50

وقد تقول: إنّ الدليل اللفظي للتقليد لو كان نظره إلى الارتكاز محرزاً من محض معرفتنا بأنّ التقليد أمر ارتكازي لصحّ ما ذكرتم من أنّ ضيق الارتكاز لا يبطل إطلاق اللفظ ما دام أنّ الارتكاز ليس له مفاد سلبي ضدّ الإطلاق، ولكن رواية: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!» فيها إشارة لفظيّة واضحة إلى الارتكاز؛ لأنّها جاءت بلسان التأنيب والاستفهام الإنكاري، وهذا لا يناسب إلّا مع فرض النظر إلى ما هو ثابت سابقاً من الارتكاز، وعندئذٍ فنفس ضيق الارتكاز يكسر الإطلاق اللفظي؛ لأنّ اللفظ لم يقصد به إلّا إمضاء الارتكاز ولا يتوقّف انكسار الإطلاق على دلالة سلبيّة في الارتكاز.

والجواب: أنّ اللفظ لو كان بمدلوله المباشر ناظراً إلى أنّ المقصود هو إمضاء الارتكاز صحّ ما مضى من أنّ ضيق الارتكاز كاسر للإطلاق، ولكن اللفظ ليس مدلوله المباشر هو ذلك، وإنّما نحن نستفيد من لغة التأنيب أو الاستفهام الإنكاري النظر إلى ارتكاز من هذا القبيل، وتكفي عرفاً في تصحيح هذه اللغة ارتكازيّة أصل هذا المطلب ولو فرض أنّ شعاع الارتكاز لا يشمل كلّ أشعّة الإطلاق اللفظي، فما دام أنّ الارتكاز ليس له مدلول سلبي يكسر الإطلاق يبقى الإطلاق سليماً.

51

بقي في المقام عدّة أُمور:

الأوّل: أنّ صحيحة يونس: «أما لكم من مفزع؟!...» كما تدل على حجّية الفتوى كذلك تدل على حجّية خبر الواحد، إذاً فكما تدل على إجزاء التقليد بالنسبة لما بعد انكشاف الخلاف فيما إذا كان الخطأ في الفتوى لا في طريقة استيعاب العامّي للفتوى، كذلك تدل على إجزاء الأخذ بخبر الواحد للفقيه نفسِه فيما إذا ثبت خطأ المخبِر الثقة لا في استنباط الفقيه، فلو أخطأ الفقيه في الاستنباط فعمله لا يجزيه في سقوط القضاء والإعادة بعد انكشاف الخلاف، ولكن فتواه تجزي العامّي في سقوطهما بعد انكشاف الخلاف، ولكن لو كان تورّط الفقيه في الخطأ نتيجة أنّ الراوي أخبره مثلاً بأنّه كان خاطئاً في النقل فهنا يتمّ الإجزاء حتّى بالنسبة للفقيه.

الثاني: ما ذكرناه من بحث الإجزاء عن القضاء والإعادة لسنا بحاجة إليه في موردين:

أحدهما: ما لو كان الخطأ الواقع مشمولاً لحديث لا تعاد أو نحوه _ بناءً على عدم اختصاص حديث لا تعاد بالنسيان _ فعندئذٍ يتمّ الإجزاء بلا حاجة إلى هذا البحث كما هو واضح.

وثانيهما: ما لو كان الرأي الجديد للفقيه هو الاحتياط، وكان

52

احتياطه ناشئاً من العلم الإجمالي إما بوجوب ما كان يفتي به سابقاً أو بوجوب شيء آخر، كما لو كان يفتي بالقصر مثلاً ثم تردّد بين القصر والتمام، أو كان يفتي بالجمعة ثم تردّد بين الظهر والجمعة، ففي هذا الفرض يتم الإجزاء بلا حاجة إلى البحث الذي عرفت؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي يكون بلحاظ العامّي علماً إجماليّاً مردّداً بين ما خرج عن محلّ الابتلاء وهو العمل الذي فعله، وما هو داخل في محلّ الابتلاء وهو العمل الذي لم يفعله أو قضاؤه.

الثالث: في حدود الإجزاء الذي حقّقناه، وذلك من جهتين:

الأُولى: أنّ الرأي المتبدّل قد يفترض رأياً قطعيّاً وأُخرى يفترض رأياً تعبّديّاً، كما أنّ تبدّل الرأي قد يفترض عبارة عن العلم بخلاف الرأي الماضي وقد يفترض تعبّداً ضدّ التعبّد السابق. فهل الإجزاء ثابت في كلّ هذه الفروض أو في بعضها؟ وهذا التقسيم يختصّ بفرض القول بالإجزاء لنفس الفقيه، كما قلنا به فيما لو كان خطأ الفقيه راجعاً إلى خطأ الراوي في النقل، أمّا المقلّد فكلا الرأيين يكون عادةً ثابتاً له بالتعبّد، وهو التعبّد بفتوی الفقيه. وعلى أيّة حال فقد يقال: لو كان الرأي الأوّل ثابتاً بالقطع لا بالتعبّد لم يكن مجزياً بعد انكشاف الخلاف؛ لأنّه لم يكن حكماً ظاهريّاً حتّى نقول فيه بالإجزاء، ومن هذا القبيل

53

لو نفى جزءاً مثلاً بالبراءة العقلية ثم انكشف الخلاف أو كان الرأي الأوّل ثابتاً بالظنّ الانسدادي على الحكومة فإنّه لا دليل على إجزاء حكم العقل لدى انكشاف الخلاف.

