155

يبقى إشكال: أنّ هذا لا يشمل فرض كون الشكّ معاصراً لليقين أو قبله. ويجاب عنه بما مضى من مسألة الارتكاز المعمِّم في المقام.

 

الرواية السادسة:

مكاتبة عليّ بن محمد القاساني، قال:«كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب(عليه السلام): اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وافطر للرؤية»(1).

وقد عدّها الشيخ الأعظم(قدس سره) أظهر من الروايات السابقة(2) في الاستصحاب. ولعلّه لأجل عدم تطرّق احتمال عهديّة اللام كما كان يتطرّق في جملة من الروايات السابقة. فتدلّ الرواية بشكل عامّ على أنّ اليقين لا يرفع اليد عن أثره بالشكّ، وهو الاستصحاب.

وقد نوقش في الاستدلال بهذه الرواية بإبداء احتمالين مخالفين لفرض إرادة الاستصحاب.

الاحتمال الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)(3) من دعوى أنّ المراد باليقين هو اليقين بشهر رمضان، وبالشكّ هو الشكّ فيه، وقد اُريد باليقين والشك المتيقّن والمشكوك في المقام. والمعنى: أنّ اليوم المشكوك كونه من شهر رمضان لا تدخله في شهر رمضان، ولا تجعله إلى صفّ الأيّام المتيقّن كونها من شهر رمضان، فمفادها مفاد روايات باب صوم يوم الشكّ الدالّة على اعتبار اليقين بدخول شهر رمضان في نيّة صومه. ولو حمل اليقين والشكّ في المقام على المعنى الاستصحابي للزم أن يكون الدخول في الرواية بمعنى النقض، وهذا بحاجة إلى عناية.

أقول: إنّه وإن وجدت روايات مفادها ذلك، لكن حمل هذه الرواية على ذلك بالتقريب الذي عرفت خلاف الظاهر. والدخول ـ على أيّ حال ـ لم يستعمل في معناه الأصلي حتّى لو أخذنا بتفسير المحقّق النائيني(رحمه الله)؛ فإنّ دخول يوم الشكّ في شهر رمضان ليس من قبيل دخول شخص في الغرفة، فلا بدّ من معنىً مسامحي، وليس ما يذكره المحقق النائيني(رحمه الله)أولى


(1) الوسائل: ج 10، باب 3 من أحكام شهر رمضان، ح 13، ص 255 ـ 256 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الرسائل: ص 334 بحسب طبعة رحمة الله.

(3) أجود التقريرات: ج 2، ص 373. وراجع ـ أيضاً ـ الفوائد: ج 4، ص336 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

156

من حمل الدخول على معنى النقض والإفساد، ويكون التقريب الذي ذكره(رحمه الله)خلاف الظاهر من وجوه:

أوّلاً: أنّ حمل اليقين والشكّ على اليقين والشكّ بشهر رمضان من دون أيّ ذكر سابق في كلام الإمام(عليه السلام)، ولا في كلام السائل لليقين بشهر رمضان خلاف الظاهر جدّاً، بل مقتضى طبيعة الكلام كون المقصود جنس اليقين والشكّ.

وثانياً: ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّ حمل اليقين والشكّ على المتيقّن والمشكوك خلاف الظاهر؛ فإنّ مقتضى طبيعة الكلام أن يراد باليقين نفس اليقين، وبالشك نفس الشكّ(1).

وثالثاً: ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّه بناءً على هذا لا يمكن أخذ قوله: «وافطر للرؤية» تفريعاً على قوله: «اليقين لا يدخل الشك»؛ إذ الذي يتفرّع عليه هو أن لا يصام يوم الشكّ في آخر شهر رمضان بنيّة شهر رمضان، للزوم إدخال المشكوك في شهر رمضان المتيقّن، مع أنّ ظاهر الحديث كونه تفريعاً عليه(2).

الاحتمال الثاني: ما ذكره المحققّ الخراساني(رحمه الله) من أنّ ملاحظة روايات الباب(3) تشرف الفقيه على القطع بإرادة معنىً آخر، بيانه: أنّ اليقين بدخول شهر رمضان موضوع لوجوب الصوم، واليقين بدخول العيد موضوع لوجوب الإفطار كما ورد من قوله: «إيّاك والشكّ والظنّ» وقوله: «ليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية» وما إلى ذلك، فيقصد في المقام أنّه لا تدخل الشكّ في اليقين، أي: لا تلحقه به في الحكم، فإنّ الحكم بوجوب الصوم أو الإفطار يترتّب على اليقين بالهلال لا الشكّ(4).

وهذا لا يرد عليه الإشكال الثاني الذي مضى على الاحتمال الأوّل؛ لأنّه لم يحمل اليقين والشكّ على المتيقّن والمشكوك، ولا الثالث؛ لأنّه يقول: إنّ موضوع وجوب الصوم هو اليقين بهلال شهر رمضان، وهذا ثابت إلى اليوم الأخير، وموضوع وجوب الإفطار هو اليقين بهلال العيد، فلا يرد عليه عدم تمامية تفريع قوله: «وافطر للرؤية» بل التفريع على هذا المعنى يكون أنسب منه على الاستصحاب؛ إذ على الاستصحاب ليس وجوب الصوم عند الرؤية هو نتيجة الاستصحاب مباشرة، وإنّما نتيجته عدم وجوب الصوم قبل ذلك، ولازمه


(1) نقل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هذا الإشكال من اُستاذه مباشرة، وهو غير موجود في ما وصلنا من تقرير بحثه.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 67 ـ 68.

(3) راجع الوسائل: ج 10، باب 3 من أحكام شهر رمضان، بحسب طبعة آل البيت.

(4) راجع الكفاية: ج 2، ص 298 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

157

تحدّد الصوم بالرؤية، وكذا ليس الإفطار عند الرؤية هو ما يحكم به الاستصحاب مباشرة، وإنّما يحكم الاستصحاب بحرمة الإفطار قبل الرؤية، وهذا بخلاف ما لو أخذنا بتفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله)، فإنّ وجوب الصوم أو الإفطار متفرّع ابتداءً ـ عندئذ ـ على اليقين.

إلاّ أنّ تفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله) خلاف الظاهر من وجوه، عمدتها وجهان:

الأوّل: هو الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها في مقام التعليق على كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) حيث إنّه حمل(قدس سره) اليقين والشكّ على خصوص اليقين والشكّ بشهر رمضان وشوال لا جنس اليقين والشك، وهو خلاف الظاهر.

الثاني: أنّ حمل الدخول على المغايرة في الحكم ليس عرفياً، كأن يقول: الماء لا يدخله التراب، أي لا يلحقه حكم الماء في التطهير مثلاً، وهذا بخلاف حمله على النقض والإفساد؛ إذ باعتبار تضادّ اليقين والشكّ عرفاً يقال: إنّ إدخال الشكّ في اليقين إفساد له، ونقض وإخلال بتركيبه مثلاً، فيحكم تعبّداً بعدم دخول الشكّ في اليقين، أي: عدم إفساده له. وأمّا ما ذكره من إشراف الروايات للفقيه على القطع بما ذكره فغير صحيح، ولا توجد رواية واحدة تدلّ على موضوعية اليقين في المقام. وقوله: «إيّاك والظنّ والشكّ» ونحو ذلك لا يدلّ على موضوعيّة اليقين، بل يكون في مقام بيان أنّ قصد امتثال صوم شهر رمضان يجب أن يكون بنحو اليقين، فلا يصحّ الصوم بقصد صوم شهر رمضان مع الشكّ في دخول شهر رمضان.

ثمّ إنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ذكر في المقام: أنّه لا يمكن حمل الحديث على الاستصحاب؛ لكونه مثبتاً؛ لأنّ وجوب الصوم ليس مترتّباً على ثبوت شهر رمضان بنحو مفاد كان التامّة حتى ينفى باستصحاب عدمه، ولا وجوب الإفطار مترتّب على ثبوت عيد الفطر بنحو مفاد كان التامّة حتّى ينفى باستصحاب عدمه، وإنما هما مترتّبان على كون الزمان الفعلي متّصفاً بكونه شهر رمضان، أو بكونه عيداً بنحو مفاد كان الناقصة، وسلب مفاد كان الناقصة باستصحاب عدم كان التامّة تمسّك بالاستصحاب المثبت، فحمله على ما ذكره المحقّق الخراساني(1).

أقول: أوّلاً: أنّ الاستصحاب المثبت إنّما لا يكون حجّة لقصور دليل حجّيّة الاستصحاب لا لديل على عدم حجّيّته، فلو تمّ هذا الحديث، وكان الاستصحاب فيه مثبتاً التزمنا بحجّيّة الاستصحاب المثبت.

وثانياً: أنّه سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الاستصحاب في الاُمور التدريجية بيان


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 136. ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 65 ـ 66.

158

إمكان نفي مفاد كان الناقصة عند سبق انتفاء مفاد كان التامّة إمّا باستصحاب عدم محمولي أو باستصحاب عدم نعتي على ما سوف نوضّحه إن شاء الله.

وثالثاً: أنّه إن تكلّمنا في جانب استصحاب عدم شهر رمضان قلنا: إنّ أصل دخل مفاد كان الناقصة في باب الصوم وإن كان صحيحاً لكن كون ذلك دخيلاً في الوجوب أوّل الكلام، وإنّما هو دخيل في الواجب كما هو الظاهر من قوله تعالى:(من شهد منكم الشهر فليصمه) فجعل شرط وجوب الصوم هو مجرّد شهود الشهر وحضوره، وقيّد متعلّق الوجوب بضمير راجع إلى الشهر، أي أنّ الواجب أصبح هو صوم الشهر، فأخذ مفاد كان الناقصة في الواجب لا في الوجوب.

وإن تكلّمنا في جانب استصحاب عدم هلال شوّال فإن فرضنا أنّ المقصود به هو نفي وجوب الإفطار كما هو المستفاد من كلام المحقّق العراقي(رحمه الله)، قلنا ـ أيضاً ـ بنفس ما مضى، أي أنّ مفاد كان الناقصة لم يؤخذ في الوجوب، وإنّما اُخذ في الواجب، ونفس قوله في هذا الحديث: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» ظاهر في أنّ مجرّد رؤية الهلال أي حضور الشهر أو العيد هو موضوع الحكم لا مفاد كان الناقصة.

