وبكلمة اُخرى نقول: إنّ اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة يكون كاكتنافه بالقرينة الفعليّة في عدم انعقاد الإطلاق معه.
وأمّا على المسلك العرفيّ: فالكلام هنا يتفرّع على أنّ الدالّ على الإطلاق هل هو عدم ما يكون قرينة بالفعل، أو عدم ما يصلح للقرينيّة بلا فرق بين ما يكون قرينة بالفعل وما لا يكون كذلك؟ فعلى الأوّل يتمّ الإطلاق بخلافه على الثاني.
ويتعيّن الأوّل لو قلنا في المسلك العرفيّ بالاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان، وفسّرناها بأنّ الأصل كونه في مقام البيان بنحو يفهم المخاطب تمام المراد ولا يكون الكلام مجملاً في إفادته لتمام المراد(1).
تنبيهان
وفي نهاية بحث مقدّمات الحكمة نذكر تنبيهين:
الكلام في استفادة بدليّة الإطلاق واستغراقيّـته من مقدّمات الحكمة:
التنبيه الأوّل: يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تثبت ذات الإطلاق، وأمّا بدليّته واستغراقيّته فلابدّ من أن تستفاد بدالّ آخر(2)،
(1) ويتعيّن الثاني لو قلنا في المسلك العرفيّ بالاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان، وفسّرناها بأنّ الأصل كونه في مقام البيان بأن يأتي بما يدلّ على مراده ولو بأحد معنييه، أي: بما يصلح للقرينيّة، وهذا هو الحقّ بعد فرض الإيمان بالمسلك العرفيّ.
(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 395 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.
وتبعه على ذلك السيّد الاُستاذ(1) دامت بركاته، وكأنّ متابعته له ناشئة من خلطهبين البدليّة والاستغراقيّة في باب العموم والبدليّة والاستغراقيّة في باب الإطلاق.
توضيح ذلك: أنّ البدليّة والاستغراقيّة في كلّ من بابي العموم والإطلاق يختلفان عنهما في الباب الآخر، فإنّه في باب العموم تلحظ أفراد الطبيعة وحصصها، فتارة يحكم على جميع تلك الأفراد بحكم وهو الاستغراقيّة، واُخرى يحكم على فرد واحد منها وهو البدليّة. وأمّا في باب الإطلاق فإنّما تلحظ ذات الطبيعة لا الأفراد والحصص ويحكم عليها بحكم، كما لو قال: (أكرم العالم)، فالموضوع في هذا المثال للحكم ـ الذي هو من الاُمور النفسانيّة ـ في عالم الجدّ هو مهيّة العالم، وهذه المهيّة تارة: يفرض لحاظها بما هي، لا بما هي منطبقة على ما في الخارج وفانية في واقعها، وعندئذ لا يمكن الحكم عليها بوجوب الإكرام، وأيّ حكم حكم به عليها لا يعقل سريانه إلى الأفراد لا حقيقة ولا مجازاً، واُخرى: يفرض لحاظها بما هي فانية في واقعها بالمعنى الصحيح من الفناء الذي سيظهر إن شاء الله، وعندئذ يسري الحكم إلى الأفراد لكن لا حقيقة؛ لما عرفت من أنّ الحكم من الاُمور النفسانيّة القائمة في عالم النفس، وما يكون كذلك يستحيل عروضه على ما في الخارج كما برهن عليه في محلّه، بل مجازاً بمعنى أنّ هذا الفناء يحكم عليه بحكم السراية ويجعل بمنزلتها، وحيث إنّ جميع أفراد العالم نسبتها إلى هذا الفناء على حدّ سواء فلا محالة يكون نسبتها إلى السراية على حدّ سواء.
ومن هنا يظهر: أنّ الاستغراقيّة في باب الموضوعات تستفاد من نفس الإطلاق
(1) راجع محاضرات الفيّاض، ج 5، ص 385 ـ 386 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.
ومقدّمات الحكمة ولا نحتاج في إثباتها إلى دالٍّ آخر، وأمّا البدليّة فبما أنّها ـ على ما ظهر من هذا الكلام ـ تكون خلاف طبع الإطلاق في باب الموضوعات يستحيل استفادتها من نفس مقدّمات الحكمة بل تحتاج إلى دالّ آخر، وتنوين التنكير في لغة العرب وضعت لتقييد المهيّة بقيد الوحدة، بحيث يكون قوله: (أكرم عالماً) في قوّة قوله: (يجب إكرام عالم واحد فقط)، وهذا التقييد يصبح مانعاً عن سريان الحكم إلى الأفراد ويقف على الطبيعة، ويكون إكرام كلّ فرد مصداقاً للواجب لا واجباً كما في القسم الأوّل، ويكفي في امتثال هذا الحكم إكرام فرد واحد. هذا كلّه بالنسبة إلى موضوع الحكم.
وأمّا بالنسبة إلى متعلّق الحكم: فالاستغراقيّة تستحيل استفادتها من مقدّمات الحكمة بل لابدّ لها من دالّ آخر؛ وذلك لأنّ الاستغراقيّة ـ على ما عرفت ـ لها معنيان: استغراق عموميّ وهو كون الحكم ابتداءً على الحصص بنحو الشمول، واستغراق إطلاقيّ وهو سريان الحكم من الطبيعة إلى الأفراد.
أمّا الاستغراقيّة بالمعنى الأوّل: ففي باب المتعلّقات بمكان من الإمكان، لكن ليست وظيفة مقدّمات الحكمة إثبات الاستغراقيّة بذلك المعنى وإنّما هي تثبت الاستغراقيّة بالمعنى الآخر.
وأمّا الاستغراقيّة بالمعنى الثاني ـ أعني: السريان ـ: ففي باب المتعلّقات محال، فإنّه لو قال مثلاً: (صلّ) وفرضنا سراية الحكم من المتعلّق إلى الأفراد، فإن كان المراد من ذلك سريانه إلى الأفراد في الرتبة المتأخّرة عن وجودها لزم تحصيل الحاصل، وإن كان المراد من ذلك سريانه إلى الحصص الذهنيّة المقدّرة الوجود في الخارج فتلك الحصص ليست إلّا مفاهيم كأصل مفهوم المهيّة، ولا معنى لسراية الحكم من مفهوم إلى مفهوم، فإنّ السراية تكون بملاك الفناء، ولا معنى لفناء مفهوم
في مفهوم، وإنّما يفني المفهوم في مصداقه والعنوان في معنونه، وليس فرض فناء أصل مفهوم الطبيعة في مفهوم الحصص كفرض فناء مفهوم الصلاة في مفهوم الصوم.