ونحن نقول وفق ما عرفته من تمسّكنا برواية يونس: «أما لكم من مفزع؟!...» إنّه متى ما كان المفزع _ وهو الراوي أو المفتي _ هو المخطئ ثبت الإجزاء سواء أورث كلامه القطع أو لا، ومهما كان الخطأ من نفس العامل المقلَّد أو الفقيه فلا إجزاء له بعد انكشاف الخطأ.

وقد يقال: لو ثبت خطأ الرأي الأوّل بالقطع فلا إجزاء له؛ لأنّه لا شكّ في أنّه كان باطلاً، أمّا لو ثبت خطؤه بالتعبّد فليس من المعلوم أنّ أيّ التعبّدين هو الصحيح، فالتعبّد الأوّل ينفذ في إجزاء ما وقع في زمانه كما أنّ التعبّد الثاني ينفذ في إجزاء ما وقع في زمانه.

وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ التعبّد الأوّل بعد أن زال في الزمان الثاني، فكما لا ينفع للعمل الجديد في الزمان الثاني كذلك لا ينفع لنفي الإعادة والقضاء في الزمان الثاني، وإنّما ينفع للإجتزاء بالعمل الأوّل ما دام ذاك التعبّد موجوداً، لا بعد زواله إلّا إذا ثبت بدليل تعبّدي إجزاؤه عن القضاء والإعادة.

ونحن أثبتنا إجزاءه بدليل تعبّدي، وهو إطلاق رواية يونس: «أما

54

لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!...»، فالمهمّ أن نرى أنّ هذا النصّ الدال على الإجزاء هل توجد لدلالته إطلاق لما إذا ثبت خطأ الرأي الأوّل بالقطع أو لا؟

ولعلّ مقتضى التحقيق في ذلك أن يقال: لو كان المستفاد من هذا النصّ هو الإجزاء الواقعي إذاً يثبت له الإطلاق لما إذا ثبت الخطأ بالقطع، كما أنّ حديث لا تعاد الدال على الإجزاء الواقعي ثابت لفرض انكشاف الخطأ بالقطع واليقين. ولكن لو ادّعى بأنّ المستفاد عرفاً من ذلك ليس بأكثر من الإجزاء الظاهري؛ وذلك بمناسبة أنّ أصل حجّية الفتوى لم تكن إلّا حكماً ظاهريّاً، والإجزاء إذا كان ظاهريّاً فبقاؤه بعد الانكشاف القطعي لخلافه غير معقول؛ لأنّ كلّ حكم ظاهري ينتهي بالانكشاف القطعي لخلافه، فالنتيجة هي عدم الإجزاء في صورة الانكشاف القطعي للخلاف واختصاص الإجزاء بصورة الانكشاف التعبدي للخلاف.

ولا يخفى أنّ دعوى ظاهرية الإجزاء ليست إلّا مجرّد دعوی استظهار، وإلّا فمجرّد كون حجّية الفتوى حجّية ظاهرية لا تستلزم ظاهرية الإجزاء، فربّ حكم ظاهري أو حكم خيالي بحت يوجب الإجزاء الواقعي، كما لو أخفت إنسان مكان الجهر أو جهر مكان الإخفات، أو أتمّ في السفر بحكم ظاهري أو بحكم خيالي انكشف له خطؤه.

55

والثانية: المتيقّن من الإجزاء هو الإجزاء عن القضاء بلا إشكال، ولكن يوجد هناك موردان آخران يحتمل فيهما الإجزاء أيضاً:

المورد الأوّل: الإعادة في داخل الوقت، فإنّه يمكن أن يقال: إنّ الاضطراب النفسي من ناحية احتمال الابتلاء بعد العمل بالإعادة أيضاً نوع من عدم الاتكاء وعدم الراحة، فينفيه إطلاق قوله: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!...».

إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فصّل في تعليقه على منهاج الصالحين بين القضاء والإعادة، فآمن بالإجزاء بلحاظ القضاء واحتاط بالإعادة في داخل الوقت.

والمورد الثاني: هو الصحة والبطلان بلحاظ الأحكام الوضعية.

فهل دليل الإجزاء يشمل ذلك أو لا؟ فلو عقد المقلَّد عقد بيع أو نكاح أو ذبح ذبيحة أو غير ذلك من الأُمور الراجعة إلى الأحكام الوضعية مستنداً إلى التقليد الأوّل ثم تبدّلت الفتوى أو تبدّل المرجع


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص145، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما یجوز أن يقضي به، ح24.

