337

ولعلّ أهون المحاذير له (قدس سره) هو إنكار الانحلال الحقيقي.

على أنّ بالإمكان إيراد نقض على التقريب الثاني، وهو: أنـّه ماذا يقال فيما لو قطع بعدم جزئيّة السورة وترك الصلاة، وكانت السورة في علم اللّه جزءاً؟ فهل يُلتزم بعدم استحقاقه للعقاب إلّا من باب التجرّي؟ فبناءً على إنكار استحقاق المتجرّي للعقاب لا عقاب عليه، في حين أنّ استحقاقه للعقاب هنا أوضح من استحقاق المتجرّي، فمثل الشيخ الأعظم (رحمه الله) المنكر لاستحقاق المتجرّي للعقاب لا ينكر استحقاق هذا الشخص للعقاب، أو يلتزم باستحقاقه للعقاب على مخالفة وجوب الأقلّ، في حين أنّ الواجب هو الأكثر لا الأقلّ، أو يلتزم باستحقاقه للعقاب على ترك الأكثر، في حين أنـّه يقطع بعدم وجوب الأكثر، ولا يمكن تبعّض الأكثر بلحاظ أجزائه في التنجيز حسب الفرض.

 

التفصيل بين البراءة العقليّة والشرعيّة

الأمر الثاني: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) فصّل في الكفاية بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة، فمنع عن جريان الاُولى، واعترف بجريان الثانية. واعترض عليه المحقّقون المتأخّرون عنه كالسيّد الاُستاذ: بأنّ وجه المنع عن جريان البراءة العقليّة ـ لو تمّ ـ لا يفرّق فيه بين البراءتين. والمحقّق الخراساني (رحمه الله) بنفسه ـ أيضاً ـ عدل عن كلامه، وذهب في تعليقته على الكفاية إلى المنع عن جريان كلتا البراءتين.

أقول: إنّ ما اعتمد عليه المحقّق الخراساني في الكفاية في مقام منع جريان البراءة العقليّة وجهان: أحدهما: مسألة الغرض والشكّ في المحصّل. والثاني: العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر. ونحن نقتصر في مقام بيان إمكان التفصيل بين البراءتين وعدمه على التكلّم على هذين الوجهين فنقول:

أحد الوجهين: مسألة الغرض والشكّ فيما يحصّل الغرض، فهل يمكن على أساس هذا الوجه التفصيل بين البراءتين، بأن يفترض أنـّه يبطل البراءة العقليّة فحسب؟ أو أنّ إبطاله للبراءة العقليّة يستلزم إبطاله للبراءة الشرعيّة؟

ذكر السيد الاُستاذ(1): أنـّه لا يمكن في المقام التفصيل بين البراءتين؛ إذ بعد


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 439 ـ 440، والدراسات: ج 3، ص 278.

338

الالتزام بمشكلة الغرض بلحاظ البراءة العقليّة لا معنى لحلّ الإشكال عن طريق البراءة الشرعيّة؛ لأنّ البراءة الشرعيّة إنّما تكون ناظرة إلى التكاليف لا إلى الأغراض.

وقد أوردت على السيّد الاُستاذ: أنّكم ماذا تصنعون إذن في موارد الشبهات البدويّة، فإنّ البراءة الشرعيّة حسب كلامكم إنّما أمّنت عن التكليف، ويبقى احتمال الغرض الذي يكمن وراء التكليف، فإن قلتم: إنـّنا نتخلّص عنه بالبراءة العقليّة، فهذا يعني أنّ البراءة الشرعيّة يجب أن تنضمّ دائماً إلى البراءة العقليّة، وتلزم من ذلك لغويّة البراءة الشرعيّة.

فأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّنا لو اقتصرنا على المدلول المطابقي لدليل البراءة لزم عدم تأمينه عن احتمال الغرض في الشبهات البدويّة، ولكن بما أنّ هذا يوجب لغويّة البراءة الشرعيّة نتمسّك بدلالة الاقتضاء، وتثبت بالدلالة الالتزاميّة من باب صون كلام الحكيم عن اللغوية التأمين عن الغرض، وبما أنّ دلالة الاقتضاء لا إطلاق لها فلا بُدّ من الاقتصار في ذلك على القدر المتيقّن، وهو الشبهات البدويّة البحتة دون موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

وأوردتُ عليه ـ عندئذ ـ النقض بأنّه لئن كانت الاُصول الشرعيّة في حدّ ذاتها لا تجري إلّا بالنسبة لذات التكليف دون الأغراض، وأنّ التعدّي إلى الأغراض إنّما يكون بدلالة الاقتضاء التي لا إطلاق لها لزم من ذلك عدم جواز التمسّك بأصالة الطهارة في مقام تصحيح الوضوء بماء مشكوك الطهارة؛ لأنّ التكليف بالتطهّر بالماء الطاهر معلوم، والشكّ إنّما يكون في الامثتال، فهنا لا تؤمّن أصالة الطهارة عن الغرض؛ لأنّ تأمينها عن الغرض إنّما هو بدلالة الاقتضاء التي لا إطلاق لها، فيجب الاقتصار فيها على موارد الشبهات البدويّة، والشكّ في أصل التكليف، كما في جواز الشرب؛ لأنّ ذلك هو القدر المتيقّن. وهنا توقّف السيّد الاُستاذ عن الجواب.

وأقول: يلزمه ـ أيضاً ـ أن لا تجري أصالة الطهارة حتّى بلحاظ جواز الشرب لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الماءين، وكان أحدهما غير مجرىً لأصالة الطهارة بنكتة خاصّة.

أمـّا حقيقة الحال في المقام: فهي أنّ التكاليف تنجيزاً وتعذيراً إنّما تلحظ بمعناها الحرفي، وبما هي حافظة لما وراءها من غرض، أو توقّف؛ لحصول الغرض على الجزء، وبقطع النظر عن ذلك لا تكون سوى اعتبارات جوفاء لا معنى للتنجيز والتعذير عنها، فالبراءة الشرعيّة الجارية عن التكليف المشكوك بنفسها تؤمّن بالدلالة

339

العرفيّة الواضحة الابتدائيّة عمّا وراء التكليف ممّا يحفظه من غرض أو توقّف لحصول الغرض على الجزء، بلا حاجة إلى دلالة الاقتضاء، وصون كلام الحكيم عن اللغويّة.