وبكلمة اُخرى نقول: إنّ فرد المتعلّق لا يوجد في الخارج في ظرف فعليّة الحكم حتّى يسري الحكم إليه، وإنّما يكون ظرف وجوده هو ظرف سقوط الحكم بالامتثال، وهذا بخلاف الموضوع، فإنّ ظرف وجود الموضوع في الخارج هو ظرف فعليّة الحكم فيسري الحكم إليه.
فظهر: أنّ مقتضى طبع الإطلاق في باب المتعلّقات هو البدليّة وإنّما تستفاد الاستغراقيّة من دالّ آخر غير مقدّمات الحكمة، وفي باب الموضوعات بالعكس. هذا.
ولا يخفى أنّ مقصودنا بالاستغراقيّة انحلال الحكم بحسب الأفراد إلى أحكام عديدة وبالبدليّة عدم انحلاله إليها، لا ما اصطلح عليه الأصحاب، فإنّهم يطلقون الاستغراقيّة على كون الحكم بحيث يلزم في امتثاله تطبيق الامتثال على أفراد عديدة، والبدليّة على كون الحكم بحيث يكفي في امتثاله فرد واحد.
وعلى أيّ حال فلا مشاحّة في الاصطلاح.
ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) ذهب ـ كما قلنا آنفاً ـ تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى أنّ كلاًّ من البدليّة والاستغراقيّة يجب أن يستفاد بدالّ آخر غير مقدّمات الحكمة. وهذا الكلام تامّ على مبناه في تفسير استغراقيّة المطلق وبدليّته، فإنّه يقول: إنّ المهيّة تارة تلحظ فانية في جميع الأفراد، واُخرى تلحظ فانية في فرد واحد، ومعنى الاستغراق هو لحاظها فانية في الجميع ومعنى البدليّة لحاظها فانية في فرد واحد. ومن الواضح على هذا المبنى أنّ الاستغراقيّة والبدليّة قيد زائد
ـ وهو لحاظ الفناء في الكلّ أو في الواحد على سبيل البدل ـ يجب إثباته بدليل آخر غير دليل أصل الإطلاق.
لكن لا يخفى أنّ هذا التفسير للاستغراقيّة والبدليّة إنّما يتمّ في الاستغراقيّة والبدليّة العموميّة لا الإطلاقيّة، فإنّه في باب العموم تارة يلحظ المفهوم فانياً في تمام الأفراد، واُخرى يلحظ المفهوم فانياً في فرد واحد، لكن أحد المفهومين غير المفهوم الآخر، وذلك كمفهوم كلّ عالم في قولك: (أكرم كلّ عالم) الفاني في تمام الأفراد، ومفهوم أيّ عالم في قولك: (أكرم أيّ عالم شئت) الفاني في أحد الأفراد.
وأمّا في باب المطلق فالحكم ثابت على مفهوم الطبيعة، وهو لا يعقل فناؤه في تمام الأفراد ولا في أحد الأفراد، وإنّما يكون فانياً في نفس الحيثيّة المشتركة، بمعنى كونه مرآة لها لا لتمام الأفراد ولا لأحد الأفراد، فإنّ كلّ عنوان إنّما يفنى في معنونه، وعنوان (تمام الأفراد) إنّما هو نفس عنوان (كلّ أحد) وعنوان (أحدها) إنّما هو نفس عنوان (أحد الأفراد) وليست الطبيعة عنواناً لواحد منهما.
وتوضيح ما ذكرناه يحصل ببيان ما هو الصحيح من معنى الفناء وما هو الباطل من معناه الذي يوجب تخيّله تخيّل فناء الطبيعة تارة في تمام الأفراد واُخرى في أحد الأفراد، فنقول: إنّ المهيّة المتصوّرة في الذهن لها جهتان: جهة ما يحمل عليها بالحمل الأوّليّ وجهة ما يحمل عليها بالحمل الشائع، فمهيّة العالم مثلاً المتصوّرة في الذهن تارة: تلحظ بحملها الأوّليّ وبما هي عالم فتُرى أنّها العالم الخارجيّ ويحكم عليها بوجوب إكرامها، واُخرى: تلحظ بحملها الشائع، وليست بحملها الشائع إلّا صورة ذهنيّة دماغيّة من مخلوقات النفس ـ مادّيّة أو روحيّة ـ ولا يحكم عليها بوجوب الإكرام ولا يريد المولى إكرامها أصلاً، ومعنى فناء الطبيعة هو لحاظها خارجيّة وبالحمل الأوّليّ، وبهذا المعنى لا يفنى كلّ عنوان إلّا في
معنونه، فالطبيعة تفنى في حقيقتها ومفهوم كلّ أحد يفنى في كلّ واحد من الأفراد ومفهوم أحد الأفراد يفنى في واقع أحد الأفراد، ومعنى فنائه ما عرفت من لحاظه بحمله الأوّليّ، فلا يرد عليه ما سيأتي من إشكال الفرد المردّد على التفسير الآتي للفناء.
ويمكن أن يفسّر الفناء بمعنى آخر، وهو: أنّ المفهوم الذي يكون في عالم النفس ترى النفس به الأفراد الخارجيّة، وعندئذ يمكن أن يدّعى أنّه تارةً: ترى النفس به تمام الأفراد وهو عبارة عن الفناء في تمام الأفراد، واُخرى: ترى النفس به أحد الأفراد وهو عبارة عن الفناء في أحد الأفراد.
وبكلمة اُخرى: إنّ الطبيعة تارة: تلحظ بما هي بحيث لا يسري هذا اللحاظ إلى الأفراد فلا فناء، واُخرى: تلحظ بحيث يسري هذا اللحاظ من الطبيعة إلى تمام أفرادها أو أحد أفرادها.