(2) منهاج الصالحین، ج1، ص18. ونفس التفصيل موجود في الفتاوى الواضحة، ص123، مع حذف عنوان الاحتياط في جانب الإعادة.

56

وكان الرأي الجديد يرى بطلان ذاك العقد أو تلك الذبيحة، فهل نحكم بصحّة تلك الأُمور التي وقعت في زمن التقليد الأوّل حتّى بلحاظ الآثار التكليفية التي ترتّب عليها في زمن الرأي الجديد، وهذا معنى الإجزاء في المقام؟ أو نحكم ببطلانها بلحاظ الآثار التكليفية الجديدة، وهذا معنى عدم الإجزاء في المقام؟

وقد اتّضح بهذا العرض التهافت المستبطن في كلام المصنّف(رحمه الله) فيما سيأتي إن شاء الله من المسألة 53 حيث ذكر فيها:

«إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً في التسبيحات الأربع واكتفى بها أو قلّد من يكتفي في التيمّم بضربة واحدة، ثم مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدّد لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة، وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثم مات وقلّد من يقول بالبطلان يجوز له البناء على الصحّة. نعم، فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني، وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثم مات وقلّد من يقول بنجاسته، فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحّة وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء، وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته وكذا في الحلّية والحرمة، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح

57

بغير الحديد مثلاً فذبح حيواناً كذلك، فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله وهكذا».

أقول: نحن لم نفهم الفرق بين مثال العقد والإيقاع ومثال الذبح، فإن كان مفاد الحديث الفزع والاستراحة بلحاظ كلّ عمل وضعي أو تكليفي وجب الحكم بصحّة كلّ من العقد والإيقاع والذبح الواقع في الزمان الأوّل، وترتيب آثار الصحّة عليه حتّى في الزمان الثاني وإن لم يجز في الزمان الثاني العقد أو الإيقاع أو الذبح وفق الرأي الأوّل. وإن كان مفاد الحديث هو الفزع والاستراحة بلحاظ حصول الامتثال وعدمه، أي بلحاظ وقوع العمل بمؤدّى الحكم التكليفي في الزمن الأوّل لم يجز ترتيب آثار الصحّة على كلّ هذه الأُمور في الزمان الثاني.

والمرجّح عندنا هو كون النظر إلى وقوع العمل بالحكم التكليفي في الزمن الأوّل؛ وذلك لأنّ المنصرف من الفزع والاستراحة اللذين فهمنا منهما الإجزاء هو الفزع والاستراحة بلحاظ امتثال الوظائف، وقيمة صحّة الأُمور الأُخرى وفسادها ترجع إلى ما تنتهي إليها بالآخرة من الامتثال أو العصيان.


(1) العروة الوثقی، ج1، ص17.

58

ولو شككنا في هذا الاستظهار كفانا الرجوع إلى الأصل؛ فإنّ الأصل _ كما نقّحناه في علم الأُصول _ في الأحكام الظاهرية عدم الإجزاء، وإنّما أثبتنا الإجزاء هنا بدليل تعبّدي وهو صحيحة يونس، فلابدّ من الاقتصار في ذلك على القدر المتيقّن.

وفي ختام البحث عن إجزاء الرأي السابق بالنسبة للمقلَّد ينبغي إلفات النظر إلى نكتتين:

النكتة الأُولى: لو قلنا في مورد تساوي الفقيهين بالتخيير في التقليد وقلنا بأنّ التخيير تخيير فقهي لا أُصولي، أي إنّ المنجّز على المقلَّد إنّما هو مقدار الجامع بين الفتويين، وليست كلّ فتوى يختارها لأجل التقليد حجّة له حتّى في إبطال الفتوى الأُخرى، وقلنا بأنّ التخيير استمراري وليس ابتدائيّاً فعدل المقلَّد على أساس استمرارية اݣݣݣݣݣݣݣلتخيير ݢإلى الفقيه الثاني بعد أن كان قد عمل بفتوى الفقيه الأوّل، فهنا يبدو أنّ الإجزاء نتيجة طبيعية لتلك المباني؛ أعني مباني التخيير الفقهية الاستمرارية، ولا نحتاج لإثبات الإجزاء هنا إلى البحث الذي بحثناه، فإنّ المقدار المنجّز عليه سابقاً ولاحقاً هو الجامع بين الفتويين، وقد عمل في عمله السابق بالجامع ضمن عمله بالفتوى الأُولى، فما عدا ممّا بدا حتّى تجب عليه الإعادة أو القضاء؟!

59

نعم، تبقى عليه مشكلة حصول العلم الإجمالي أحياناً ببطلان أحد عمليه، كما لو عمل في بعض صلواته بفتوى القصر ثم عمل في صلوات أُخرى بفتوى التمام في الظروف المشابهة لظروف الصلوات الأُولى، فهو يعلم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين.