وإن فرضنا أنّ المقصود به هو إثبات وجوب الصوم في اليوم الثلاثين من شهر رمضان لدى الشكّ، فهنا يأتي إشكال المحقّق العراقي(رحمه الله) لولا جوابنا الأوّل والثاني(1)؛ لأنّ الواجب هو صوم اليوم الموصوف بكونه شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء شهر رمضان بنحو مفاد كان التامّة، فلا تثبت القدرة على امتثال الوجوب الثابت بالاستصحاب إلاّ على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع.

هذا كلّه هو الكلام في هذا الحديث دلالةً، وقد ظهر أنّه تامّ الدلالة.

وأمّا سنداً فهو ضعيف بعليّ بن محمد القاساني.

 

طائفتان من الروايات:

بقيت في المقام طائفتان من الروايات:

الطائفة الاُولى: روايات خاصّة في موارد خاصّة أحسنها صحيحة عبدالله بن سنان،


(1) كان يرى(رحمه الله) أنّ الجواب الثاني إنّما يأتي هنا بناءً على ما هو الصحيح من إمكان إثبات مفاد ليس الناقصة باستصحاب العدم النعتي. وأمّا لو فرضنا أنّ ذلك إنّما يثبت باستصحاب العدم الأزلي فمن الواضح أنّ هذا لا يمكن إسراؤه إلى مفاد كان الناقصة كما في المقام.

159

قال: «سأل أبي أبا عبدالله(عليه السلام) وأنا حاضر: إنّي اُعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام): صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه»(1).

فهذا الحديث قد علّل الحكم بوجود الحالة السابقة مع الشكّ اللاحق، فهو يدلّ على الاستصحاب.

وعيبه ما قد يقال بعدم دلالته على الاستصحاب في غير ما يكون من سنخ مورده، فهو يختصّ بدائرة باب الطهارة، ولا يدلّ على كون العلّة مطلق الحالة السابقة والشكّ اللاحق حتّى تثبت بذلك قاعدة كلّيّة.

إلاّ أنّ بالإمكان التعدّي عن هذه الدائرة بارتكازيّة الاستصحاب على الإطلاق، فيقال: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب بدون اختصاصه بباب الطهارة تجعل العرف ينسبق إلى ذهنه من هذا الحديث التعليل بمطلق الحالة السابقة والشكّ اللاحق.

وقد يقال بابتلاء هذا الحديث بالتعارض مع حديث آخر عن عبدالله بن سنان، قال: «سأل أبي أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجرّي ويشرب الخمر، فيردّه، أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: لا يصلّي فيه حتّى يغسله»(2)، وعن خيران الخادم عن أبي عبدالله(عليه السلام) مثله(3).

والحلّ: أنّ النهي حينما يعارض نصّ الترخيص يحمل على الكراهة.

وفي هذا الحديث مكسبان غير موجودين في الأحاديث السابقة، يفيدان فيما يأتي، ولا بأس بالإشارة إليهما هنا:

1 ـ إنّه لم يؤخذ فيه اليقين السابق، وإنّما ذكر نفس الحالة السابقة، فما يذكر مثلاً من الإيراد في موارد استصحاب مؤدّى الأمارة من أنّ الأمارة لم تفد اليقين ـ لو تمّ بالقياس للروايات التي اُخذ فيها اليقين ـ ليس له مورد بلحاظ هذه الصحيحة(4).


(1) الوسائل: ج 2، باب 74 من النجاسات، ح 1، ص 521 بحسب طبعة آل البيت.

(2) نفس المصدر: ح 2.

(3) نفس المصدر: ح 2.

(4) وكذلك لو شكّك بلحاظ صحيحتي زرارة في إجراء الاستصحاب لدى تقدّم الشكّ أو تقارنه لليقين ولم يقبل بالتعدّي إلى ذلك بارتكاز عدم الفرق، لم يرد هذا الإشكال بلحاظ هذه الصحيحة.

160

2 ـ إنّه لم تذكر فيه كلمة النقض، فنستريح من الإشكالات الناجمة عن كلمة النقض ككثير من تقريبات عدم حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي الناشئة من ذكر كلمة النقض، فبغضّ النظر عن حلّها في نفسها نقول: إنّه تكفينا هذه الصحيحة غير المشتملة على كلمة النقض.

نعم، لو قلنا: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب لا تشمل صورة الشكّ في المقتضي ـ كما قال به الحاج أقا رضا الهمداني(رحمه الله) ـ لم يمكن التعدّي من مورد صحيحة عبدالله بن سنان إلى فرض الشكّ في المقتضي، لكنّنا لا نقول بذلك، فنتعدّى ببركة الارتكاز حتّى إلى مورد الشكّ في المقتضي.

وقد تقول: إنّ هذا الارتكاز إن أفادنا في التعدّي فهو يفيدنا ـ أيضاً ـ في الروايات المشتملة على كلمة النقض؛ لأنّ تلك الروايات وإن اختصّت بحسب مدلولها الأوّلي ـ بسبب كلمة النقض حسب الفرض ـ بموارد عدم الشكّ في المقتضي، لكن الارتكاز يوسّع من دائرة الحكم، وتثبت حجّيّة الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي وإن لم يفدنا في التعدّي، إذن لا نستطيع أن نتعدّى حتّى من مورد صحيحة عبدالله بن سنان، فإنها وردت في مورد الطهارة، ولم يكن الشكّ فيها ناشئاً في موردها من الشكّ في المقتضي، فنحن نتعدّى من موردها إلى خصوص الموارد التي لا يكون الشكّ فيها شكّاً في المقتضي. أمّا المورد الذي يكون الشكّ فيه شكاً في المقتضى فلا معنىً للتعدي إليه؛ لأنّنا نحتمل الفرق؛ لأنّ المفروض أنّ الارتكاز العقلائي خاصّ بغير هذا المورد، فليس تعميم الحكم إلى موارد الشكّ في المقتضي مكسباً نكتسبه من هذه الصحيحة.

ولكنّنا كنّا نقصد بالمكسب الذي يكتسب من هذه الصحيحة أنّه لو توهّم أحد ـ رغم الإيمان بعدم اختصاص الارتكاز العقلائي بموارد عدم الشك في المقتضي ـ أنّ كلمة النقض بما أنّها لا تصدق مثلاً إلاّ في موارد عدم الشكّ في المقتضي تكون قرينة على اختصاص مفاد الرواية بغير الشكّ في المقتضي ومانعة عن فهم الإطلاق ببركة الارتكاز، فهذه القرينة المتوهّمة غير موجودة في صحيحة عبدالله بن سنان.

الطائفة الثانية: أخبار أصالة الحلّ والطهارة:

أمّا خبر أصالة الطهارة وهو ما يسمى بموثّقة عمّار، فقد تكلّمنا عن سنده في الفقه،

161

وأثبتنا عدم اعتباره(1)، فلا نعيده هنا.

 


(1) بحث اُستاذنا(رحمه الله) سند هذا الحديث في الفقه أكثر من مرّة، واختار في بعض تلك المرّات عدم تماميّة السند، ولكنّه لم يطبع في كتاب البحوث هذا البحث إلاّ مرّة واحدة، وهي في المجلّد الثاني ص 189 ـ 193، ومال فيها إلى تصحيح السند بعنوان (اللّهم إلاّ أن يقال).

وأصل الإشكال في سند هذا الحديث يكون في أحمد بن يحيى، حيث روى الشيخ في التهذيب: ج 1، الحديث 832 بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمّار، عن أبي عبدالله(عليه السلام). وإن لم ينحلّ إشكال السند في هذا الحديث سقطت هذه الرواية الوحيدة في الدلالة على قاعدة الطهارة، ولم يبقَ مصدر في الفقه لقاعدة الطهارة عدا دعوى تصيّدها من موارد مختلفة، وكذلك يسقط بذلك دليل وجوب غسل الإناء المتنجّس بالماء القليل ثلاث مرّات، فإن مدرك ذلك هي فقرة من فقرات هذا الحديث.

واُستاذنا الشهيد(رحمه الله) صحّح أحمد بن يحيى في المقام بدعوى أنّه لا يوجد في الرجال في هذه الطبقة شخص بهذا الاسم عدا أحمد بن يحيى بن حكيم الأودي، وهو ثقة.

ثمّ استشكل في ذلك بأنّ صاحب جامع أحاديث الشيعة(ج 2، الحديث 1594) ذكر: أنّ في بعض نسخ التهذيب ورد محمد بن يحيى بدلاً عن أحمد بن يحيى، وهو في هذه الطبقة غير ثابت التوثيق.

ثمّ أجاب عن ذلك بعنوان(اللّهم إلاّ أن يقال) بما حاصله الاعتماد على نسخة التهذيب الواصلة إلى الشيخ الحرّ؛ لأنّ له سنداً تامّاً إلى التهذيب، وتلك النسخة ـ حسب نقل الشيخ الحرّ ـ ورد فيها أحمد بن يحيى لا محمد بن يحيى.

أقول: إنّ أصل تصحيحه(رحمه الله) لأحمد بن يحيى بحصره في أحمد بن يحيى بن حكيم الأودي غير صحيح حتّى على تقدير ثبوت هذا الحصر بمقدار ما وصلنا من الأسماء في كتب الرجال؛ وذلك لأنّه رغم ما قيل من أنّ له كتاب دلائل النبيّ يرويه عنه جعفر بن محمد بن مالك الفزاري لم ترد ـ حسب الظاهر ـ في الكتب الأربعة ولا رواية واحدة عنه، فلم يثبت كونه رجلاً معروفاً بحيث ينصرف الاسم في هذه الطبقة إليه، فنبقى نحتمل أنّ أحمد بن يحيى في سند هذا الحديث إنسان مجهول لم يرد في كتب الرجال.

والصحيح: توثيق سند الحديث بجمع القرائن على زيادة هذه الكلمة في هذا المقام، وأنّ محمد بن أحمد بن يحيى روى رأساً هذا الحديث عن أحمد بن الحسن، وتلك القرائن ما يلي:

1 ـ عدم وجود هذا الوسيط بين محمد بن أحمد بن يحيى وأحمد بن الحسن في قطعات من هذا الحديث في سائر الموارد غير المورد الذي نقلناه عن التهذيب. راجع الاستبصار: ج 1، ح 64، والكافي: ج 3، ب 6 من كتاب الطهارة، ح 5، ص 9 ـ 10، والتهذيب: ج 1، ح 642 و 660 و 665.