وبهذا يظهر أصل إمكان التفكيك بين البراءتين، فلو فرضنا عدم جريان البراءة العقليّة في المقام عن الغرض لتماميّة البيان حسب الفرض؛ لأنّه غرض وحداني وأصل، لا يلزم من ذلك عدم جريان البراءة الشرعيّة؛ لأنّ البراءة الشرعيّة إنّما نجريها بلحاظ التكليف، والبيان لم يتمّ بالنسبة للتكليف الزائد، فتجري بلحاظه وتؤمّن ـ عندئذ ـ عمّا وراءه من توقّف حصول الغرض على هذا الزائد.

والوجه الثاني: مسألة العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، وعندئذ يقال أيضاً: ما الفرق بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة، حيث جعل المحقّق الخراساني ذلك مانعاً عن جريان البراءة العقليّة، ولم يجعله مانعاً عن جريان البراءة الشرعيّة؟!

وقد فرّع السيّد الاُستاذ والمحقّق النائينيّ إمكان التفصيل بين البراءتين وعدمه في المقام على أنّ البراءة الشرعيّة عن القيد هل تثبت الإطلاق فهي كما تنفي أحد طرفي العلم الإجمالي تثبت الطرف الآخر ؟ أو لا؟ فإن اخترنا الثاني لم تجرِ البراءة الشرعيّة بعد فرض عدم انحلال العلم الإجمالي في نفسه في المقام، فإنّه يمنع جريانها إمّا بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، أو بتعارض البراءتين في طرفي العلم الإجمالي وتساقطهما، بناءً على الاقتضاء دون العلّيّة، وإن اخترنا الأوّل جرت البراءة، إمـّا لعدم المعارض لها بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ المفروض أنّ البراءة عن أحد طرفي العلم الإجمالي اثبتت بنفسها الطرف الآخر(1)، أو لأنّ العلم الإجمالي ـ ولو قلنا فيه بالعلّيّة ـ ينحلّ أثره بقيام منجِّز في أحد طرفيه، والمفروض أنّ البراءة عن أحد الطرفين نجّزت الطرف الآخر.

أمـّا ما هو الصحيح من هذين الفرضين، أي: هل يثبت الإطلاق بجريان البراءة


(1) نقل لي السيّد الهاشمي (حفظه اللّه) عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أيام حضورنا لديه (رحمه الله)في هذه المباحث: أنّ الوجه في عدم وجود براءة اُخرى في الطرف الآخر هو ما بنوا عليه ـ وإن كان ذلك غير صحيح عندنا ـ من أنـّه إذا كان أحد الأصلين نافياً للآخر، دون العكس أوجب ذلك حكومة الأصل النافي، ولذا تجري أصالة الطهارة في الماء، ولا يجري استصحاب النجاسة في الثوب المتنجّس المغسول به.

340

عن القيد أو لا؟ فقد فرّع السيّد الاُستاذ والمحقّق النائيني ذلك على أنّ الإطلاق هل هو عبارة عن عدم القيد؟ أو هو أمر وجودي مضادّ للتقييد؟ فعلى الأوّل يثبت الإطلاق بأصالة عدم القيد، وعلى الثاني لا يمكن إثبات أحدهما بأصالة عدم الآخر.

ومن هنا افترق السيّد الاُستاذ والمحقّق النائيني في النتيجة، فبما أنّ السيّد الاُستاذ يرى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد انتهى هنا إلى نتيجة عدم إمكان التفكيك بين البراءتين عن هذا الطريق، فلو لم تجرِ البراءة العقليّة لم تجرِ البراءة الشرعيّة أيضاً(1)، وبما أنّ المحقّق النائيني يرى أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة انتهى هنا إلى نتيجة أنّ البراءة عن القيد تثبت الإطلاق، وبالتالي تكون البراءة الشرعيّة جارية حتّى على تقدير عدم جريان البراءة العقليّة(2).

ولا يخفى أنّ هذا الوجه للتفصيل بين البراءتين ليس هو ما أفاده المحقّق الخراساني في المقام، وسيأتي الحديث عمّا أفاده المحقّق الخراساني فيما بعد.

أمـّا تقييم ما أفاده السيّد الاُستاذ والمحقّق النائيني هنا فهو: أنّ التفصيل بين البراءتين بفرض القول بكون الإطلاق عبارة عن عدم التقييد غير صحيح، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ـ كما هو مختار المحقّق النائيني ـ أو هو تقابل التضاد ـ كما هو مختار السيّد الاُستاذ ـ أو هو تقابل السلب والإيجاب كما هو مختارنا.

وتوضيح ذلك: أنّ التقييد تارة يكون بلحاظ عالم الجعل والواقع، وهذا هو الذي يفرض تعلّق العلم أو الشكّ به، ويقابله الإطلاق، واُخرى يفرض بلحاظ المرتبة المتأخّرة عن الشكّ، بأن يقال: إذا شككت في القيد فقد جعلنا عليك القيد، وذلك بمعنى إيجاب الاحتياط تجاه احتمال وجود القيد.

وعليه نقول: إنّ الشيء النافي للقيد تارة يفرض عبارة عن أمارة من الأمارات، فيثبت بذلك ـ لا محالة ـ الإطلاق، حتّى مع فرض كونه أمراً وجوديّاً مضادّاً للتقييد؛ لأنّ مثبتات الأمارات حُجّة، واُخرى يفرض عبارة عن أصل ناظر إلى وجود القيد في العالم الأوّل ـ أعني عالم الجعل والواقع ـ وذلك كما في فرض استصحاب عدم التقييد، وعليه يتّجه التفصيل بين ما إذا كان الإطلاق عبارة عن عدم القيد، فيثبت


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 279، والمصباح: ج 2، ص 441.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 53، وأجود التقريرات: ج 2، ص 289.

