الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص
التنبيه الثاني عشر: ما عقده الشيخ الأعظم(رحمه الله) وتبعه المتأخّرون عنه في ذلك، من أنّه إذا ورد عامّ له عموم أفرادي وعموم أزماني، وخرج منه بالتخصيص فرد في قطعة من الزمن، فبعد انتهاء تلك القطعة هل يرجع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص.
وسوف يظهر ـ إن شاء الله ـ بالتكلّم في تفسير ما أرادوه في المقام ومحتملات كلامهم أنّ هذا التنبيه كان الأحسن أن لا يعقدوه؛ إذ ليس فيه مطلب جديد.
وعلى أيّ حال، فذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله)(1): أنّه لو كانت قطعات الزمان قيوداً تعدّدت الأفراد للعامّ، فبعد خروج فرد نتمسّك في الفرد الآخر بالعامّ، ولا مورد للاستصحاب لتعدّد الموضوع. وأمّا لو أخذ الزمان بما هو أمر طولاني واحد مستمرّ، فلا مجال للتمسّك بالعامّ؛ إذ المفروض خروج الفرد منه، ولو عادَ له الحكم مرّة اُخرى كان حكماً ثانياً، والمفروض أنّ العامّ لم يدلّ إلاّ على حكم واحد، وهنا يجري الاستصحاب.
وعلّق على ذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله)(2) بأنّه ينبغي أن تلحظ المفرّدية وعدمها في جانب الخاصّ أيضاً، فإن كان الزمان مفرّداً وقيداً في العامّ والخاصّ معاً فلا مقتضي للاستصحاب، ويتمسّك بالعامّ، وإن لم يكن مفرِّداً في شيء منهما فلا مقتضي للتمسّك بالعموم، ويجري الاستصحاب، ولو كان مفرّداً للعامّ دون الخاصّ فالعموم في نفسه تامّ، واستصحاب حكم الخاصّ أيضاً في نفسه تامّ ؛ لعدم تعدّد الموضوع بلحاظ الخاصّ إلاّ أنّ العموم يحكم على الاستصحاب طبعاً، ولو كان بالعكس فلا مقتضي للتمسّك بالعموم؛ لأنّ الزمان لم يكن مفرّداً فيه، ولا استصحاب حكم الخاصّ؛ لأنّ الزمان كان مفرّداً فيه، فتعدّد الموضوع. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام بإضافة أمر آخر اُأجّله إلى ما يأتي.
ويقع الكلام هنا في أنّه ما هو المقصود لهم من أنّ الزمان إن كان مفرِّداً ومقيِّداً للعامّ صحّ
(1) راجع الرسائل: ص 395 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.
(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 342 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكيني.
التمسّك بالعامّ، وإلاّ فلا.
وهناك عدّة تفسيرات.
التفسير الأوّل: ما ذكره السيّد الاُستاذ(1) حيث فسّر ذلك بكون العامّ استغراقياً له امتثالات عديدة، وعصيانات عديدة، ويمكن أن يطاع بلحاظ وقت، ويعصى بلحاظ وقت آخر، فهذا ما يسمى بكون الزمان مفرِّداً ومقيّداً، وكونه مجموعيّاً له امتثال واحد وعصيان واحد، وإذا عصى في زمان لم يمكن الامتثال، وهذا ما يقال عنه: إنّ الزمان لم يكن مقيِّداً ومفرِّداً، فيصحّ التمسّك بالعامّ في الأوّل دون الثاني ؛ لأنّه على الأوّل يكون الحكم متعدّداً ؛ فإذا استثني أحدها بقي الباقي. وعلى الثاني يكون الحكم بالنسبة للكلّ فرداً واحداً، وإذا خرج لم يبقَ شيء تحت العامّ.
ومن هنا أورد السيّد الاُستاذ على هذا التفصيل بأنّنا قد اثبتنا في بحث حجيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص أنّه حجّة في الباقي، سواء كان استغراقياً أو مجموعياً؛ فإنّ نكتة الحجّيّة جارية في كلا الفرضين، وهي أنّ العامّ له دلالات تضمّنيّة بعدد ما تحت العام، وإذا سقط بعضها عن الحجّيّة لا وجه لرفع اليد عن البعض الآخر.
ولنا حول ما ذكره السيّد الاُستاذ في المقام ثلاث تعليقات:
1 ـ إنّه لو كان مراد الأصحاب ما ذكره من فرض التفصيل بين الاستغراقيّة والمجموعيّة لم يكن يناسب ذكرهم لهذا البحث في المقام، وإنّما المناسب ذكر ذلك في بحث العامّ والخاصّ، فإنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة لا تختصّ بالأفراد الطوليّة، بل تجري في الأفراد العرضيّة أيضاً، ونكتة التفصيل لو تمّت جرت في الأفراد العرضيّة، فيقال: إنّ العامّ حجّة في الباقي بعد التخصيص لو كان استغراقياً، وليس حجّة فيه بعده لو كان مجموعياً، من دون أن توجد نكتة في عمود الزمان حتّى يكون البحث مناسباً للمقام.
2 ـ من البعيد أن يكون مرادهم ما ذكره من فرض التفصيل بين الاستغراقيّة والمجموعيّة، فإنّه لو كان المقصود ذلك لزم منه لازم واضح لا يلتزمونه، وهو عدم حجيّة العامّ في الفرد الذي اُخرج في قطعة من الزمان فيما قبل تلك القطعة، كما لا يكون حجّة في ما بعد تلك القطعة، فإنّ النكتة واحدة، وهي أنّ كلّ فرد بالنسبة لقطعات زمانه فرد واحد لا يتبعض.
3 ـ ما ذكره السيّد الاُستاذ من حجّيّة العامّ بعد التخصيص في الباقي سواء كان استغراقياً
(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 216.
أو مجموعياً صحيح، لكنّه بنكتة اُخرى غير ما ذكره، بيّنّاها في بحث العامّ والخاصّ. وأمّا النكتة التي ذكرها من أنّ العامّ له دلالة تضمّنيّة، فإذا سقط بعضها عن الحجّيّة بقي الباقي، فلو كانت هي النكتة لحجيّة العام في الباقي لاتّجه التفصيل بين العموم المجموعي والاستغراقي، لأنّه لو كان عموم وجوب الإكرام مثلاً استغراقيّاً فهو يدل بالتضمّن على وجوب إكرام زيد، وعلى وجوب إكرام عمرو...، وهكذا، وإذا خرج زيد بقي الباقي. وأمّا لو كان مجموعيّاً فهو يدل على وجوب واحد لإكرام الكلّ على نحو الواجب الإرتباطيّ، فيدل أيضاً بالتضمّن على وجوب إكرام زيد، لكن لا مطلق إكرامه بل خصوص إكرامه المقيّد بكونه مع إكرام الآخرين كعمر ومثلاً، وكذا الحال في دلالته على وجوب إكرام عمرو فهو يدل على وجوب إكرامه المقيّد بكونه مع إكرام زيد وغيره، وهكذا فإذا اُخرج زيد مثلاً عن العموم ولم يكرم فإكرام عمرو لا يكون إكراماً ثابتاً مع إكرام زيد ولم تكن الدلالة التضمّنيّة تقتضي وجوب إكرامه مستقلاً، إذن فيسقط العام عن الحجيّة في الباقي.
التفسير الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(1) وهو التفصيل بين ما إذا كانت قطعات الزمان مأخوذة بنحو العموم أو كان الحكم ثابتاً على طبيعيّ الزمان بنحو الإطلاق.
توضيحه: إنّنا نفترض أن العامّ استغراقيّ في كلا الحالين فهو لبّاً ينحلّ الى عدّة أحكام، لكنّه في عالم لحاظ الحكم عند بيانه وفي مقام الإثبات يمكن أن يفترض أنّ المولى لاحظ كلّ قطعة من الزمان على نحو العموم، ويمكن أن يفترض أنّه لاحظ ثبوت طبيعي الحكم على طبيعي الإكرام في طبيعي الزمان بنحو الإطلاق، من دون لحاظ القطعات، فبحسب عالم اللحاظ والإثبات لا يدلّ إلاّ على حكم واحد، ففي الفرض الأوّل يتمسّك بالعامّ بعد انتهاء أمد التخصيص، وفي الفرض الثاني لا يتمسك به ؛ لأنّ قطعة زمان التخصيص تصبح فاصلة بين ما قبلها وما بعدها من الحكم، ونحن نعلم أنّ تخلّل العدم يساوق التعدّد، وقد افترضنا أنّ العامّ لا يدل إلاّ على حكم واحد.
وعلى هذا التفسير يتّضح ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام من التفصيل بين ما لو كان الإخراج من المبدأ، أو المنتهى، أو من الوسط، فعلى الأوّل والثاني يتمسّك بالعامّ في الباقي دون الثالث، فهذا واضح بناءً على هذا التفسير، فإنّ تخلل العدم إنّما يكون إذا كان الإخراج من الوسط، كما أنّه بناءً على هذا التفسير لا يرد ما قلناه في التفسير الأوّل من أنّه لم
(1) راجع نهاية الدراية: ج 5 ص 218 ـ 219 حسب طبعة آل البيت.