وهذه القرينة يمكن تضعيفها بإبداء احتمال أن تكون تلك القطعات التي وردت من دون هذا الوسيط مأخوذة من مصدر آخر غير المصدر الذي أخذ منه الشيخ الحديث 832 من المجلّد الأوّل من التهذيب. ونستشهد لهذا الاحتمال لا بما أورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث، بل بأنّ الشيخ(رحمه الله)بدأ السند في الحديث 832 من الجزء الأوّل بمحمد بن أحمد بن يحيى ممّا يدلّ على أنّه أخذه من كتاب محمد بن أحمد بن يحيى، في حين أنّه لم يبدأ نقل تلك القطعات بهذا الاسم، فلعلّه أخذه من مأخذ آخر، مضافاً إلى أنّنا نرى أنّ الشيخ(رحمه الله) روى الحديث بطوله في المجلّد الأوّل، ح 832، ولم يقتصر على المقطع الذي كان مورد كلامه ممّا يشهد على أنّه كان هناك بصدد استيعاب مقاطع

162

وأمّا خبر أصالة الحلّ فأحد متونه ـ على ما أذكر من بحث البراءة ـ معتبر سنداً، وهنا لا نتكلّم ـ أيضاً ـ عن سنده، وإنّما نتكلّم عن الدلالة فنقول:

 


هذا الحديث، في حين أنّنا نرى أنّه روى في التهذيب في مكان آخر مقطعاً من هذا الحديث غير موجود في ذاك النصّ المفصّل، وصرّح بأنّ هذا المقطع مأخوذ من حديث طويل. راجع التهذيب: ج 1، ح 712.

ولكن ـ على أيّ حال ـ لا يكون هذا التضعيف مسقطاً لهذه القرينة نهائياً، بل تبقى له قرينية ناقصة بلا إشكال.

2 ـ عدم معهوديّة وجود وسيط بين محمد بن أحمد بن يحيى وأحمد بن الحسن بن عليّ في جميع رواياته إطلاقاً ـ كما يبدو ـ عدا هذا المورد، وعدم معهوديّة كون شخص باسم أحمد بن يحيى شيخاً لمحمد بن أحمد بن يحيى في غير هذا المورد. نعم، وجد في مشايخه من يكون باسم محمد بن يحيى وهو محمد بن يحيى المعاذي.

3 ـ اختلاف نسخ التهذيب في المورد الذي وقع فيه هذا الوسيط، فهو ليس موجوداً في كلّ نسخ التهذيب، والدليل على ذلك أنّ الشيخ الحرّ ذكر قطعة من الحديث نقلاً عن التهذيب في الباب 53 من أبواب النجاسات، ح 1، وذكر فيه الوسيط وهو أحمد بن يحيى، وورد في طبعة آل البيت ج 3، ص 497 في الهامش نقلاً عن خطّ المصنّف أنّه كَتَب بين قوسين على كلمة أحمد بن يحيى(عن نسخة).

4 ـ إنّ الشيخ الحرّ(رحمه الله) في غير القطعة التي نقلناها عن الباب 53 من النجاسات، الحديث الأوّل إنّما نقل عن النسخة الخالية عن اسم هذا الوسيط، ولم ينقل إطلاقاً عن النسخة الاُخرى إلاّ في مورد واحد، وهو ما عرفت مشيراً إلى أنّ هذه نسخة من النسخ. راجع الوسائل: ج 1، ب 4 من الأسئآر، ح 4، و ب 10 من الأسئآر، ح 1، و ج 2، ب 8 من النجاسات، ح 6، و ب 9 من النجاسات، ح 15، و ب 36 من النجاسات، ح 2، و ب 37 من النجاسات، ح 4، و ب 82 من النجاسات، ح 2.

5 ـ نقل السيّد الخوئي(رحمه الله) في الجزء الثاني من معجم الرجال في ترجمة أحمد بن يحيى ص 1008 بحسب الطبعة الثالثة: أنّ صاحب الوافي ذكر هذا الحديث نقلاً عن التهذيب في موارد متعدّدة وفي جميع ذلك روى محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بلا واسطة.

6 ـ إنّنا لم نَرَ في غير هذا المورد شخصاً باسم أحمد بن يحيى، ولا باسم محمد بن يحيى يروي عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال.

نعم، ذكر السيّد الخوئي(رحمه الله) في تفصيل طبقات الرواة الملحق بمعجم الرجال: ج 2، ص 431: (وروى عنه ـ يعني عن أحمد بن الحسن ـ محمد بن يحيى، التهذيب: ج 9، ح 350) وهذا الكلام من السيّد الخوئي خطأ طريف؛ وذلك لأنّ هذا الحديث الذي أشار إليه نقلاً عن التهذيب قد ورد في التهذيب بعد حديث روى سنده بهذا الشكل: (محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عليّ بن النعمان...) ومحمد بن يحيى الموجود في هذا السند لا شكّ في أنّه هو محمد بن يحيى العطّار؛ فإنّه هو الذي ينقل الشيخ في التهذيب عن كتابه، وهو الذي يروي عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، وهذا الحديث رقمه في التهذيب: ج 9 عبارة عن 349، ثم يذكر الحديث رقم 350، ويبدأ بذكر سنده بهذا الشكل: (عنه عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد...) فتخيّل السيّد الخوئي(رحمه الله) أنّ الضمير في (عنه) يرجع إلى محمد بن يحيى، في حين أنّه يرجع إلى محمد بن الحسين؛ لما عرفت من أنّ محمد بن يحيى الوارد في سند الحديث السابق هو العطّار الذي هو شيخ الكليني، ولا يحتمل روايته عن أحمد بن الحسن بلا واسطة، وهو دائماً يروي عن أحمد بن الحسن بواسطة واحدة.

163

إنّ في هاتين الروايتين اتّجاهات ثلاثة:

الاتّجاه الأوّل: أنّه يستفاد منهما اُمور ثلاثة: الحكم الواقعي من الطهارة والحلّيّة، وأصالة الطهارة أو الحلّ، والاستصحاب.

وهذا ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل(1).

الاتّجاه الثاني: أنّه يستفاد منهما أمران على اختلاف في تعيين الأمرين، فاختار المحقق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية أنّه يستفاد الحكم الواقعي مع الاستصحاب(2). ونسب الشيخ الأعظم(قدس سره) إلى صاحب الفصول(3) القول باستفادة الأصل مع الاستصحاب.

الاتّجاه الثالث: أنّه يستفاد منهما أمر واحد على اختلاف في هذا الأمر، فقد يقال: إنّه هو الاستصحاب. وهذا ما مال إليه الشيخ الأعظم(قدس سره)(4) في حديث: (الماء كلّه طاهر) لا في حديث: (كلّ شيء نظيف أو حلال)، وقد يقال: إنّه هو أصالة الطهارة والحلّ، وهو المشهور، وفي خصوص حديث الطهارة قول ينسب إلى صاحب الحدائق(رحمه الله) وهو الحمل على الطهارة الواقعيّة.

 

الاتّجاه الأوّل:

أمّا الاتّجاه الأوّل، فقد ذهب إليه ـ كما عرفت ـ المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الفرائد، فذكر: أنّه يستفاد من صدر الحديث وهو قوله: «كلّ شيء نظيف أو كلّ شيء حلال» الطهارة الواقعيّة والحلّيّة الواقعيّة مع أصالة الطهارة والحلّيّة، ومن ذيله وهو قوله: «حتى تعلم ...» الاستصحاب، فيقع الكلام في مقامين:

أحدهما: في استفادة الحكم الواقعي مع الأصل من الصدر.

والثاني: في استفادة الاستصحاب من الذيل.

أمّا المقام الأوّل، فقد استدلّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) على استفادة الحكم الواقعي مع الأصل


(1) راجع التعليقة: ص 185 ـ 188، بحسب طبعة مكتبة بصيرتي.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 298 ـ 301 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(3) نسب ذلك إلى بعض معاصريه. راجع الرسائل: ص 335، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله، فطبّق ذلك المعاصر على صاحب الفصول ولو بقرينة ورود هذا الرأي في الفصول، وقد استظهر الشيخ الإصفهاني من كلام صاحب الفصول القول بدلالة الحديث على الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب. راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 92 بحسب طبعة آل البيت.

(4) راجع نفس المصدر: ص 336.

164

من صدر الحديث بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ لقوله: «كلّ شيء نظيف أو طاهر» عموماً أفرادياً تستفاد منه أحكام واقعيّة للأفراد، وإطلاقاً أحوالياً تستفاد منه أحكام واقعيّة للأحوال، كحالة كون الشيء حارّاً أو بارداً وغير ذلك، فيدلّ على طهارة الشيء أو حلّيّته في كلّ هذه الأحوال. وهذا الإطلاق الأحوالي يشمل حالة الشكّ أيضاً، فيثبت الحكم في حال الشكّ، وهذا ـ لا محالة ـ يكون حكماً ظاهرياً.

الوجه الثاني: ما قصد به الاستغناء عن الإطلاق الأحوالي، والاكتفاء بالعموم الأفرادي، فذكر: أنّ عمومه الأفرادي شامل لفرد ملازم للشكّ في نجاسته دائماً كالكبريت مثلاً، وهذا طهارته ظاهرية حتماً بلا حاجة إلى إطلاق أحوالي يشمل حال الشكّ؛ لأنّ هذا مشكوك في كلّ حال، ونتعدّى إلى حالة الشكّ في شيء لا يكون ملازماً للشكّ بعدم الفصل.

أقول: أمّا الوجه الثاني فواضح البطلان؛ فإنّ الكبريت مثلاً إنّما صار فرداً للعامّ بما هو كبريت بغضّ النظر عن كونه مشكوك الطهارة، ومجرّد الملازمة للشكّ لا يجعل الحكم ظاهرياً، وإنّما الحكم الظاهري ما اُخذ في موضوعه الشكّ، وهذا لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، وإنّما هو أمارة على الطهارة موضوعها نفس الشيء، ورافعةٌ للشكّ.

وأمّا الوجه الأوّل فقد أورد المتأخرون عنه عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما ذكره جملة من المحقّقين كالمحقّق النائيني(1) والمحقّق العراقي(2) والمحقّق الإصفهاني(3)(قدس سرهم) من أنّ الإطلاق هو رفض القيود لاجمعها، فشمول الإطلاق الأحوالي لحالة الشكّ ليس معناه أخذ الشكّ موضوعاً حتّى يكون حكماً ظاهرياً، وإنّما معناه: أنّه لم يؤخذ في الموضوع عدم الشكّ، وأنّ الطهارة هنا طهارة ثابتة بغضّ النظر عن الشكّ وعدمه، وهذه الطهارة لا تكون إلاّ طهارة واقعية.