341

بهذا الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب لسانه لسان إبقاء الواقع السابق على حاله ظاهراً، والواقع السابق عبارة عن عدم التقييد، فيثبت عدم التقييد ظاهراً، وعدم التقييد بنفسه هو الإطلاق، فقد ثبت الإطلاق ظاهراً. وثالثة يفرض عبارة عن أصل يكون لسانه لسان رفع وجود القيد في العالم الثاني، وعندئذ لا يثبت بذلك الإطلاق حتّى لو كان عبارة عن عدم القيد، فإنّ الإطلاق إنّما يكون عبارة عن عدم القيد في مقابل وجوده في العالم الأوّل، والأصل إنّما ينفي وجوده في العالم الثاني ـ أي أنـّه ينفي إيجاب الاحتياط تجاهه ـ فلا علاقة لذلك بإثبات الإطلاق، والبراءة تكون من هذا القبيل، فإنّ متعلّق الرفع ـ أعني الموصول في قوله: رفع ما لا يعلمون ـ وإن أُريد به الواقع، لكن المفروض أنـّه ضمّنت كلمة (الرفع) معنى الظاهريّة بمعنى كونه رفعاً في مقابل إيجاب الاحتياط، والرفع بهذا المقدار لا مساس له بمسألة الإطلاق الذي هو في مقابل وجود التقييد في عالم الجعل والواقع.

هذا. ويمكن توجيه التفصيل بين البراءتين على أساس آخر، ونبيّن ذلك بما يكون في نفس الوقت شروعاً في الأمر الثالث من الاُمور التي وعدنا بيانها هنا.

 

البراءة عن الجزئيّة لا عن ذات الجزء

الأمر الثالث: أنـّه ما هو الوجه في عدول المحقّق الخراساني عن إجراء البراءة عن الزائد، أو الأكثر إلى إجراء البراءة عن الجزئيّة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بنحو يكون على تقدير تماميّته جواباً عن السؤال السابق ـ أيضاً ـ عمّا هو الوجه في التفصيل بين البراءتين بمانعيّة العلم الإجمالي عن العقليّة دون الشرعيّة.

ونحن نذكر هذا الجواب عن السؤالين، ونبحث عن صحّته وبطلانه حسب مباني المحقّق الخراساني في نفسه ـ ولو لم يكن هو المستفاد من كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)ـ وبعد ذلك نتعرّض إلى محتملات كلام المحقّق الخراساني في المقام.

فنقول: إنّ هذا الجواب عبارة عن أنّ البراءة عن وجوب الأكثر تعارضت بالبراءة عن وجوب الأقلّ وتساقطتا، ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة عن الجزئيّة، فجرت البراءة عنها بلا معارض، بناءً على أنّ الأصل الطولي في أحد الطرفين يجري بلا معارض بعد تعارض الأصلين العرضيّين وتساقطهما، فإنّ البراءة عن الجزئيّة في

342

طول البراءة عن وجوب الأكثر؛ لأنّ الجزئيّة أمر منتزع عن وجوب الأكثر، فالسرّ في العدول عن إجراء البراءة عن وجوب الأكثر إلى البراءة عن الجزئيّة ابتلاء البراءة عن الأكثر بالمعارض وتساقطهما، ووصول النوبة إلى البراءة عن الجزئيّة غير المبتلاة بالمعارض، وبهذا تتضح النكتة في التفصيل بين جريان وعدم جريان البراءة العقليّة أيضاً؛ وذلك لما عرفت من بقاء البراءة عن الجزئيّة بلا معارض بعد تعارض البراءتين العرضيتين وتساقطهما.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا إنّما يتمّ على مبنى الاقتضاء دون العلّيّة المتبنّاة للمحقّق الخراساني (رحمه الله)؛ إذ على هذا المبنى لا تجري البراءة، ولو لم تكن مبتلاة بالمعارض.

وثانياً: أنّ الأصل في جانب الجزئيّة ليس في طول الأصل في جانب الأكثر؛ إذ ليس ترتّب الجزئيّة على وجوب الأكثر ترتّباً شرعيّاً، وإنّما تنتزع منه عقلاً، فنفيُه لا يوجب نفي الجزئيّة إلّا بالملازمة العقليّة.

وثالثاً: أنّ إجراء البراءة عن الجزئيّة في نفسه غير معقول؛ لأنّ الجزئيّة لا تقبل التنجيز، وإنّما الذي يتنجّز هو منشأ انتزاعها، فلو فرض محالاً تحقّق الجزئيّة من دون وجوب الأكثر لم يكن المكلّف ملزماً بالإتيان بالأكثر، إذن فالجزئيّة لا تقبل الوضع الظاهري بمعنى إيجاب الاحتياط تجاهها حتّى يرفع رفعاً ظاهريّاً ـ بمعنى نفي إيجاب الاحتياط تجاهها ـ وإنّما الذي يقبل الوضع الظاهري والرفع الظاهري هو منشأ انتزاعها من وجوب الأكثر، وأمـّا الجزئيّة فليس لها وضع ووجود إلّا الوجود الواقعي دون الظاهري، نعم قد تكون للشيء الجزئيّة الواقعيّة للواجب الواقعي تنتزع من الأمر الواقعي بذلك الواجب، واُخرى تكون له جزئيّة واقعيّة للواجب الظاهري تنتزع من الأمر الظاهري بذلك الواجب.

وقد يقول الشارع في مقابل الترخيص الظاهري: رفعت عنك جزئيّة السورة لدى الشكّ في الجزئيّة، لكن هذا الكلام منه يعدّ كناية عن رفع منشأ الانتزاع، ورفع إيجاب ذلك الجزء، وليس ذلك رفعاً ظاهريّاً للجزئيّة بالدقّة.

ورابعاً: ما ذكره المحقّق الاصفهاني(رحمه الله) في المقام(1) من أنّ البراءة عن الجزئيّة مُعارضة مع البراءة عن كلّيّة الأقلّ؛ إذ لو صحّتِ البراءة عن الجزئيّة المنتزعة عن


(1) راجع نهاية الدراية: في شرح الكفاية، ج 2، ص 273.