بل ومشكلة حصول العلم التفصيلي بالبطلان أحياناً، كما لو قصّر في الظهر على الفتوى الأُولى، ثم أتمّ في العصر على الفتوى الثانية مع تشابه الظرفين للصلاتين، فهو يعلم تفصيلاً ببطلان صلاة العصر؛ إمّا لزيادة ركعتين أو لفوات شرط الترتّب بين الصلاتين، إلّا أنّ هذه المشاكل هي في الحقيقة مشاكل القول بالتخيير الاستمراري، وسيأتي بحثها ضمن بحث التخيير إن شاء الله.

النكتة الثانية: لو عدل المقلَّد من الرأي الأوّل إلى الرأي الثاني مع بقاء الرأي الأوّل على ترجيحه على الرأي الثاني بلحاظ زمانه، فقد يبدو أنّ الإجزاء أمر طبيعي بلا حاجة إلى البحث السابق. مثاله: ما لو قلّد الأعلم في بعض أعماله ثم فسق الأعلم، فعدل إلى تقليد المفضول بناءً على دليل تعبّدي على شرط العدالة في التقليد، فلا يمكن للفتوى الثانية أن تكشف عن بطلان الفتوى الأُولى بلحاظ زمانها، لأنّها

60

بلحاظ الزمان الأوّل فتوى لفقيه جامع للشرائط، وقد كان أعلم من هذا الفقيه حتّى بلحاظ الزمان الثاني، فالمفروض بالمقلَّد الآن أن يبقى على تقليد الفقيه الأوّل بلحاظ ما وقع منه من الأعمال في زمان عدالة ذاك الفقيه.

إلّا أنّ الإجزاء المستفاد من هذا البيان لا يكون إلّا إجزاءً ظاهريّاً، فإنّ هذا البيان إنّما أثبت في الحقيقة الإجزاء ببيان أنّ تلك الفتوى لم توجد ما يسقطها بلحاظ ما وقع في زمانها، أي إنّه رتّب الإجزاء على بقاء حجّية الفتوى بلحاظ تلك الأعمال، ومن المعلوم أنّ حجّية الفتوى ليست إلّا حجّية ظاهرية، فإجزاؤها المستفاد من محض حجّيتها أيضاً لا يكون إلّا ظاهريّاً.

والنتيجة أنّه لو كان دليل الإجزاء منحصراً بذلك فعلى المقلَّد أن يتجنّب التورّط في العلم التفصيلي بالخلاف، أي إنّه لو قلّد الأوّل في صلاة الظهر فصلّاها قصراً ثم فسق الأوّل وافترضنا ضرورة العدول تعبّداً إلى المفضول الذي يفتي بالتمام في نفس تلك الظروف يجب على المقلَّد عندئذٍ إعادة صلاة الظهر تماماً، لا لعدم إجزاء ما صلّاه قصراً عن تكليفه بالظهر بل لتصحيح صلاة العصر.

61

مسألة 2: الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا، لكن يجب أن يكون عارفاً بکيفية الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد(1).

مسألة 3: قد يكون الاحتياط في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته، وقد يكون في الترك كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه. وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته القصر أو التمام.

مسألة 4: الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد أو التقليد(2).

مسألة 5: في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلّداً لأنّ المسألة خلافيّة.

مسألة 6: في الضروريّات لا حاجة إلى التقليد كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما وكذا في اليقينيّات إذا حصل له اليقين، وفي غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يمكن الاحتياط، وإن أمكن تخيّر بينه وبين التقليد.


(1) أو بالوضوح والعلم.

(2) لما حقّقناه في علم الأُصول من عدم اشتراط التمييز وقصد الوجه وعدم كون التكرار لعباً بأمر المولى.

62

مسألة 7: عمل العامّي بلا تقليد ولا احتياط باطل(1).

مسألة 8: التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد بل ولو لم يأخذ فتواه، فإذا أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فيها كفى في تحقق التقليد(2).


(1) أي أنّه لا يجزي ما لم تثبت صحّته بعد ذلك بتقليد أو اجتهاد.

معنی التقليد وأحکامه

(2) لم يكن عنوان التقليد في النصوص مأخوذاً في موضوع الأحكام حتّى نبحث في معناه العرفي أو اللغوي مثلاً، اللهمّ في رواية الاحتجاج: «فللعوام أن يقلّدوه» ، وهي لو كانت تامّة سنداً لما كانت فيها دلالة على أكثر من إمضاء نفس ما عليه العقلاء، فليس مفادها حكماً تعبّديّاً محضاً نحتاج إلى فهم لغويّ أو عرفيّ لمعنى موضوعه، وهو التقليد.

إذاً فلو فرض البناء على البحث عن معنى التقليد يجب أن يكون البحث بشكل آخر، وهو أن نعدّد أحكام التقليد، ثم نعيّن موضوع كلّ حكم من تلك الأحكام، وعندئذٍ قد يكون موضوع بعضها غير


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح20.