يكن يناسب البحث عنه هنا لعدم ارتباطه بقصّة الزمان، والعموم بلحاظ الأفراد الطوليّة، بل يجري حتّى في الأفراد العرضيّة، فإنّه على هذا التفسير يتّضح الفرق بين الأفراد العرضيّة والطولية، وهو أنّه لو أُخرج فرد عرضي من الأفراد لم يلزم من ذلك تخلّل العدم بين فردين من الحكم، وهذا بخلاف ما لو اُخرجت قطعة من الزمان.
نعم، قد يتصوّر أنّه يرد عليه ما مضى من أنّه لا توجد أيّ نكتة للتفصيل بين القطعة السابقة من الزمان على القطعة المستثناة والقطعة اللاحقة لتلك القطعة المستثناة، إلاّ أنّ الصحيح: أنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير وارد هنا، فإنّه يمكن ترجيح القطعة السابقة بالفهم العرفي، فإنّه لو دار الأمر بين القطعة السابقة والقطعة اللاحقة فلا إشكال في تقدّم القطعة السابقة، وانصراف العامّ إلى القطعة الزمنيّة المتّصلة به دون القطعة المنفصلة، وهذا بخلاف الحال في التقريب السابق، فإنّه في ذاك التقريب لم يكن مبرّرٌ لدخول جزء الزمان مستقلاًّ في العامّ. وأمّا هنا فدخول جزء الزمان فيه معقول؛ لعدم تخلّل العدم، فلا تبقى إلاّ مسألة أنّه ما هو المرجّح للجزء السابق؟ فنجيب عنها بما عرفت من الترجيح العرفي.
وعلى أيّ حال، فلو اُريد هذا المعنى فهو خلط بين الوجود الخارجي والوجود اللحاظي، فإنّ غاية ما فرض أنّ الحكم كان له لحاظ واحد بالنسبة لكلّ فرد حينما ينسب إلى الأزمنة، وهذا العدم المتخلّل بين الفردين ليس عدماً بلحاظ عالم اللحاظ، وإنّما يتخلّل مثلاً بين الوجودين الخارجيين للحكم. وأمّا في عالم اللحاظ فبالإمكان لحاظ الكلّ ما عدا ما خرج بدليل المخصّص بلحاظ واحد، ولذا ترى أنّه لو كان المستثنى مثلاً يوم الجمعة فبإمكان المولى أن يقول: (يجب إكرام زيد في غير يوم الجمعة) فهذا عنوان واحد يشمل ما قبل التخصيص وما بعده، يلحظه المولى بلحاظ واحد(1).
التفسير الثالث: موقوف على مقدّمتين:
المقدّمة الاُولى: أنّ في تصوير الإطلاق وجهين: أحدهما أن يقال: إنّه عبارة عن رفض القيود، والآخر أن يقال: إنّه عبارة عن الجمع بين القيود، فإذا قال مثلاً: (أكرم العالم) فعلى الأوّل يكون الموضوع هو طبيعي العالم مع رفض قيد الطول والقصر مثلاً، فيسري الحكم إلى الطويل والقصير. وعلى الثاني إنّما يسري الحكم إلى الطويل والقصير؛ لأنّه اُخذ كلّ منهما
(1) لا يخفى أنّ الشيخ الإصفهاني (رحمه الله) ملتفت إلى هذا الإشكال، وقد أورده في كتابه. راجع نفس المصدر: ص220.
بما هو موضوعاً للحكم.
وهذا التقريب موقوف على اختيار الوجه الثاني، أعني كون الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود.
المقدّمة الثانية: أنّ القيود إن كانت متكثّرة بحسب الخارج حقيقة، كما في مثال الطول والقصر، يكون طريق إسراء الحكم إلى كلّ الأقسام منحصراً في الجمع بين القيود في الموضوع على ما هو المفروض في المقدمة الاُولى. وأمّا إن كان التكثّر باعتبار مِنّا، وذلك من قبيل الزمان الذي نقطّعه إلى قطعات فنفترض فيه التكثر وهو بحسب الواقع ليس إلاّ شيئاً واحداً ؛ لأنّ الاتّصال فيه يساوق الوحدة، فعندئذ يمكن إسراء الحكم إلى جميع الحصص بنحوين:
الاول: أن نقطّع الزمان، ونعتبر التكثّر فيه، فنجمع بين القيود وناخذها في الحكم، كما هو الحال في القيود المتكثّرة خارجاً.
والثاني: ان لا نقطّع الزمان، فيكون الزمان بتمامه قيداً واحداً نأخذه في موضوع الحكم، وبما أنّ الزمان شيء منبسط ووسيع ينبسط الحكم ـ أيضاً ـ ويتسع باتّساعه(1)، فعلى الأوّل يكون الزمان مفرّداً، وإذا خرج فرد تمسّكنا بالعام في باقي الأفراد وعلى الثاني لا يكون الزمان مفرّداً؛ فإن خرجت قطعة من الزمان من الوسط وهي يوم الجمعة مثلاً، لم يمكن التمسّك بالمطلق لإثبات الحكم ليوم الخميس والسبت معاً، لأنّه لوثبت الحكم بذلك لا نطرح هذا السؤال وهو: إنّه هل ثبت الحكم لهما بنحو رفض القيود، أو ثبت الحكم لهما بنحو الجمع بين القيود، أو ثبت الحكم لهما بنحو أخذ الزمان شيئاً واحداً وقيداً واحداً؟
أمّا الأوّل فهو خلف المقدّمة الاولى. وأمّا الثاني فهو خلف فرض عدم أخذ الزمان بنحو المفرّديّة. وأمّا الثالث فهو خلف فرض إخراج يوم الجمعة وأمّا لو قصد اتحاد الخميس مع
(1) قلت له (رحمه الله): إنّه يلزم على هذا أن لا يجب الإكرام في تمام عمود الزمان إلاّ مرّة واحدة.
فقال (رحمه الله): إنّ المقصود كان هو أخذ الزمان الواحد المستمرّ في موضوع الإكرام وقيداً له، لا للوجوب، أي: إنّ الإكرام في هذا الزمان المستمرّ واجب، لا أنّ الإكرام واجب، وظرف وجوبه هو هذا الزمان المستمر، وعليه فيجب الإكرام في كلّ الآنات.
فقلت له: إنّه لا يحتمل كون هذا التقريب هو مقصود الأصحاب ؛ لأنّهم مثّلوا بإكرم العلماء، ولا يحتمل كون المراد بهذا المثال وجوب الإكرام في كلّ آن.
فقال: أنا تكلّمت في مثال (أكرم العلماء) كمثال، وهم قد مثّلوا بمسألة وجوب الوفاء بالعقد، والوفاء بالعقد شيء مستمرّ.
السبت ولحاظهما قيداً واحداً مع فرض خروج يوم الجمعة فهذا غير معقول وأمّا لو استثنيت قطعة من أوّل الزمان أو آخره فهذا الاستثناء المنفصل يصبح قرينة على أنّ المراد بالمطلق من أوّل الأمر كان هو الباقي من الزمان، ولا محذور فيه ؛ لاتّصاله. وهذا بخلاف ما إذا خرجت قطعة وسطية من الزمن، فإنّه عندئذ يجب أن لا يدخل في المطلق الزمان السابق والزمان اللاحق معاً إلاّ بنحو الجمع بين القيود الراجع إلى المفرّدية، ويرجّح الزمان السابق على الزمان اللاحق بالتقريب الذي مضى في التفسير الثاني.
وهذا التقريب الثالث ـ أيضاً ـ لا محصّل له ؛ لأنّ الصحيح (كما اثبتناه في محلّه) أنّ إسراء الحكم إلى الحصص كما يمكن أن يكون بنحو أخذ القيود، وهذا هو العموم الاُصولي، كذلك يمكن أن يكون بنحو رفض القيود، وهذا هو الإطلاق الحكمي، وعليه، فلو خرجت قطعة من الوسط سرى الحكم إلى القطعة الاُولى والثالثة سواء فرضت المفرّدية أو لا، فإنّه لو جمع بين القيود واُخذت في الموضوع صار الزمان مفرّداً، وسرى الحكم إلى القطعتين بالعموم، ولو رفضت القيود سرى الحكم إلى القطعتين بالإطلاق الحكمي، ولا موضوع للتفصيل.
التفسير الرابع: أنّ الحكم تارةً نفترض ثبوته بدليل واحد على حصص الإكرام بالعموم وأخذ القيود، أو بالإطلاق ورفض القيود، وعند ئذ لو استثنيت حصّة بقيت الحصص الاُخرى تحت العموم أو الاطلاق، واُخرى نفترض أنّ الدليل الأوّل إنّما دلّ على الحكم في الآن الأوّل إلاّ أنّ هناك قرينة اُخرى بنحو تعدّد الدالّ والمدلول تدلّ على استمرار الوجوب، أو على وجوب الإكرام المستمرّ بأن كان الاستمرار في استمرار الوجوب، أو في وجوب الإكرام المستمرّ مأخوذاً بالمعنى الاسمي. ولنأخذ لاجل التسهيل في البيان إحدى الصيغتين وهي صيغة وجوب الإكرام المستمرّ، وعندئذ لو استثنيت قطعة من الزمان في الوسط صحّ التمسّك بالعامّ في القطعات السابقة، حيث يتمسّك بالنسبة للآن الأوّل بالدليل الأوّل الدالّ على وجوب الإكرام في الآن الأوّل وبالنسبة لما بعد الآن الأوّل بالقرينة الدالة على وجوب الإكرام المستمرّ أو استمرار الإكرام ولم يصحّ التمسّك بالعامّ في القطعات اللاحقة ؛ إذ لا يمكن التمسّك بالدليل الأوّل ؛ لأنّ مفاده إنّما هو وجوب الإكرام في الآن الأوّل، ولا بالدليل الثاني لأنّ مفاده هو إيجاب عنوان الاستمرار بمعناه الاسمي، والاستمرار قد انقطع.