ويرد عليه:
أوّلاً: ما برهن عليه في محلّه من أنّ النفس يستحيل أن ترى ما في وراء عالمها، كما أنّ دعوى سراية اللحاظ من الطبيعة إلى الأفراد أيضاً غير مسموعة، فإنّ اللحاظ المتعلّق بالطبيعة حاله حال سائر الصفات النفسانيّة المتعلّقة بها، ولا يعقل سريان شيء منها إلى الأفراد، فمثلاً لو تعلّق العلم بالطبيعة ـ كما لو علم إجمالاً بوجود طبيعة الإنسان في الدار ـ لم يسر هذا العلم من الطبيعة إلى الفرد، وكذا من أحبّ طبيعة العالم مثلاً لا يسري هذا الحكم إلى أفراد العالم، فربّما يبغض جميع أفراده الموجودة في الخارج لأغراض شخصيّة معهم مثلاً.
وثانياً: أنّ الفناء بأحد هذين المعنيين الأخيرين في أحد الأفراد على سبيل البدل ـ بعد فرض صحّة أصل هذا المعنى للفناء ـ غير صحيح؛ لأنّه إن اُريد بأحد
الأفراد مفهوم أحد الأفراد فهذا فناء مفهوم في مفهوم وهو غير معقول، وإن اُريد به واقع أحد الأفراد الموجود في الخارج قلنا: إن كان المراد من ذلك فرد معيّن خارجيّ كان هذا خلاف الفرض؛ إذ المفروض تصوير الإطلاق البدليّ بذلك، وهذا تقييد للطبيعة بتعيّنها في فرد واحد معيّن شخصاً، وإن كان المراد الفرد المردّد الخارجيّ فالفرد المردّد غير موجود في الخارج كما برهن عليه في محلّه.
الفرق بين إطلاق متعلّق الأمر وإطلاق متعلّق النهي:
التنبيه الثاني: ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره) أنّ الإطلاق في متعلّق الأمر بدليّ وفي متعلّق النهي استغراقيّ ينحلّ إلى نواهي عديدة، ولذا يسقط الأمر بالامتثال بالوجود الأوّل ولا يسقط النهي بالعصيان بالوجود الأوّل. وهذا الذي ذكره مسلّم عند الأصحاب وعند الفهم العرفيّ العامّ، وقال(قدس سره) في وجه ذلك: إنّ نفس طبيعة البعث والزجر تقتضيان ذلك، فالبعث نحو الطبيعة يقتضي الانبعاث نحو فرد منها؛ إذ الطبيعة يكفي في وجودها وجود فرد منها، والزجر عنها يقتضي الانزجار عن تمام أفرادها؛ لما عرفت من أنّ الطبيعة توجد بفرد منها فلابدّ في انتفائها من انتفاء تمام أفرادها(1).
(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 502 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم. إلّا أنّ ظاهر نهاية الأفكار رجوعه عن هذا البيان إلى بيان الفرق بين مصلحة الأمر القائمة بالطبيعة ومفسدة النهي القائمة بالأفراد وانحلاليّتها عادة. راجع نهاية الأفكار،ج 1 ـ 2، ص 569 ـ 570 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.
أقول: هذا الكلام منه(قدس سره) خلط بين مقامين، توضيح ذلك: أنّ بين الأمر والنهي فرقين:
الأوّل: الفرق بينهما في عالم الجعل، وهو: أنّ الأمر يستفاد منه حكم واحد والنهي تستفاد منه أحكام عديدة، كما هو واضح بحسب الذوق العرفيّ لا غبار عليه.
الثاني: الفرق بينهما في عالم الامتثال، وهو: أنّه لو جعل المولى النهي أيضاً بنحو وحدة الحكم كالأمر ـ كما لو كان مقصوده انزجار العبد من طبيعة شرب الخمر لكن لا بنحو تعدّد المطلوب بحيث لو أتى ببعض أفراد الشرب وترك بعضاً آخر كان مطيعاً وعاصياً، بل بنحو وحدة المطلوب بحيث لو أتى ببعض أفراده وترك بعضاً آخر كان عاصياً ـ فمع ذلك يوجد فرق بين الأمر والنهي، وهو: أنّ الأمر يمتثل بإتيان فرد واحد، والنهي لا يمتثل إلّا بترك الجميع كما هو ظاهر أيضاً في الفهم العامّ.
وأنت ترى أنّ ما ذكره(رحمه الله)من المدّعى هو الأوّل، وما جعله دليلاً عليه إنّما يدلّ على الثاني ـ كما هو واضح ـ ولا يكون دليلاً على الأوّل، فإنّ طبيعة البعث لا تقتضي أن يكون بعثاً واحداً ولا طبيعة الزجر تقتضي أن يكون زواجر عديدة، وإنّما وحدة البعث والزجر وتعدّدها تكون بيد المولى، فله أن يأمر بشيء بأوامر عديدة بعدد أفراد ذلك الشيء مثلاً في حدود القدرة، وله أن ينهى عن شيء بنهي واحد وبالعكس. فهذا خلط بين عالم الجعل والامتثال، فالذي ينبغي هو جعل الكلام في مقامين، وبما أنّ دليل المحقّق العراقيّ إنّما يفي بالمقام الثاني نحن نقدّمه في الذكر ونقول:
المقام الأوّل: في الفرق بين الأمر والنهي في عالم الامتثال، والأصحاب ـ قدّس
اللّه أسرارهم ـ لم يذكروا فيما نحن فيه فرقين بين الأمر والنهي وتشخيص أحدهما عن الآخر.
وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) أنّ طبيعة الأمر والنهي تختلف؛ إذ الأمر طلب لإيجاد الطبيعة والنهي طلب لتركها، والطبيعة توجد بوجود واحد وتنعدم بانعدام جميع الأفراد، فالأمر يقتضي إيجاد فرد واحد والنهي يقتضي ترك تمام الأفراد(1).
أقول: هذا الكلام هو ما مرّ آنفاً من المحقّق العراقيّ(قدس سره) مستدلاًّ به على الفرق بين الأمر والنهي بالانحلال وعدمه، وقلنا: إنّ جعله دليلاً على ذلك في غير محلّه. هذا.
وأورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بأنّ ثبوت الفرق في نفس طبيعة الأمر والنهي ممنوع وإنّما الفرق يكون في المتعلّق؛ وذلك لأنّ المتعلّق تارة: يلحظ فانياً في تمام الأفراد، واُخرى: يلحظ فانياً في فرد واحد، فإن لوحظ فانياً في تمام الأفراد ففي الأمر يلزم إيجاد تمام الأفراد وفي النهي يلزم ترك تمام الأفراد، وإن لوحظ فانياً في فرد واحد ففي الأمر يلزم الإتيان بفرد واحد وفي النهي يلزم ترك فرد واحد. فظهر: أنّه لا فرق من حيث نفس طبيعة الأمر والنهي وإنّما الفرق بينهما في المتعلّق، حيث إنّ متعلّق الأمر اُخذ فانياً في فرد واحد ومتعلّق النهي اُخذ فانياً في تمام الأفراد(2). ثمّ أخذ ـ دامت بركاته ـ في
(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 233 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ.
(2) راجع محاضرات الفيّاض، ج 4، ص 89 ـ 92.
بيان ما هو السرّ في كون المتعلّق في باب الأمر مأخوذاً فانياً في فرد واحد وفي باب النهي مأخوذاً فانياً في تمام الأفراد.
أقول: يرد عليه: ما مضى من عدم معقوليّة لحاظ الطبيعة فانية في تمام الأفراد ولا في أحد الأفراد، وإنّماتكون فانية في نفس الحيثيّة الجامعة بالمعنى الصحيح الذي مضى ذكره، ومن الواضح ـ كما مضى عن المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ أنّ وجود هذه الطبيعة يكون بفرد واحد وانتفاءها بانتفاء تمام الأفراد، فالبعث نحوها يقتضي إيجاد فرد واحد والزجر عنها يقتضي الانزجار عن تمام الأفراد، وهذا هو الفرق بينهما في عالم الامتثال.
ثمّ إنّ للمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هنا كلاماً يشبه كلام السيّد الاُستاذ نغمض العين عن ذكره هنا؛ لأنّ هذا المقدار من الكلام كاف هنا والتتمّة موكولة إلى محلّها من مبحث الأمر والنهي.
المقام الثاني: في الفرق بين الأمر والنهي في عالم الجعل، وهو انحلال النهي إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الطبيعة المتعلّق بها النهي بخلاف الأمر، فنقول: أمّا عدم انحلال الأمر إلى أوامر عديدة فقد عرفت أنّه على طبق القاعدة؛ إذ مقتضى طبع الإطلاق في المتعلّق هو البدليّة، فالكلام إنّما هو في سرّ وقوع الانحلال والاستغراقيّة في باب النهي، فنقول: قد عرفت أنّ الاستغراقيّة لها معنيان: أحدهما: سريان الحكم من الطبيعة إلى الأفراد. وقد عرفت أنّ هذا محال في باب المتعلّق. وثانيهما: كون الحكم في عالم الجعل متعلّقاً بالحصص وهذا هو الاستغراقيّة العموميّة. وهذا لا مانع منه في باب المتعلّقات لكن دلالة مقدّمات الحكمة عليه محال كما مضى، ولابدّ من الدلالة عليه بقرينة اُخرى وتلك القرينة في باب النهي هي الملاك.
توضيح ذلك: أنّ النهي يكون غالباً ناشئاً من المفسدة في المتعلّق لا المصلحة في الترك، والمفسدة تكون ثابتة في كلّ واحد من أفراد الطبيعة على حدة، فلا محالة يكون الحكم في عالم الجعل على الحصص وبنحو العموم وإن بيّن في عالم الإثبات بنحو الإطلاق، فإنّ ذلك غير مخالف للذوق العرفيّ، فمثلاً: لو كان ملاك وجوب إكرام العالم موجوداً في كلّ فرد فرد من أفراد العلماء كان الحكم في عالم الجعل بنحو العموم، لكن كما يجوز بيان الحكم بلسان العموم بأن يقول: (أكرم كلّ عالم) كذلك يجوز ـ بدون أيّ مؤونة في نظر العرف ـ بيانه بنحو الإطلاق بأن يقول: (أكرم العالم). هذا.
والبرهان على ما ذكرناه من ثبوت المفسدة في كلّ واحد من الأفراد على نحو الانحلال هو: أنّه لولاه فإمّا تكون ثابتة في الوجود الأوّل فقط، أو في المجموع من حيث المجموع بعد عدم احتمال ثبوته في خصوص الوجود السابع مثلاً ونحو ذلك، وكلا الاحتمالين منفيّان بالإطلاق:
أمّا الاحتمال الأوّل: فلأنّه مساوق لكون الموضوع في عالم الثبوت مقيّداً بالوجود الأوّل مع أنّه ليس كذلك في عالم الإثبات.
وأمّا الاحتمال الثاني: فلأنّه بناءً عليه لا مانع من ارتكاب تمام الأفراد ما عدا الفرد الأخير؛ إذ المفسدة إنّما تترتّب على المجموع من حيث المجموع، فلابدّ من تقييد النهي بآخر الوجود أو بأحد الأفراد أو بعنوان المجموعيّة وهو أيضاً منفيّ بالإطلاق.
هذا تمام الكلام في مباحث الإطلاق.
التقييد
البحث الثاني: في التقييد. وفيه مبحث واحد وهو مبحث حمل المطلق على المقيّد وعدمه، ويقع الكلام هنا في مقامين:
حمل المطلق على المقيّد بالقيد المتّصل:
المقام الأوّل: في القيد المتّصل كما لو قال: (أعتق رقبة) ثمّ ذكر الإيمان متّصلاً.
وذكره للإيمان متّصلاً تارةً: يفرض في نفس الجملة الاُولى كما لو قال ابتداءً: (أعتق رقبة مؤمنة)، واُخرى: يفرض في جملة ثانية متّصلة بالجملة الاُولى:
أمّا على الأوّل: فلا إشكال في التقييد؛ لعدم انعقاد الإطلاق رأساً؛ لانتفاء المقدّمة الثالثة من مقدّمات الحكمة.