63

موضوع الآخر، أي إنّ التقليد قد يفسّر بعدّة تفسيرات حسب اختلاف الأحكام، وتلك الأحكام هي أربعة:

1_ التأمين عن الواقع ما دام العمل موافقاً لمقتضى التقليد.

2_ الإجزاء بعد انكشاف الخلاف.

3_ عدم جواز العدول من فقيه لآخر _ على القول بذلك _ في غير موارد الاستثناء.

4_ جواز البقاء على تقليد الميّت بناءً على القول بجوازه ومن دون جواز تقليد الميّت ابتداءً.

أمّا التأمين فموضوعه العلم بالفتوى مع العلم بحجّيته مقترناً بالعمل على وفقه، أو قل: إنّ المؤمّن عقلاً هو العمل بما يعلم بحجّيته.

وأمّا الإجزاء فموضوعه _ بناءً على ما عرفت من أنّ الدليل هو رواية: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!» _ هو الاستناد؛ لأنّ المفزع والاستراحة يكونان بذلك.

وأمّا عدم جواز العدول إلى فقيه آخر فخير مدرك له _ على ما سيأتي إن شاء الله _ هو لزوم العلم الإجمالي بالمخالفة، وبناءً على هذا المدرك يكون موضوعه العمل بالفتوى.

وأمّا جواز البقاء على تقليد الميّت فأيضاً قد يختلف الحال في

64

مسألة 9: الأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت ولا يجوز تقليد الميّت ابتداءً(1).


موضوعه باختلاف مدركه، ونذكر لأجل المثال فرضاً واحداً، و هو ما لو كان المدرك ما عن السيّد الخوئي(رحمه الله) _ كما سيأتي إن شاء الله _ في المسألة الآتية من أنّنا أمرنا بالرجوع إلى نفس المقلَّد والأخذ منه، وهذا لا يعقل إلّا لدى حياته، فالابتداء بالتقليد عن الميّت غير صحيح؛ لاستحالة الرجوع إلى الميّت والأخذ منه، ولكن البقاء على ما تعلّمه منه صحيح؛ لأنّ البقاء ليس رجوعاً جديداً أو أخذاً جديداً، وقد تمّ الرجوع والأخذ في حال حياته. وعلى هذا الفرض يكون معنى التقليد بالنسبة لهذا الحكم عبارة عن التعلم.

تقليد الميّت

(1)¬ المستفاد من كلمات السيّد الخوئي(رحمه الله) في المقام ما يلي:

تارة نتكلّم على مستوى الأدلّة اللفظيّة للتقليد وأُخرى على مستوى السيرة وثالثة على مستوى الاستصحاب.


(1) راجع التنقيح، ج1، بحث الاجتهاد والتقليد، ص99 فصاعداً.

65

أمّا على مستوى الأدلّة اللفظيّة للتقليد فتلك الأدلّة لا تشمل تقليد الميّت. وذكر(رحمه الله) في مقام عدم شمولها إيّاه بيانين، وكأنّهما يرجعان في نظره إلى بيان واحد إلّا أنّ هناك فارقاً بينهما، كما يستظهر ݢإن شاء الله من خلال طرحهما.

البيان الأوّل: أنّه قد أُخذت في الأدلّة اللفظية بعض العناوين التي لا تصدق على الميّت، من قبيل عنوان المنذر أو أهل الذكر أو الفقيه أو الراوي أو الناظر في الحلال والحرام أو غير ذلك من العناوين الظاهرة في لزوم أخذ الفتوى من المتلبّس غير الشاملة لمن انقضى عنه المبدأ.

وهذا البيان منه(رحمه الله) _ كما ترى _ لا يصلح لشمول كلّ الأدلّة اللفظية، فمن جملتها ما لم يؤخذ فيها عنوان من هذا القبيل، وإنّما كان الإرجاع فيها إلى الأشخاص كالحارث بن المغيرة النضري.

على أنّه قد يناقش في عدم صدق بعض هذه العناوين على الميّت كالفقيه أو الثقة مثلاً ممّا يصدق على النفس الناطقة حتّى بعد موت الجسد. كما أنّ هذا البيان يتوقّف على عدم قبول كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ.

والبيان الثاني: ، ما يکون أوسع من البیان الأوّل وهو أنّ الموجود في

66

أدلّة التقليد هو الرجوع إلى المقلَّد كما دلّ عليه التعبير بالسؤال في قوله؟عز؟: ﴿فَاسْئَلُوُا أَهَلَ الݦݦْذَّكرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أو الإنذار في قوله؟عز؟: ﴿لِيُنْذِرُوُاْ قَوْمَهُمْ﴾ أو كلمة الأخذ في قوله: «آخذ عنه معالم ديني» أو جملة ما يمنعكم عنه كما في قوله: «ما يمنعكم عن الحارث بن المغيرة النضري؟!» ، أو غير ذلك ممّا تدل جميعاً على الرجوع إلى المقلّد والأخذ منه، ومن الواضح عدم إمكان الرجوع إلى الميّت أو الأخذ منه. وهذا البيان _ كما ترى _ يشمل حتّى روايات الإرجاع إلى الأفراد من دون ذكر شيء من تلك العناوين، كما لا يتوقّف هذا البيان على الإيمان باختصاص صدق المشتقّ بالمتلبّس.

