لمحة عن الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام)
قال الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(1).
روي في كنز الدقائق عن اُصول الكافي، عن بريد بن معاوية العجليّ قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام)عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ قال: إيّانا عنى»(2).
وروى أيضاً عن اُصول الكافي، عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾قال: الصادقون هم الأئمّة، والصدّيقون بطاعتهم»(3).
وروى عن كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) بإسناده إلى سليم بن قيس الهلاليّ، عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال في أثناء كلام له في جمع من المهاجرين والأنصار في المسجد أيّام خلافة عثمان: «أسألكم بالله
(1) سورة 9 التوبة، الآية: 119.
(2) كنز الدقائق 5: 568.
(3) المصدر السابق: 569.
أتعلمون أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لمّا أنزل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ فقال سلمان: يا رسول الله، عامّة هذه الآية أم خاصّة؟ فقال(صلى الله عليه وآله): أمّا المأمورون فعامّة المؤمنين اُمروا بذلك، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي عليّ وأوصيائه من بعده إلى يوم القيامة، قالوا: اللّهمّ نعم»(1).
وروى عن أمالي شيخ الطائفة(قدس سره) بإسناده إلى جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ قال: «مع عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)»(2).
عدّ الحاج عادل الأديب (حفظه الله) في كتابه (الأئمّة الاثنا عشر)(1) عدّة مواقف هامّة للإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) تجاه أحداث زمانه وأوضاعه:
الموقف الأوّل: موقفه من الحكم والحكّام.
والموقف الثاني: موقفه من الحركة العلميّة والتثقيف العقائديّ.
والموقف الثالث: موقفه في مجال الإشراف على قواعده الشعبيّة وحماية وجودها وتنمية وعيها وحدّها بكلّ أساليب الصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.
والموقف الرابع: موقفه(عليه السلام) من التمهيد للغيبة.
أمّا الموقف الأوّل ـ وهو موقفه من الحكم والحكّام ـ: فقد كانت سياسة العبّاسيّين تجاه الأئمّة(عليهم السلام) واضحة من أيّام الإمام الرضا(عليه السلام)، وتلخّصت بالحرص على دمج إمام أهل البيت وصَهره في الجهاز الحاكم، وضمان مراقبتهم الدائمة له ومن ثمّ فصله عن قواعده ومواليه.
وهذه السياسة المخادعة كانت نافذة تجاه الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام); لمزاياها الكثيرة بالنسبة للحكم، فكان العسكريّ(عليه السلام)كوالده مُجبراً على الإقامة في سامرّاء مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاد الخليفة.
(1) ص 236 ـ 246.
فكان الإمام(عليه السلام) كآبائه في موقفه من الحكّام قد وقف موقفاً حذراً. ومحترساً في علاقته بالحكم دون أن يثير أيّ اهتمام أو أن يلقي بنفسه في أضواء الحكم وجهازه، بل كانت علاقته بالحكم روتينيّة رتيبة، تمسّكاً بخطّ آبائه تجاه السلطة العبّاسيّة، فكان(عليه السلام) يركب إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس على ما رواه في المناقب(1) نقلاً عن غيبة الطوسي، عن أبي عليّ بن همام، عن شاكري(2) أبي محمّد: «قال: كان اُستاذي صالحاً من العلويّين لم أرَ مثله قطّ، وكان يركب إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس، وكان يوم النوبة يحضر من الناس شيء عظيم، ويغصّ الشارع بالدوابّ والبغال والحمير والضجّة، لا يكون لأحد موضع يمشي ولا يدخل بينهم، وإذا جاء اُستاذي سكنت الضجّة، وهدأ صهيل الخيل ونهاق الحمير، وتفرّقت البهائم، حتّى يصير الطريق واسعاً ثمّ يدخل، وإذا أراد الخروج وصاح البوّابون: هاتوا دابّة أبي محمّد، سكن صياح الناس وصهيل الخيل، وتفرّقت الدوابّ، حتّى يركب ويمضي».
فموقف الإمام السلبيّ هذا أكسبه أمام الحكّام احتراماً ومنزلة رفيعة من قبيل الوزير عبيد الله بن خاقان.
(1) ج 3: 533.
(2) معرّب چاكر، أي: الأجير والمستخدم لأبي محمّد(عليه السلام).