ومن هنا يبدو أنّ الإشكال ليس هو إشكالاً ثبوتياً بالنظر إلى الاستغراقية والمجموعية، وإنّما هو إشكال إثباتي بالنظر إلى أنّ الحكم بيّن بعنوان ايجاب نفس الإكرامات أو بعنوان
إيجاب الاستمرار، سواء فرض ذلك استغراقياً أو مجموعياً.
وأمّا إذا استثنيت القطعة الاُولى من الزمان، فهل يجوز التمسّك في القطعات المتأخّرة بالعامّ كما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) أو لا يجوز كما هو مقتضى إطلاق كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)؟
يمكن أن يقرّب كلّ من الأمرين.
أمّا تقريب كلام الشيخ (رحمه الله) فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة، فيقال: إنّ الدليل الأوّل دلّ على وجوب الإكرام في الآن الأوّل والمفروض في هذا الفرد عدم وجوب الإكرام في الآن الأوّل، والدليل الثاني دلّ على وجوب استمرار الإكرام فهو إنّما يكون مع فرض وجوب الإكرام أوّلاً حتّى يستمرّ بعد ذلك، والمفروض عدم وجوب الإكرام أوّلاً.
وأمّا تقريب كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) فهو بأن يدّعى أنّ الدليل الأوّل له دلالات طولية، فيدلّ على وجوب الإكرام في الآن الأوّل، فإن لم يجب ففي الآن الثاني وهكذا، سنخ ما يدّعى من أنّ الأمر يدلّ على الوجوب، فإن لم يكن فأصل الرجحان بنحو الدلالتين الطوليتين، فحينما تقوم قرينة على عدم الوجوب يحمل الأمر على الاستحباب، فإذا ثبت بهذا التقريب وجوب الإكرام في أوّل آن بعد القطعة المستثناة ثبت وجوب الإكرام بعده بعنوان الاستمرار الذي وجب بالدليل الثاني.
ولعل هذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات في مقام تفسير كلام الأصحاب في المقام.
وليست لنا ملاحظة على ذلك، إلاّ أنّنا نقول: إنّه حتّى لو أخذ عنوان الاستمرار في لسان الدليل لم يفهم العرف من ذلك وجوب الاستمرار بمعناه الاسمي، بل يفهم منه أنّ الاستمرار اُخذ على نحو المعرفية إلى واقع حصص الإكرام، فيرجع القسم الثاني إلى القسم الأوّل، فيصحّ فيه التمسّك بالعام بعد انتهاء أمد التخصيص.
نعم، لو فرض نادراً ثبوت دليل خاصّ يصرّح مثلاً بأنّ الواجب هو عنوان الاستمرار بالمعنى الاسمي،صحّ هذا الكلام فيه، إلاّ أنّ عقد هذا التنبيه لمثل هذا الفرض النادر ممّا ليس في محلّه.
التفسير الخامس: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)(1) من أنّه تارةً يكون العموم الزماني تحت
(1) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 535 ـ 545 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، أجود التقريرات: ج 2، ص 440 ـ 441.
الحكم، أي: إنّ الحكم تعلّق بمتعلّق عامّ زماناً، واُخرى يكون فوق الحكم، أي: إنّه عرض على الحكم، وكان الحكم عامّاً ومستمراً.
ففي القسم الأوّل وهو ما إذا كان المتعلّق عامّاً يجوز التمسّك بالعامّ بعد انتهاء زمن التخصيص ؛ لما تقرّر في محلّه من حجّيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص، والمولى قد حكم بحكم على عموم أفراد الإكرام الطولية مثلاً خرج ما خرج وبقي الباقي.
وأمّا في القسم الثاني وهو ما إذا كان العموم والاستمرار طارئاً على الحكم، فهنا لا يمكن التمسّك بالعامّ بعد انتهاء أمد التخصيص. والسرّ في ذلك هو أنّ ما يدلّ على العموم والاستمرار في الحقيقة هو غير ما يدلّ على الحكم، فإنّ العموم قد طرأ على الحكم، فهو في طول الحكم، والمدلولان الطوليّان يحتاجان إلى دالّين طوليين، ولا يمكن أن يثبتا بدالّ واحد. نعم، قد يكون الدال على الاستمرار هو نفس صون كلام الحكيم عن اللغوية لا شيئاً مستقلاً، وذلك كما يقال في دليل لزوم العقد: إنّه يدلّ على الاستمرار من باب لغوية الحكم باللزوم آناً مّا مثلاً.
وعلى أيّ حال فالحكم واستمراره مضمونان طوليان لدليلين، وعندئذ نقول: إنّه بعد انتهاء أمد التخصيص هل نتمسّك بدليل الحكم، أو بدليل استمرار الحكم؟ فلو اُريد التمسّك بدليل الحكم فالمفروض أنّه لم يدلّ إلاّ على أصل الحكم بنحو القضية المهملة، ولم يدلّ على إطلاقه، فكيف نتمسّك به؟! ولو اُريد التمسّك بدليل استمراره قلنا: إنّ هذا الدليل موضوعه هو الحكم ومحموله هو العموم، ونحن لم نحرز موضوعه ؛ اذ يجب أن يحرز موضوعه بالدليل الأوّل الذي لا يجري هنا حسب الفرض، إذن فكيف نتمسّك بدليل لم نحرز موضوعه؟! هذا ما ينسب إلى المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّنا نسأل هل قصد بالعموم الزماني والاستمرار هنا الاستمرار بمعناه الاسمي، او الاستمرار بمعناه الحرفي؟ فإن كان مقصوده الاستمرار بمعناه الحرفي كما هو الظاهر، قلنا: إنّ استمرار الحكم بالمعنى الحرفي ليس شيئاً وراء الحكم حتّى يقال: إنّهما مدلولان طوليان، وإنّما هو نفس الحكم بوجوده الوسيع، وليس استمرار الحكم إلاّ كحدوث الحكم، وكما أنّ حدوث الحكم لا يحتاج إلى دالّ آخر، إذ هو نفس الحكم، كذلك استمراره. إذن، فهذا الحكم الذي ثبت بمقدّمات الحكمة كونه حكماً مطلقاً لو خرجت منه قطعة معيّنة لماذا لا نتمسّك به في الباقي؟! وإن قصد به الاستمرار بمعناه الاسمي قلنا: لا حاجة إلى التمسّك بدليل الاستمرار
بمعناه الاسمي، ويكفينا نفس دليل الحكم الذي يدلّ على الاستمرار بالمعنى الحرفي.
على أنّ ظاهر عبارته (رحمه الله) هو ان الاستمرار إذا كان وصفاً للحكم احتاج إلى دالّ آخر غير الدال على الحكم، وإذا كان وصفاً للمتعلّق لا يحتاج إلى دال آخر غير الدال على المتعلّق، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّ الاستمرار بمعناه الاسمي كالحدوث بمعناه الاسمي يكون مدلولاً آخر لدالّ آخر مطلقاً. نعم، هذا لا يوجب سريان إشكاله (رحمه الله)لو تمّ في التمسّك بعموم الحكم إلى التمسّك بعموم المتعلّق(1).
وثانياً: أنّنا نسأل مرّة اُخرى: ماذا يقصد بقوله: إنّ دليل الاستمرار موضوعه الحكم وهو غير محرز، فلا يمكن التمسّك به؟ هل يقصد بذلك: أنّ دليل الاستمرار موضوعه الحكم بنحو القضية المهملة، أو يقصد به: أنّ دليل الاستمرار موضوعه الحكم المستمرّ؟
فإن قصد الثاني فهذا لا معنى له ؛ لأنّ الحكم المستمر لا يحتاج إلى الحكم عليه بأنّه مستمرّ، وإن قصد الأوّل فالحكم بنحو القضية المهملة ثابت بالدليل الأوّل.
وثالثاً: أنّ حمل التفصيل بين مفرّدية الزمان وعدمها على هذا المعنى يستلزم جعل هذا المعنى مجرّد صناعة خيالية في الذهن ليس لها أي مجال للتطبيق خارجاً، مع أنّه ليس مقصودهم ولا مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ذلك.
وذلك لأنّ فرض شمولية الحكم بدليل الحكمة أو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة يستلزم فرض إطلاق المتعلّق، ولا يمكن عادة أن يفترض إهمال المتعلّق في هذه الحالة كي يقال: إنّ العموم الزماني لم يكن تحت الحكم، فلم يمكن التمسّك به.