هذا، والفرق في نظره(رحمه الله) بين باب التقليد وباب أخذ الرواية _ حيث يجوز التمسّك برواية الرواة الميّتين، ولا يجوز تقليد الميّت _ هو أنّنا في باب التقليد أرجعنا إلى نفس الفقيه أو الراوي أو أهل الذكر أو المنذر أو الحارث بن المغيرة أو زكريّا بن آدم أو يونس بن عبدالرحمن


(1) النحل: 43.

(2) التوبة: 122.

(3) وسائل الشيعة، ج27، ص146، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح27.

(4) المصدر السابق، ص145، ح24.

67

أو غير ذلك لأخذ الفتوى منهم، ولا يمكننا الرجوع إليهم وأخذ الفتوى منهم بعد موتهم، ولكن في باب الرواية أرجعنا إلى نفس الروايات وأُمرنا بالأخذ بها، والرجوع إلى الروايات والأخذ بها ممكن حتّى بعد وفاة الرواة.

نعم، لا بأس بالبقاء على تقليد الميّت؛ وذلك بمعنى أنّ ما أخذناه منه _ أي تعلّمناه منه _ في حياته يجوز لنا العمل به بعد موته؛ لأنّ الأخذ والرجوع قد تمّ في حين الحياة، وليس البقاء على تقليده أخذاً جديداً أو رجوعاً جديداً إلّا إذا كان المقلَّد قد نسي الفتوى فاحتاج إلى الأخذ الجديد والرجوع الجديد، فهنا أيضاً تقصر الأدلّة اللفظية عن إثبات جواز تقليده للميّت؛ لأنّ هذا الرجوع الجديد أو الأخذ الجديد ليس رجوعاً إلى ذاك المقلَّد أو أخذاً منه؛ لعدم إمكان الرجوع إلى الميّت والأخذ منه.

وأمّا على مستوى السيرة فخلاصة ما يستفاد من كلامه(رحمه الله): أنّه إن قصد بالتمسّك بالسيرة إثبات جواز التقليد لميّت ما على سبيل التخيير بينه وبين فقيه آخر فهذا غير ممكن؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي أو التفصيلي بالاختلاف في الفتاوی بين هذا الميّت وبعض الأحياء، وبين الأموات أنفسهم يوجب تساقط الكلّ ما لم يكن ترجيح بالأعلمية. وإن قصد

68

بالتمسّك بها إثبات حجّية أعلم العلماء من الأوّلين والآخرين وإن كان ميّتاً فهذا يلزم منه وجود شخص كإمام ثالث عشر يرجع إليه الشيعة تماماً وفي جميع الأعصار رغم موته، وهذا خلاف الضرورة من مذهب الشيعة.

وقد طبّق(رحمه الله) هذا البيان على الأدلّة اللفظية أيضاً بغضّ النظر عن الإشكال الماضي، فلو فرضنا أنّ الأدلّة اللفظية في نفسها مطلقة تشمل تقليد الميّت خلافاً لما مضی قلنا: إنّه لو قصد بالتمسّك بها إثبات جواز التقليد على سبيل التخيير بين ذاك الميّت وغيره من الأحياء أو الأموات قلنا إنّه مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بالخلاف تتساقط الإطلاقات، ولو قصد به إثبات جواز تقليد من هو أعلم العلماء من الأوّلين والآخرين لزم من ذلك ما يشبه فكرة الإمام الثالث عشر، وهذا خلاف الضرورة من فقه الشيعة.

وأمّا استصحاب الحجّية الثابتة في زمان حياته فقد أورد(رحمه الله) عليه بإيرادين:

أحدهما بنى عليه في بحث الاستصحاب من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكمية؛ لأنّ استصحاب بقاء المجعول معارَض باستصحاب عدم سعة الجعل.

69

والثاني: أنّه ليس استصحاب بقاء المجعول في ذاته جارياً في المقام في تمام الموارد؛ لأنّ من لم تصبح بشأنه حجّية تقليد فلان فعليّة _ لأنّه لم يكن مولوداً في ذاك الزمان مثلاً وإنّما تولّد بعد وفاته _ كيف يمكنه أن يستصحب حجّية التقليد بشأن نفسه؟ إلّا أن يرجع إلى الاستصحاب التعليقي بأن يقول:لو كنتُ في ذاك الزمان لجاز لي تقليده والآن كما كان.