343

وجوب الأكثر صحّت البراءة عن الكلّيّة المنتزعة من وجوب الأقلّ.

وبهذا تحصّل أنـّه لا يمكن تصحيح الفرق بين البراءة العقليّة والشرعيّة، ولا تفسير الرجوع عن البراءة عن الأكثر إلى البراءة عن الجزئيّة تفسيراً صحيحاً بهذا الوجه.

هذا. وقد مضى توجيه الفرق بين البراءتين من وجهة نظر المحقّق النائيني (رحمه الله)وهو أنّ البراءة عن التقييد تثبت بدلالتها المطابقيّة الإطلاق؛ لكونه متقابلاً مع التقييد تقابل العدم والملكة، وبإمكان المحقّق النائيني أن يفسّر ـ من وجهة نظره هذه ـ العدول عن البراءة عن الأكثر إلى البراءة عن الجزئيّة، وذلك بأن يقال: إنّ البراءة عن الأكثر، أو عن وجوب الزائد لا تثبت الإطلاق؛ لأنّ عدم وجوب الأكثر، أو الزائد أعمّ من وجوب الأقلّ أو عدم وجوب شيء عليه أصلاً. نعم، هو يعلم بوجوب أحدهما عليه، لكن نفي أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت بالملازمة الطرف الآخر، إلّا بناءً على التعويل على الأصل المثبت، وهذا بخلاف البراءة عن الجزئيّة بعد إرجاعها ـ حسب ما يستفاد من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) ـ إلى البراءة عن التقييد والتقيّد، ونحو ذلك من المفاهيم، فإنّ المطلق عبارة عن وجوب الأقلّ من دون تقييد، ووجوب الأقلّ ثابت بالوجدان، وعدم التقييد ثابت بالأصل، فقد ثبت الإطلاق بالأصل.

وأمـّا تفسير المطلب من وجهة نظر المحقّق الخراساني نفسه، فله (رحمه الله) كلام في الكفاية في الجواب عن السؤال الأوّل توجد فيه عدّة احتمالات، وهو على الاحتمال الثالث منها يصلح جواباً عن كلا السؤالين، وعلى الاحتمال الأوّل الذي هو الظاهر من عبارته، والاحتمال الثاني لا يصلح إلّا جواباً عن السؤال الأوّل دون الثاني، وذلك الكلام هو دعوى أنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الإجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، وهذا الكلام فيه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: ما هو الظاهر من عبارته في الكفاية، وهو أنّ دليل جزئيّة السورة مثلاً غير الواصل إلينا على تقدير وجوده في الواقع مطلق، يشمل صورتي العلم والجهل، كما لو ورد ابتداءً دليل يدلّ على عدم جزئيّة السورة في حال من الحالات، كحال ضيق الوقت مثلاً، فإنّ هذا نسبته إلى دليل جزئيّة السورة نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، ويتعيّن لا محالة ـ بضمّ هذا الدليل بمدلوله المطابقي إلى دليل وجوب السورة وجزئيّتها في كلّ حال ـ وجوب الأقلّ عند ضيق الوقت، فكذلك الأمر في المقام، فبالجمع بين دليل الإجزاء وحديث الرفع المقيّد لها يثبت

344

وجوب الأقلّ مطلقاً، ومن دون تقييد بالأكثر.

ويرد عليه: أنّ حديث الرفع لا يصلح لتقييد دليل الجزئيّة بمدلوله المطابقي؛ لأنّ دليل الجزئيّة يفيد الحكم الواقعي، وحديث الرفع يفيد الحكم الظاهري، فهما في واديين مختلفين، ولا معنى لتقييد الأوّل بالثاني، وجعل الثاني كالاستثناء للأوّل، وبكلمة اُخرى: أنّ مرتبة العامّ وأدلّة الإجزاء تكون قبل مرتبة الشكّ، ومرتبة جريان حديث الرفع تكون بعد مرتبة الشكّ، وفي مرحلة الحكم الظاهري فكيف يجعل استثناء لتلك المرحلة؟!

الاحتمال الثاني: أنّ نسبة حديث الرفع ـ بلحاظ دلالته الالتزاميّة ـ إلى دليل الجزئيّة نسبة الاستثناء؛ وذلك لأنّ حديث الرفع وإن كان بمدلوله المطابقي يدلّ على الحكم الظاهري، لكنّه بمدلوله الالتزامي ـ حسب تصوّرات المحقّق الخراساني من فرض مراتب للحكم، واستحالة اجتماع مرتبة الفعليّة مع الترخيص الظاهري ـ يدلّ على انتفاء الحكم الواقعي بمرتبته الفعليّة، فهذا نسبته إلى الدليل الدالّ على الحكم الواقعي بمرتبته الفعليّة نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، بمعنى أنّ دليل الحكم الواقعي الفعلي كان مجملاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ودليل البراءة دلّ بالالتزام على عدم فعليّة الأمر بالأكثر، فبضمّه إلى دليل وجود أمر فعلي يثبت أنّ الأمر الفعلي متعلّق بالأقل(1)، ولا يعارض ذلك بالبراءة عن الأقلّ، فإنّنا لا نحتمل أن يكون الأمر على تقدير تعلّقه بالأكثر فعليّاً، وعلى تقدير تعلّقه بالأقل غير فعلي(2).

ويرد عليه: بطلان المبنى حيث عرفت فيما سبق مفصّلاً عدم استحالة اجتماع الحكم الواقعي الفعلي مع الحكم الظاهري.

الاحتمال الثالث: دعوى الدلالة الالتزاميّة العرفيّة، بأن يقال: إنّ ما يدلّ على نفي جزئيّة السورة في حال الجهل مثلاً وإن كان بحسب الدقّة العقليّة منسجماً مع فرض رفع وجوب الأكثر من دون إيجاب الأقلّ ظاهراً، لكنّ المستفاد عرفاً من نفي جزئيّة شيء للصلاة في حال، هو وجوب الباقي عليه، بلا تقيّد بذلك الجزء في تلك الحال.