ومن أطرف ما يروى بهذا الصدد ما رواه المجلسيّ(رحمه الله) في البحار(1)عن (كمال الدين) للصدوق(رحمه الله)، عن أبيه وابن الوليد معاً عن سعد بن عبد الله قال: «حدّثنا من حضر موت الحسن بن عليّ بن محمّد العسكريّ(عليه السلام) ودفنه: ممّن لا يوقف على إحصاء عددهم ولا يجوز على مثلهم التواطؤ بالكذب:
وبعد: فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومئتين، وذلك بعد مضيّ أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ(عليهما السلام) بثما نية عشر سنة أو أكثر مجلس أحمد(2) بن عبيد الله بن خاقان، وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم، وكان من أنصب خلق الله وأشدّهم عداوة لهم، فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرّ من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد(3) بن عبيد الله: ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلويّة مثل الحسن بن عليّ بن محمّد بن الرضا، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء والكتّاب وعوام الناس.
(1) بحار الأنوار 50: 325 ـ 329.
(2) و(3) وهو ابن هذا الوزير الخبيث.
وإنّي كنت قائماً ذات يوم على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل عليه حجّابه فقالوا له: ابن الرضا على الباب. فقال بصوت عال: ائذنوا له. فدخل رجل أسمر أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حدث السنّ، له جلالة وهيبة.
فلمّا نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطوات ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم ولا بالقوّاد ولا بأولياء العهد، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه ومنكبيه، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويكنّيه ويُفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجّب ممّا أرى منه إذ دخل عليه الحجّاب فقالوا الموفّق(1) قد جاء.
وكان الموفّق إذا جاء ودخل على أبي تقدّم حجّابه وخاصّة قوّاده فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً عليه يحدّثه حتّى نظر إلى غلمان الخاصّة فقال حينئذ: إذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبا محمّد. ثمّ قال لغلمانه: خذوا به خلف السماطين لئلاّ يراه الأمير ـ يعني الموفّق ـ وقام أبي فعانقه وقبّل وجهه ومضى.
(1) وهو أخو الخليفة المعتمد على الله العبّاسي: أحمد بن المتوكّل، وكان صاحب جيشه، أي: قائد القوّات المسلّحة.
فقلت لحجّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي فعل به أبي هذا الذي فعل؟ فقالوا: هذا رجل من العلويّة يقال له: الحسن بن عليّ يعرف بابن الرضا. فازددت تعجّباً، فلم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتّى كان الليل، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ثمّ يجلس فينظر فيما يحتاج من المؤامرة وما يرفعه إلى السلطان.
فلمّا نظر وجلس جئت فجلست بين يديه، فقال: يا أحمد، ألك حاجة؟ قلت: نعم يا أبة، إن أذنت سألتك عنها. فقال: قد أذنت لك يا بنيّ فقل ما أحببت. فقلت: يا أبة، من الرجل الذي رأيتك الغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والإكرام والتبجيل وفدّيته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بنيّ، ذلك ابن الرضا، ذاك إمام الرافضة. فسكت ساعة فقال: يا بنيّ، لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العبّاس ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، فإنّ هذا يستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميع أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيّراً فاضلاً(1).
فازددتُ قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي ممّا سمعت منه فيه، ولم يكن لي همّة بعد ذلك إلّا السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت
(1) انظر إلى اعتراف من هو في معسكر الأعداء بفضلهم(عليهم السلام).
عنه أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلّا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحلّ الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشايخه وغيرهم، وكلٌّ يقول: هو إمام الرافضة. فعظم قدره عندي; إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلّا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه.
فقال له بعض أهل المجلس من الأشعريّين: يا بابكر، فما حال أخيه جعفر؟(1)، فقال: ومن جعفر فيُسأل عن خبره أو يُقرن به؟! إنّ جعفراً معلن بالفسق ماجنٌ شرّيب للخمور، أقلّ من رأيت من الرجال، وأهتكهم لستره بنفسه، فذمٌ(2) خمّار(3)، قليل في نفسه، خفيف.
والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليّ ما تعجّبت منه وما ظننت أنّه يكون.
وذلك أنّه لمّا اعتلّ بعث إلى أبي: أنّ ابن الرضا قد اعتلّ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم أميرالمؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته، فمنهم نحرير(4)، وأمرهم
(1) يعني: جعفر الكذّاب.