وتوضيح ذلك: أنّ شمولية الحكم لكلّ الأزمنة بدليل الحكمة أو بالإطلاق تعني أنّ المولى يكون في مقام البيان من ناحية الحكم، ولا يتعقّل عرفاً كون المولى في مقام البيان من ناحية الحكم وعدم كونه كذلك من ناحية المتعلّق؛ لأنّ المتحصّل من الحكم والمتعلّق شيء واحد، إما أن يكون المولى في مقام بيانه أو لا يكون، ومع فرض كونه في مقام البيان يتمّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة في المتعلّق لا محالة.
إلاّ بناءً على أنّ الإطلاق مؤونة زائدة، وأنّه وإن كان يثبت في مقابل التقييد من باب كونه
(1) لعلّ المقصود: أنّ الاستمرار لو اُخذ وصفاً للحكم فقد يفترض ورود إشكال المحقّق النائيني (رحمه الله) على التمسّك بعموم دليل الاستمرار، وهو أنّ هذا الدليل موضوعه الحكم والمفروض أنّنا لم نحرز الموضوع. أمّا لو اُخذ وصفاً للمتعلّق فلا مجال لهذا الإشكال ؛ لأنّه ليس المفروض في باب المتعلّق أن يُحَرز كي يثبت الحكم، وإنّما الحكم هو الذي يتطّلب منّا إيجاد المتعلّق مثلاً.
أخفّ المؤونتين لكنّه لا يثبت في مقابل الإهمال.
فعلى هذا المبنى يمكن أن يقال في ما نحن فيه بعد فرض إحراز عموم الحكم بوجه من الوجوه: إنّه يحتمل إهمال المتعلّق لكفاية عموم الحكم، فلا يمكن إحراز إطلاق المتعلّق بمقدّمات الحكمة ؛ لأنّ الإطلاق يعتبر في مقابل الإهمال مؤونة زائدة.
وأمّا لو لم نحرز عموم الحكم وقلنا مثلاً: إنّ دليل الحكمة، أي: صون كلام الحكيم عن اللغوية إنّما يعرّفنا إجمالاً ضرورة عموم الحكم أو المتعلّق، فهنا ذكر المحقق النائيني(رحمه الله): أنّ العموم يصرف في هذه الحالة إلى الحكم، لا إلى المتعلّق.
أقول: كما أنّ مقتضى إطلاق المتعلّق عدم العموم فيه ؛ لأنّ الإهمال هو الذي يكون خالياً من كلّ مؤونة، فيقال: لا بدّ من صرف العموم إلى الحكم، كذلك مقتضى إطلاق الحكم عدم عمومه بنفس البيان، فليصرف العموم إلى المتعلّق مثلاً(1).
فالصحيح أن يقال: إنّه إذا تردّد العموم بين كونه للحكم أو للمتعلّق كان الكلام مجملاً، والنتيجة تكون لصالح المحقّق النائيني (رحمه الله) ؛ لأنّه عندئذ لا يمكن التمسّك بالعموم ؛ لأنّ المفروض عدم التمسّك به إذا كان طارئاً على الحكم.
إلاّ أنّه مع هذا نقول: لماذا لا نتمسّك بإطلاق المتعلق ما دمنا لا نؤمن بمبنى كون الإطلاق مؤونة زائدة في مقابل الإهمال، فإنّ هذا المبنى ليس صحيحاً عندنا، ولا عند المحقّق النائيني(رحمه الله)؛ لأنّنا نقول بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب، والمحقّق النائيني(رحمه الله)يقول بأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة(2)؟ فإن ثبت من ناحية أنّ الإطلاق ليس مؤونة زائدة في مقابل الإهمال، ومن ناحية اُخرى ما اشرنا إليه من أنّه لا يتعقّل عرفاً كون المولى في مقام البيان من ناحية الحكم وعدم كونه في مقام البيان من ناحية المتعلّق، فلا
(1) بما أنّ الشيخ النائيني (رحمه الله) آمن بعدم إمكانيّة جريان الإطلاق في دليل الحكم بلحاظ نفس الحكم ؛ لأنّ دليل الحكم لا ينظر إلى ما فوق دائرة الحكم من عموم وعدمه ذكر: أنّ الإطلاق بلحاظ المتعلّق ينفي العموم من دون أن يعارض ذلك بالإطلاق بلحاظ الحكم. ومن ناحية اُخرى دليل الحكمة وصون كلام الحكيم عن اللغوية يثبت العموم، فينصرف العموم ـ لا محالة ـ إلى جانب الحكم.
أقول: لو تمّ كلّ هذا فبما أنّ دليل الحكمة أمر ارتكازي كالمتّصل يكون صالحاً للقرينية على تقييد المتعلّق بالعموم، فنعود مرّة اُخرى إلى ما فرضه اُستاذنا (رحمه الله) في المتن من الإجمال.
(2) صحيح أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد عند المحقّق النائيني (رحمه الله) تقابل العدم والملكة، وليس الإطلاق عنده مؤونة في عرض التقييد، ولكنّه كأنّه (رحمه الله) يفترض في المقام أنّ الإطلاق لا يقتضي أكثر من البدلية. أمّا الشمول لكلّ حصص المتعلّق سواء فرض استغراقياً أو مجموعياً فهو الذي يعتبر مؤونة زائدة في عرض التقييد.
يتصوّر مورد ينفكّ فيه دليل الحكمة عن جريان مقدّمات الحكمة في المتعلّق، فإنّه بعد أن فرض لزوم اللغوية لولا إرادة العموم فالمولى في مقام البيان حتماً، والذي لا يختصّ بالحكم دون المتعلّق. إذن فيثبت بهذا البيان العموم الزماني تحت دائرة الحكم حسب مصطلحات الشيخ النائيني(رحمه الله)(1).
هذا تمام الكلام في ما ذكره الشيخ الأعظم(رحمه الله) من أنّ الزمان إن كان مقيّداً للعام ومفرّداً له صحّ التمسّك به بعد انتهاء أمد التخصيص، وإلاّ فلا.
وأمّا ما أضافه المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ الزمان إن كان قيداً للخاصّ لم يجرِ استصحاب حكم الخاصّ، وإن كان ظرفاً له جرى استصحابه، فهذا ـ أيضاً ـ ليس مطلباً جديداً، وإنّما هو تفريع على ما مضى من تنبيه استصحاب الزمان، حيث عرفنا هناك أنّ الشيء إذا قيّد بالزمان أصبح مبايناً مع ما يقع في زمان آخر، فلا يمكن الاستصحاب فيه، فالإكرام في الليل مثلاً مقيّداً بكونه في الليل غير الإكرام في النهار.
(1) لدينا اعتراض آخر على الشيخ النائيني (رحمه الله) وهو: أنّنا إذا حصرنا الحديث في الأحكام التي يكون لها متعلّق وفق مصطلح الشيخ النائيني (رحمه الله) وهي الأحكام التكليفية، فإن كان حديثنا في الحكم الإيجابي فنحن لا نتصوّر معنىً لكون العموم فوق دائرة الحكم، بل ينحصر عموم الحكم وشموله بشمولية متعلّقه، ويكون العموم دائماً تحت دائرته، فلو فرض أنّ المتعلّق لم يكن شمولياً ولم يقصد به إلاّ صِرف الطبيعة، فعموم الحكم بمعنى استمراره لا يوجب على المكلّف تكرار الامتثال، فإنّ الامتثال إذا حصل سقطت فاعلية الحكم؛ لأنّ الحكم لا يتطلّب إلاّ امتثال متعلقه، وقد حصل، وليس الامتثال مسقطاً لأصل الحكم، فالحكم مستمر دائماً ما لم يحصل البداء للمولى، وهذا الاستمرار لا يعني الشمولية بالمعنى الموجب لتكرار الامتثال، فلا سبيل لشمولية الحكم بالمعنى الموجب للاستمرار على الإتيان بالمتعلّق إلاّ شمولية المتعلّق.
وأمّا لو تكلّمنا في الحكم التحريمي فهنا يرد ما مضى من اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ إطلاق المتعلّق كاف في إثبات الشمولية باعتبار أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، أو السلب والإيجاب، لا تقابل التضادّ، فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة، وإطلاق المتعلّق في موارد التحريم يوجب ضرورة تركه بجميع حصصه.
نعم، الشمولية بمعنى كون الحكم على الحصص كي يمكن القول بأنّ سقوط حصّة بالتقييد لا يوجب سقوط الباقي بحاجة إلى مؤونة زائدة، لكن المفروض في باب التحريمات بشكل عامّ ثبوت هذه المؤونة الزائدة، وهي القرينة العامّة التي نحمل بها عادةً التحريمات المطلقة على الاستغراق.
وأمّا لو تكلّمنا في الأحكام الوضعية من قبيل الطهارة والنجاسة فأيضاً الشمول فيها إنّما يفهم من إطلاق الموضوع، أو عمومه، وتقييده بزمن خاص مثلاً، ولو لم يكن الموضوع عامّاً أو مطلقاً فلا معنى لاستمرار الحكم بعد انتهاء موضوعه، فهنا ـ أيضاً ـ يكون العموم تحت دائرة الحكم دائماً.
