام) في حديث صحيح السند قال: «كان فيما ناجى الله به موسى(عليه السلام)أنّه ما تقرّب إليّ المتقربون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبّد لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدنيا عمّا يهمّ الغنى عنه. فقال موسى: يا أكرم الأكرمين: فما أثبتَهم على ذلك؟ فقال: يا موسى أمّا المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد، وأمّا المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فإنّي أُفتّش الناس عن أعمالهم، ولا أُفتّشهم حياءً منهم، وأمّا المتزيّنون لي بالزهد في الدنيا فإنّي أبيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤون منها حيث يشاؤون»(1).

هذا، والبكاء ليس نتيجة الحزن أو الخوف فحسب، بل يكون نتيجة لبعض الصفات والحالات الأُخرى ـ أيضاً ـ التي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله، ومنها الخشوع كما جاءت الإشارة إلى ذلك في ثنايا كلامنا، قال الله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾(2).

وقال الله سبحانه أيضاً: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾(3).

وقد ظهرت من ثنايا بحثنا فائدتان تربويّتان هامّتان تترتّبان على البكاء من خشية الله، أو من الحزن على ما فات، أو نحو ذلك ممّا يدعو إلى البكاء في الله


(1) المصدر السابق: ص226، الحديث 9.

(2) السورة 17، الإسراء، الآيات: 107 ـ 109.

(3) السورة 19، مريم، الآية: 58.

299

سبحانه وتعالى، وهما في غاية الأهميّة القصوى:

الاُولى: أنّ حالة البكاء هي من أقرب الحالات إلى الله سبحانه وتعالى، وأشدّها تفاعلاً مع الله عزّ وجلّ، وانشداداً عاطفياً إليه عزّ اسمه.

والثانية: أنّ هذه الحالة يمكن استثمارها في سبيل تربية النفس وتزكيتها وتنميتها، وذلك عن طريق أن يفرض الشخص على نفسه في تلك الحالة ما يشاء من ترك المذموم من الخصال أو الأفعال، أو الالتزام بالممدوح من الخصال أو الأفعال، فإنّ النفس تقبل منه هذا التحميل في تلك الساعة التي هي ساعة الصفاء وساعة الانفتاح على العالَم العلوي، في حين أنّه لو أراد الإنسان أن يأخذ على نفسه التزاماً من هذا القبيل في ساعة أُخرى ربّما لا تُعطيه نفسه ذلك ولا تطاوعه، وهي أطوع لك في إعطاء التزام كهذا في ساعة البكاء.

ولكننا يجب أن ننبّه أخيراً إلى بعض الآفات التي قد تترتّب على البكاء؛ كي يلتفت إليها سالك الطريق ويحترز منها، وطبعاً إنّ هذه الآفات لو ترتّبت على البكاء فهي نتيجة ضعف نفس الباكي، وإلاّ فليس من المفروض أن يترتّب على البكاء من خشية الله أو من عظمته أو ما إلى ذلك غير الخير والسعادة. وتلك الآفات ما يلي:

1 ـ هناك آفة لا تختصّ بالبكاء، بل كثيراً ما تعرض على باقي العبادات والطاعات أيضاً، وهي: آفة العُجب وحالة الزهو والكبرياء والتبختر وما إلى ذلك، وذلك من أعظم الذنوب. والنفس نتيجة ضعفها قد تبتلي بهذه الحالة عقيب طاعاتها وعباداتها، فلابدّ من الالتفات إلى هذه الآفة والتجنّب عنها، وذلك بالتفات النفس ضمن ماهي عليه من كمال نتيجة طاعتها إلى ما لها من نقائص لا تنتهي مهما بلغت من مرقاة الكمال، وأنّ ما حصلت عليه من كمال إنّما حصلت عليه بفضل الله ورحمته وبحوله وقوّته، وليس قد بلغت ما بلغت من تلقاء نفسها. قال الله تعالى:

300

﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً ...﴾(1).