(1) هذا مبنيّ على القول بأنّ المجمل يمكن رفع إجماله بالمبيّن الذي يدلّ على خلاف أحد المعنيين المحتملين في المجمل.

(2) لم يعلم الوجه في عدم احتمال ذلك، واحتمال عكسه.

345

وهذا الوجه متين لو كان دليل نفي جزئيّة السورة دليلاً خاصّاً وارداً في مثل هذا المقام، وأمـّا الدليل الدالّ على (رفع ما لا يعلمون) بنحو الإطلاق المنطبق صدفة على الجزئيّة، فلا يدلّ على ذلك.

هذا. ولو تمَّ هذا الوجه لصلح ـ كما أشرنا إليه ـ جواباً عن السؤال الثاني أيضاّ، بأن يقال: إنّ ما يستفيد منه العرف وجوبَ الباقي ظاهراً إنّما هو لسان رفع الجزئيّة، دون لسان رفع وجوب الأكثر.

 

حول التفتيش عن منجّز للأقلّ

الأمر الرابع: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر بعد دعوى جريان البراءة الشرعيّة عن جزئيّة الزائد ما نصّه:

«لا يقال: إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، وهو الأمر، ولا دليل على أمر آخر بالخالي عنه»(1).

وأجاب (رحمه الله) عن هذا الإشكال بجعل نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، وهذا ما فسّرناه بوجوه ثلاثة كما عرفت، وحملناه على بيان المبرّر لإجراء البراءة الشرعيّة عن جزئيّة الزائد؛ لأنّه لو لم يوجد منجِّز آخر لأحد طرفي العلم الإجمالي لاتجري البراءة عن الطرف الآخر.

إلّا أنّ السيّد الاُستاذ حمل هذا الإشكال والجواب على أنـّه بصدد التفتيش عن منجّز للأقل، بعد فرض جريان البراءة عن جزئيّة الزائد، فأورد عليه بأنّه لا وجه للتفتيش عن منجّز للأقلّ؛ إذ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلاً، فسواءٌ تنجّز الباقي، أم فرض جريان البراءة عنه، لا إشكال في تنجّز الأقلّ بالعلم بوجوبه ضمناً أو استقلالاً، وعلى هذا الأساس ذكر السيّد الاُستاذ: أنـّه لعلّ هذا الكلام كان صادراً من قبل الآخوند بلحاظ رفع الجزء المنسيّ، وأنـّه بعد فرض رفعه ما هو الدليل على وجوب الباقي، حيث لا يمكن رفع الجزء المنسيّ إلّا برفع أصل الأمر؟ فكان جوابه: أنّ نسبة دليل رفع المنسيّ إلى دليل الواجب هي نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، فوقع


(1) راجع الكفاية: ج2، ص 235 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

346

الخطأ في الكتابة فكتب الكاتب هذا المقطع في مسألة رفع الجزء المشكوك(1).

أقول: لو حملنا كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) على المعنى الذي فهمناه نحن من كلامه، لم يكن موضوع لهذا الإشكال، فهو يفتّش عن منجّز آخر لأحد الطرفين، وهو الأقلّ استطراقاً إلى إجراء البراءة عن الطرف الآخر، ولا يفتّش عن مبرّر لتنجيز الأقلّ بعد فرض جريان البراءة عن جزئيّة الزائد.

ولو حملنا كلامه على ما فهمه السيّد الاُستاذ فأيضاً لا يرد عليه هذا الإشكال، فإنّ كلامه متّجه حسب مبانيه القائلة بوجود المراتب للحكم، وبأنّ المنجّز إنّما هو العلم الإجمالي بمرتبة الفعليّة، وبأنّ الإباحة الظاهريّة تنافي مرتبة الفعليّة، فعندئذ يقال: إنّه مع فرض جريان البراءة عن جزئيّة الزائد يثبت عدم فعليّة الأمر بالزائد، والأوامر الضمنيّة تكون ـ لا محالة ـ مترابطة فيما بينها في الفعليّة وعدمها؛ إذ لو كانت المصلحة الثابتة في الأكثر بنحو تُوجد الإرادة والحبّ الموجب للفعليّة، فلا محالة توجد الإرادة نحو الجميع، وإن لم تكن كذلك لم توجد الإرادة نحو شيء منها أصلاً، ولا معنى لثبوت الإرادة بلحاظ الأقلّ فقط إلّا بفرض وجود المصلحة في نفس الأقلّ، إذن فبإجراء البراءة عن الزائد يصبح الأمر بالأكثر غير فعلي، وبذلك ينتفي تكويناً العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير، ولا يقطع بوجوب الأقلّ بدرجة الفعليّة؛ لاحتمال كون وجوبه ضمن وجوب الأكثر غير الفعلي فلابدّ من التفتيش عن منجّز للأقلّ.

 

حول ما ذكره الخراساني(رحمه الله)في تعليقته

الأمر الخامس: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر في تعليقته على الكفاية(2): أنّ البراءة الشرعيّة ـ أيضاً ـ لا تجري في المقام؛ وذلك لأنّ المفروض وجود علم إجمالي غير منحلّ في نفسه، ولذا لم تجرِ البراءة العقليّة، فإن فرض ذلك علماً بالتكليف الإنشائي فلا أثر له في التنجيز أصلاً، وإن فرض علماً بالتكليف الفعلي استحال


(1) الموجود في الدراسات: ج 3، ص 279: أنـّه لعلّ هذا ناشىء من الخلط بين باب الجهل وباب النسيان، وكذلك الموجود في مصباح الاُصول، ج 2، ص 442: أنّ الظاهر أنّ هذا الإشكال نشأ من الخلط بين الجهل والنسيان، والاضطرار والإكراه.

(2) راجع حقائق الاُصول: ج 2، ص 326 بحسب تعليق الماتن.

