المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الخامس

18

الأحكام، و يرجع ذلك في الحقيقة الى أقوائية المحتمل كمّاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة أكثر من الأغراض الترخيصيّة و إن تساويتا كيفاً، فقدّم جانب الأغراض اللزوميّة بجعل وجوب الاحتياط و نحوه، و ثالثة تكون بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر الاستغراقي و الأفرادي، بحيث يحسب المولى حساب خبر ثقة في نفسه بقطع النظر عن وجود أيّ خبر آخر في الأحكام و عدمه، فيجعله حجّة لأقوائيّة احتمال صدقه ولو مع فرض أنّه لم يوجد في الفقه أيّ خبر ثقة آخر غير هذا الخبر، و هذا القسم الثالث تكون مثبتاته حجّة بلا حاجة إلى مؤونة زائدة، كما سوف ياتي ـ إن شاء الله ـ، وهذا بخلاف القسمين الأوّلين(1)، فإنّ اللازم فيهما لا يثبت إلا بمؤونة خاصّة و دليل خاصّ يدل على ثبوت الجعل و التعبد على طبق اللوازم أيضاً.

ثم إذا تساوت الأغراض المتزاحمة، ولم يوجد مرجّح كمّي أو كيفي أو أحتمالي لأحد الجانبين، فعندئذ الواقع لا يتطلّب من المولى ترجيح جعل الأستصحاب اللزومي مثلاً على البراءة أو العكس، فيكون المولى مخيّراً في الجعل، و عندئذ يمكن إعمال مرجّحات ذاتية، أي: غير مربوطة بالواقع لتقديم أحد الجعلين على الآخر، ولا ينافي ذلك الطريقيّة، ولا يستلزم التصويب؛ لأنّ هذا الترجيح كان في طول صيرورة الواقع حيادياً لا يتطلّب تقديم أيّ واحد من الجانبين، ولا يتنفّر من تطبيق الجانب الآخر.

إذا عرفت هاتين النكتتين قلنا: ذكر بعض: أنّ الاستصحاب غير ناظر إلى الأحكام الواقعيّة و الملاكات الواقعيّة أصلاً، و إنّما هو أصل تعبّدي صرف كاصالة الإباحة.

أقول: إنّ مثل أصالة الإباحة أيضاً لابُدّ أن يكون ناظراً إلى حفظ الأحكام الواقعيّة و ملاكاتها، و كذلك كلّ حكم ظاهري بناءً على إنكار السببيّة، و إلاّ لم يكن جواب على شبهة ابن قبة، فجعل الاستصحاب بهذا النحو غير معقول.

وذكر بعض آخر: أنّ الاستصحاب حاله حال أصالة الاحتياط في أنّه ينظر إلى الواقع و التحفّظ عليه بقطع النظر عن مسألة الأماريّة و الكاشفيّة.

وهذا الكلام يرجع بحسب لغتنا إلى أنّ الاستصحاب جعل على أساس المرجّح المحتملي الكيفي، وهذا إنّما يكون معقولاً في أصالة الاحتياط، ولا يكون معقولاً في الاستصحاب؛ وذلك لأنّ نوعيّة الغرض في الاستصحاب غير معلومة و معيّنة، حتى يلحظ أنّه هو الأهمّ أو


(1) لنا كلام مفصّل حول هذا الموضوع مضى في أوّل البراءة فراجع.