أقول: أمّا الإطلاقات اللفظية فالصحيح أنّها تامّة الدلالة على جواز تقليد الميّت ابتداءً. ودعوى عدم إمكان الأخذ من الميّت والرجوع إلى الميّت قد تكون غير مفهومة كما لو قيل: إنّه من الصحيح عرفاً التعبير عمّن أخذ مطلباً من كتاب القانون بأنّه أخذه من ابن سينا. ثم لم نعرف بالضبط مقياس صدق هذا العنوان وعدم صدقه هل هو حقّاً عبارة عن حياة المأخوذ منه وموته؟ ولماذا يكون هكذا؟! فأيّ فرق بين أن نفترض أخذ الفتوى من شخص قد مات أو نفترض أخذها في حال حياته ولكن لم يكن قد أخذها منه مباشرةً، بل كانت رسالته العملية موضوعة صدفة على رفّ البيت ومرّ بها المقلِّد فأخذها من دون علم المفتي، فهل يعتبر أخذ المسائل من هذه الرسالة أخذاً منه ورجوعاً إليه رغم عدم علم المفتي نهائيّاً بذلك؟ ولو كان المفتي نائماً

70

حينما أخذ المقلَّد الرسالة ودرسها فهل هذا أخذٌ منه؟ ولو كان كذلك فلِمَ لا يكون أخذ المسائل بعد موته أخذاً منه؟! وما دام قد أخذ الرسالة من شخص آخر ودرسها لدى شخص آخر غير الفقيه فأيّ فرق بين افتراض الفقيه في ذلك الوقت حيّاً نائماً في فراشه مثلاً أو ميّتاً؟!

أقول: لنفترض أنّنا فهمنا المقياس بين أخذ الفتوى والأخذ من المفتي والرجوع إلى الفتوى أو الرجوع إلى المفتي وأنّ ذاك المقياس هو الحياة والموت فما تعلّمه المقلّد من آراء الفقيه في حال حياته صدق عليه الأخذ من المفتي والرجوع إليه، وما تعلّمه بعد موته فهو رجوع إلى الفتوى فحسب لا إلى المفتي وأخذٌ للفتوى وليس أخذاً من المفتي، ولكن يا تُرى هل أنّ هذا الفرق فارقاً في الحكم؟! كلّا.

ويمكن بيان عدم الفارقية بأحد تعبيرين:

الأوّل: أنّ المفهوم عرفاً من الإرجاع إلى صاحب متاع كالقصّاب والعطّار والبقّال وغيرهم إنّما هو الإرجاع إليه لأخذ ما لديه من اللحم أو العِطر أو اللبن أو غير ذلك، ولا يفرّق العرف بين التعبير بالإرجاع إلى نفس اللحم أو العِطر أو اللبن أو الأمر بأخذ ذلك والتعبير بالإرجاع إلى أصحاب هذه الأمتعة، وفي كلا الحالين يقول العرف إنّ الهدف كان هو المتاع، وكذلك الحال في المقام، فسواء فرض الإرجاع إلى

71

المفتي أو الراوي أو فرض الإرجاع إلى الفتوى أو الرواية يكون المفهوم شيئاً واحداً، وهو أنّ الهدف إنّما هو الحصول على الفتوى أو الرواية، وليس التفكيك بين باب التقليد وباب الأخذ بالروايات بأنّنا أمرنا في الأوّل بالرجوع إلى المفتي وفي الثاني بالرجوع إلى الرواية لا الراوي أمراً مفهوماً عرفاً.

نعم، يجب أن تكون الفتوى صادرة من الفقيه أو المنذر أو أهل الذكر أو الراوي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلّة، والمشتقّ وإن كان حقيقة في المتلبّس لا الماضي لكن زمان هذا الاستناد هو زمان صدور الفتوى، وهو متلبّس في ذاك الزمان بتلك العناوين.

والثاني: أنّ حجّية الفتوى في الفهم الارتكازي العرفي إنّما هي من باب الطريقية، وليست تعبّدية بحتاً، ولا فرق في طريقيّتها بين فرض حياة المفتي وموته.

وأمّا القول بأنّه بعد أن كان الأصل في تعارض الفتوى هو التساقط لدى التساوي فتعيين أعلم العلماء من الأوّلين والآخرين من الأحياء والأموات للتقليد يوجب ما يشبه الإمام الثالث عشر، وهو خلاف ضرورة مذهب الشيعة، وبهذا تبطل الإطلاقات لو غضّ النضر عن الإشكال السابق، وتثبت أيضاً بذلك مردوعيّة السيرة، فهذا الكلام

72

أيضاً لا يمكن المساعدة عليه.