وأمّا على الثاني: فتارة: يفرض أنّه ذكر الإيمان صريحاً بأن أمر بعتق الرقبة المؤمنة فقال: (أعتق رقبة، أعتق رقبة مؤمنة)، واُخرى: يفرض أنّه نهى عن عتق الكافرة فقال: (أعتق رقبة، لا تعتق رقبة كافرة):
أمّا الثاني: فإن كان الكلام بحيث استظهر منه كون قوله: (لا تعتق رقبة كافرة) إرشاداً إلى مانعيّة الكفر عن صحّة الكفّارة فحاله حال ما مضى من القسم الأوّل، وإن استظهر منه الحكم التكليفيّ فلا يتصوّر هناك منافاة بين الجملتين إلّا من باب
استحالة اجتماع الأمر والنهي، فإن فرض أنّ استحالته واضحة في نظر العرف تحقّق التقييد المتّصل وصار أيضاً كالقسم الأوّل، وإن فرض أنّ استحالة اجتماعهما ليست واضحة في نظر العرف وإنّما هي أمر دقّيّ يظهر بالفكر والدقّة كان التقييد منفصلاً ويدخل فيما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من المقام الثاني(1).
وأمّا الأوّل: فإن كان الكلام بحيث استظهر منه وحدة الحكم المذكور في الجملتين، أعني: قوله: (أعتق رقبة، أعتق رقبة مؤمنة) تحقّق التقييد وكان كالقسم الأوّل، وإن استظهر منه التعدّد بأن وجب عتق رقبتين فلا منافاة بينهما بل يجب عتق رقبة مطلقاً وعتق رقبة مؤمنة.
نعم، لو ثبتت وحدة الحكم من الخارج دخل ذلك في التقييد بالمنفصل(2) فهو داخل فيما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من المقام الثاني.
وإن كان الكلام مجملاً فاحتمل فيه وحدة الحكم وتعدّده كان ذلك من الكلام المحفوف بما يصلح للقرينيّة، وهو مانع عن الأخذ بالعموم فضلاً عن الإطلاق.
(1) ولو فصّل بين العبادات وغيرها بوضوح أنّ النهي يضرّ بالقربة في العبادات كان التقييد متّصلاً في العبادات ومنفصلاً في غيرها.
أقول: إنّ هذا الكلام كأنّه ناتج من فكرة أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، فرغم أنّ المقيّد متّصل لفظاً لكن كونه مقيّداً لم يعرف إلّا بدليل منفصل فالتقييد يعتبر منفصلاً، أي: أنّ الإطلاق قد انعقد بالفعل؛ لأنّ المقيّد لم يبرز مقيّداً في ظاهر الحال ولدى الخطاب. ولكن الظاهر أنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنّ اتّصال المقيّد لفظاً بالمطلق يعطي للكلام ظهوراً بنحو القضيّة التقديريّة في أنّه لو كان هذا مقيّداً فالإطلاق غير مقصود، والمفروض أنّه ثبت ـ ولو في وقت منفصل ـ أنّ هذا كان مقيّداً.
(2) ظهر من تعليقنا السابق: أنّ هذا مقيّد متّصل ولا يأتي هنا أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
حمل المطلق على المقيّد بالقيد المنفصل:
المقام الثاني: في القيد المنفصل، والكلام فيه تارة: يقع من حيث الكبرى، واُخرى: يقع من حيث الصغرى:
أمّا الكلام من حيث الكبرى: فنقول: تارة: يفرض أنّ القيد الوارد غير مناف لذاك الإطلاق المنفصل، كما لو قال: (أعتق رقبة) وقال: (أعتق رقبة مؤمنة) ولم نحرز وحدة الحكم، واُخرى: تفرض منافاته إيّاه:
أمّا في القسم الأوّل: فلا إشكال في عدم حمل المطلق على المقيّد كما هو واضح.
وأمّا في القسم الثاني: فإن قلنا: إنّ المقدّمة الثالثة من مقدّمات الحكمة عبارة عن عدم بيان القيد ولو منفصلاً فلا إشكال في تقديم المقيّد؛ لكونه هادماً للظهور الإطلاقيّ من أساسه؛ لرفعه لإحدى المقدّمات. وإن قلنا: إنّ المقدّمة الثالثة عبارة عن عدم بيان القيد متّصلاً فالظهور الإطلاقيّ تامّ في نفسه فيقع التعارض بين ظهورين فعليّين.
فعندئذ نقول: تارة: يفرض أنّ القيد وارد في مقام تقييد المطلق، أي: أنّ القيد كان ناظراً إلى دليل المطلق كما في أدلّة الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة، كقوله: (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) أو: (إلّا بطهور) أو: (لمَن لم يقم صلبه) ونحو ذلك. وفي هذا القسم لا إشكال في حمل المطلق على المقيّد ولو فرض أنّ المطلق أظهر في حكمه من المقيّد في حكمه؛ وذلك لتماميّة الحكومة بملاك النظر، والحاكم يقدّم على المحكوم ولو كان المحكوم أقوى ظهوراً من الحاكم(1).
(1) لا يخفى أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو فرضنا أنّ المقيّد كان ناظراً إلى تفسير الدليل المطلق لا ما إذا ثبت مجرّد نظره إلى تقييد واقع الجعل أو واقع الحكم، وإلّا فلا
←
واُخرى: يفرض أنّه ليس وارداً في مقام تقييد المطلق بل في مقام بيان حكم نفسيّ، كما لو قال: (أعتق رقبة) وقال: (لا تعتق الرقبة الكافرة) وكان ذلك في مقام بيان حرمة عتق الكافرة نفسيّاً لا في مقام الإرشاد إلى مانعيّة الكفر عن الكفّارة، لكن ثبتت المنافاة بين نفس هذين الحكمين ـ كما لو قلنا في هذا المثال باستحالة اجتماع الأمر والنهي ـ فعندئذ نقول: إنّ هذا داخل في المتعارضين ولابدّ من تطبيق قوانين التعارض عليه، ولهم في الجمع بينهما مسلكان:
أحدهما: مسلك الأظهريّة، وهو مختار المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، بمعنى أنّ كلاًّ من الدليلين كان أظهر فيما تكفّل بيانه من الحكم كان مقدّماً على الآخر(1)، وعليه فربما يقدّم المقيّد وربما يقدّم المطلق؛ إذ ربما يكون المقيّد أظهر في القيد وربما يكون المطلق أظهر في الإطلاق، فليس هناك ضابط كلّيّ.