أقول: إنّ هذا الإشكال وارد على كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) بالمقدار المبيّن في عبارته(قدس سره)، ولكن يمكن أن يقرّب مدّعى المحقّق الخراساني(رحمه الله) بتقريب آخر لكي لا يرد عليه هذا الإشكال.

بيانه: أنّه تارةً نتكلّم في الشكّ بنحو الشبهة الموضوعية، كالشكّ في خمرية مائع بعد العلم


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 374.

(2) لم أجد ذلك في كلمات المحقّق العراقي(رحمه الله).

(3) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 94 بحسب طبعة آل البيت.

165

بنجاسة الخمر، واُخرى نتكلّم في الشكّ بنحو الشبهة الحكمية كالشكّ في نجاسة الكبريت مثلاً.

أمّا الشكّ بنحو الشبهة الموضوعية، فحيث إنّ المفروض فيه ورود مخصّص على العامّ القائل بأنّ (كلّ شيء نظيف) وهو دليل نجاسة الخمر، فموضوع الطهارة ليس خصوص العنوان المأخوذ في العامّ، بل هو مركّب من عنوان العامّ وعنوان آخر؛ لكي لا ينطبق على ما خرج بالتخصيص، ولا بدّ من الاقتصار في القيد الذي يزاد على عنوان العامّ على قيد يُخرج من العامّ أقلّ مقدار ممكن في مقام رفع التنافي بين العام والخاصّ، ففي المقام لا يقيّد موضوع العامّ بعدم كونه خمراً مثلاً؛ لأنّه يمكن تقييده بشيء آخر أقلّ تخصيصاً، ويرتفع به التعارض، وذلك بأن يقيّد بعدم كونه خمراً معلوم الخمرية، فيبقى تحته الخمر المشكوك، ويحمل الحكم في المشكوك على الحكم الظاهري جمعاً بين دليل الطهارة ودليل نجاسة الخمر، ويرتفع التعارض بين العامّ والخاصّ إيماناً منّا بعدم التعارض بين الحكم الواقعي والظاهري.

وأمّا الشكّ بنحو الشبهة الحكمية فندّعي أنّ عنوان العامّ لم يقيّد بما مضى من عدم كونه خمراً معلوم الخمرية فحسب، بل نضيف شيئاً آخر إلى ذلك بأن نقول: إنّه قيّد بعدم كونه خمراً معلوم الخمرية ومع العلم بنجاسة الخمر؛ وذلك لأنّ هذا العنوان أقلّ تخصيصاً للعام؛ لأنّه يبقى تحت العام ما هو مشكوك النجاسة، فيحكم بطهارة مشكوك النجاسة طهارة ظاهرية، وترتفع المنافاة بين العام والخاصّ الدالّ على النجاسة الواقعية.

وإن شئت فبدلاً عن أن تقول: إنّ موضوع الحكم بالطهارة قيّد بأن لا يكون خمراً معلوم الخمرية ومع العلم بنجاسة الخمر، اذكر العلم بالنتيجة، بأن تقول: إنّ موضوع الحكم بالطهارة قيّد بأن لا يكون خمراً معلوم النجاسة، وإنّما نحن اخترنا الطريقة الاُولى لتوضيح الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية في المقام، وإلاّ فالأولى هو التعبير الثاني حتّى يخرج ـ أيضاً ـ من العموم الخمر الواقعي الذي لم يلتفت المكلف إلى احتمال كونه خمراً، بل جزم مثلاً بعدم كونه خمراً، لكنّه علم بالنجاسة من ناحية اُخرى بأن تخيّل كونه بولاً مثلاً، أو تخيّل كون المائع الفلاني نجساً.

والفرق بين تقريبنا وتقريب المحقّق الخراساني(رحمه الله) هو أنّ المحقّق الخراساني أراد أن يستفيد أخذ القيد الزائد على عنوان العام من الإطلاق، فاصطدم بإشكال: أنّ الإطلاق إنّما يقتضي رفض القيود لا أخذ القيود، ونحن نستفيد القيد من المخصّص.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا التقريب ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ وذلك لأنّ العام حيث إنّه لم

166

يؤخذ في لسانه عنوان الشكّ يكون ظاهراً في كون الحكم الذي يبيّنه واقعياً، وليس ظهوره في الواقعية في طول إطلاقه لفرض العلم، حتّى يكون المخصّص الذي يقوى على هذا الإطلاق ويقدّم عليه مقدّماً على ذاك الظهور أيضاً؛ لكونه متولّداً من الإطلاق، فلا يكون أحسن حالاً من الإطلاق، وإنّما هو في عرض إطلاقه لفرض العلم، أي: أنّ عدم أخذ قيد الشكّ في موضوعه في لسان العام يولّد في عرض واحد ظهورين:

أحدهما: ظهور إطلاقي في شموله لفرض العلم.

وثانيهما: الظهور في الواقعية، وعليه فلا يكفي لرفع المنافاة بين العامّ والخاصّ إخراج خصوص النجس المعلوم النجاسة؛ إذ يبقى ـ عندئذ ـ المشكوك داخلاً في العام، وقد دلّ العام على كونه طاهراً بالطهارة الواقعية، والخاصّ على كونه نجساً واقعاً، وهما متنافيان، فلا بدّ من إخراج الخمر عن تحت العام بقول مطلق، أي: بلا تقييد بالعلم، وهذا ما يصنعه المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الفقه في سائر الموارد، وكذا سائر الفقهاء، فحينما يرد عام يدّل على وجوب إكرام العالم مثلاً، ويرد مخصّص يخرج الفسّاق لا يقول أحد: إنّنا نستفيد من هذا وجوب الإكرام ظاهراً لعالم مشكوك الفسق.

الإيراد الثاني: ما نقله المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) من كتاب الدرر للحاج الشيخ عبدالكريم اليزدي(قدس سره)(1) من أنّ جعل الطهارة الظهارية في قوله: «كلّ شيء طاهر» لغو؛ إذ لو كان كلّ شيء من الأشياء طاهراً بالطهارة الواقعية، ولم يبقَ مورد للشكّ في الطهارة والنجاسة، فأيّ فائدة لجعل الطهارة الظاهرية؟!

أقول: إنّ هذا الإيراد غير وارد، لا على التقريب الذي نحن ذكرناه، ولا على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله).

أمّا على التقريب الذي نحن ذكرناه فقد استفدنا الطهارة الظاهرية في المرتبة المتأخّرة عن التخصيص، وفي طوله، ومن المعلوم أنّه في هذه المرتبة قد قسّمت الأشياء إلى قسمين: طاهر


(1) ورد في نهاية الدراية: ج 5، ص 96 بحسب طبعة آل البيت، ذكر هذا الإشكال بلحاظ الشبهة الحكمية، ولم يذكر صاحب الإشكال، ولكن عبارة الدرر تنسجم مع فرض عدم التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية، حيث قال: (هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت إلى المكلّف يرتفع شكّه من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الأشياء بعناوينها الأوّليّة، فلا يبقى له شكّ حتّى يحتاج إلى العمل بالحكم الوارد على الشكّ. اللّهم إلاّ أن تحمل القضيّة على الإخبار والحكاية عن الواقع). راجع الدرر: ص 531 ـ 532 بحسب الطبعة الخامسة. وكأنّ السبب في تخصيص الإشكال في عبارة نهاية الدراية بالشبهة الحكمية وضوح أن دليل طهارة كلّ شيء بعد علمنا بخروج بعض الامور عنه ولو تخصيصاً لا يمكن أن يرفع الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة.

167

ونجس، فقد يتّفق الشكّ(1) ولا يكون جعل الطهارة الظاهرية لغواً.

وأمّا على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من استفادة الطهارة الظاهرية من إطلاق (كلّ شيء طاهر) ابتداءً، فأيضاً لا يرد عليه هذا الإشكال؛ وذلك:

أمّا أوّلاً؛ فلأنّه ليس جعل الطهارة الواقعية منافياً للطهارة الظاهرية حتى تلغو الطهارة الظاهرية عند جعل الطهارة الواقعية، وإنّما الذي ينافيها هو وصول ذلك الجعل، وهذا العام إنّما دلّ على الجعل، والجعل لا يستلزم الوصول، فقد لا يصل بسبب ابتلاء هذا العام بالمعارض مثلاً، فتصل ـ عندئذ ـ الطهارة الظاهرية، ولا يلزم اللغوية.

وأمّا ثانياً؛ فلأنّه لو سلّمنا كون جعل الطهارة الواقعية منافياً للطهارة الظاهرية، قلنا: هل المقصود كون هذه المنافاة مانعاً ثبوتياً عن حمل الحديث على المعنى الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)، أو المقصود كونها مانعاً إثباتياً عنه؟

فإن قصد الأوّل فجوابه: أنّ الله تعالى يعلم أنّ دلالة الحديث على الطهارة الواقعية في جميع الموارد غير مقصودة، وأنّه في جملة من الموارد كالخمر الواقعي المشكوك الخمرية لم يجعل الطهارة الواقعية، فلا مانع من جعل الطهارة الظاهرية.

وإن قصد الثاني بأن يقال: إنّه وإن كانت الطهارة الواقعية غير مقصودة واقعاً في بعض الموارد، لكن حيث إنّها تنافي الطهارة الظاهرية، فالدليل الذي يدلّ على الاُولى لا يدلّ على الثانية، وإلاّ لزمت دلالته على أمرين متنافيين، فجوابه: أنّ الارتكاز المتشرّعي الذي هو كالقرينة المتّصلة دلّ على عدم إرادة العموم الكامل في الطهارة الواقعية، بل قوله في ذيل الحديث: «حتّى تعلم أنّه قذر» أيضاً قرينة على ذلك، فيرتفع التنافي الإثباتي أيضاً(2).

 


(1) إن كانت الشبهة حكمية لم يرد هذا الإشكال؛ لأنّ إطلاق قوله: «كلّ شيء طاهر» يرفع الشكّ، وإنّما يرد هذا الإشكال بلحاظ الشبهة الموضوعية. أمّا في الشبهة الحكمية فالأولى في مقام الجواب على هذا الإشكال الاقتصار على الوجهين الأتيين، أو الوجه الأوّل منهما.