الاستصحاب
5
ونذكر فيها أمرين:
اشتراط بقاء الموضوع
أمّا الأمر الأوّل، وهو مسألة اشتراط بقاء الموضوع فتارةً نتكلّم فيه بلحاظ الشبهات الحكمية، واُخرى بلحاظ الشبهات الموضوعية.
أمّا الكلام في الشبهات الحكمية، فنقول: قد وقع هنا إشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية من ناحية اشتراط إحراز بقاء الموضوع، وتوضيح ذلك: أنّ الأصحاب ـ قدس سرهم ـ في المقام ذكروا: أنّه لا بدّ في الاستصحاب من اتّحاد القضية المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعاً ومحمولاً، وقالوا: إنّ هذا ليس شرطاً جديداً وإنّما هو راجع إلى مسألة اشتراط الشكّ في بقاء ما كان، وترتّب على هذا الشرط إشكال في كلّ موارد استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية كما ذكره السيّد الاُستاذ(1)، أو في كثير من مواردها كما ذكره الشيخ الأعظم(2) والمحقّق النائيني(3)(قدس سرهما)؛ وذلك لأنّنا لا نشك في بقاء الحكم لو كنّا نعرف حدود الموضوع، وإنما نشكّ في بقائه لأجل فقدان قيد نحتمل دخله في الموضوع. إذن فلم نحرز وحدة الموضوع إلاّ إذا كان منشأ الشكّ هو احتمال النسخ، وهو خارج عن محلّ الكلام.
(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 237.
(2) راجع الرسائل: ص 401 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.
(3) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 576 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 448 ـ 449.
وهذا الإشكال تارةً يبيّن بنحو يسدّ باب الاستصحاب في تمام موارد الشبهة الحكمية، واُخرى يبيّن بنحو يسدّ باب الاستصحاب في كثير من مواردها على اختلاف في تقريباتهم لا يهمنا ذكره.
ومن هنا انتقلوا إلى بحث ثان وهو البحث عن حلّ لهذه المشكلة، وهو إحالة وحدة الموضوع إلى العرف، فيقال: إنّه لا يشترط في الاستصحاب وحدة الموضوع بالدّقة العقلية حتّى لا يجرى الاستصحاب في الشبهات الحكمية، بل تكفي الوحدة العرفية، فيجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية. والضابط في ذلك هو كون الحيثية المحتملة الدخل بقاءً هل تعتبر حيثية تقييدية من قبيل العلم في موضوع التقليد مثلاً، أو تعتبر بالمسامحة العرفية مجرّد حيثية تعليلية دخيلة في ثبوت هذا الحكم لذاك الموضوع فليست داخلة في نفس الموضوع من قبيل التغيرّ في نجاسة الماء المتغيّر مثلاً.
ومن هنا انتقلوا إلى بحث ثالث وهو أنّه كيف صارت هنا المسامحة العرفية في التشخيص يعوّل عليها، وأيّ قيمة لها في حين أنّه لا يعوّل عليها في موارد اُخرى من قبيل تحديد الكرّ، أو تحديد المسافة في القصر، ونحو ذلك؟!
أقول: الواقع أنّ اشتراط بقاء الموضوع لم يبيّن بصياغة فنّية، فكأنّما تخيّل أنّ اشتراط بقاء الموضوع ووحدة القضية المشكوكة والقضية المتيقّنة يكون معناه أن يحرز أنّ المشكوك على تقدير وجوده في الواقع هو عين المتيّقن على كلّ حال، فيقال: إنّه في المقام تكون نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره هي عين النجاسة السابقة لو كان موضوعها التغيّر ولو آناً مّا. وأمّا لو كان موضوعها التغيّر الفعلي فهي ليست عين النجاسة السابقة، إذن فالمشكوك على تقدير وجوده ليس في الواقع عين المتيّقن على كلّ حال، وإنّما هو عينه على بعض الأحوال. وتعالج المشكلة عندئذ بأنّ التغيّر مثلاً حيثية تعليلية، فالقضية المتيقّنة هي نجاسة ذات الماء من دون أن يكون التغيّر داخلاً في موضوعها. إذن فالمشكوك لو كان موجوداً واقعاً هو عين المتيّقن على كلّ التقادير والأحوال، لا على بعضها.
ولكنّ الصحيح ـ بعد أن عرفنا أنّ هذا الشرط لا ينبغي أن يكون شرطاً جديداً وإنّما الشرط الواقعي هو الشكّ في بقاء ما كان ـ هو أنّه ليس من اللازم كون المشكوك في فرض وجوده عين المتيّقن على كلّ تقدير، بل يكفي كونه عين المتيّقن على بعض التقادير، لأنّه بما أنّنا نحتمل ذلك التقدير ـ فلا محالة ـ نحتمل بقاء المتيّقن. إذن فمقتضى القاعدة هو جريان الاستصحاب حتّى في ما إذا كان المفقود المحتمل دخله من الحيثيات التقييدية، إذ على تقدير
عدم دخله يكون المشكوك عين المتيّقن، ويكفي كونه عينه على بعض التقادير.
بل لو أنّنا بقينا مصرّين على الصيغة الاُولى لهذا الشرط، وهي اشتراط كون المشكوك في فرض وجوده عين المتيّقن على كلّ التقادير لا على بعضها، لزم عدم جريان الاستصحاب حتّى في الحيثيات التعليلية ؛ لأن هذه الحيثية التعليلية على تقدير دخلها حتّى بقاءً في علّة الحكم يكون جعل النجاسة بعد زوال التغيّر ـ لا محالة ـ جعلاً آخر، والمسامحة العرفية إنّما تكون في جعل واحد، فالعرف يتسامح ويفترض القيد حيثيّةً تعليليّة ولكن لا يتسامح بأن يفترض الجعلين جعلاً واحداً. وعليه، فالمشكوك لم يصبح عين المتيّقن على جميع تقاديره.
وعلى أيّة حال فالصحيح هو الصيغة الثانية، أعني كون المشكوك على بعض تقاديره هو المتيّقن. وعليه، فنحن بحاجة إلى استيناف البحث عن نكتة عدم جريان الاستصحاب في الحيثيات التي يسمّونها حيثيات تقييدية بينما نرى الأصحاب يفتّشون عن نكتة جريان الاستصحاب في ما يسمّونها بالحيثيات التعليلية. إذن فالذي ينبغي أن يبحث في المقام يباين تماماً البحث الذي بحثوه.
فعلى منهج الأصحاب (رضوان الله عليهم) يقال: لو صار القرار على إحراز الوحدة بالدقّة العقلية أوجب ذلك انسداد باب الاستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقاً ؛ اذ حتّى في فرض كون التغيّر حيثية تعليلية نحتمل كون المشكوك غير المتيّقن، ولكنّنا نقول: إنّه لو صار القرار على جعل العبرة بالوحدة بالدقّة العقلية انفتح باب جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية حتّى لو كانت الحيثية تقييدية؛ لأنّه إن كان التغيّر الفعلي في الواقع دخيلاً في الحكم، إذن فبحسب الدقّة العقلية يكون المشكوك غير المتيّقن، وليس بقاءً للمتيّقن حتماً، سواء فرضنا التغيّر الفعلي حيثية تقييدية أو حيثية تعليلية ؛ إذ الحكم يرتفع بالدقة العقلية بارتفاع حيثيته ولو كانت حيثية تعليلية، وإن كان التغيرّ الفعلي في الواقع غير دخيل في الحكم إذن فبحسب الدقّة العقلية يكون المشكوك بقاءً لشخص ذلك المتيّقن ولو فرض التغيّر الفعلي على تقدير دخله حيثية تقييدية ؛ لأنّه على أيّ حال ليس بالفعل دخيلاً في الحكم، فالحكم بشخصه يبقى لا محالة، فإذا كان الحكم الشخصي المعيّن باقياً على تقدير عدم دخل التغيّر الفعلي، وغير باق على تقدير دخله، فالشكّ في دخله وعدم دخله ـ لا محالة ـ مساوق للشكّ في البقاء وعدم البقاء، ولا نحتاج في الاستصحاب إلاّ إلى الشكّ في البقاء.
هذا. ويمكن أن يقرّب كلام المشهور بأن يقال: إنّ الاستصحاب موضوعه الشكّ في البقاء، ومحموله التعبّد بالبقاء. والشكّ في البقاء وإن كان محرزاً في المقام بالبيان الذي عرفت،
ولكن كون التعبّد تعبّداً بالبقاء غير محرز. وتوضيح المقصود هو: أنّ الاستصحاب ليس تعبّداً ببقائية الشيء بنحو مفاد كان الناقصة، وإنّما هو تعبّد بالبقاء بنحو مفاد كان التامّة بعد فرض بقائيته، فمثلاً لو أنّ زيداً كان في المسجد وشككنا في بقائه لم يمكن أن نثبت بالتعبّد بقاء ابن عمرو ما لم نعرف أنّ بقاءه بقاء لزيد بأن يكون ابن عمرو هو زيداً، وعندئذ نقول في المقام: إنّ نجاسة الماء بعد زوال تغيّره على تقدير عدم دخل التغيّر الفعلي في النجاسة هي بقاء لتلك النجاسة السابقة، وعلى تقدير دخله ليست بقاء لتلك النجاسة. إذن فنحن بالدقّة العقلية لم نحرز كونها بقاءً للنجاسة المتيقّنة، فلا يثبت شمول التعبّد الاستصحابي لها؛ لإنّ التعبّد الاستصحابي يتعلّق بما هو بقاء، وكون هذا بقاء غير معلوم.
