1

 

 

 

 

مباحث الاُصول

 

 

تقريراً لأبحاث سماحة آية اللّه العظمى

الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)

 

 

الجزء الخامس

من

القسم الثاني

 

تأليف

سماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسيني الحائري دام ظلّه

2

 

 

 

 

 

 

 

قم المقدّسة ـ انتشارات دار الرسالة ـ الهاتف: 09198531124

هويّة الكتاب

اسم الكتاب: … مباحث الاُصول / الجزء الخامس من القسم الثاني

تقريراً لأبحاث آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)

المؤلف: … سماحة آية الله العظمى السيد كاظم الحسينيّ الحائريّ (دام ظلّه)

الناشر: … دار الرسالة

الطبعة وتأريخ الطبع: … الرابعة / 1436 هـ . ق

 

إصدار مكتب سماحة السيّد الحائريّ (دام ظلّه)

حقوق الطبع محفوظة للناشر

3

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه

محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

 

 

 

 

13

الاُصول العمليّة

4

 

 

 

الاستصحاب

 

 

 

 

 

1 ـ المقدمة.

2 ـ أدلّة حجّيّة الاستصحاب.

3 ـ الأقوال في حجّيّة الاستصحاب.

4 ـ تنبيهات الاستصحاب.

5 ـ خاتمة.

 

15

الاستصحاب

1

 

 

 

المقدّمة

 

 

✽ حقيقة الاستصحاب جعلاً واستدلالاً واصطلاحاً.

✽ هل الاستصحاب مسألة اُصوليّة؟

✽ الفرق بين الاستصحاب وقواعد اُخرى مشابهة له.

 

 

 

17

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تشتمل المقدّمة لبحث الاستصحاب على ثلاثة أبحاث:

 

حقيقة الاستصحاب جعلاً واستدلالاً واصطلاحاً:

 

البحث الأوّل: في تحقيق حول كيفية الاستصحاب جعلاً واستدلالاً واصطلاحاً.

ويظهر المقصود من كلّ واحد من هذه العناوين الثلاثة ضمن البحث عنه. فهنا يقع البحث في اُمور ثلاثة:

 

الأمر الأوّل ـ في الكيفية الممكنة ثبوتاً لجعل الاستصحاب:

وقبل الدخول في بيان ذلك نستذكر نكتتين سابقتين في الأبحاث الماضية:

الاُولى: في حقيقة الحكم الظاهري، حيث قلنا: إنّ حقيقته هي الحكم الناتج عن إعمال المولى لقوانين تزاحم الأغراض في عالم المحرّكيّة لدى وقوع الخلط والشكّ فيها، بناءً على الطريقية على ما مضى من شرح ذلك في بحث الجمع بين الأحكام الواقعيّة والظاهريّة.

الثانية: في كيفية إعمال المولى لقوانين باب التزاحم، وهي عبارة عن تقديم الأهمّ لو كان، فعند أهمّيّة الغرض اللزومي يجعل الاحتياط أو ما بحكمه، كحجّيّة خبر إلزامي، و عند أهمّيّة غرض ترخيصي يجعل البراءة أو ما بحكمها، و الأهمّيّة تارةً تكون بملاك أقوائيّة المحتمل كيفاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة للمولى أهمّ من الأغراض الترخيصيّة، فجعل إيجاب الاحتياط عند الشك، و اُخرى تكون بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر المجموعي الى

18

الأحكام، و يرجع ذلك في الحقيقة الى أقوائية المحتمل كمّاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة أكثر من الأغراض الترخيصيّة و إن تساويتا كيفاً، فقدّم جانب الأغراض اللزوميّة بجعل وجوب الاحتياط و نحوه، و ثالثة تكون بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر الاستغراقي و الأفرادي، بحيث يحسب المولى حساب خبر ثقة في نفسه بقطع النظر عن وجود أيّ خبر آخر في الأحكام و عدمه، فيجعله حجّة لأقوائيّة احتمال صدقه ولو مع فرض أنّه لم يوجد في الفقه أيّ خبر ثقة آخر غير هذا الخبر، و هذا القسم الثالث تكون مثبتاته حجّة بلا حاجة إلى مؤونة زائدة، كما سوف ياتي ـ إن شاء الله ـ، وهذا بخلاف القسمين الأوّلين(1)، فإنّ اللازم فيهما لا يثبت إلا بمؤونة خاصّة و دليل خاصّ يدل على ثبوت الجعل و التعبد على طبق اللوازم أيضاً.