(2) ما أفاده اُستاذنا(رحمه الله) في المقام صحيح، ولكن عبارة الدرر واضحة في أنّه لا يقصد دعوى التنافي بين الطهارة الواقعية والظاهرية، وجعل هذا التنافي مانعاً ثبوتياً أو إثباتياً في المقام، وإنّما يكون كلامه ناظراً إلى منافاة وصول الحكم الواقعي للحكم الظاهري، ودعوى: أنّ دليل الحكمين بعد أن كان واحداً وهو رواية: (كلّ شيء نظيف)، فهذا الدليل إن لم يصل لم تصل الطهارة الظاهرية، وإن وصل وصلت الطهارة الواقعية، فلا يبقى مورد للطهارة الظاهرية. فالمهمّ إذن بلحاظ مقصود الشيخ الحائري هو الجواب الأوّل. وأقترح تطوير بيانه بالشكل التالي:

لو فرضنا أنّ وحدة الدليل على الطهارتين أوجبت التلازم بين وصولهما نفياً وإثباتاً؛ لأنّ هذا الدليل الواحد إمّا

168

الإيراد الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي، فكيف يمكن الجمع بينهما(1)؟!

وهذا الجواب أو روحه يمكن أن يقرّب بتقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: ما هو الظاهر المستفاد من عبارة التقرير(2)، وهو أنّ الحكم الظاهري متأخّر رتبة عن الحكم الواقعي؛ لكونه في طول الشكّ الذي هو في طول الحكم الواقعي، فلو اتّحدا في الجعل لزم كون المتقدّم متأخّراً أو المتأخّر متقدّماً، وهو محال.

وذكر السيّد الاُستاذ: أنّ هذا إنّما يتمّ بناءً على كون الإنشاءات موجدات للمعنى، وأمّا بناءً على كونها مبرزات عن اعتبارات نفسيّة، فيمكن فرض تحقّق اعتبارين نفسيّين طوليّين، ثمّ الكشف عنهما بمبرز واحد(3).

أقول: إنّ هذا التفصيل لا محصّل له؛ فإنّنا إن جعلنا قوله: «كلّ شيء نظيف» إخباراً عن الطهارة، ارتفع هذا الإشكال بلا فرق بين أن يفرض الإنشاء إيجاداً للمعنى أو إبرازاً للاعتبار النفساني. وإن جعلناه إنشاءً كما هو مفروض الكلام عندهم، فكما يقال بناءً على كون


يصل أو لا يصل، فهذا إنّما يوجب التلازم في الوصول بين الجعلين دون المجعولين؛ لأنّ فعلية المجعول تابعة لفعلية الموضوع، وقد اختلف موضوع أحد الجعلين عن الآخر حسب الفرض؛ إذ اُخذ في موضوع الطهارة الظاهرية الشكّ في الطهارة الواقعية، وعلمنا بنجاسة الأعيان النجسة جعلنا قد نشكّ في الطهارة نتيجة شكّنا في الموضوع، وبهذا يصلنا موضوع الطهارة الظاهرية في حين أنّه لم يصلنا موضوع الطهارة الواقعية؛ لأنّنا عرفنا بسبب اطّلاعنا على نجاسة النجاسات أنّه ليس ما ورد في هذا الحديث وهو عنوان (شيء) تمام الموضوع للطهارة الواقعية، بل لموضوعها قيد آخر شككنا في وجوده، وبهذا انفصل أحد المجعولين عن الآخر في الوصول، على أنّنا ننكر التلازم بين الجعلين ـ أيضاً ـ في الوصول، فبالإمكان وصول الطهارة الظاهرية وعدم وصول الطهارة الواقعية بنحو الشبهة الحكمية؛ لأنّ النصّ على الطهارتين وإن كان واحداً وهو رواية: (كلّ شيء نظيف)، ولكن من الممكن أن يبتلي النصّ بلحاظ الطهارة الواقعية بمعارض لم يكن أقوى منه بالأخصيّة، كما لو كان المعارض الخاصّ مبتلىً بمعارض مساو له، وقلنا في مثل ذلك بتساقط الخاصّين مع العام، فعندئذ تكون الطهارة الواقعية غير واصلة لنا، ويحصل لنا الشكّ فيها، وبهذا يتمّ عندنا موضوع الطهارة الظاهرية.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 374 ـ 375، والفوائد: ج 4، ص 367 ـ 368 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) عبارة أجود التقريرات مشتملة على إشكالين: أحدهما يمكن تطبيقه على التقريب الثالث، وهو الوارد في ص 374، والثاني هو التقريب الأوّل، وهو الوارد في ص 375. وعبارة الفوائد متأرجحة، فصدرها ظاهر في التقريب الثاني، وذيلها ظاهر في التقريب الأوّل، فراجع.

(3) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 71.

169

الإنشاء إيجاداً للمعنى: إنّ هذا إيجاد واحد، فكيف ينحلّ إلى إيجادين طوليّين؟! كذلك يقال بناءً على كون الإنشاء إبرازاً للاعتبار: إنّ هذا إبراز لاعتبار واحد؛ لأنّ إبرازه لاعتبارين يكون على حدّ استعمال اللفظ في معنيين، فيقال هنا أيضاً: كيف ينحلّ الاعتبار الواحد إلى اعتبارين طوليّين؟!

والتحقيق: أنّ الإشكال بهذا التقريب الأوّل غير وارد على كلام المحقّق الخراساني سواء اُريد الإشكال بلحاظ مرحلة الجعل أو اُريد الاشكال بلحاظ مرحلة المجعول.

فإن اُريد الأوّل أجبنا عنه:

أوّلاً: بأنّ جعل الحكم الظاهري ليس في طول واقع جعل الحكم الواقعي حتّى يستحيل اتّحادهما خارجاً وجمعهما في جعل واحد، وإنّما هو في طول عنوان الحكم الواقعي. وتوضيح ذلك: أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن عنوان الشكّ تأخر كلّ جعل في نفس المولى عن عنوان موضوعه في نفسه، لا عن واقع الموضوع خارجاً؛ إذ الجعل لا يتوقّف على الوجود الخارجي للموضوع، وعنوان الشكّ يكون باعتباره في المقام مضافاً إلى الحكم الواقعي متأخّراً عن عنوان الحكم الواقعي، فصار الحكم الظاهري متأخّراً عن عنوان الحكم الواقعي، لا عن واقعه، فلا بأس باتّحادهما جعلاً.

وثانياً: بأنّنا لو سلّمنا كون الجعل الظاهري في طول الجعل الواقعي، فهذا لا ينافي اتّحادهما خارجاً، كما أنّ الكلّ في طول الجزء مع أنّهما متّحدان خارجاً، وتعدّد الرتبة إنّما يستحيل اجتماعه مع الوحدة الخارجية إن كان تعدّداً بملاك التأثير، فالمؤثّر والأثر يستحيل اتّحادهما خارجاً، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

وإن اُريد الثاني أجبنا عنه:

أوّلاً: بأنّ فعلية المجعول الظاهري ليست في طول واقع المجعول الواقعي، بل في طول عنوانه؛ لأنّه وإن كان متأخّراً عن وجود الشكّ خارجاً تأخُّرَ فعلية كلّ حكم عن وجود موضوعه خارجاً، لكنّ الشكّ ليس متأخّراً عن المجعول الواقعي خارجاً، بل قد يشكّ في الحكم الواقعي مع أنّه في الواقع لا يوجد ذلك الحكم، وإنّما هو متأخّر عن عنوانه.

وثانياً: بما عرفته من الجواب الثاني عن الإشكال في مرحلة الجعل من أنّ تعدّد الرتبة في المقام لا ينافي الاتّحاد الخارجي.

وثالثاً: بأنّ الذي يلزم في المقام من شمول الحديث للحكم الواقعي والظاهري معاً إنّما هو وحدة الجعل خارجاً، لا وحدة المجعول خارجاً، ووحدة المجعول وتعدّده خارجاً إنّما يتبع

170

وحدة وجود الموضوع وتعدده خارجاً، فإذا تعدّد وجود الموضوع خارجاً تعدّد المجعول لا محالة، وأيّ مانع من فرض كون أحد الموضوعين في طول المجعول الآخر، فيتحقّق مجعولان طوليّان من دون فرض اتّحاد بينهما؟!

التقريب الثاني: أنّ الجعل في المقام واحد ـ حسب الفرض ـ على موضوع واحد، وهذا الموضوع إمّا أن اُخذ فيه الشكّ في الحكم أو لم يؤخذ، فعلى الأوّل كان الحكم ظاهرياً، وعلى الثاني كان واقعياً، والجمع بينهما جمع بين النقيضين.

ولا يخفى أنّ كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) كان مساوقاً ـ على ما عرفت ـ لفرض الإطلاق جمعاً بين القيود، فالإطلاق يشمل حالة الشكّ وحالة تحقّق الموضوع بلا شكّ، لا بمعنى رفض القيدين، بل بمعنى دخل كلّ واحد من القيدين، وجعل الإطلاق جمعاً بين القيود يرد عليه إشكالان:

1 ـ الإشكال الإثباتي، وهو أنّ الإطلاق إنّما يفيد رفض القيود لا جمعها.

2 ـ الإشكال الثبوتي، وهو أنّ الجمع بين القيود بهذا النحو مساوق لتعدّد الموضوع، والجمع بين تعدّد الموضوع ووحدة الجعل والحكم تهافت.

فإن كان المقصود بالإيراد الأوّل الذي مضى على المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّ الإطلاق إنما هو رفض القيود لا جمعها خصوص الإشكال الإثباتي، فمن يقصد ذلك من حقّه أن يورد هنا هذا الإشكال، ويكون ناظراً إلى الإشكال الثبوتي، وإن كان المقصود بالإيراد الأوّل بطلان كون الإطلاق جمعاً بين القيود ثبوتاً وإثباتاً، فهنا لا يمكن لمن قصد ذلك أن يورد إشكالاً جديداً على المحقّق الخراساني(رحمه الله)؛ لأنّه بعد فرض التسليم بما وقع فيه المحقّق الخراساني من التهافت، وفرض تعدّد الموضوع بالرغم من وحدة الجعل لا يرد إشكال: أنّ الجمع بين فرض دخل الشكّ وعدم دخله جمع بين النقيضين؛ لأنّ الموضوع متعدّد والشكّ دخيل في أحدهما وغير دخيل في الآخر. هذا كلّه لو بنينا على تقريب المحقّق الخراساني(رحمه الله).