والتحقيق: انّ هذا الإشكال إنّما يتمّ بناءً على مبنى جعل الحكم المماثل، بمعنى أنّ المولى يعبّد بحكم ويشترط فيه أن يكون مماثلاً لذلك الحكم المتيّقن، فيقال في المقام: إنّ الذي يعبّدنا المولى به وهو نجاسة الماء بعد زوال تغيّره لم نعلم مماثلته للحكم المتيّقن؛ إذ لو كان الحكم المتيّقن مطلقاً فهذا مماثل له، ولو كان مقيّداً بالتغيّر الفعلي فهذا ليس مماثلاً له، وليست هذه النجاسة التي عبّدنا بها بقاء لتلك النجاسة.
وأمّا بناءً على ما هو الصحيح المختار للمحقّق النائيني(رحمه الله) المشهور بين المحقّقين المتأخّرين بعده من أنّ الاستصحاب ليس تعبداً بالحكم المماثل بعنوانه بل هو حكم تعبّدي بعنوان آخر، ويكون عنوانه الإجمالي ـ على اختلاف صيغه الفنّية بالدقّة ـ عبارة عن التعبّد ببقاء المتيّقن، فنقول في المقام: إنّ المولى يشير إلى ذات الحكم الشخصي السابق المتيّقن، ويقول: أنت تحتمل بقاءه فأنا اُعبّدك ببقائه. وطبعاً ليس الشكّ في بقائية بقائه حتّى يقال: إنّ الاستصحاب لا يثبت بقائية الشيء بنحو مفاد كان الناقصة، وإنّما يثبت البقاء بنحو مفاد كان التامّة. نعم، شككنا في أنّ بقاء ذلك المتيّقن هل هو معقول أو مستحيل ؛ إذا على تقدير كون التغيّر الفعلي دخيلاً في ذلك الحكم يستحيل بقاؤه، فالمولى يعبّدنا ببقائه بنحو مفاد كان التامّة، واحتمال استحالة الشيء لا ينافي التعبّد به.
ثمّ إنّ شبهة احتمال عدم بقاء الموضوع في الشبهات الحكمية لها جواب آخر غير ما ذكرناه من منع لزوم العلم بالبقاء. وحاصله: انّنا لو سلّمنا لزوم العلم بالبقاء قلنا: إنّ العلم ببقاء الموضوع حاصل، وتخيّل عدم العلم به ينشأ من الخلط بين باب المفاهيم وعالم الجعل وباب المصاديق والوجود الخارجي والمجعول. ونوضّح ذلك بذكر مقدمة:
وهي: أنّنا لو لاحظنا باب المفاهيم فمفهوم الماء، ومفهوم الماء المتغيّر، ومفهوم الماء الفاقد
للتغيّر مفاهيم ثلاثة متباينة. أمّا لو لاحظنا المصاديق والوجودات الخارجية فمصداق الماء مع مصداق الماء المتغيّر يتّحدان في الماء المتغيّر، وليس مصداق الماء المتغيّر عبارة عن الماء زائداً التغيّر، بل مصداقه إنّما هو ذات الماء، وإنّما أثر القيد في الماء المتغيّر هو تضييق دائرة الصدق، وكذلك مصداق الماء المتغيّر والماء الفاقد للتغير قد يتّحدان ذاتاً وإن كان هناك تفاوت بينهما زماناً، وذلك كما لو كان هناك ماء متغيّر ثمّ زال تغيّره، فمصداق ما كان من الماء المتغيّر هو عين مصداق الماء الفاقد للتغيّر، وإنّما الفرق بينهما من حيث الزمان.
وبعد الالتفات إلى هذه المقدّمة نقول: إنّ هذا الإشكال إنّما يتصوّر له مجال لو اُريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم الجعل حيث إنّ الموضوع في عالم الجعل ليس إلاّ مفهوماً من المفاهيم، وقد عرفت أنّ المفاهيم الثلاثة بعضها مباين للبعض، فيحتمل عدم بقاء الموضوع، ولكنّ الاستصحاب بلحاظ عالم الجعل في نفسه غير جار بغضّ النظر عن هذا الإشكال، وذلك بلحاظ عدم وجود حدوث وبقاء، وكون جعل النجاسة بعد زوال التغيّر في عرض جعلها على الماء المتغيّر بالفعل كما مضى في بحث الاستصحاب في الشبهات الحكمية، ولذا كان السيّد الاُستاذ يُجري استصحاب عدم الجعل الزائد، وإنّما نقصد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم المجعول ـ وعلى حدّ تعبيرنا ـ بلحاظ النظر بالحمل الأوّلي إلى الحكم، وبهذا اللحاظ لا يُرى إلاّ المصداق بأن يوجد المصداق خارجاً، أو يقدّر المجتهد المصداق ويستصحب، وفي عالم المصاديق يكون مصداق الماء المتغيّر مصداقاً لطبيعي الماء، ويكون مصداقه متّحداً ـ أيضاً ـ ذاتاً مع مصداق الماء الفاقد للتغيّر مختلفاً معه في الزمان، فإشكال احتمال تغيّر الموضوع نشأ من عدم التوحيد بين مصبّ الاستصحاب ومصب ملاحظة الإشكال والبحث عن تغيّر الموضوع، فمصب الاستصحاب هو عالم المجعول والمصاديق في حين أنّ الإشكال لوحظ بالنظر إلى عالم المفاهيم، فتخيّل ورود إشكال على هذا الاستصحاب.
فإن قلت: إنّ مصداق الماء الذي هو موضوع للنجاسة الخارجية وإن لم يتبدّل لكنّ النجاسة الخارجية من المحتمل تبدّلها، وكون الباقي ـ على تقدير بقائه ـ غير الحادث، وذلك كما لو كانت النجاسة السابقة قد جعلت على الماء المتغيّر بالفعل، والنجاسة بعد زوال التغيّر على تقدير ثبوتها كانت بجعل آخر.
قلت: إذا صار القرار على النظر إلى عالم المجعول وإلى النجاسة الخارجية، أو بتعبير آخر: إلى النجاسة بالحمل الأوّلي، فكلّ الحيثيات التقييدية للجعل تصبح تعليلية للمجعول واقعاً
لا بالمسامحة العرفية، وتكون النجاسة على تقدير ثبوتها بعد زوال التغيّر بقاءً للنجاسة السابقة، ولو فرضت بجعل آخر فإنّها تكون من قبيل حرارة الماء التي كانت بالنار ثمّ زالت النار، واحتمل أنّه جُعِل الكهرباء بدلاً عن النار، فإنّ حرارة الماء عندئذ وإن كانت بسبب ثان تعدّ بقاءً للحراراة السابقة ويجري الاستصحاب.
نعم، إشكال تغيّر الموضوع يأتي حينما يحصل التعدّد في الوجود الخارجي، وذلك في بابين:
1 ـ باب الاستحالات بناءً على أنّ الاستحالة توجب التعدّد في الوجود، فالكلب كان وجوداً ارتفع، والملح وجود آخر طارئ، ويكفي الشكّ في وحدة الوجود لعدم جريان الاستصحاب، فإنّ المقصود بالاستصحاب إثبات الحكم لهذا الموجود في حين أنّنا عندئذ نشكّ في أنّ هذا الموجود كان الحكم ثابتاً له سابقاً.
2 ـ ما إذا كانت الحيثية المفقودة بنفسها موضوعاً للحكم ولو احتمالاً، لا الذات المتحيّث بها، بأن يقال مثلاً: إنّ موضوع الحكم في قلّد العالم، وأعط الزكاة للفقير ليس هو العالم والفقير، بل العلم والفقر، فمرجع جواز تقليد العالم إلى جواز أخذ العلم منه، وقد فرض زوال العلم، ومرجع وجوب إعطاء الزكاة للفقير إلى وجوب سدّ عوزه وفقره بالزكاة وقد زال العوز والفقر، فعندئذ لا يجري الاستصحاب لتعدّد الموضوع.
ومن هنا يتّضح الحال في البحث عن الاُمور التي يقال: إنّها حيثيات تقييدية وإنّ زوالها يخلّ بالاستصحاب، فحقيقة المطلب في ذلك هي: أنّ الحيثية المأخوذة إن كانت تُعدِّد الوجود الخارجي: إمّا من باب الاستحالة أو من باب أنّ الحيثية هي الموضوع للحكم لا الذات المتحيّث بها، فزوالها يضرّ بالاستصحاب، وإلاّ فلا.
والعبرة بالوحدة والتعدّد في الوجود الخارجي والمصداق لا في المفهوم.