ثم إذا تساوت الأغراض المتزاحمة، ولم يوجد مرجّح كمّي أو كيفي أو أحتمالي لأحد الجانبين، فعندئذ الواقع لا يتطلّب من المولى ترجيح جعل الأستصحاب اللزومي مثلاً على البراءة أو العكس، فيكون المولى مخيّراً في الجعل، و عندئذ يمكن إعمال مرجّحات ذاتية، أي: غير مربوطة بالواقع لتقديم أحد الجعلين على الآخر، ولا ينافي ذلك الطريقيّة، ولا يستلزم التصويب؛ لأنّ هذا الترجيح كان في طول صيرورة الواقع حيادياً لا يتطلّب تقديم أيّ واحد من الجانبين، ولا يتنفّر من تطبيق الجانب الآخر.

إذا عرفت هاتين النكتتين قلنا: ذكر بعض: أنّ الاستصحاب غير ناظر إلى الأحكام الواقعيّة و الملاكات الواقعيّة أصلاً، و إنّما هو أصل تعبّدي صرف كاصالة الإباحة.

أقول: إنّ مثل أصالة الإباحة أيضاً لابُدّ أن يكون ناظراً إلى حفظ الأحكام الواقعيّة و ملاكاتها، و كذلك كلّ حكم ظاهري بناءً على إنكار السببيّة، و إلاّ لم يكن جواب على شبهة ابن قبة، فجعل الاستصحاب بهذا النحو غير معقول.

وذكر بعض آخر: أنّ الاستصحاب حاله حال أصالة الاحتياط في أنّه ينظر إلى الواقع و التحفّظ عليه بقطع النظر عن مسألة الأماريّة و الكاشفيّة.

وهذا الكلام يرجع بحسب لغتنا إلى أنّ الاستصحاب جعل على أساس المرجّح المحتملي الكيفي، وهذا إنّما يكون معقولاً في أصالة الاحتياط، ولا يكون معقولاً في الاستصحاب؛ وذلك لأنّ نوعيّة الغرض في الاستصحاب غير معلومة و معيّنة، حتى يلحظ أنّه هو الأهمّ أو


(1) لنا كلام مفصّل حول هذا الموضوع مضى في أوّل البراءة فراجع.

19

الغرض الآخر المزاحم له في الحفظ، فإنّ الاستصحاب قد يثبت حكماً إلزامياً، لولا ذلك الاستصحاب لنفيناه بالقواعد الاُخرى. وقد يثبت حكماً ترخيصياً، لولا ذلك الاستصحاب لم نكن نأخذ بذاك الترخيص، بل كنّا نأخذ بجانب الاحتياط بحسب القواعد الاُخرى، فلا يوجد ضابط لموارد جريان الاستصحاب و تحقق اليقين السابق تميّز به نوعيّة الغرض إطلاقاً، كي يحكم عليه بأنّه أهمّ من الغرض الآخر المزاحم له.