وأمّا إذا بنينا على التقريب الذي نحن ذكرناه من فرض استفادة الحكم الظاهري في طول التخصيص، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّنا لم نأخذ الشكّ دخيلاً في الموضوع حتّى يلزم كون الحكم ظاهرياً على الإطلاق، ولم نفرض عدم دخل قيد زائد وراء ما ذكر في موضوع العام حتّى يلزم كون الحكم واقعياً على الإطلاق، وإنّما فرضنا كون القيد المأخوذ في الموضوع هو أن لا يكون الشيء خمراً معلوم النجاسة مثلاً، وهذا القيد ـ وهو أن لا يكون الشيء خمراً معلوم النجاسة ـ تارةً يتحقّق خارجاً بعدم كونه خمراً، فيكون الحكم ـ لا محالة ـ واقعياً؛

171

لاستناده إلى عدم الخمرية لا عدم العلم بالحكم، واُخرى يتحقّق خارجاً بعدم كونه معلوم النجاسة، فيكون الحكم ـ لا محالة ـ ظاهرياً؛ لاستناده إلى عدم العلم بالحكم، ولم يلزم من ذلك جمع بين النقيضين.

التقريب الثالث: أنّه إذا فرض كون هذا الحديث بالنسبة لما يشكّ في خمريّته مثلاً وهو في الواقع ليس خمراً جعلاً للحكم الواقعي والظاهري معاً، لزم من ذلك أن يكون الحكم الواقعي ملحوظاً بالنظر الإيجادي؛ لأنّ المولى بصدد جعله، ويكون في نفس الوقت ملحوظاً بنظر الفراغ عنه بمعنى كونِه مترقّب الثبوت؛ لأنّ المولى بصدد جعل حكم ظاهري حافظ له، وناظر إليه، ومأخوذ في موضوعه الشكّ فيه، مع أنّه لا يوجد في المقام إلاّ لحاظ واحد، ويستحيل الجمع في لحاظ واحد إلى شيء واحد بين كونه لحاظاً له بالنظر الإيجادي ولحاظاً له بنظر الفراغ عنه؛ فإنّ اللحاظ بنظر الفراغ عنه يستبطن فرض أنّه لا يقصد في هذا اللحاظ جعله وإيجاده، فكيف يجتمع مع فرض قصد جعله وإيجاده؟ وهل هو إلاّ جمع بين النقيضين.

وهذا التقريب لا جواب عليه بناءً على ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من فرض كون الحديث شاملاً للشيء بعنوانه الأوّلي بغض النظر عن الشكّ، وله بالنظر إلى الشكّ؛ فإنّه يلزم من ذلك ـ كما عرفت ـ أن يكون الشيء الطاهر بعنوانه الأوّلي المشكوك في طهارته عند المكلّف طاهراً واقعاً وظاهراً، وتثبت له كلتا الطهارتين بهذا الجعل.

وحتّى لو فرضنا رجوع ذلك ـ في الحقيقة ـ إلى جعلين: جعل بلحاظ العنوان الأوّلي للشيء، وجعل بلحاظ عنوان الشكّ فأيضاً لا يمكن افتراض كون الحكم الواقعي في أحد الجعلين ملحوظاً باللحاظ الإيجادي، وفي الجعل الآخر ملحوظاً بلحاظ الفراغ عنه؛ وذلك لأنّ الجعلين في آن واحد، فلا يتصوّر بالنسبة للحكم الواقعي الواحد في ذاك الآن إلاّ لحاظ واحد، هذا كلّه بناءً على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله).

أمّا بناءً على ما ذكرناه نحن من فرض أخذ قيد عدم كون الشيء، خمراً معلوم النجاسة في الموضوع بقرينة المخصّص، فلا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه لم تجتمع في مورد واحد الطهارة الواقعية والظاهرية معاً المجعولتان بهذا الحديث حتّى يلزم من ذلك كون الطهارة الواقعية مجعولة في هذا المورد بهذا الجعل، وغير مجعولة في نفس الوقت؛ وذلك لأنّ هذا الشيء المشكوكة نجاسته إن لم يكن واقعاً خمراً فقد ثبتت له بهذا الحديث طهارة لا ترتفع بارتفاع الشكّ وانكشاف واقع الحال، وهي لا محالة طهارة واقعية لا ظاهرية، وإن كان واقعاً خمراً لم تثبت له طهارة واقعية وإنّما له طهارة ظاهرية ترتفع بانكشاف واقع الحال، وقد اُخذ في

172

موضوعها الشكّ في طهارة هذا الخمر واقعاً، وهذه الطهارة الواقعية المترقّبة الثبوت غير مجعولة أصلاً، لا بهذا الجعل ولا بجعل آخر، فبهذا الجعل قد جعل الحكم الواقعي في بعض الموارد، ولم يجعل في بعض آخر، فلم يلزم جمع بين النقيضين.

الإيراد الرابع: ما ذكره ـ أيضاً ـ المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّه لو جمع في صدر الحديث بين الحكم الواقعي والظاهري لزم من ذلك أن يقصد بالعلم في ذيله وهو قوله: «حتى تعلم ...» العلم موضوعياً والعلم طريقياً؛ لأنّ الحكم الظاهري غايته العلم بنحو الموضوعية، والحكم الواقعي غايته ذات المعلوم وهي القذارة، وإنّما العلم اُخذ طريقياً(1).

وهذا الإشكال غير وارد على المحقّق الخراساني(رحمه الله)؛ لأنّه لا يجعل قوله: «حتى تعلم ...» غاية للحكم المذكور في الصدر، وإنّما يجعله غاية للاستمرار(2).

وقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّ جميع هذه الإيرادات لا ترد على مدّعى المحقّق الخراساني(رحمه الله): إمّا مطلقاً أو بعد تحويل تقريبه ممّا ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى ما ذكرناه نحن من استفادة الحكم الظاهري في طول التخصيص بالبيان المتقدّم.

وتحقيق الحال: أنّ مدّعى المحقّق الخراساني(رحمه الله) غير صحيح؛ لأنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّه إن اُخذ بتقريبنا، ففيه ما مضى من كون العام ظاهراً في الواقعية في عرض ظهوره في الإطلاق، فلا ترتفع المنافاة بينه وبين الخاصّ بإخراج خصوص صورة العلم، وإن اُخذ بتقريب المحقّق الخراساني(رحمه الله) ففيه عدم صحّة جعل الإطلاق جمعاً للقيود، لا ثبوتاً ولا إثباتاً، مضافاً إلى لزوم النظر إلى الحكم الواقعي بالنظر الإيجادي وبنظر الفراغ عنه في نفس الوقت.


(1) ما يظهر من التقريرين ليس هو الاستشكال بلزوم الجمع بين موضوعية العلم وطريقيّته، بل هو استبعاد إرادة الحكم الواقعي من الصدر باعتبار أنّ الذيل ظاهر في كون العلم بذاته غاية لا بما يكشف عنه من واقع المعلوم. وهذا لا ينسجم إلاّ مع الحكم الظاهري؛ لأنّ الحكم الواقعي لا يغيّى بالعلم بضدّ الحكم أو الموضوع، وإنّما يغيّى بتبدّل الواقع، فلا يمكن فرض العلم غاية له إلاّ بعنوان الطريقية، وهو خلاف الظاهر. راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 375، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 369 ـ 370 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) لا يخفى أنّ فوائد الاُصول مشتمل على الالتفات إلى أنّه لو جعل قوله: «حتى تعلم» غاية للاستمرار، ارتفع الاستشكال بعدم كون العلم الموضوعي غاية للحكم الواقعي، ولكن اعترض على احتمال جعله غاية للاستمرار بأنّ هذا يعني قطع الغاية عمّا قبلها وجعلها جملة مستقلة بتقدير كلمة:(وتستمر طهارته أو حرمته ظاهراً) وهذا خلاف الظاهر. راجع الفوائد: ج 4، ص 371 بحسب الطبعة الماضية.

هذا. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ: أنّ جعل الغاية غاية للاستمرار تارةً يكون بمعنى فرض حذف أو تقدير في الكلام، واُخرى يكون بمعنى جعلها غاية لاستمرار مفهوم من نفس الكلام، ويأتي إبطال كلا الوجهين إن شاء الله.

173

وثانياً: أنّه سوف يأتي في المقام الثاني ـ إن شاء الله ـ أنّ الغاية راجعة إلى الصدر لا إلى الاستمرار، وعليه فلا يمكن أن يستفاد من الصدر الحكم الواقعي والظاهري معاً، بل يستفاد منه الحكم الظاهري فحسب؛ فإنّه هو الذي يناسب جعله مغيّىً بالعلم، والحكم الواقعي لا يناسب جعله مغيّىً بالعلم. أمّا الأوّل فواضح؛ فإنّ كلّ حكم ظاهري مغيّى بالعلم الموضوعي. وأمّا الثاني فلأنّ الحكم الواقعي لا معنى لأخذ العلم بالخلاف غاية له سواءً لوحظ العلم موضوعياً أو طريقياً. أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لو جعل مغيّىً بالعلم الموضوعي لأصبح حكماً ظاهرياً لا واقعياً. وأمّا الثاني فلأنّه لو جعل مغيّىً بالعلم طريقياً لأصبح معنى الكلام هكذا: (كلّ شيء طاهر إلى أن يتنجّس)، وليس من الصحيح حمل الكلام على هذا المعنى؛ إذ لا معنىً لأخذ أحد الحكمين المتضادّين في موضوع الآخر، فيقال مثلاً: هذا حلال إلى أن يصبح حراماً؛ فإنّ هذا لغو ومحال.

وبعد التنزّل عن كلّ هذا يجب أن نرى أنّ الحكم الواقعي والظاهري هل هما متماثلان في الحقيقة، أو لا؟

فإن قلنا: إنّ الطهارة الواقعية أمر تكويني، والطهارة الظاهرية أمر جعلي، لزم من إرادة كلتيهما من قوله: «كلّ شيء طاهر» الجمع بين الإخبار والإنشاء، فهو قد أخبر بهذا الكلام عن طهارة تكوينية وهي الحكم الواقعي، وأنشأ طهارة جعلية وهي الحكم الظاهري.

وإن قلنا في خصوص الطهارة: إنّ الطهارة أمر اعتباري، بمعنى نظافة ونزاهة معنوية، والطهارة الظاهرية ـ أيضاً ـ أمر اعتباري، لكنّه بمعنىً آخر كتنزيل المشكوك منزلة المعلوم واعتبار ذاك الأمر الاعتباري الأوّل، أو قلنا بذلك في الحلّيّة ـ أيضاً ـ أي: أنّ الحلّيّة الواقعية أمر اعتباري، والحلّية الظاهرية اعتبار آخر كأن تكون اعتباراً لذاك الاعتبار مثلاً، جاء إشكال لزوم استعمال كلمة(طاهر) مثلاً أو هي مع كلمة(حلال) في معنيين، إلاّ إذا فرضت الطهارة والحلّيّة اسماً للجامع، لكنّه فرض على خلاف الواقع. هذا مضافاً إلى لزوم دلالة هذا الكلام على جعلين، وهي على حدّ استعمال اللفظ في معنيين.