وهنا ينفتح باب البحث عن أنّه هل العبرة بالوحدة في الوجود الخارجي عقلاً، أو العبرة بوحدته عرفاً؟ فإنّه قد توجد الوحدة العقلية من دون الوحدة العرفية، وذلك كما في مورد الاستحالة فالملح عرفاً وجود آخر غير الكلب وإن كان عقلاً جسماً واحداً بناءً على أنّ الفارق العلمي بينهما إنّما هو في الاختلاف التركيبي في الجزيئات، وقد توجد الوحدة العرفية دون الوحدة العقلية كما في النور المستمرّ ساعة من الزمان مثلاً، فإنّه وجود واحد عرفاً في حين أنّه وجودات عديدة عقلاً حسب ما يقال من أنّه بالنظر العلمي ينطفئ ويرجع في كلّ دقيقة مئآت المرات.
وعليه فمتى ما كانت الوحدة ثابتة عرفاً وعقلاً فلا إشكال في الاستصحاب، والكلام في أنّه إذا ثبتت إحدى الوحدتين فقط فهل يجري الاستصحاب أو لا؟
التحقيق: أنّ الوحدة العقلية فقط لا تكفي في جريان الاستصحاب، وأنّ الوحدة العرفية فقط تكفي في جريان الاستصحاب، وهذا معناه أنّ العبرة وجوداً وعدماً بالوحدة العرفية ولا أثر للوحدة العقلية، فنحن عندنا مدّعيان: أحدهما إثباتي، وهو جريان الاستصحاب عند ثبوت الوحدة العرفية ولو لم توجد الوحدة العقلية، والآخر سلبي، وهو عدم جريان الاستصحاب عند ثبوت الوحدة العقلية فحسب.
وقد يتصوّر أنّ الصحيح يجب أن يكون هو العكس ؛ وذلك لأنّ الوحدة العرفية هي وحدة مسامحية، سامح فيها العرف في مقام التطبيق، والمسامحات العرفية إنّما تتبع في المفاهيم، وبعد أخذ المفهوم من العرف يطبّق ذلك المفهوم على المصاديق بالدقّة العقلية.
والجواب عن ذلك يكون بوجوه أكثرها يثبت مدّعانا بكلا جانبيه الإثباتي والسلبي، وبعضها يثبت مدعانا بأحد جانبيه:
منها: أنّ دليل الاستصحاب لم يؤخذ فيه مفهوم الوحدة حتّى يقال: إنّ مسامحة العرف في تطبيق هذا المفهوم غير حجّة، غاية ما هناك أنّ المولى حينما قال لا تنقض اليقين بالشكّ كان ملحوظه في متعلّق الشكّ هو عين متعلّق اليقين، ومن هنا نحن ننتزع مفهوم الوحدة، وبكلمة اُخرى: أنّ المولى كان يشير بالشكّ إلى الشكّ في المتيّقن، فكأنّما قال: لا تنقض اليقين بالشكّ في ذلك المتيّقن، وإن شئت فقل: إن المتكلّم لاحظ واقع الواحد، لا أنّه أخذ مفهوم الوحدة، وعندئذ إن كان المتكلّم يتكلّم ويلحظ بما هو فيلسوف دقّي، فهو يلحظ واحداً دقّياً فلسفياً، وإن كان يتكلّم ويلحظ بما هو إنسان عرفي ـ كما هو الواقع ـ فهو يلحظ واحداً عرفياً، وهذا الوجه يثبت المدّعى بكلا جانبيه.
ومنها: أنّنا لو سلّمنا أنّ المولى أخذ في لسان دليل الاستصحاب وهو قوله (لا تنقض اليقين بالشكّ) مفهوم الوحدة فمن الواضح أنّ هذا المفهوم لم يؤخذ عن طريق ذكر كلمة الوحدة في الدليل، وغاية ما هنا أنّ يدّعى أنّ حذف المتعلّق أو ذكر كلمة النقض مثلاً يدلّ على أخذ مفهوم الوحدة، وعندئذ نقول: إنّ مثل حذف المتعلّق أو كلمة النقض لا يدلّ على أكثر من مفهوم الوحدة العرفية، وإن شئت فقل: إنّ كلمة النقض أو حذف المتعلّق ووحدة السياق لا يدلّ على مفهوم الوحدة، وإنّما يدلّ على مفهوم الاتّفاق في عمدة الأجزاء والصفات مثلاً، فإنّ ذلك يكفي في تبرير وحدة السياق واستعمال كلمة النقض، كما أنّ
الوحدة الدقيّة لا تكفي لتبرير ذلك، وهذا ـ أيضاً ـ يثبت المدّعى بكلا جانبيه.
ومنها: أنّنا لو افترضنا أخذ مفهوم الوحدة ولو بأن يقال: إنّ وحدة السياق مثلاً تدلّ على أخذ هذا المفهوم حقيقةً لا على أخذ مفهوم الاتّفاق في عمدة الأجزاء والصفات، أو فلنفترض أنّ كلمة الوحدة موجودة في الرواية لكنّنا نقول مع ذلك: إنّ العبرة بالوحدة العرفية دون العقلية ؛ وذلك لأنّ المسامحات العرفية في التطبيق قد تسري إلى المفهوم، وتوسّع أو تضيّق المفهوم، وعندئذ تكون متّبعة لا محالة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فليست المسامحة العرفية في التطبيق في المقام من قبيل مسامحات العرف في التطبيق في الأوزان والمقادير، وإنّما هي من قبيل مسامحة العرف في ماهية الأشياء، حيث ينكرها عند ضئالتها، فمثلاً حينما توجد أجزاء صغار من الدم لا ترى إلاّ بالمجهر ينكر العرف وجود الدم ؛ لعدم إدراكه للمصداق، وهذا المسامحة في التطبيق سارية إلى المفهوم، فأصبح مفهوم الدم لا يشمل إلاّ ما يكون واجداً لدرجة مخصوصة من الحجم تُرى بالعين المجرّدة، وفيما نحن فيه ـ أيضاً ـ نقول: إنّ مفهوم الوحدة قد وسّعت في نظر العرف، فتشمل الوحدة العرفية حقيقةً، فمفهوم الواحد صادق حقيقة على جبل رأيناه مثلاً في سنة ثمّ رأيناه بعد مئآت السنين بالرغم من أنّه في خلال هذا الأمد الطويل قد تغيّر وتبدّل كثير من أجزائه، وأيضاً نقول: إنّ مفهوم الوحدة قد ضيّقت في نظر العرف، فلا تشمل الوحدة التي تكون فلسفية فحسب ولا تكون عرفية. وهذا الوجه أيضاً يثبت المدّعى بكلا جانبيه.
ومنها: أنّنا لو افترضنا أخذ مفهوم الوحدة في الكلام، وافترضنا أنّ المسامحة في التطبيق لم تسرِ إلى المفهوم، قلنا مع ذلك: إنّ المسامحة في التطبيق على قسمين:
1 ـ المسامحة الواضحة التي يعترف العرف بكونها مسامحة، كما في مسامحته في الوزن والمقدار. فيطلق الفرسخ مثلاً على مسافة أقلّ من الفرسخ بمقدار شبر، والاوقيّة على ما يقلّ عنها بمثقال، لكنّه لو سُئل العرف عن أنّ هذا هل هو فرسخ أو اوقية بالضبط لقال: لا، وقال: إنّما هو كذلك تقريباً. وفي هذا القسم لا تكون مسامحته متّبعة في الحكم الشرعي، ولا تكون حجة.
2 ـ المسامحة التي تَعبرُ على العرف ولا يلتفت إلى كونها مسامحة، ومسامحته في تطبيق مفهوم الوحدة ان تنزّلنا عن دعوى سرايتها إلى المفهوم فلا أقلّ من كونها من هذا القبيل، أي: إنّها سنخ مسامحة لا يعترف العرف بما هو عرف بأنّها مسامحة، بخلاف مسامحته في ما يقلّ عن الفرسخ بشبر، فلو سُئل العرف أنّ هذا الجبل هل هو عين الجبل الذي كان قبل مئآت
السنين بالضبط يقول: نعم، هو عينه بالضبط، في حين أنّنا نعلم بتبدّل كثير من أجزائه، وهذا النوع من المسامحة ـ بالرغم من فرض عدم سرايته إلى المفهوم ـ يؤثّر في فهم المقصود من الألفاظ، ويكون حجّة.
وتوضيح ذلك: أنّ الكلام الدالّ على مفهوم مشتمل على مصاديق لو استعمل وكان ذلك المفهوم قد اُخذ بما هو مرآة إلى المصاديق تكون له دلالتان:
الاُولى: دلالة اللفظ على المفهوم، وإحضار المفهوم في الذهن باللفظ. وهذه ليست دلالة تكوينية عقلية وإنّما هي دلالة عرفية بلحاظ الربط الخاصّ الذي جعل بين اللفظ والمعنى، فأصبح اللفظ آلة لإحضار المعنى.