وثانيهما: مسلك القرينيّة، وهو مختار المحقّق النائينيّ(قدس سره)، بمعنى أنّ كلاًّ منهما عدّ في العرف قرينة على الآخر فهو المقدّم، وهذا ليس دائراً مدار الأظهريّة في نفس الحكم، فربما يكون غير الأظهر قرينة على الأظهر، والقرينيّة دائرة مدار مناسبات عرفيّة، منها: كون أحدهما فضلة في الكلام ومن توابع الكلام بخلاف الآخر، كما في قولنا: (رأيت أسداً يرمي)، فكلمة (يرمي) هي التي تكون قرينة لحمل كلمة (أسد) على المعنى المجازيّ دون العكس ولو فرض أنّ ظهور كلمة
محالة يقع التعارض بين الدليل الذي يدلّ على أنّ الجعل أو الحكم مطلق والدليل الذي يدلّ على أنّه مقيّد، فيجب أن ندخل في البحث الآتي من المسلكين في باب الجمع بين المطلق والمقيّد.
(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 393 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.
(أسد) في الحيوان المفترس أقوى من ظهور كلمة (يرمي) في رمي السهم. وعلى هذا المسلك فالمقيّد مقدّم على المطلق؛ لأنّه الذي يعدّ عرفاً في غير فروض نادرة قرينة للتصرّف في المطلق دون العكس، وهذا المسلك هو المسلك المختار. وتحقيق الكلام في هذا المقام موكول إلى مبحث التعادل والتراجيح.
وأمّا الكلام من حيث الصغرى ـ وهو: أنّه في أيّ مورد تتحقّق المنافاة بين المطلق والمقيّد وفي أيّ مورد لا تتحقّق المنافاة بينهما؟ ـ: فنقول: إذا كان المقيّد وارداً في مقام التقييد وناظراً إلى المطلق فلا إشكال في المنافاة، وإلّا بأن كان وارداً في بيان حكم نفسيّ:
فإن كان المطلق والمقيّد مختلفين في السلب والإيجاب الواردين على شيء واحد لا فرق بينهما إلّا بالإطلاق والتقييد، كقوله: (أعتق رقبة) وقوله: (لا تعتق رقبة كافرة) بناءً على استحالة اجتماع الأمر والنهي، وكقوله: (أكرم العالم) وقوله: (لا تكرم العالم الفاسق) فلا إشكال أيضاً في المنافاة.
وإن كانا موافقين في السلب والإيجاب فتارة: يكون المطلق شموليّاً، واُخرى: بدليّاً:
فإن كان المطلق شموليّاً كقوله: (أكرم العالم) وقوله: (أكرم العالم العادل) فقد ذهب المحقّق النائينيّ(قدس سره) إلى أنّه لا منافاة بينهما؛ لإمكان أن يكون الأوّل بياناً لموضوع الحكم والثاني بياناً لحصّة خاصّة من موضوع الحكم. نعم، لو علمنا صدفة من نفس الدليلين أو من الخارج أنّهما مسوقان لبيان حكم واحد بما له من الحدّ وقع التنافي بينهما؛ إذ من المستحيل أن يكون حكم واحد محدوداً بحدّين: حدّ الإطلاق وحدّ التقييد(1)، فيحمل المطلق على المقيّد بناءً على اختيار ذلك
(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 541 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(قدس سره)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 581 ـ 582 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.
فيما مضى من البحث الكبرويّ.
أقول: يرد على ذلك: منع عدم كون مثل قوله: (أكرم العالم العادل) منافياً لمثل قوله: (أكرم العالم) بدعوى أنّ الأوّل بيان لحصّة خاصّة من موضوع الحكم والثاني بيان لنفس موضوع الحكم؛ وذلك لما نقّحناه في بحث مفهوم الوصف من أنّ الوصف وإن لم يكن له مفهوم على حدّ مفهوم الشرط لكن إذا حكم المولى بحكم على موضوع وذكر وصفاً لذلك الموضوع يقيّده كان ذاك الكلام دالّاً على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة، وإن لم يكن دالّاً على الانتفاء عند الانتفاء مطلقاً كمفهوم الشرط؛ وذلك لأنّه لو فرض ثبوت الحكم لتمام أفراد ذلك الموضوع ومع ذلك اُخذ الوصف في الكلام فهذا الوصف المذكور في الكلام لو فرض أخذه دخيلاً في الحكم في عالم الجعل كان ذلك لغواً، ولو فرض عدم دخله في عالم الجعل والثبوت وإن كان مذكوراً في عالم الإثبات كان ذلك خلاف أصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات، وعلى هذا فقوله: (أكرم العالم العادل) يدلّ على أنّه لا يجب بنحو القضيّة الكلّيّة إكرام كلّ عالم، فيكون معارضاً لقوله: (أكرم العالم) وعندئذ فإن وجدنا من الخارج قدراً متيقّناً لعدم وجوب الإكرام من العلماء غير العدول اقتصرنا عليه، وإلّا وقع التعارض في دائرة المطلق في غير مورد المقيّد.
نعم، هذا الإشكال لا يأتي في فرض نفي الحكم، بأن قال: (لا يجب إكرام العالم) وقال: (لا يجب إكرام العالم العادل)، فإنّ من المحتمل احتمالاً غير مخالف للفهم العرفيّ أن يتصدّى المولى أوّلاً لنفي وجوب إكرام طبيعة العالم دفعاً لتوهّم العبد وجوب إكرام طبيعة العالم، ثمّ يتصدّى لنفي وجوب إكرام العالم العادل دفعاً لتوهّم العبد أنّه وإن لم يجب إكرام طبيعة العالم بإطلاقها لكن لعلّه يجب إكرام خصوص العالم العادل، فكلامه(قدس سره) في فرض النفي تامّ.
وإن كان المطلق بدليّاً كما لو قال: (أعتق رقبة) وقال: (أعتق رقبة مؤمنة) فضابط وقوع التنافي بينهما وعدمه هو إحراز وحدة الحكم وعدمه كما هو واضح.
نعم، وقع الخلاف بين المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما) في أنّ وحدتهما هل تستكشف بقرينة اتّفاقيّة كإجماع ونحوه، أو أنّها تثبت بنفس الدليلين، فذهب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى الأوّل والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى الثاني.