وإن قلنا: إنّ حقيقة الحكم في باب الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية واحدة، وكذلك في باب الحلّية الواقعية والحلّية الظاهرية، فهذا الإشكال غير وارد؛ لأنّه لم تستعمل كلمة(طاهر) و(حلال) في معنيين، ولا يلزم استعمال الكلام في جعلين؛ إذ بالإمكان على هذا الفرض جعل حكمين بجعل واحد وإن كان هذا ـ أيضاً ـ لعلّه خلاف الظاهر؛ لمكان تعدّد الملاك، فملاك الحكم الواقعي هو مصلحة في متعلّقه، وملاك الحكم الظاهري هو التحفّظ على

174

الحكم الواقعي.

وأمّا المقام الثاني: فقد عرفت أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) ـ إضافة إلى استفادة الطهارة الواقعية والظاهرية معاً من الصدر ـ استفاد الاستصحاب من الذيل، وهنا يقع الكلام في أمرين:

الأوّل: في أصل استفادة الاستصحاب من الذيل.

والثاني: في أنّه: ما معنى الاستصحاب بالنسبة للحكم الواقعي والحكم الظاهري المستفادين معاً على ما هو المفروض عنده(قدس سره) من الصدر؟ وهل نفرض الذيل استصحاباً للحكم الواقعي فقط، أو لهما معاً، أم ماذا؟

أمّا الأمر الأوّل: فكأنّ المحقق الخراسانى(رحمه الله) يقول: إنّ كلمة(حتّى) بنفسها تدلّ على ثبوت استمرار في المقام، وإنّها غاية للاستمرار؛ لأنّ معنى جعل الغاية هو هذا، أي: إنّ الأمر الفلاني مستمرّ إلى كذا، فكأنّه قال: كلّ شيء طاهر، وطهارته مستمرّة إلى أن تعلم أنّه قذر، وحيث إنّ الغاية لهذا الاستمرار جعلت هي العلم لا شيئاً آخر، فلا محالة يكون هذا الاستمرار استمراراً تعبّدياً، ولا نعني بالاستصحاب إلاّ الاستمرار التعبّدي.

ويرد عليه: أنّنا إن قلنا: إنّ كلمة(حتّى) من قبيل كلمة(إلى) لا تدلّ بذاتها على الاستمرار، وإنّما الدالّ عليه نفس غائية ما بعده المستلزمة عقلاً للاستمرار، فلا معنىً لاستفادة جعل الاستمرار الاستصحابي المقيّد بغاية العلم من هذا الحديث، لأنّ الاستمرار إنّما فهم ثبوته في المقام بدليل عقلي وبالملازمة، ولم يكن مفاداً مطابقياً لنفس العبارة حتّى يقال: إنّ المتكلم قد جعل هذا الاستمرار، وقد أرجع القيد إليه، والظاهر من القيد رجوعه إلى ما يستفاد من نفس العبارة(1).

إن قلت: إنّ بالإمكان استفادة الاستمرار من العبارة، لكن لا من كلمة(حتّى) بل من كلمة(طاهر) في قوله: «كلّ شيء طاهر»، وذلك بقرينة الإطلاق ومقدّمات الحكمة الدالّة على عدم اختصاص الحكم بالزمان الأوّل.


(1) كأنّ المقصود من هذا الكلام هو أنّه إن اُريدت استفادة الاستصحاب بإرجاع القيد إلى الاستمرار بعد فرض دلالة الكلام على جعل الاستمرار، ورد عليه: أنّ الاستمرار لم يكن إلاّ استمراراً لنفس الحكم الأوّل فهم بالملازمة العقلية، ولم يكن مجعولاً مستقلاًّ يكون هو الاستصحاب، ولا جعل آخر في المقام. وإن اُريدت استفادة الاستصحاب بدعوى أنّ نفس القيد دليل على جعل آخر يعود القيد إلى مجعوله وهو الاستمرار، ورد عليه: أنّ الظاهر من القيد رجوعه إلى نفس ما يستفاد من العبارة، ولا يدلّ على جعل حكم جديد يرجع إليه.

175

قلت: هذا الاستمرار ـ أيضاً ـ ليس مستفاداً من العبارة؛ لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة لا يُري الأفراد والحصص، وإنّما شأنه رفض القيود، فهو يدلّ على عدم أخذ قيد الزمان الأوّل في موضوع الحكم، فيعرف عقلاً ثبوت الاستمرار، لا أنّ المتكلّم قد ذكر الاستمرار ولو بقرينة الإطلاق حتّى يقال: إنّه قد جعل الاستمرار وأرجع القيد إليه.

وكذلك الحال لو أثبتنا إطلاق المغيّى بالغاية(1) لا بمقدمات الحكمة؛ إذ يوجد في باب المغيّى كلام حول أنّ إطلاق المغيّى هل يستفاد بقرينة مقدّمات الحكمة أو يستفاد بقرينة الغاية، فسواء أثبتنا الإطلاق بمقدّمات الحكمة أو بالغاية قلنا: إنّ الإطلاق الذي ينفي دخل زمان مخصوص يستلزم عقلاً الاستمرار، ولا يدلّ الكلام على جعل المولى للاستمرار وإرجاع القيد إليه.

وإن قلنا: إنّ كلمة(حتّى) تدلّ ابتداءً على الاستمرار، فقد يتراءى ـ عند ئذ ـ في بادئ الأمر أنّه قد استفيد الاستمرار من العبارة، وجعل مغيّىً بالعلم، فهذا جعلٌ للحكم الاستمراري التعبّدي المغيّى بالعلم، ولا نعني بالاستصحاب إلاّ هذا.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّ كلمة(حتّى) إنّما تدلّ على الاستمرار بالمعنى الحرفي بنحو النسبة الناقصة، فهو إنّما يكون جزءاً تحليلياً للمعنى الاسمي لا يمكن لحاظه مستقلاًّ، والاستمرار الاستصحابي يكون عنائياً لا حقيقياً، وإذا كان كذلك فقد لوحظ ملاحظة مستقلّة، فإنّ إعمال العناية يكون ـ لا محالة ـ لحاظاً مستقلاًّ. وهذا خلف كونه جزءاً تحليليا يستحيل لحاظه. نعم، لو كان الاستمرار مستفاداً هنا بنحو المعنى الاسمي أو بنحو النسبة التامّة التي يمكن الالتفات إليها مستقلاًّ، لما ورد هذا الإشكال.

وثانياً: أنّ الاستمرار في المقام بعد أن كان جزءاً تحليلياً ومُفاداً بالمعنى الحرفي الناقص كان من المستحيل رجوع القيد إليه؛ لاستحالة رجوع القيد إلى المعاني الحرفية الناقصة؛ لأنّ إرجاع القيد إليها فرع لحاظها مستقلاًّ. وهذا من قبيل ما ذكره الشيخ(رحمه الله) في باب الواجب المشروط من استحالة رجوع الشرط إلى معنى الهيئة؛ لكونه معنىً حرفياً. إلاّ أنّ هذا الكلام في الواجب المشروط لم يكن صحيحاً لكون النسبة تامّة، وبالإمكان لحاظها مستقلةً، وهنا


(1) يبدو أنّ هذا عين الفرض السابق من كون الدالّ على الاستمرار نفس غائية الغاية المستلزمة عقلاً للاستمرار، ولعلّ ما يبدو من ظهور عبارة المتن من كون هذا فرضاً جديداً غير ما مضى في أوّل الكلام خطأ منّي لا من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

176

صحيح لكونها ناقصة، فلو كان الاستمرار هنا مُفاداً بنحو النسبة التامّة أو المعنى الاسمي، لما ورد ـ أيضاً ـ هذا الإشكال.

وثالثاً: أنّ الحكم الاستصحابي في المقام يحتاج إلى لحاظ مستقلّ بغضّ النظر عمّا ذكرنا من عنائية الاستمرار الاستصحابي؛ وذلك لأنّه لا يمكن فرض دلالة العبارة بلحاظ واحد على المستصحب والاستصحاب معاً مع ما بينهما من اختلاف جوهري في الملحوظ، ففي أحدهما مثلاً يلحظ الشكّ بخلاف الآخر، وحيث إنّ الاستمرار هنا مستفاد بنحو المعنى الحرفي الناقص المندكّ في المعنى الاسمي فلا يوجد له لحاظ مستقلّ.

ولا يقال: إنّ المجعول الواحد ذا الجعل الواحد يتحصّص هنا إلى حصّتين: حصّة بلحاظ زمان الحدوث، وحصّة بلحاظ زمان البقاء. والاُولى هي المستصحب، الثانية هي الاستمرار الاستصحابي، ويفرض وجود لحاظين باعتبار الحصّتين.

فإنّه يقال: إنّ وجود حصّتين للمجعول هنا يكون من قبيل وجود حصّتين للمطلق الذي لا تُرى به الحصص، وإنّما يُرى به الجامع ملغيّاً عنه الخصوصيات، لا من قبيل وجود فردين للعام، فلا يُحقّق بهذا تعدّد اللحاظ.

وهذا الإشكال يرتفع ـ أيضاً ـ لو كان الاستمرار مُفاداً هنا بنحو النسبة التامّة.

ورابعاً: أنّه لو فرض تعدّد اللحاظ في المقام بأن يفرض هذا الجعل الواحد والمجعول الواحد بنحو العموم لا الإطلاق قلنا: إنّه لا يمكن إفادة الاستصحاب والمستصحب معاً بجعل واحد، بل لا بدّ أن يكون للاستصحاب جعل مستقلّ، فلو كان الاستمرار مُفاداً بنحو النسبة التامّة أو بمعنىً اسمي واقع طرفاً للنسبة التامّة بأن يقول: (كلّ شيء طاهر والطهارة مستمرة إلى أن تعلم أنّه قذر) أمكن استفادة الاستصحاب لفرض جعل ثان لهذه النسبة التامّة. وأمّا إذا كان الاستمرار مُفاداً بمعنىً حرفي ناقص كما هو الواقع هنا، أو مُفاداً بمعنىً اسمي طرف للنسبة الناقصة، كما لو قيل: (كلّ شيء طاهر طهارة مستمرة إلى أن تعلم أنّه قذر) فلا يستفاد من ذلك الاستصحاب والمستصحب معاً؛ لعدم وجود نسبتين تامّتين حتّى يفرض جعلان.