والصحيح: أنّه يمكن جعل الاستصحاب بلحاظ الترجيح بقوّة الاحتمال بالنظر المجموعي، بأن يكون المولى معتقداً بكون بقاء ما كان في موارد الشكّ أكثر من زواله. ويمكن أيضاً جعله بلحاظ قوّة الاحتمال بالنظر الاستغراقي، بأن يعتقد المولى كاشفية اليقين السابق و أماريته. ويمكن هنا الجعل بنحو ثالث، وهو أن يفرض أنّ الأغراض المتزاحمة كانت متكافئة، ولم يكن بعض أقسامها أهمّ من بعض آخر بقوّة المحتمل ولا بقوّة الاحتمال، فحصل التخيير من ناحية الواقع في مقام الجعل و حفظ أحد الغرضين، أي: أنّ الواقع صار حياديّاً من ناحية ترجيح أيّ واحد من الجانبين على الآخر، فوصلت النوبة إلى مرجّحات ذاتية غير مرتبطة بالواقع، ولنفرض مثلاً كون ذلك المرجّح المطابقة للطبع العقلائي، أو أيّ شيء آخر، فالمرجّح اقتضى في غير موارد اليقين السابق جعل البراءة، و في موارد اليقين السابق جعل الاستصحاب.

 

الأمر الثاني ـ في كيفية الاستصحاب استدلالاً:

قد اعتاد الفقهاء(قدس سرهم)على أن يجعلوا الدليل على المدّعى عند الاستدلال بخبر الثقة نفس خبر الثقة لا دليل حجّيّة خبر الثقة، كآية النبأ مثلاً، و يجعلوا الدليل على المدّعى عند الاستدلال بالاستصحاب دليل الاستصحاب، و هو صحيحة زرارة مثلاً لا نفس الاستصحاب.

و ليس هذا مجرّد بحث لفظي، بل مردّ ذلك إلى أنّه إذا وجد معارض يدلّ على خلاف المقصود، ففي باب خبر الثقة يجعل معارضه نفس ذلك الخبر لا آية النبأ، فإذا كان الخبر أخصّ من ذلك المعارض قدّم عليه بالأخصّية و إن كانت النسبة بين آية النبأ و ذلك المعارض عموماً من وجه، و في باب الاستصحاب لا يجعل المعارض نفس الاستصحاب في ذلك المورد الجزئي حتّى يقدّم عليه بالأخصّية، بل يجعل المعارض صحيحة زرارة التي تكون النسبة بينها و بين الخبر المعارض عموماً من وجه.

20

وذكر السيّد بحر العلوم(قدس سره): أنّه لا وجه للتفكيك بين خبر الثقة و الاستصحاب، ففي الاستصحاب ـ أيضاً ـ نقول بأنّ المعارض هو خصوص الاستصحابات الجزئية في الموارد الجزئية، فعند تعارض الاستصحاب مع قاعدة الحلّ نخصّص قاعدة الحلّ بالاستصحاب، و لا نلحظ النسبة بين قوله:«كل شيء حلال حتّى تعرف...» و دليل الاستصحاب.

فكأنّه(قدس سره) يرى إلحاق الاستصحاب فقط بخبر الثقة في هذه الجهة، و لا يرى إلحاق أصالة الحلّ به، و لعلّه ينظر ـ و لو ارتكازاً - في تفكيكه بين أصالة الحلّ و الاستصحاب إلى ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من بعض الأصحاب المتأخرين.

وأعترض الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) على السيّد بحر العلوم(رحمه الله) بأنّ الاستصحاب ليس كخبر الثقة، فإنّ الاستصحاب بنفسه حكم ببقاء ما كان، فلا معنى لأن يجعل دليلاً على الحكم. و هذا بخلاف خبر الثقة، فإنّه ليس حكماً و إنّما هو دليل على الحكم.

أقول: إنّ هذا الكلام بهذا المقدار لا يحسم أصل الإشكال، فإنّنا ننقل الكلام إلى اليقين السابق مثلاً الذي هو أمارة على البقاء، فإنّه هو الذي يكون بمنزلة خبر الثقة لا الحكم بالبقاء الذي هو بمنزلة حجّيّة خبر الثقة.