والثاني إنّما يتمّ لو قلنا ببطلان اجتماع وجوبين: أحدهما موضوعه المطلق كــ (أعتق رقبة) والآخر موضوعه المقيّد كــ (أعتق رقبة مؤمنة)، وذلك إمّا بدعوى محذور ثبوتيّ أو بدعوى محذور إثباتيّ وأنّه خلاف ظاهر الدليل، وإلّا فلا يستفاد من نفس الدليلين حكم واحد؛ إذ من المحتمل أن يجب علينا عتق رقبة مّا ويجب علينا أيضاً عتق رقبة مؤمنة.
وذكر المحقّق النائينيّ(قدس سره) فيما نحن فيه كلاماً عجيباً، وهو: أنّ إطلاق المطلق يستدعي عدم دخل القيد في الغرض والمقيّد يستدعي دخله، ومن المستحيل أن يكون دخيلاً وغير دخيل فثبتت المنافاة بينهما(1). هذا كلامه(قدس سره).
وأنت ترى أنّ هذا الكلام غير مفيد في إثبات المدّعى؛ إذ من المحتمل أن يكون هناك غرضان والقيد دخيل في أحدهما دون الآخر، ومن البعيد أن يكون مراد المحقّق النائينيّ(قدس سره) هو ما تفي به عبارته التي ذكرنا مضمونها، فلعلّ مراده كان شيئاً آخر لم يتمكّن من بيانه بالعبارة، فإنّ ورود الإشكال على العبارة أوضح من أن يخفى.
ولعلّه لهذا لم يورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إشكالاً على هذا الكلام بل
(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 539 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع أيضاً فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 58.
وجّهه بتوجيه بعنوان التوضيح، لكن ما جعله توضيحاً لكلام المحقّق النائينيّ فيالحقيقة مباين لكلامه، وذلك التوضيح هو: أنّ تعلّق الوجوب بمطلق الطبيعة بنحو صرف الوجود وبالمقيّد أيضاً يرجع إلى التخيير بين الأقلّ والأكثر، فإنّ المكلّف عندئذ يتخيّر بين أن يعتق أوّلاً رقبة مؤمنة ويكتفي بذلك، أو يعتق أوّلاً رقبة غير مؤمنة ثمّ يعتق بعد ذلك رقبة مؤمنة، والتخيير بين الأقلّ والأكثر ببعض معانيه مستحيل وببعض معانيه خلاف ظاهر الدليل(1).
أقول: يرد عليه: أنّه إن أراد من ذلك التخيير في مرحلة الجعل أنكرنا كون ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ التخيير في مرحلة الجعل عنده وعند موافقيه عبارة عن كون حكم واحد متعلّقاً بالجامع بين أمرين، وأمّا فيما نحن فيه فيوجد حكمان مستقلاّن: أحدهما تعلّق بالمطلق والآخر بالمقيّد. وإن أراد منه التخيير في مرحلة الامتثال سلّمنا كون ما نحن فيه من هذا القبيل لكن لا محذور في ذلك، وما يدّعى من المحذور الثبوتيّ أو الإثباتيّ إنّما هو في التخيير في مرحلة الجعل.
فتحصّل: أنّ ما جعله وجهاً لامتناع اجتماع إيجاب كلّ واحد من المطلق بنحو صرف الوجود والمقيّد غير صحيح. وأمّا البحث عن غير هذا الوجه ممّا يستدلّ به على امتناع ذلك وتحقيق المطلب فلا نذكره هنا، ونقتصر على هذا المقدار؛ لأنّه مضى البحث عن ذلك مفصّلاً في مبحث الإجزاء لترتّب ثمرة مهمّة على ذلك فلا نعيد، وقد اخترنا هناك عدم الامتناع، وعلى هذا فلا تثبت وحدة الحكم إلّا بقرينة خاصّة من إجماع ونحوه كما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).
هذا تمام الكلام في المطلق والمقيّد.
(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 540 ـ 541 تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(قدس سره).
قد ذكر الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ في هذا المقام مباحث صغرويّة من قبيل أنّ كلمة (اليد) في آية السرقة مثلاً مجملة أو مبيّنة.
لكن هذه المباحث مربوطة بالفقه، فإنّ وظيفة الفقيه في الفقه هي تشخيص مداليل الكلام واستظهار الأحكام منها، وليس تشخيص الظهور مربوطاً بعلم الاُصول إلّا الظهورات الداخلة تحت قانون كلّيّ من قبيل الإطلاق ومفهوم الشرط ونحو ذلك، فالأولى صرف الكلام هنا عن المباحث الصغرويّة.
وأمّا البحث الكبرويّ عن ذلك: فأمران:
أحدهما: البحث عن حجّيّة المبيّن، وهو على قسمين: نصّ وظاهر، وهذا مربوط ببحث حجّيّة الظواهر وينقّح هناك.
وثانيهما: البحث عن رفع إجمال المجمل بالمبيّن، وهذا البحث قد أهمله الأصحاب ولم ينقّحوه في مورد من موارد الاُصول، وقد مرّ بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة، ولا بأس باستيعاب أقسامه هنا وبيان حكم كلّ واحد منها فنقول:
أقسام الإجمال وحكم كلّ واحد منها:
الإجمال تارة: يكون إجمالاً بالذات، واُخرى: يكون إجمالاً بالعرض، والمراد من الأوّل أن يكون الكلام في نفسه مجملاً غير ظاهر في أحد الطرفين، ومن الثاني
أن يكون الكلام ظاهراً في معنى لكن رفعنا اليد عن ظهوره لدليل، وعندئذ هليتعيّن حمله على معنى آخر خلاف ظاهره إن كان خلاف ظاهره متعيّناً في معنى واحد أو لا؟ فهنا مقامان ونحن نقدّم هنا بحث المجمل بالعرض فنقول:
المقام الأوّل: في المجمل بالعرض، وأنّه هل يكون ساقطاً عن الحجّيّة بعد معلوميّة عدم إرادة ظاهره، أو يؤخذ فيه بمعناه الخلاف الظاهر إذا كان خلاف ظاهره متعيّناً في معنى واحد؟
التحقيق فيه هو التفصيل بين ما لو كانت الجهة محرزة بالقطع لا بأصالة الجدّ، وما لو لم تكن محرزة بالقطع وإنّما اُثبتت بأصالة الجدّ.