(2) أي: أبكم.
(3) وفي بعض النسخ: حمار.
(4) وهو كان رائضاً للسباع.
بلزوم دار الحسن بن عليّ وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر منالمتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده في صباح ومساء.
فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف، فركب حتّى بكّر إليه ثمّ أمر المتطبّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً.
فلم يزالوا هناك حتّى تُوفّي لأيّام مضت من شهر ربيع الأوّل من سنة ستّين ومئتين، فصارت سرّ من رأى ضجّة واحدة: مات ابن الرضا.
وبعث السلطان إلى داره من يفتّشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ، فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حبل، فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطّلت الأسواق، وركب أبي وبنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة.
فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكّل فأمره بالصلاة عليه، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها
فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم: من العلويّة والعبّاسيّة، والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء والمعدِّلين، وقال: هذا الحسن بن عليّ بن محمّد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، حضره مِن خدم أميرالمؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن المتطبّبين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان.
ثمّ غطّى وجهه وقام فصلّى عليه وكبّر عليه خمساً وأمر بحمله، وحُمِلَ من وسط داره ودُفن في البيت الذي دفن فيه أبوه.
فلمّا دفن وتفرّق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقّفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وُكّلوا بحفظ الجارية التي توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتّى تبيّن لهم بطلان الحبل، فقسّم ميراثه بين اُمّه وأخيه جعفر، وادّعت اُمّه وصيّته وثبت ذلك عند القاضي، والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده.
فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي واُوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار. فزبره أبي وأسمعه(1) وقال له: يا أحمق، إنّ السلطان ـ أعزّه الله ـ جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردّهم عن ذلك، فلم
(1) أي: شتمه.
يقدر عليه ولم يتهيّأ له صرفهم عن هذا القول فيهما، وجهد أن يُزيلأباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيّأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى سلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير سلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بها.
واستقلّه عند ذلك واستضعفه وأمر أن يُحجب عنه، فلم يأذن له بالدخول عليه حتّى مات أبي وخرجنا، والأمر على تلك الحال، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن عليّ حتّى اليوم».
أقول: ما ورد في هذا النقل من صلاة أبي عيسى بن المتوكّل على الإمام العسكريّ(عليه السلام) كان هو الموقف الرسميّ الحكوميّ، وهذا لا ينافي الحديث الآخر الذي يحدّثنا عن صلاة الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) على أبيه، فقد روى في البحار(1) عن (كمال الدين) حديثاً عن أبي الأديان: «قال: كنت أخدم الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام)وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علّته التي توفّي فيها (صلوات الله عليه)، فكتب معي كتباً وقال: تمضي بها إلى المدائن(2)، فإنّك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل.
(1) بحار الأنوار 50: 332 ـ 333.
(2) يعني فتأخذ جواباتها.
قال أبو الأديان: فقلت: يا سيّدي، فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي. قال: زدني. فقال: من يصلّي عليّ فهو القائم بعدي. فقلت: زدني. فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.
ثمّ منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان؟ وخرجت بالكتب إلى المدائن، وأخذت جواباتها، ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي(عليه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا أنا بجعفر بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة حوله يعزّونه ويهنّؤونه.
فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة; لأنّي كنت أعرفه بشرب النبيذ ويقامر في الجوسق(1)، ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت، فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال: يا سيّدي، قد كُفّن أخوك فقم للصلاة عليه. فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله يقدمهم السمّـان والحسن بن عليّ قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلمّا صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن عليّ(عليه السلام) على نعشه مكفّناً، فتقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه، فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط(2)، بأسنانه
(1) أي: القصر.
(2) قطّ الشعر قططاً: كان قصيراً مجعّداً.
تفليج(1)، فجبذ(2) رداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ، فأنا أحقّبالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر وقد اربدّ(3) وجهه، فتقدّم الصبيّ فصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه.
ثمّ قال: يا بصريّ، هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه وقلت في نفسي: هذه اثنتان، بقي الهميان، ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليّ وهو يزفر، فقال له حاجز الوشّاء: يا سيّدي، من الصبيّ؟ ليقيم عليه الحجّة(4)، فقال: والله ما رأيت قطّ ولا عرفته.
فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليّ فعرفوا موته، فقالوا: فمن؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليّ، فسلّموا عليه وعزّوه وهنّؤوه وقالوا: معنا كتب ومال فتقول ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: يريدون منّا أن نعلم الغيب.
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار عشرة دنانير منها مطلية(5)، فدفعوا الكتب والمال وقالوا: الذي
(1) أي: انفراج.
(2) أي: جذب.
(3) أي: تغيّر إلى الغبرة. وقيل: الربدة لون بين السواد والغبرة.
(4) أي: كان هدفه من هذا السؤال أخذ الاعتراف منه بواقع الأمر وإتمام الحجّة عليه.
(5) الظاهر أنّ الصحيح (مطلّسة)، والدينار المطلّس: الذي انمحى أثر نقشه.
وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.
فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف له ذلك، فوجّه المعتمد خدمه، فقبضوا على صَقِيل الجارية وطالبوها بالصبيّ، فأنكرته وادّعت حملاً بها لتغطّي على حال الصبيّ، فسُلّمت إلى أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيدالله بن يحيى بن خاقان فجاءةً، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشُغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله ربّ العالمين لا شريك له».
وأمّا الموقف الثاني ـ وهو موقفه من الحركة العلميّة والتثقيف العقائدي ـ: فإنّي أذكر من ذلك عدداً من الروايات:
1 ـ ما رواه في المناقب(1) نقلاً عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: من قصّة إبطاله(عليه السلام)لتأليف إسحاق الكندي كتاباً في تناقض القرآن، والقصّة ما يلي:
«إنّ إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله، وإنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) فقال له أبو محمّد(عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع اُستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز
(1) ج 3: 525 ـ 526.
منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد: أتؤدّي إليهما اُلقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الاُنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز; لأنّه رجل يفهم إذا سمع. فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه(1)، فصار
(1) فمثلاً قد يقال: يوجد لدينا قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّماء إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ . سورة 32 السجدة، الآية: 5. ويوجد لدينا أيضاً قوله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾ . سورة 70 المعارج، الآية: 4. وهذا يعني بيان مقدارين متخالفين ليوم القيامة، فإن جاء صاحب هذا الكلام وأبدى معنىً آخر لكلامه، فانظر هل أنّ كلامه يتحمّل هذا المعنى الآخر أو لا، فإن كان لا يتحمّل معنىً آخر فلك الحقّ في فرض ذلك تناقضاً للقرآن، أمّا إن كان يتحمّل معنىً آخر كأن يقول: إنّ في القيامة خمسين موقفاً، وكلّ واحد منه مقدار ألف سنة، والمجموع خمسون ألف سنة، فليس لك هذا الحقّ.
←
الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعِد عليّ. فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك ألا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض على قلبي فأوردته عليك. فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمّد. فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلّا من ذاك البيت. ثمّ إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه».
2 ـ ما رواه البحار(1) عن المناقب(2) في مسألة خلق القرآن: «قال أبو هاشم: خطر ببالي أنّ القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال
ومثال آخر: قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ﴾ . سورة 28 القصص، الآية: 78. وقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ . سورة 37 الصافّات، الآية: 24. فهذا تناقض في الكلام; إذ تارة نفى السؤال، واُخرى أثبته، فإن كان لا يحتمل الكلام معنىً آخر فلك الحقّ في فرض ذلك تناقضاً آخر، وإن كان يحتمل معنىً آخر كأن يأتي صاحب الكلام ويقول: إنّي قصدت تعدّد المواقف في يوم القيامة، ففي موقف منها ليسوا مسؤولين، وفي موقف آخر مسؤولون، فليس لك هذا الحقّ.
(1) ج 50: 258.
(2) راجع المناقب 3: 535.
أبو محمّد(عليه السلام): يا أبا هاشم، الله خالق كلّ شيء، وما سواه مخلوق».
3 ـ ما رواه في البحار(1) عن المناقب ومختار الخرائج وكشف الغمّة في الجواب على مشكلة إرث الامرأة: «قال أبو هاشم: سأله الفهفكي: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين؟! قال: لأنّ المرأة ليس لها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة(2)، إنّما ذلك على الرجال. فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله(عليه السلام) عن هذه المسألة: فأجابه بمثل هذا الجواب. فأقبل(عليه السلام) عليّ فقال: نعم، هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد، إذا كان معنى المسألة واحداً جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا، وأوّلنا وآخرنا في العلم والأمر سواء، ولرسول الله وأميرالمؤمنين فضلهما».