ولعله لهذا ذهب بعض الأصحاب المتأخرين(2) الى موافقة السيّد بحر العلوم(رحمه الله)فقال كلاماً ينبىء عن موافقته إيّاه، يفصّل فيه بين تجريد الاستصحاب عن الأماريّة رأساً و إعطائه لوناً من الأماريّة، و أحتمل أن يكون مقصوده من ذاك الكلام هو: أنّ الاستصحاب إن لم يكن فيه شوب من الأماريّة و كان أصلاً صِرفاً كأصالة الحلّ، لم يكن حاله حال خبر الثقة لأنّه حكم صِرف، و ليس كاشفاً عن الحكم، لكن بما أنّه ليس كذلك، بل فيه لون من الأماريّة و لو بنحو التنزيل مثلاً، فهو دليل، فحاله حال خبر الثقة.

أقول: إنّ تقديم خبر الثقة على العامّ المعارض له ليس بملاك أماريّته، بحيث كلّما تعارضت أمارتان إحداهما أخصّ من الاُخرى قُدّمت الأخصّ، فلو تعارضت بيّنتان إحداهما أخصّ لا يجمع بينهما بالتخصيص، بل يعامل معهما معاملة البيّنتين المتعارضتين، و إنّما الملاك في ذلك هو: أنّ العامّ و الخاصّ كلاهما كلام صادر من شخص واحد يكون أحدهما قرينة على مراد متكلّمه من الآخر، و كان موضوع حجّيّة ظهور الأوّل عدم ورود القرينة


(1) راجع الرسائل؛ ص 320 بحسب طبعة رحمة الله.

(2) يقصد به السيّد الإمام الخميني(رضوان الله تعالى عليه).

21

على الخلاف، و دليل حجّيّة الثاني يعبّدنا بورود القرينة، و هذا لا يجري في العامّ مع الاستصحاب الجزئي المعارض له، و إنّما يجري في العامّ مع دليل الاستصحاب؛ لكونهما كلامين صادرين من شخص واحد يقدّم ما هو قرينة على الآخر لو كان.

وعليه، فالصحيح هو ما اعتاده الأصحاب(قدس سرهم) من الفرق بين الاستصحاب و خبر الثقة بجعل الدليل المعارض للعامّ في الثاني هو نفس الخبر لا دليل حجّيّته، و في الأوّل هو دليل حجّيّته لا نفس الاستصحاب.

 

الأمر الثالث ـ في كيفية الاستصحاب اصطلاحاً:

أي: في تعريفه بحسب الاصطلاح الاُصولي.

قد عُرِّف الاستصحاب بأنّه: إبقاء ما كان، أي: الحكم ببقائه، وكذا ما أشبه هذا التعريف ممّا جعل الاستصحاب حكماً.

و أورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ تعريف الاستصحاب يختلف باختلاف المباني، و لا وجه لجعل هذا تعريفاً له إطلاقاً، فلو بنينا على كون الاستصحاب أصلاً عمليّاً فهو حكم، فيصحّ تعريفه بمثل هذا التعريف. و أمّا لو بنينا على كونه أمارة، فليس حكماً، فإنّ الأمارة إنّما هو اليقين السابق و الشكّ اللاحق، فيجب أن يعرّف الاستصحاب باليقين السابق و الشكّ اللاحق(1).

أقول: بناءً على الانسياق مع هذا المنهج من الكلام يجب أن يعرّف الاستصحاب بالحدوث، فإنّ حدوث الشيء هو الذي يكون أمارة على بقائه لا اليقين السابق ولا الشك اللاحق. أمّا عدم دخل الشكّ اللاحق في الأمارية فواضح. نعم، الشكّ هو موضوع حجّيّة الأمارة. وأمّا عدم دخل اليقين السابق في الأمارية فأيضاً واضح بأدنى تأمّل، فإنّ الملازم للبقاء هو ذات الحدوث، و اليقين كاشف عن الحدوث و يقينٌ بالأمارة، من قبيل أن يتيقّن الشخص بصدور خبر الثقة الذي هو أمارة على حكم.