والوجه في أنّه لا بدّ من فرض جعلين ومجعولين للاستصحاب والمستصحب، ولا يمكن فرضهما بجعل واحد ومجعول واحد أمران:

الامر الأوّل: أنّ هذا الجعل الواحد ذا المجعول الواحد والموضوع الواحد إمّا أن يؤخذ فيه الشكّ في البقاء أو لا، فإن لم يؤخذ فيه الشكّ في البقاء لم نستفد منه الاستصحاب. وإن اُخذ

177

فيه الشكّ في البقاء فهو لا يدلّ على حقيقة الحكم الثابت قبل الشكّ.

والامر الثاني: أنّه يلزم من ذلك الجمع بين النظر الإيجادي ونظر الفراغ عنه إلى الحكم المستصحب في نظرة واحدة؛ لأنّ الاستمرار لم يكن جزءاً مستقلاًّ ملحوظاً في زمان ثان، وإنّما هو جزء تحليلي.

ثمّ إنّنا لو تنزّلنا، وفرضنا أنّ من الممكن ثبوتاً للمولى إرجاع القيد إلى الجزء التحليلي لا إلى المجموع، قلنا: إنّ هذا لا يتمّ إثباتاً لوجهين:

الأوّل: أنّه من الواضح إثباتاً أنّ الظاهر من القيد المتعقّب لحكم رجوعه إلى مجموع ذلك الحكم لا إلى جزء تحليلي منه، خصوصاً أنّه ليس هو الجزء الرئيس، بل هو الجزء التابع.

ولا يعارضه ظهور أصل الحكم في خلاف ذلك؛ إذ من الواضح أنّ ظهور القيد مقدّم على ظهور المقيّد.

والثاني: أنّنا لو أرجعنا الغاية إلى الجزء التحليلي وهو الاستمرار بعد فرض إمكان ذلك ثبوتاً، أصبح الاستمرار تعبّدياً وعنائياً لا حقيقياً، بخلاف ما لو أرجعناه إلى المجموع. والاستمرار ـ لو خلّي ونفسه ـ ظاهر في الحقيقية، غاية الأمر أنّ أصل الحكم ـ أيضاً ـ يكون كذلك، أي: إنّه في نفسه ظاهر في الحقيقية، ولو أرجعنا الغاية إليه أصبح عنائياً، وعندئذ إمّا أن نقول: إنّ الاحتفاظ بظهور الاستمرار في الحقيقية وإرجاع الغاية إلى أصل الحكم أولى من العكس؛ لكون الاستمرار تابعاً في الكلام مقدّماً ظهوره على ظهور أصل الكلام، أو يقال ـ على الأقلّ ـ بعدم أولويّة العكس، وبالتالي لا يبقى في الحديث ـ بحسب عالم الإثبات ـ ظهور في الاستصحاب.

ثم لو تنزّلنا وافترضنا رجوع القيد إلى الجزء التحليلي وهو الاستمرار، قلنا: إنّه لا طريق لنا إثباتاً يدلّ على أخذ الفراغ عن الحدوث في موضوع الحكم. والاستصحاب ليس هو كلّ حكم استمراري تعبّدي، بل الاستصحاب عبارة عن مرجعيّة الحالة السابقة، والحكم بالاستمرار بلحاظ الحالة السابقة.

وأمّا الأمر الثاني: فبما أنّ المفروض لدى المحقّق الخراساني في التعليقة استفادة الحكم الواقعي والظاهري معاً من الصدر، مع استفادة الاستصحاب من الذيل، فلكي يتعقّل ذلك يجب تصوير الاستصحاب بلحاظ الحكم الواقعي وتصويره بلحاظ الحكم الظاهري بنحو ينسجم في المقام مع الحديث، وهذا بالنسبة للحكم الواقعي معقول كما هو واضح، إذ من الممكن التعبّد ظاهراً باستمرار حكم واقعي عند الشكّ في بقائه، ولكن بالنسبة للحكم

178

الظاهري غير معقول، إذ لا يعقل الشكّ في بقاء الحكم الظاهري إلاّ بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ الشكّ في النسخ، فيكون الاستصحاب فيه استصحاباً للحكم الظاهري بوجه من الوجوه، ومن الواضح أنّ هذا لا ينسجم مع الحديث؛ لأنّ الحكم الظاهري بالاستمرار في هذا الفرض يكون مغيّىً بالعلم بالنسخ لا العلم بالقذارة، فإنّ المستصحب هنا هو بقاء الجعل، وهو إنّما يكون مغيّىً بعدم النسخ لا بقاء المجعول، إذ على تقدير النسخ قد حصل النسخ من زمن النبي(صلى الله عليه وآله) لا في زمان آخر، فالمجعول لم يثبت بالنسبة لهذا الذي شككنا في طهارته الظاهرية أصلاً.

2 ـ الشكّ في سعة دائرة الحكم وضيقها، كما لو شككنا أنّ أصالة الطهارة هل هي مجعولة عند الشكّ بشرط عدم الظن بالنجاسة، أو بشرط عدم إخبار ثقة بالنجاسة مثلاً، أو لا؟ فهنا يمكن استصحاب المجعول الذي ينتهي لدى العلم بالقذارة كما ينتهي لدى العلم بعدم المجعول بأيّ وجه من الوجوه.

وخلاصة ما يمكن أن يقال كتوجيه للشكّ في سعة دائرة الحكم في المقام وضيقها: أنّ عبارة: (كلّ شيء طاهر) إنّما بيّنت أصل أصالة الطهارة بنحو القضية المهملة، ومن دون إطلاق ولو بقرينة تذييلها بالاستصحاب، إذ مع فرض تشخّص حدود الحكم لا معنى للاستصحاب، وإنّما يجري الاستصحاب إذا شكّ في حدوده نظير استصحاب حرمة المقاربة بعد النقاء وقبل الغسل، أو استصحاب وجوب الصوم بعد سقوط القرص وقبل ذهاب الحمرة ونحو ذلك.

إلاّ أنّ إرادة الاستصحاب بهذا المعنى من الحديث خلاف الظاهر جدّاً؛ لأنّ الإمام(عليه السلام)كان بصدد بيان الحكم، وهو الطهارة الظاهرية حسب الفرض، والمناسب بشأنه(عليه السلام)عندئذ لدى إرادة علاج حالة الشك في حدود الحكم هو علاجها ببيان حدوده، لا علاجها بالإرجاع إلى الاستصحاب.

ولو غضضنا النظر عن ذلك قلنا أيضاً: إنّ الحديث لا ينطبق على هذا الاستصحاب؛ لأنّ هذا الاستصحاب غايته في الحقيقة هي العلم بعدم الطهارة الظاهرية، لا العلم بالقذارة، وانتهاؤه لدى العلم بالقذارة إنّما يكون من باب أنّ العلم بالقذارة يستلزم العلم بعدم الطهارة الظاهرية.

وقد تقول: بما أنّ التلازم كان ثابتاً من الطرفين، أيّ: إنّ العلم بعدم الطهارة الظاهرية ـ أيضاً ـ كان يستلزم العلم بالقذارة، فقد صحّ بالمسامحة العرفية فرض غاية هذا

179

الاستصحاب العلم بالقذارة.

ولكنّا نقول: إنّه إذا التفت العرف والمتكلّم إلى الملازمة بينهما، فقد التفت في الحقيقة إلى أنّ الطهارة الظاهرية ليس لها في الحقيقة حدّ غير ارتفاع الشكّ؛ إذ لو كان لها حدّ كان من المحتمل وصول ذلك الحدّ إلى المكلّف وانكشافه عنده قبل العلم بالقذارة، فلا تبقى ملازمة بين العلم بالقذارة والعلم بعدم الطهارة الظاهرية، ومع الالتفات إلى ذلك يقطع ببقاء الطهارة الظاهرية، ولا تصل النوبة إلى استصحابها.

3 ـ الشك في تحقّق غاية الطهارة الظاهرية بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو علم مثلاً أنّ غاية الطهارة الظاهرية هي إخبار الثقة بالنجاسة، وشُكّ في إخباره، فيستصحب هنا الطهارة الظاهرية، ولكن هذا ـ أيضاً ـ لا ينسجم مع الحديث؛ لأنّ غاية هذا الاستصحاب هي العلم بارتفاع الطهارة الظاهرية بإخبار الثقة مثلاً، لا العلم بالقذارة. مضافاً إلى استلزام ذلك فرض قيد للطهارة الظاهرية غير مذكور في العبارة نهائياً، وعندئذ يكون افتراض كون الاستصحاب المذكور في هذا الحديث بالنظر الى الشكّ في ذلك القيد غير المشار إليه في العبارة بوجه من الوجوه خلاف الظاهر.

هذا كلّه إذا أراد المحقّق الخراساني(رحمه الله) إرجاع الذيل إلى تمام ما يستفاد عنده من الصدر من الحكم الواقعي والظاهري، بأن يفرض دلالتها على استصحابهما، إلاّ أنّ هنا فروضاً اُخرى يمكن أن تقال في المقام:

الفرض الأوّل: دعوى رجوع الغاية إلى الحكم الواقعي فقط، فتدلّ على استمرار الحكم الواقعي عند الشكّ، فيفرض أنّ هذا دليل على الاستصحاب مثلاً.

ويرد على هذا الفرض: أنّ رجوع الغاية إلى جزء الصدر خلاف الظاهر.

الفرض الثاني: دعوى رجوعها الى الحكم الظاهري فقط.

وهذا ـ مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر؛ لأنّه أرجع فيه الغاية إلى جزء من الصدر ـ نقول فيه: إنّه إن اُريد بهذا استصحاب الطهارة الظاهرية ورد عليه ما عرفت من أنّ الشكّ في الطهارة الظاهرية لا يكون إلاّ بأحد أنحاء ثلاثة، ولا يصحّ تطبيق الحديث على شيء منها. وإن اُريد به بيان سعة الطهارة الظاهرية وثبوتها إلى حين العلم بالقذارة لم يكن ذلك وافياً بمقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) من استفادة الاستصحاب من الذيل.

الفرض الثالث: دعوى رجوع الغاية إلى الحكم الواقعي والظاهري معاً، وإرادة الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الواقعي، والاستمرار الحقيقي بالنسبة إلى الحكم الظاهري.