وقد ورد في حديث صحيح السند عن الحذّاء، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): قال الله عزّ وجلّ: لا يتّكل العاملون على أعمالهم التي يعملون بها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم(2) في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلى في جواري ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا فإن رحمتي عند ذلك تدركهم وبمنّي أُبلّغهم رضواني وألبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسمّيت»(3).

وورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن(عليه السلام)قال: «قال: أكثر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير. قلت: أمّا المعارون فقد عرفت أنّ الرجل يعار الدين ثُمّ يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ فقال: كلّ عمل تريد به الله عزّ وجلّ فكن فيه مقصّراً عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ»(4).

وقد رُوِي أنّ زنديقاً وصدّيقاً يدخلان مسجداً، فيخرج الصدّيق زنديقاً؛ لما يُبتلى به من عُجب وغرور، ويخرج الزنديق صدّيقاً؛ لما يحظى به من توبة ومن


(1) السورة 24، النور، الآية: 21.

(2) هكذا ورد في البحار الطبعة الجـديدة، وكأنّ فيه سقطاً، ولعلّ الصحيح: «وأفنوا أعمارهم». كما ورد كذلك في أحد النقلين في أُصول الكافي 2 / 61، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا بالقضاء، الحديث 4، وإن كان ورد في النقل الآخر مثل ما في البحار هنا، راجع المصدر نفسه 71، باب حسن الظنّ بالله الحديث 1.

(3) البحار 71/228.

(4) المصدر السابق: ص233.

301

استهانته بنفسه بالقياس إلى الصدّيق(1).

ورُوي ـ أيضاً ـ: أنّ عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ وصل في سيره في الصحراء إلى صومعة أحد الرهبان، وانشغل بالحديث معه، وإذا بشاب معروف بالفسق والفجور ومشهور بالمعاصي مرّ في ذاك الطريق، فوقع نظره على عيسى(عليه السلام) مع ذاك العابد، ففترت رجله عن المشي، ووقف مكانه وقال: يا إلهي لو رآني عيسى على ما أنا عليه من الوضع المخجل ماذا أفعل؟! ولو عاتبني على ما صدر عنّي كيف أُعالج الوضع؟! ولمّا وقع نظر العابد على الفاسق رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ لا تحشرني في يوم القيامة مع هذا الفاسق الفاجر، فأوحى الله إلى عيسى(عليه السلام): قل لهذا العابد: إنّنا استجبنا دعاءك، ولا نحشرك معه؛ فإنّه أصبح من أهل الجنّة بتوبته، وأصبحت من أهل النار بغرورك ونخوتك وعجبك(2).

2 ـ والآفة الثانية التي قد تترتّب على البكاء هي: أنّ من تفاعل مع ربّه إلى حدّ البكاء قد يتخيّل أنّه إذن أدّى الوظيفة، فينسى أو يتناسى وظائفه التي تكلّفه بذل المال أو الراحة أو النفس أو ما إلى ذلك في سبيل المبدأ والعقيدة والإسلام والمسلمين، أو يغفل عن الوظائف الاجتماعيّة التي يجب أن يقوم بها، ويتقوقع على نفسه وهو مسرور بأنّه قد أدّى ما عليه مادام قد تفاعل مع الله تفاعلاً معنويّاً وصل إلى مستوى البكاء، ويكون ذلك خير وسيلة له للتقاعس عن التضحيات اللازمة من دون الإحساس بوخز الضمير. وهذه الآفة ـ أيضاً ـ قد تترتّب على العبادات الأُخرى ولو بمستوى أقلّ ممّا تترتّب على البكاء.

وهذه ـ أيضاً ـ من نتائج ضعف النفس، وإلاّ فليس المفروض بالبكاء أو بأيّ عبادة أُخرى أن يترتّب عليه ذلك.


(1) خزينة الجواهر: 647.

(2) خزينة الجواهر: 647.