ثمّ هل المقصود أنّ أصل مبنى الأمارية في باب الاستصحاب يلازم عقلاً تعريف الاستصحاب باليقين السابق مثلاً، أو المقصود هو مجرّد استظهار لمراد الأصحاب الذين كانوا يقولون بالأمارية؟


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 5 ـ 6.

22

فإن كان المقصود هو الأوّل، فمن الواضح عدم هذه الملازمة، إذ من الممكن أن يجعل اليقين السابق مثلاً أمارة حجَّةً يثبت به الحكم بالبقاء، ولكن لا يسمّى هذا اليقين بالاستصحاب، بل يسمى هذا الحكم الثابت ببركة هذا اليقين بالاستصحاب. وإن كان المقصود هو الثاني، بأن يقال: إنّهم قد عبّروا بلفظ الأمارة، فقالوا: إنّ الاستصحاب أمارة، فهذا شاهد على أنّهم يسمّون نفس اليقين السابق مثلاً بالاستصحاب؛ لأنّه هو الذي يكون أمارة، قلنا: هذا التعبير إن دلّ في لسان من يقول: (بأنّ الاستصحاب أمارة) على أنّه يسمّي اليقين السابق بالاستصحاب فهو يدل في لسان من يقول: (بأنّ الاستصحاب ليس أمارة) ـ أيضاً ـ على ذلك، فإنّه يقصد نفي أمارية اليقين السابق، لا نفي أمارية الحكم، فإنّ عدم كون الحكم الشرعي هو الأمارة مما لا كلام فيه.

والخلاصة: أنّ هذا التعبير المناسب مثلاً لتعريف الاستصحاب باليقين السابق يوجد في لسان كلا الطائفتين، كما أنّ التعبير بما يناسب تعريف الاستصحاب بالحكم كأنْ يقال: إنّ الاستصحاب هو حرمة نقض اليقين مثلاً ـ أيضاً ـ قد يوجد في لسان كلا الطائفتين.

هذا. ولا شغل لنا بالفحص و صرف العمر في استظهار مقصود الأصحاب بالتتبع في كلماتهم، لنرى أنّه ـ بحسب ما يظهر من مجموعها ـ هل يجعلون الاستصحاب اسماً لهذا أو لذاك.

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) أورد على تعريف الاستصحاب بكونه إبقاء ما كان إشكالات عديدة(1) أَقتصِرُ على ذكر واحد منها، و هو: أنّه هل المقصود الإبقاء العملي، أو المقصود الإبقاء الحكمي و الجعلي؟ أمّا الأوّل فهو وإن كان ينسجم مع فرض كون مدرك الإستصحاب هو الروايات، لكونها آمرة بالإبقاء العملي، ومع فرض كون مدركه بناء العقلاء؛ لان العقلاء يبنون على العمل، لكنّه لا ينسجم مع فرض مدركه العقل؛ لأنّ العقل يدرك بقاء الحالة السابقة ظنّاً، وهذا غير الإبقاء العملي. وأمّا الثاني فهو وإن كان ينسجم مع فرض كون مدرك الاستصحاب هو الروايات لأنّها تحكم بالبقاء، ومع حكم العقل ـ ولو مسامحة ـ بأن يسمّى إدراك العقل حكماً، ولكنه لا ينسجم مع فرض كون المدرك بناء العقلاء؛ لأنّ بناء العقلاء يكون على العمل، وهذا هو الإبقاء العملي، لا الحكم بالبقاء.

أقول: يمكن الأخذ بكلّ واحد من الفرضين مع دفع إشكاله:


(1) راجع نهاية الدراية: ج 3، ص 1 ـ 5.

23

فأوّلاً: نأخذ الفرض الأوّل وهو الإبقاء العمليّ، و نقول: إنْ كان العقل يدرك لزوم الإبقاء العملي كما أدرك بقاء الحالة السابقة ظنّاً، فقد انسجم التعريف مع فرض كون مدرك الاستصحاب هو العقل، وإنْ لم يكن يدرك ذلك فلا معنى لجعل مدرك حجّيّة الاستصحاب العقل.