4 ـ قصّة منعه(عليه السلام) الراهب عن إضلال المسلمين وارتدادهم إلى النصرانيّة، فقد روى المجلسي(3) عن المناقب ومختار الخرائج(4)، عن عليّ بن الحسن بن سابور قال: «قحط الناس بسرّ من رأى في زمن
(1) ج 50: 255 ـ 256.
(2) أي: ليست عليها الدية التي تكون على العاقلة.
(3) في بحار الأنوار 50: 270 ـ 271.
(4) ووردت القصّة أيضاً في كشف الغمّة 3:225.
الحسن الأخير(عليه السلام)، فأمر الخليفة(1) الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيّام متوالية إلى المصلّى ويدعون فما سقوا.
فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب فلمّا مدّ يده هطلت السماء بالمطر، فشكّ أكثر الناس وتعجّبوا وصبوا(2) إلى دين النصرانيّة، فأنفذ الخليفة إلى الحسن(عليه السلام) وكان محبوساً، فاستخرجه من محبسه وقال: الحق اُمّة جدّك فقد هلكت. فقال: إنّي خارج في الغد ومزيل الشكّ إن شاء الله تعالى.
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه وخرج الحسن(عليه السلام)في نفر من أصحابه، فلمّا بصر بالراهب وقد مدّ يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه ففعل وأخذ من بين سبّابتيه عظماً أسود، فأخذه الحسن(عليه السلام)بيده ثمّ قال له: استسق الآن. فاستسقى وكان السماء متغيّماً فتقشّعت وطلعت الشمس بيضاء.
فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمّد؟ قال(عليه السلام): هذا رجل مرّ بقبر نبيّ من الأنبياء فوقع إلى يده هذا العظم، وما كشف من عظم نبيّ إلّا وهطلت السماء بالمطر».
(1) يعني: المعتمد.
(2) أي: مالوا.
وأمّا الموقف الثالث ـ وهو إشرافه على قواعده الشعبيّة وحماية وجودها وتنمية وعيها ومدّها بكلّ أساليب الصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة ـ: فإنّي اُشير إلى روايتين تشهدان لذلك:
الرواية الاُولى: روى في البحار(1) عن المناقب ومختار الخرائج قصّة إرشاده(عليه السلام)للمساجين ـ حينما اُدخل(عليه السلام) السجن ـ بالحذر من جاسوس موكَّل بهم من قبل السلطة وهم لا يعلمون.
والقصّة ما يلي: «قال أبو هاشم الجعفري: كنت في الحبس مع جماعة فحُبس أبو محمّد وأخوه جعفر(2)، فخفّفنا له(3) وقبّلتُ وجه الحسن وأجلسته على مضربّة(4) كانت عندي، وجلس جعفر قريباً منه فقال جعفر: (وا شيطناه) بأعلى صوته، يعني: جاريةً له، فضجره أبو محمّد(عليه السلام)وقال له: اسكت. وإنّهم رأوا فيه أثر السكر، وكان المتولّي حبسه صالح بن وصيف، وكان معنا في الحبس رجل جمحيّ(5) يدّعي أنّه علويّ، فالتفت أبو محمّد(عليه السلام) وقال: لولا أنّ فيكم من ليس منكم
(1) بحار الأنوار 50: 254.
(2) يعني: جعفر الكذّاب.
(3) أي: أسرعنا إلى خدمته. وفي بعض النسخ: «فحففنا به».
(4) المُضربّة: كساء ذو طاقين بينهما قطن.
(5) يحتمل كونه منسوباً إلى الجَمح تشبيهاً له بالفرس الجَموح، وبالفارسيّة: چموش.
لأعلمتكم متى يفرّج الله عنكم، وأومأ إلى الجمحيّ فخرج، فقالأبو محمّد: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه، فقام بعضهم وفتّش ثيابه فوجد فيها القصّة يذكرنا فيها بكلّ عظيمة، ويعلمه أنّا نريد أن ننقب الحبس ونهرب».