والثانية: دلالة اللفظ على المصاديق عن طريق المفهوم، أي: إحضار المصاديق في الذهن بالمفهوم. وهذا هو المقصود الأقصى للمتكلّم، وإحضار المفهوم لمصاديقه الحقيقية يكون دلالةً تكوينيّة عقلية، وإحضاره لمصاديقه العرفية المسامحية التي لا يعترف العرف بالمسامحة فيها يكون دلالة عرفية، ويكون هذا حجّة وداخلاً في باب المداليل اللفظية. وبهذا يثبت أنّ الوحدة في المقام إذا كانت عرفية لا عقلية فهي من المصاديق التي يدلّ المفهوم على إرادتها عرفاً، فيكون الاستصحاب حجّة فيها. وهذا هو الجانب الإثباتي من المدّعى ولكن لا يثبت بذلك الجانب السلبي وهو عدم حجّيّة الاستصحاب إذا كانت الوحدة عقلية فحسب.
ومنها: أنّنا لو سلّمنا خروج المصاديق العرفية للوحدة من باب المداليل اللفظية، قلنا: إنّه باعتبار أنّ مسامحة العرف هنا سنخ مسامحة لا يلتفت هو إليها، ولا يعتبرها مسامحة ينعقد في المقام إطلاق مقامي، فإنّ الشارع لو لم يكن يرضى بإجراء الاستصحاب في موارد الوحدة العرفية لكان عليه أن ينبّه على ذلك ؛ لأنّ العرف بصرف طبعه سوف يعمل بدليل الاستصحاب في تلك الموارد، وكذلك ينعقد الإطلاق المقامي لإخراج الموارد التي تكون الوحدة فيها عقلية فحسب، من باب أنّ العرف لو خلّي وطبعه لما أجرى الاستصحاب في تلك الموارد، فلو لم يكن الشارع راضياً بذلك لكان عليه التنبيه، فهذا الوجه يثبت المدّعى بكلا جانبيه.
إلاّ أنّ الإطلاق المقامي في موارد غفلة العرف إنّما ينعقد إذا لم تكن موارد الغفلة نادرة، ولم يكن التفاوت بين ما يفهمه العرف بغفلته وبين الواقع قليلاً بحيث يكون من الطبيعي أن لا يهتمّ المتكلّم بالتنبيه عليه، وإلاّ لما انعقد الإطلاق المقامي.
بقي الكلام في شيء، وهو: أنّنا ـ كما عرفت ـ طرحنا في المقام أمرين متقابلين، فجعلناهما مداراً للبحث: أحدهما النظر العقلي، والثاني النظر العرفي، وتكلّمنا في تعيين أحدهما في مقابل الآخر، إلاّ أنّ الأصحاب قد طرحوا في المقام ثلاثة اُمور متقابلات: النظر العقلي، والنظر العرفي، والنظر الدليلي، فما هو محتوى هذا الأمر؟
إنّنا تارةً نفترض أنّا نتكلّم في تشخيص موضوع الحكم ابتداءً، وتعيين أنّ القيد الفلاني هل هو حيثية تقييدية أو حيثية تعليلية، واُخرى نفترض أنّنا نتكلّم في قياس الباقي ـ على تقدير البقاء ـ إلى الحادث، ونرى أنّه هل يعتبر عين الحادث وبقاءً له، أو لا؟
فإن اخترنا في البحث الأوّل بالنسبة لقيد من القيود أنّه حيثية تعليلية، واخترنا في البحث الثاني أنّ ذهاب الحيثية التعليلية لا يضرّ بوحدة الباقي مع الحادث، جرى الاستصحاب، وإلاّ فلا.
فإن قصدوا إيقاع المقابلة بين الأنظار الثلاثة في البحث الأوّل، وهو تشخيص موضوع الحكم ابتداءً، فالذي يبدو: أنّه لا معنى لإيقاع المقابلة بين اُمور ثلاثة: الموضوع الدليلي، والموضوع العقلي، والموضوع العرفي ؛ لأنّ الفهم العقلي والعرفي إنّما هما يؤثّران في تشخيص مفاد الدليل، وليس الموضوع العقلي والعرفي شيئين في مقابل الموضوع الدليلي.
والبيان المَدْرَسي الذي يذكر في مقام توضيح هذه الاُمور الثلاثة المتقابلة هو أنّ الموضوع الدليلي يتعين على ضوء صيغة الدليل، فان معنى كون الحيثية تقييدية هو أنْ تكون في عالم الجعل مأخوذة قيداً ووصفاً للموضوع، ومعنى كونها تعليلية كونها مأخوذة في عالم الجعل شرطاً للحكم، لا قيداً للموضوع. وفي مقام تعيين ذلك بحسب النظر الدليلي نرجع إلى صيغة الدليل، فلو قال مثلاً: (الماء المتغيّر نجس) كان ظاهر ذلك أنّ التغيّر حيثية تقييدية، ومأخوذة في عالم الجعل وصفاً وقيداً للموضوع، ولو كانت الصيغة بلسان الشرط لا الوصف بأن قال: (الماء إذا تغيّر تنجّس) كان ظاهر ذلك أنّه حيثية تعليلية.
وأمّا بلحاظ الموضوع العقلي فجميع الحيثيات ترجع إلى الحيثيات التقييديّة ببرهان عقلي يفترض في المقام.
وأمّا بلحاظ الموضوع العرفي فالأمر يختلف باختلاف مناسبات الحكم والموضوع، فقد يرى العرف شيئاً حيثية تقييدية ولو اُخذ في لسان الدليل على نحو الشرطية، وقد يراه حيثية تعليلية وإن اُخذ في لسان الدليل على نحو الوصفية.
إلاّ أنّ فرض أشياء ثلاثة متقابلة بهذا البيان غير صحيح، فإنّ فهم مفاد الدليل ليس على
أساس المعاني اللغوية الموجودة في كتاب القاموس فحسب، وإنّما هو على ضوء مجموعة القرآئن الحالية والمقالية اللفظية واللبيّة والملاحضات العرفية والعقلية، وطبعاً مع فرض التعارض بين فهم عرفي وفهم عقلي قطعي يقدّم الثاني.
إلاّ أنّه يمكن أن يبيّن التقابل بين الاُمور الثلاثة ببيان آخر، وهو: أنْ ينظر إلى النظر الإنشائي للعرف والعقل، لا النظر الإخباري. وتوضيحه: أنْ يقال: إنّ العرف قد يكون له نظر إنشائي في حيثية، أي: إنّه لو اُعطي بيده التشريع لشرّع بنحو تصبح تلك الحيثية حيثية تعليلية مثلاً، وإن كان يعترف بالفعل أنّ شريعة الإسلام جعلت الحيثية تقييدية، أو بالعكس، وكذلك العقل قد يكون له نظر إنشائي بمعنى أنّ العقل في مستقلاّته العقلية دائماً يأخذ الحيثيات تقييدية، وإن كان يعترف أنّ شريعة الإسلام في أحكامها قد أخذت بعض الحيثيات تعليلية، ولذا ذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله) الإشكال في جريان الاستصحاب في أحكام العقل من باب أنّ الحيثيات فيها دائماً تقييدية، فدائماً يتعدّد الموضوع بزوال أيّ قيد من القيود، وعندئذ فيقصد بالنظر الدليلي ما يفهم من شريعة الإسلام بمقتضى أدلّتها، ويقصد بالنظر العقلي والعرفي النظر الإنشائي لهما، لكن بناءً على هذا الاُسلوب من بيان الفرق بين الأنظار الثلاثة تكون مرجعية النظر الدليلي في غاية الوضوح، فإنّ المفروض أنّنا نتكلّم في موضوع حكم شرعي، والعقل والعرف معترفان بأنّ الحيثية الفلانية المأخوذة في موضوعه تقييدي أو تعليلي، فلا محالة قد تعيّن موضوع الحكم، ولا معنى لفرض الحيثية تعليلية (حتّى مع اعتراف العرف بأنّها اُخذت في الشريعة تقييدية) لمجرّد أنّ العرف لو كان هو المشرّع لجعلت الحيثية تعليلية مثلاً، كما لا معنى لفرض الحيثية تقييدية (حتى مع اعتراف العقل بأنّها اُخذت في الشريعة تعليلية) لمجرّد أنّ العقل في مستقلاّته العقلية يأخذ كلّ الحيثيات تقييدية لبرهان مفروض هناك، وقد تحصّل: أنّ العبرة على ـ أيّ حال ـ بالنظر الدليلي.
وإن قصدوا إيقاع المقابلة بين الأنظار الثلاثة في البحث الثاني، وهو الاتّحاد بين الباقي والحادث، فهنا يكون الميزان في الاتّحاد: إمّا هو العقل، وهو يحكم بزوال الاتّحاد بسبب زوال أيّ قيد من القيود ولو كان حيثية تعليلية. وإمّا هو العرف، وهو يحكم بأنّ الاتّحاد لا يزول إلاّ بزوال الحيثية التقييدية دون التعليلية، ولا معنى هنا لفرض النظر الدليلي في مقابل النظر العقلي والعرفي، فإنّ الدليل لا يتكلّم عن مسئلة الاتّحاد بين الحادث والباقي.
وطبعاً الصحيح من هذين الوجهين هو كون العبرة بالنظر العرفي لا النظر العقلي ؛ لما عرفت من الوجوه. إذن فمهما أردنا إجراء الاستصحاب نأخذ كبرى المطلب من البحث