وثانياً: نأخذ الفرض الثاني وهو البقاء الحكمي و نقول:

أوّلاً: إنّنا نقصد ببناء العقلاء بناءهم بما هم موالي بالنسبة لعبيدهم، والعقلاء بما هم موالي لهم أحكام.

وثانياً: إنّ بناء العقلاء بما هو ليس حجّة، وإنّما حجّيّته بملاك الكشف عن حكم الشارع على وفقه، فينسجم التعريف مع كون المدرك هو بناء العقلاء.

وعلى أيّة حال، فإن اُريد بتعريف الاستصحاب تعريف ما سمّاه الأصحاب بالاستصحاب، فهو مربوط بالتتبع في كلماتهم، وقد نظفر بمصطلحات عديدة في ذلك متخالفة و متطوّرة في تأريخ هذا البحث، وإن اُريد بذلك ذكر شيء يصلح أن يكون محوراً للبحث في هذا المقام على جميع أدلّة الاستصحاب، وعلى جميع المباني فيه، ككونه أمارة وعدم كونه أمارة ونحو ذلك، قلنا: إنّ ذلك عبارة عن مرجعيّة الحالة السابقة.

وقد عدلنا عن التعبير بإبقاء ما كان إلى هذا التعبير لما في ذاك التعبير من إجمال في المراد من الإبقاء، فلو كان هو الإبقاء العملي فالاستصحاب ليس هو العمل، ولو كان المراد الحكم بالبقاء فالاستصحاب على بعض المباني شيء ادركه العقل، كحجّيّة الظنّ على الحكومة، وليس حكماً شرعياً، إلاّ أن يقصد بالإبقاء معنىً وسيع، فيقال: إنّ الحكم العقليّ ـ أيضاً ـ نوع إبقاء، ولو كان المراد هو مرجعيّة الحالة السابقة فهي التي ذكرناها.

 

 

 

24

 

 

 

هل الاستصحاب مسألة اُصولية؟

 

البحث الثاني: في أنّ بحث الاستصحاب هل هو مسألة اُصولية أو لا، وهذا يرتبط بتعريف علم الاُصول الذي قد تكلّمنا فيه في أوّل الدورة، وفي أوّل بحث البراءة، وأتكلّم فيه هنا بنحو الاختصار، فأذكر تعريفين منها:

أحدهما: للمحقق النائينيّ(قدس سره) و مدرسته، وهو: أنّ المسألة الاُصولية هي التي تقع كبرى في طريق الاستنباط.

واُورد على ذلك بانطباق هذا التعريف على بعض القواعد الفقهية، كقاعدة(لا ضرر) ونحو ذلك.

وقد أجبنا عن هذا الإشكال في محله، فلا ندخل هنا في البحث عنه.

ونقتصر هنا على ذكر الإشكال الصحيح الوارد على هذا التعريف، وهو: أنّ المسألة الاُصولية لا تقع دائماً كبرى في طريق الاستنباط، بل إنّ بعض المسائل تقع صغرى لذلك، كأبحاث الظهورات من قبيل: أنّ الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، ونحو ذلك ممّا ينقّح الصغرى لكبرى حجّيّة الظهور، وبعض المسائل لا تقع كبرى ولا صغرى، بل تكون دخيلة في الصغرى، بمعنى إثبات بعض قيودها، كما في بحث إمكان الترتّب و إمكان اجتماع الأمر و النهي، ونحو ذلك ممّا يستفاد منه ـ لو ثبت ـ أنّ صيغة الأمر و النهي الواردتين في المقام مثلاً ظاهرتان في أمر ممكن، وهذا صغرى لكبرى حجّيّة الظهور قد ثبت قيده، وهو كون الأمر الظاهر فيه ممكناً ببحث إمكان الترتب، أو اجتماع الأمر و النهي.

وعلى أيّ حال، فالاستصحاب في الشبهة الحكمية ـ بناءً على هذا التعريف ـ داخل في علم الاُصول؛ لأنّه يقع كبرى للاستنباط.