347

جريان البراءة، ولو عن خصوص جزئيّة الزائد؛ لأنّ المفروض احتمال وجود أمر فعلي بالأكثر، وعلى تقدير وجوده تكون هذه البراءة مناقضة للواقع، فيلزم من إجراء البراءة احتمال المناقضة.

أقول: إنّ هذا الكلام منه(قدس سره) أكثر انسجاماً مع مبانيه ممّا ذكره في الكفاية هنا؛ إذ مع فرض علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وعدم إمكان الترخيص في المخالفة الاحتماليّة من باب المضادّة بينه وبين الحكم الواقعي الفعلي، لا وجه لدعوى انحلال العلم الإجمالي، وجريان البراءة عن أحد الطرفين بمجرّد وجود منجِّز في الطرف الآخر.

نعم، لو كان مبناه في العلّيّة وعدم إمكان الترخيص في المخالفة الاحتماليّة مبنى المحقّق العراقي من المضادّة بينه وبين حكم العقل بالتنجيز، لا بينه وبين نفس الحكم الواقعي، أمكن دعوى الانحلال بمجرّد قيام منجّز في أحد الطرفين .

ثمّ إنّه لو اخترنا الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي فسّرنا به كلامه (قدس سره) في مقام تفتيشه عن منجّز للأقلّ من جعل نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، أتّجه ما اختاره في الكفاية: من التفصيل بين البراءة العقليّة والشرعيّة. ولم يرد عليه ما أورده في تعليقته على الكفاية؛ وذلك لأنّه في ذلك الوجه تثبت فعليّة الأمر بالأقل؛ إذ يفرض أنّ دليل التكليف مجمل مردّد بين الأمر الفعلي بالأقل والأمر الفعلي بالأكثر، ودليل البراءة في طرف الأكثر ينفي الأمر الفعلي بالأكثر، فتثبت بالملازمة كون الأمر الفعلي متعلّقاً بالأقلّ.

وبكلمة اُخرى: أنّ الاستثناء على هذا الوجه استثناء واقعي، وأمـّا على الوجه الأوّل والأخير فالاستثناء استثناء ظاهري، فيرد عليه ما في تعليقته على الكفاية من فرض احتمال المضادّة بين هذا الحكم الظاهري والحكم الواقعي الفعلي.

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء.

 

 

348

 

 

 

الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

 

وأمـّا الكلام في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الشرائط فتفصيله ما يلي:

أنّ الشرط المحتمل قد يفرض شرطاً لمتعلّق التكليف، كما إذا احتملت شرطيّة الطهارة لصلاة الميّت، وقد يفرض شرطاً لمتعلّق المتعلّق، كما إذا احتملت شرطيّة الإيمان في الرقبة التي تعتق فـي الكفارة. وعلى أيّ حال قد يفرض هذا الشرط أمراً مستقلاًّ عن المشروط، كاحتمال اشتراط الطهارة في الصلاة، واُخرى يفرض أمراً غير مستقلّ عنه، وحالاً من حالاته، كاحتمال اشتراط التأنّي في الصلاة.

والمحاولات الماضية لمنع جريان البراءة فيما سبق من بحث الاجزاء يكون جريان بعضها في المقام ـ لو تمّ في نفسه ـ أخفى منه في المقام السابق(1)، ويكون بعضها أخفى فشلاً هنا منه في المقام السابق(2)، إلّا أنـّنا لا نتعرّض إلى تفصيل ذلك، ونقتصر في الحديث على جوابنا عن مانعيّة العلم الإجمالي بالأقلّ أو الأكثر؛ لرجوعه بالدقّة إلى المتباينين، وهو ما مضى من أنّ فرز الحدود من الحساب يخرج العلم الإجمالي عن الدوران بين المتباينين، ونوضّح جريان نفس الجواب حرفاً بحرف في هذا المقام أيضاً، ثمّ نتعرّض لكلام المحقّق العراقي (قدس سره)مع إبطاله.

فنقول: إن فُرض الشرط المحتمل شرطاً للمتعلّق سواءً كان من قبيل الطهارة،


(1) من قبيل مانعيّة العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المشكوك في امتثاله على تقدير ترك الزائد، فقد يخفى جريانه في المقام لعدم إنفراز عينيّ للمقدار المعلوم وجوبه عن الزيادة؛ لأنّ الشرط ليس محتمل الوجوب في نفسه، وإنّما هو مقيّد ومحصِّص للواجب.

(2) من قبيل مانعيّة العلم الإجمالي بالأقلّ أو الأكثر المتوهم رجوعه إلى العلم الإجمالي بأحد المتباينين؛ وذلك على أساس الغفلة عن إسقاط الحدود التي لا تدخل في العهدة من الحساب، فالغفلة عن ذلك في باب الشرط تكون أقوى؛ لأنّ الشرط محصّص للواجب المعلوم وجوبه، فيتخيّل أنّ الحدّ هنا لا يمكن تفكيكه عن المحدود، وإسقاطه عن الحساب؛ وذلك باعتباره معنى حرفيّاً مندكّاً في المحدود.

349

أو من قبيل التأنّي، فهنا يأتي ما ذكرناه في بحث الأجزاء من أنـّه إن لوحظ كلّ ما في عالم التكوين من التكليف بحدوده كان العلم الإجمالي دائراً بين المتباينين، ولكن الحدود لا تدخل في العهدة، فنسقطها من الحساب، ونلحظ ذات الحكم، فعندئذ نرى الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر، فإنّنا قد شككنا في أنّ الوجوب هل عرض على ذات الواجب بمعناه الاسمي فحسب أو انبسط على التقيّد بالشرط بالمعنى الحرفي؟ وهذا هو دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، كما هو الحال في باب الأجزاء، وإنّما الفرق بين البابين: هو أنـّه مضى في باب الأجزاء أنّ النفس تخلق في الواجب الارتباطي عنواناً وحدانيّاً، وهو عنوان المجموع والكلّي، وتُلبِس هذا العنوان على ما في الخارج استطراقاً إلى أن يعرض عليه وجوب واحد، وقلنا: إنّ العلم الإجمالي وإن كان ـ بلحاظ هذا اللباس الوحداني ـ أمره دائراً بين المتباينين، لكنّ الذي يدخل في العهدة إنّما هو ذو اللباس لا اللباس، وذو اللباس أمره دائر بين الأقلّ والأكثر، أمـّا فيما نحن فيه فلا حاجة الى أن تخلق النفس عنواناً وحدانيّاً تلبسه على ما في الخارج؛ وذلك لأنّ الدخيل في الواجب في باب الشروط إنّما هو تقيّد الفعل بذلك الشرط، وهو معنىً حرفي مندكّ في المعنى الإسمي، ومتّحد معه في الوجود، فلا حاجة الى عروض لون الوحدة على الواجب باعتبار عنوان وحداني تخلقه النفس، فهذا فرق بين باب الأجزاء والشرائط، إلّا أنّ هذا الفرق ليس فارقاً فيما هو المقصود كما هو واضح.