والرواية الثانية: ما رواه في البحار(1) عن المناقب، عن أبي هاشم الجعفري، عن داود بن الأسود قال: «دعاني سيّدي أبو محمّد(عليه السلام)، فدفع إليّ خشبة كأنّها رجل باب مدوّرة(2) طويلة ملء الكفّ، فقال: صر بهذه الخشبة إلى العمري فمضيت، فلمّا صرت في بعض الطريق عرض لي سقّاء معه بغل فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقّاء ضحّ على البغل(3) فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت بها البغل فانشقّت(4)، فنظرتُ إلى كسرها فإذا فيها كَتْبٌ، فبادرتُ سريعاً فرددت الخشبة إلى كُمّي، فجعل السقّاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي(5).
(1) بحار الأنوار 50: 283.
(2) بالفارسي «پاشنه در».
(3) أي: أرفِق به وخلِّ له السبيل.
(4) أي: انشقّت الخشبة.
(5) يعني: يشتم الإمام(عليه السلام).
فلمّا دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب الثاني فقال: يقول لك مولاي ـ أعزّه الله ـ: لِمَ ضربت البغل وكسرت رجل الباب؟! فقلت له: يا سيّدي، لم أعلم ما في رجل الباب. فقال: ولِمَ احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه، إيّاك بعدها أن تعود إلى مثلها، وإذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي اُمرت بها، وإيّاك أن تُجاوب من يشتمنا(1) أو تعرّفه من أنت، فإنّا ببلد سوء ومصر سوء، وامضِ في طريقك، فإنّ أخبارك وأحوالك تردّ إلينا، فاعلم ذلك».
وأمّا الموقف الرابع ـ وهو موقفه(عليه السلام) من التمهيد للغيبة ـ: فلولا أنّه (سلام الله عليه) قد مهّد تمهيداً كبيراً لغيبة ولده وترويض الشيعة على ذلك لتفطّرت قلوب الشيعة بغيبته، ولولا تقسيم حالة الغيبة إلى الصغرى والكبرى لما كانت للشيعة قدرة تحمّل الغيبة الكبرى، وبرغم تواتر النصوص على غيبة الإمام المهدي ـ عجّل الله فرجه ـ من زمن آبائه(عليهم السلام) لم يكن ذلك كافياً لتهيّؤ الشيعة نفسيّاً لتحمّل ذلك، إلّا أنّه(عليه السلام)قد أحكم التمهيد لذلك بما يلي:
فأوّلاً: حجب الإمام المهديّ(عليه السلام) عن أعين الناس مع إظهاره لبعض خاصّته فحسب قليلاً.
(1) أي: إيّاك أن تشاتمه.
وثانياً: قد احتجب هو(عليه السلام) كثيراً عن الشيعة حتّى تعوّدوا ـ كما ما هو المعروف ـ على الاتّصال به عن طريق المكاتبات والمراسلات الكتبيّة كما هو الحال مع الإمام المهديّ (سلام الله عليه) في أيّام الغيبة الصغرى، بل ذكر الحاجّ عادل الأديب (حفظه الله)(1) نقلاً عن كتاب (إثبات الوصيّة): أنّه قد بدأ الإمام الهادي(عليه السلام) بشكل بسيط بهذا الاُسلوب عندما احتجب عن كثير من مواليه، وأخذ يراسلهم عن طريق الكتب والتوقيعات ليعوّد شيعته على هذا المسلك بشكل متدرّج بطيء.
ومن الطَريف أنّ الإمام العسكريّ(عليه السلام) كان بابه هو عثمان بن سعيد العمري(2)، أي: أوّل نائب من النوّاب الأربعة لولده المهدي ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ في أيّام الغيبة الصغرى، فهكذا تعمّد التشابه بين طريقته في التعامل مع الشيعة في زمانه وطريقة الإمام المهدي(عليه السلام) في التعامل معهم، كي لا يستوحشوا ويمشوا على نفس المنهج الذي أنسوا به.
وثالثاً: بدأ(عليه السلام) بتثقيف الشيعة بثقافة الغيبة، وأطرف ما رأيته بهذا
(1) في كتابه (الأئمّة الاثناعشر): 245.
(2) راجع بحار الأنوار 50: 238، آخر الصفحة، بل وكان أيضاً باباً لعليّ الهادي(عليه السلام). راجع البحار 51: 344.