وثانيهما: ما هو المختار: من أنّ علم الاُصول منطق الفقه، توضيح ذلك: أنّ الأشياء الدخيلة في الاستنباط الفقهي للحكم الكلّي على قسمين، ومنذ البدء كما ترى خرج ما يكون دخيلاً في الحكم الجزئي لا الكلي، كقاعدة الفراغ، و التجاوز، و اليد، و الاُصول العملية في الشبهات الموضوعيّة:

25

القسم الأوّل: ما اُخذت فيه مادّة من مواد الفقه، و مواد الفقه هي كل عنوان أوّلي أو ثانوي متعلّق لحكم واقعيّ، كالصعيد مثلاً الذي هو عنوان أوّلي، و كالضرر الذي هو عنوان ثانوي، وهذا ليس داخلاً في علم الاُصول، وبهذا خرجت قاعدة لا ضرر، و البحث عن معنى الصعيد و نحوه.

والقسم الثاني: ما لم تؤخذ فيه مادّة من موادّ علم الفقه، كما هو شأن منطق كل علم، فعلم المنطق المعروف هو منطق لكلّ العلوم؛ ولذا لم تؤخذ فيه أيّ مادّة من أيّ علم، و يكون صورة فارغة صرفاً يمكن ملؤها بموادّ مختلفة من علوم مختلفة، و من كل علم بحسب موادّه كما هو واضح، وبعد علم المنطق توجد بحوث منطقية اُخرى هي منطق لما تحتها من العلوم و ليست خالية من المادة صِرفاً، وإلاّ لدخلت في علم المنطق، ولكنها خالية من مادّة علم تكون منطقاً له، فمثلاً مبدأ استحالة انفكاك المعلول عن العلّة الذي هو مبدأ فلسفي يكون منطقاً لكل العلوم الطبيعية، وهكذا.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ علم الاُصول هو العلم الذي لا يكون ضيّقاً بنحو تؤخذ فيه مادّة من المواد الفقهية فلا يصبح منطقاً لعلم الفقه، ولا يكون وسيعاً بنحو يكون منطقاً لعلوم اُخرى أيضاً، بل اُخذت فيه الموادّ بدرجة سَقَطَ عن قابليّة كونه منطقاً لسائر العلوم، و بقي منطقاً لعلم الفقه و دخيلاً في الاستنباط، بلا اشتراط أن يقع كبرى في طريق الاستنباط.

هذا. و البحث عن وثاقة الراوي وإن كان ـ أيضاً ـ دخيلاً في الاستنباط، ولكن هنا قيد آخر ثابت بالارتكاز المميّز بين علم الاُصول و مثل علم الرجال، وهو أنّ علم الاُصول يجب أن يكون مربوطاً بالحكم، بمعنى أن يكون هو حكماً ظاهرياً كحجّيّة خبر الثقة، أو يكون من مقتضيات الحكم في إحدى المراحل الثلاث: (الجعل) و (الإبراز) و (التنجيز و التعذير). فالأوّل كمباحث إمكان الترتّب، و الملازمة بين وجوب شيء و وجوب ذيه، و نحو ذلك من الاُمور التي يقتضيها الحكم بحسب عالم جعله. والثاني كمباحث دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، والمشتق على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبس، ونحو ذلك. والثالث كمباحث منجّزيّة الاحتمال أو معذّريّته عقلاً.

وبناءً على هذا التعريف يدخل الاستصحاب في الشبهة الحكمية في علم الاُصول؛ لكونه دخيلاً في استنباط الحكم الكلّي من أخذ مادّة فقهية فيه، وليس وسيعاً إلى درجة يكون منطقاً لعلم آخر أيضاً، وليس كبحث وثاقة الراوي ممّا هو غير مربوط بالحكم، بل هو حكم ظاهري، كحجّيّة خبر الواحد و نحوها من أحكام تذكر في علم الاُصول.