أمّا في القسم الأوّل كقوله تعالى: ﴿الرحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بناءً على كونه ممّا نحن فيه فلا إشكال في حمل الكلام على معناه الخلاف الظاهر، فيقال: إنّ ما تكون الآية ظاهرة فيه من الاستيلاء المادّيّ قد علمنا بالدليل خلافه فنحملها على الاستيلاء المعنويّ، وحجّتنا على ذلك هو قطعنا به؛ إذ المفروض أ نّا نقطع بجهة الصدور ولا نحتمل في القرآن الكريم التقيّة فنقطع بأنّ المراد هو الاستيلاء المعنويّ.
وأمّا في القسم الثاني كأخبار نزح البئر لوقوع الميتة فيه، بناءً على أنّ ظاهرها نجاسة البئر بوقوع الميتة، وأنّ من المحتمل التقيّة وإنّما تحرز الجهة فيها بأصالة الجهة، وأنّ معناها الخلاف الظاهر منحصر في استحباب النزح مثلاً، فهل يتعيّن هذا المعنى بثبوت عاصميّة البئر بالدليل أو لا؟
التحقيق: عدم تعيّنه بذلك، فلا يثبت استحباب النزح كما لم تثبت النجاسة؛ وذلك لأ نّا لسنا قاطعين بالجهة حتّى يحصل لنا القطع بالحكم، فيجب أن يثبت لنا بدليل تعبّديّ، وليس هنا شيء يتوهّم كونه دليلاً تعبّديّاً سوى أصالة الجهة بدعوى
أنّها مستلزمة لذلك، ولكن لا يمكن إثبات ذلك بها؛ لأنّ أصالة الجهة لا تثبت شيئاً في المقام، فإنّ معنى أصالة الجهة هي أصالة كون ما اُريد استعمالاً مراداً جدّاً، فيجب أن يكون المراد الاستعماليّ محرزاً في نفسه ثمّ يثبت كونه جدّيّاً بأصالة الجهة، لا أن يثبت المراد الاستعماليّ بنفس أصالة الجهة.
وبكلمة اُخرى: إنّ ظاهر الكلام يعطي أنّ المراد الاستعماليّ هو المعنى الأوّل الذي رفعنا اليد عنه وأصالة الجهة بالنسبة إليه ساقطة؛ لفرض القطع بأنّه غير مراد جدّاً، فإن اُريد إجراؤها مع قطع النظر عن ذلك الظاهر لم يمكن؛ لعدم ثبوت موضوع لها وهو المراد الاستعماليّ. وإن اُريد إثبات مراد استعماليّ بها غير المعنى الظاهر ورد عليه ما ذكرناه من أنّ أصالة الجهة لا تثبت موضوعها(1).
بقي هنا شيء، وهو: أنّه إذا كان للكلام ظهوران طوليّان كما لو قلنا بأنّ الأمر ظاهر في الوجوب وفي طوله ظاهر في الاستحباب، فلا إشكال في أنّه بنفي الأوّل بدليل يتعيّن الثاني، ولا يرد عليه ما ذكرناه كما هو واضح، ولهذا استقرّت سيرة
(1) لا يخفى أنّ أصالة التطابق بين المدلول الاستعماليّ والمدلول الجدّيّ ليس مصبّها المدلول الاستعماليّ حتّى يقال: إنّه مردّد بين مقطوع البطلان وغير محرز الثبوت، وإنّما مصبّها ظهور حال المتكلّم في أنّ كلامه الذي يتكلّم به ليس فارغاً وتقيّة أو هزلاً أو نحو ذلك، كما نبّه عليه اُستاذنا الشهيد الصدر في دورته المتأخّرة التي عدل فيها عمّا نقلناه في المتن عن دورته السابقة بناءً على نقل السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ عنه في مباحث الدليل اللفظيّ (ج 3، ص 446)، وعليه فحينما تثبت عدم جدّيّة الظهور الأوّليّ فلابدّ أن نرى هل يوجد للكلام ظهور طوليّ في معنى مّا أو لا، فإن كان له ظهور طوليّ ثبت ذاك الظهور أو قل جدّيّته ببركة أصالة الجدّ، وإلّا أصبح الكلام مجملاً؛ لأنّ ظهوره الأوّليّ عرفنا عدم جدّيّته ولا ظهور آخر طوليّ له بحسب الفرض.
الأصحاب على حمل الأمر على الاستحباب بورود الرخصة، مع أنّهم كانوا يرونقبل المحقّق النائينيّ(قدس سره) أنّ الوجوب والاستحباب حكمان متغايران.
المقام الثاني: في المجمل بالذات، وهذا على قسمين:
القسم الأوّل: ما إذا كان الدليل متكفّلاً لذكر الجامع فقط من دون نظر إلى أحد القسمين كما لو ورد: (صلاة الليل مطلوبة). والإجمال في هذا القسم في الحقيقة إنّما يكون في الواقع، بمعنى أ نّا لا نفهم من الدليل ما هو الواقع من الوجوب أو الاستحباب، لا في نفس الدليل فإنّه ظاهر في نفس الجامع. وفي هذا القسم لا إشكال في أنّه مع قيام الدليل على انتفاء أحد الأمرين يثبت الآخر تارة بالمطابقة واُخرى بالالتزام، فلو قام الدليل في هذا المثال على عدم وجوب صلاة الليل ثبت استحبابها:
أمّا فرض الدلالة بالمطابقة: فكما لو قلنا بمبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الأحكام ثلاثة: الطلب والزجر والإباحة، غاية الأمر أنّ الطلب إذا وردت معه الرخصة في الترك سمّي بالاستحباب وإلّا سميّ بالوجوب، ونحوه الفرق بين الحرمة والكراهة، وعلى هذا فالوجوب مركّب من الطلب وعدم ورود الرخصة، والاستحباب مركّب من الطلب وورود الرخصة، وعندئذ فإذا ورد: (صلاة الليل مطلوبة) ووردت الرخصة في الترك فقد ثبت الاستحباب بالدليلين بالمطابقة؛ إذ هو مركّب من الطلب الثابت بالدليل الأوّل والرخصة في الترك الثابتة بالدليل الثاني.
وأمّا فرض الدلالة بالالتزام: فكما لو قلنا بأنّ الوجوب والاستحباب حصّتان من الطلب متغايرتان بأنفسهما، وورد: (صلاة الليل مطلوبة) ووردت الرخصة في