وإن فرض الشرط المحتمل شرطاً لمتعلّق المتعلّق كالإيمان بالنسبة للرقبة فالصحيح أنـّه ـ أيضاً ـ يأتي في ذلك عين ما ذكرناه، من أنـّه إن لوحظ الحكم بحدوده كان دائراً بين المتباينين، ولكن الحدود لا تدخل في العهدة، فالمتعيّن هو لحاظ ذات الحكم، وعندئذ نراه دائراً بين الأقلّ والأكثر، وتوضيح ذلك: أنّ نسبة العتق إلى الرقبة أو إلى الرقبة المؤمنة معنى حرفي واقع تحت الوجوب، ويقع الكلام في أنّ هاتين النسبتين هل هما متباينتان، أو هما من قبيل الأقلّ والأكثر؟ وقد حقّقنا في بحث المعاني الحرفيّة: أنّ تباين المعاني الحرفيّة يكون بتباين بعض الأطراف. وعليه ففيما نحن فيه يكون تباين هاتين النسبتين بتباين طرفيهما، وهما: الرقبة والرقبة المؤمنة، فيجب نقل الكلام إلى متعلّق المتعلّق، وهو الرقبة والرقبة المؤمنة، وهما مطلق ومقيّد. وقد عرفت أنّ المطلق والمقيّد وإن كانا لو لوحظا بحدّيهما كانا متباينين، ولكن لو لوحظا بذاتيهما وبالمقدار الذي يدخل في العهدة فهما أقلّ وأكثر، حتّى لو

350

فرض الإطلاق أمراً وجوديّاً؛ لما مضى من أنّ الإطلاق ليس له ما بإزاء في محكيّ الصورة، وإنّما شغله عبارة عن أن يجعل الصورة أوسع انطباقاً وحكاية عمّا في الخارج، وبهذا يتّضح الحال في نسبة العتق إلى الرقبة وإلى الرقبة المؤمنة، فهما مع ملاحظة تلك الحدود متباينتان، ومع إلغاء الحدود تكونان أقلّ وأكثر.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر في المقام تفصيلاً في فرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ شرائط متعلّق المتعلّق، لكنّه يظهر ببيان نكتة التفصيل أنـّه لو تمّ لجرى في شرائط المتعلّق أيضاً، وقبل ذكر هذا التفصيل نذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّ تلوّن الشيء بلون الإطلاق تارة، وبلون التقييد اُخرى إنّما هو بلحاظ عالم الجعل، وأمـّا بلحاظ عالم التطبيق فلا يتّصف الشيء بالإطلاق والتقييد، وإنّما يتّصف بالفقدان والوجدان، فالرقبة مثلاً في عالم جعل وجوب العتق إمـّا مطلقة أو مقيّدة بالإيمان، وأمـّا في عالم التطبيق فهي إمّا واجدة للإيمان أو فاقدة له، ولا يتصوّر فيها الإطلاق والتقييد.

والثانية: أنّ هنا اختلافاً جوهريّاً بين الانحلال الذي نحن اخترناه في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء، والانحلال الذي اختاره المحقّق العراقي (رحمه الله)في ذلك؛ فإنّنا اخترنا الانحلال بلحاظ نفس التكليف، وبحسب عالم العهدة، حيث قلنا: إنّه لو لوحظ ذات التكليف ملغيّاً عنه حدوده؛ لأنّها لا تدخل في العهدة، تردّد لا محالة بين الأقلّ والأكثر، ويكون الزائد مشكوكاً بالشكّ البدوي، لكنّ المحقّق العراقي لا يقول بالانحلال بهذا المعنى، وإنّما يقول بالانحلال بمعنىً آخر، وهو (قدس سره)لم يصرّح في مقام تقريب الانحلال بذلك، ولكنّنا نقتنص هذا المبنى له من كلامه فيما اختاره فيما نحن فيه من التفصيل، فهو (رحمه الله)لا يقول بالانحلال بلحاظ نفس التكليف باعتبار عالم العهدة، فكأنّه (قدس سره)يأخذ الحدود بعين الاعتبار مثلاً، فيصبح الأمر دائراً بين المتباينين، وإنّما يقول بالانحلال بلحاظ عالم الامتثال والتطبيق؛ لأنّه لابدّ له بحسب عالم الامتثال والتطبيق من الإتيان بالأجزاء التسعة، ويشكّ في لزوم ضمّ جزء آخر إليها وعدمه، فالأمر بلحاظ عالم الامتثال والتطبيق دائر بين الأقلّ و الأكثر، ويكون الزائد مشكوكاً بالشكّ البدوي ومنفيّاً بالبراءة.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين ظهرت لك نكتة التفصيل فيما نحن فيه، حيث فصّل المحقّق العراقي بين ما إذا كان القيد المشكوك بنحو يكون كلّ فرد من أفراد الطبيعي قابلاً للاتّصاف به كالإيمان ونحوه بالنسبة للرقبة، وبين ما لا يكون كذلك

351

كالهاشميّة ونحوها، بالمصير إلى البراءة في الأوّل دون الثاني، وتلك النكتة: هي أنـّه في القسم الأوّل توجد بلحاظ التطبيق رقبة يطبّق عليها الحكم، ويشكّ في لزوم إضافة وصف الإيمان إليها وعدمه، فتجري البراءة. وأمـّا في القسم الثاني فبناءً على اشتراط الهاشميّة لابدّ في مقام التطبيق من تبديل الفرد غير الهاشمي إلى فرد آخر هاشمي، لا إضافة الهاشميّة إلى الفرد الأوّل(1).