وأقلّ ما يرد عليه: أنّ مشكلة الإمام الثالث عشر لو كانت مشكلة واقعيّة أمكن أن تكون كاشفة عن ردع السيرة أو تقييد الإطلاقات، ولكنّها ليست إلّا مشكلة فرضيّة وخياليّة لا واقعية؛ لأنّ الأعلم دائماً يكون في الخطّ الزمني الطويل في الأحياء لا في الأموات. نعم، يمكن أن يكون في الفترات الزمنيّة القصيرة في الأموات، فالأعلم بين حين وحين يتبدّل حتماً، فلا يلزم الوقوع في مشكلة الإمام الثالث عشر، ولئن كان عنصر واحد في صالح أعلميّة الأموات في خصوص من عاش قبل تدوين الجوامع _ وهو احتمال إطّلاعهم على روايات أو قرائن لسنا مطّلعين عليه _ فباقي عناصر الأعلميّة جميعاً تكون في الأحياء في المدی البعيد أقوى منها في الأموات.

نعم، لو صحّ الإشكال السابق في الأدلّة اللفظية _ وهو أنّ الأخذ من الميّت غير معقول، أو أنّ العناوين المذكورة في الأدلّة لا تصدق على الأموات، وافترضنا أنّ ذلك يوجب دلالة الأدلّة اللفظية على عدم جواز تقليد الميّت لفقدانه تلك العناوين أو لعدم صدق الأخذ منه _ فقد يقال: إنّ تلك الأدلّة اللفظية رادعة عن الارتكاز والسيرة اللذين لا يفرّقان بين الحيّ والميّت في التقليد.

73

ولكن السيّد الخوئي(رحمه الله) أبطل بنفسه هذه الرادعيّة ببيان أنّ تلك الأدلّة وإن كانت ظاهرة في اشتراط الحياة في المفتي لكنّها ليست بذات مفهوم حتّى تنفي جواز تقليد الميّت.

ولعلّ في عبارة التنقيح مسامحة في المقام؛ لأنّنا لو سلّمنا ظهور تلك الأدلّة في اشتراط الحياة فهي لا محالة تنفي جواز تقليد الميّت؛ لعلمنا بأنّه لا يوجد للتقليد إلّا جواز واحد إمّا مطلق وإمّا مخصوص بالحيّ، وليس للتقليد حكمان متسانخان أحدهما في الحيّ والآخر في الميّت حتّى يقال: إنّ قيد الحياة قيد لشخص الحكم ولا يدل بالمفهوم على انتفاء سنخ الحكم لدى انتفائها.

فلعلّ المقصود الواقعي للسيّد الخوئي(رحمه الله) أنّ قيد الحياة الظاهر من الأدلّة اللفظيّة وإن ضيّق دلالة اللفظ وأبطل شمول إطلاق الأدلّة للفقيه الميّت لكنّه ليس ظاهراً في كونها قيداً احترازيّاً وشرطاً في التقليد؛ لأنّ الممكن المألوف وقتئذٍ كان هو تقليد الحيّ، فهذا القيد مأخوذ من الواقع الخارجي سنخ ما يقال في: ﴿رَبَائِبُكُمُ اللَّاتݪݪݪݪݪِي فݪݪݪݪݪݪݪِي حُجُورِكُمْ﴾.

ولولا أنّه(رحمه الله) أبطل رادعيّة تلك الأدلّة اللفظية عن تقليد الميّت ولم يؤمن بها لكان يرد عليه: أنّه يلزم من ذلك قبول هذه الرادعيّة في باب الرواية


(1) النساء: 23.

74

أيضاً؛ لأنّ تلك الأدلّة اللفظية ليست دليلاً على التقليد فحسب، بل هي تدل على حجّية خبر الثقة أيضاً، فتدل على تخصيص بحجّية خبر الثقة بفرض حياة المخبر، فلو كان لدينا نصّ على حجّية خبر الثقة مطلق شامل لخبر الميّت لكانت هذه الروايات مخصَّصة له، ولو كان لدينا ارتكاز أو سيرة يدلّان على جواز الأخذ بخبر الميّت لكانت هذه الأدلّة رادعة عن الارتكاز وتلك السيرة.

ثم إنّ السيّد الإمام(رحمه الله) أبطل التمسّك ببناء العقلاء في المقام بأنّ بناء العقلاء إنّما يصبح حجّة بإمضاء الشريعة الذي يثبت بعدم الردع، وهذا إنّما يكون في بناء تمّ سريانه إلى الشريعة في زمن المعصوم كي يكون سكوت المعصوم دليلاً على الرضا، وهذا غير متحقّق في باب التقليد؛ إذ إنّه في زمن المعصوم لم يكن من المتعارف وجود رسائل عمليّة مشتملة على فتاوى الفقيه كي يمكن أو يسهل تقليد الميّت لبقاء الرسالة بعد وفاة الفقيه، فتقليد الميّت ابتداءً وقتئذٍ لم يكن ممكناً أو سهلاً ومتعارفاً، إذاً فالبناء العقلائي غير ثابت الإمضاء، بل هذا يوجب انصراف الأدلّة اللفظية أيضاً عن تقليد الميّت ابتداءً.

أقول: إنّ انصراف الأدلّة اللفظية إن فرض أنّه بسبب عدم وجود


(1) راجع الرسائل، ج2، ص157 _ 159؛ وتهذيب الأُصول،ج3، ص202 _ 204.