وبهذا يظهر أنـّه كان ينبغي له (رحمه الله) أن يجعل مصبّ التفصيل عنوان قدرة المكلّف على إضافة الشرط إلى الفرد الفاقد وعدمها، فيلحق مثل الإيمان عند عدم قدرة المكلّف على هداية الرقبة إلى الإيمان بمثل الهاشميّة، كما أنّ هذا التفصيل يأتي حتّى بلحاظ قيود المتعلّق.

هذا. وقد ظهر بالبيان الذي بيّناه بطلان هذا التفصيل في المقام؛ لأنّك عرفت تماميّة الانحلال في نفس التكليف، وبلحاظ ما في العهدة، ولا مساس لما ذكره من التفصيل بهذا المعنى من الانحلال، فعلى أيّ حال من الأحوال يكون ما وقع تحت التكليف من نسبة العتق إلى الرقبة أو إلى الرقبة المقيّدة مردّداً ـ لدى قطع النظر عن الحدود ـ بين الأقلّ والأكثر فتجري البراءة.

على أنّنا لو تنزّلنا عن الانحلال الذي اخترناه، والتجأنا إلى الانحلال بلحاظ عالم التطبيق والامتثال الذي اقتنصناه من كلام المحقّق العراقي (رحمه الله)، فهو لا يتمّ إلّا بإرجاعه إلى بعض ما سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ من وجوه الانحلالات الحكميّة، حيث سنلجأ إلى ذلك في مورد لا يتمّ الانحلال الحقيقي الذي اخترناه في باب الأجزاء، وذاك الوجه لا يفترق في حسابه بين مثل الإيمان ومثل الهاشميّة، أو بين قدرة المكلّف على إضافة الشرط إلى الفرد الفاقد وعدمها، إذن فهذا التفصيل ممّا لا أساس له.

 


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 399 - 400.

352

 

 

 

الدوران بين التعيين والتخيير

 

بقي الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وبما أنّ التخيير تارة يكون عقليّاً بأن يأمر بجامع عرفي بين أفراده، فيحكم العقل بالتخيير بينها؛ لتساوي نسبة الجامع إليها، واُخرى يكون شرعيّاً، كما إذا لم يكن جامع عرفي بينها يُوجّه الأمر إليه، فاستعان المولى في مقام تفهيم التخيير بمثل العطف بــ (أو) . فالكلام يقع في مقامين:

 

التعيين والتخيير العقلي

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، وهذا تارة يكون بلحاظ المتعلّق، كما إذا دار الأمر بين وجوب الإكرام بقول مطلق، أو وجوب إكرام مخصوص، وهو الإطعام مثلاً، واُخرى بلحاظ متعلّق المتعلّق: كما إذا دار الأمر بين وجوب إطعام حيوان بالمعنى الشامل للإنسان ووجوب إطعام حيوان خاص، وهو الإنسان مثلاً.

والصحيح في كلا القسمين ـ مادمنا نفترض أنّ الجامع جامع حقيقي، فهو مطلوب ولو ضمن قسم من أقسامه ـ هو الانحلال حقيقة، والرجوع إلى البراءة بلحاظ الشكّ في الزيادة في عالم العهدة، ولا حاجة إلى التنزّل إلى الانحلال الحكمي بلحاظ عالم الامتثال والتطبيق.

وذهب المحقّق العراقي (رحمه الله)(1) إلى عدم الانحلال؛ بناءاً على مسلكه الذي مضى منّا ذكره في فرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الشرائط، حيث قلنا: إنّه (قدس سره) كأنّه يرى التباين بلحاظ نفس الوجوب، باعتبار إدخال الحدود في الحساب،


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 396 - 399، والمقالات: ج 2، ص 100 ـ 101.

353

فيقول بالانحلال بلحاظ عالم التطبيق بتقريب أنـّه إذا دار الأمر بين وجوب الإكرام من دون شرط زائد ووجوبه متقيّداً بتعقيبه بالدعاء مثلاً، فنحن نشير إلى شخص هذا الإكرام، ونقول: إمّا أنـّه يجوز الاكتفاء بهذا، أو يلزمنا ضمّ شيء آخر إليه، وهو تعقيبه بالدعاء، فتجري البراءة بلحاظ لزوم ضمّ شيء آخر إليه. وعليه، ففيما نحن فيه لا مجال للبراءة؛ إذ لو شككنا في أنّ الواجب هو إطعام حيوان أو إطعام إنسان لا يمكن الإشارة إلى إطعام حيوان بالخصوص بأن يقال: إمّا يجوز الاكتفاء بهذا، أو يلزمنا ضمّ شيء آخر إليه؛ حتّى نجري البراءة عن ذلك الشيء، بل إمّا يجوز الاكتفاء بهذا، أو يلزمنا تبديله بفرد آخر مباين له.

ولكنّك عرفت فيما مضى من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء أو الشرائط ثبوت الانحلال الحقيقي في عالم العهدة، وفي مورد يتمّ ذلك لا نقع في المشكلة التي وقع فيها المحقّق العراقي (رحمه الله).

وفيما نحن فيه يتمّ أيضاً ما ذكرناه من الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم العهدة على تمام المباني في باب علاقة النوع بالجنس، ومن دون فرق فيما بين تلك المباني في ذلك، عدا أنـّه يقع شيء من الاختلاف في كيفيّة بيان تماميّة ما ذكرناه من الانحلال الحقيقي باختلاف تلك المباني، ونقتصر هنا على ذكر المبنى المشهور في الفلسفة التقليديّة، وتوضيح تماميّة الانحلال الحقيقي مبنيّاً عليه.

وتوضيح ذلك: أنـّه يوجد إشكال في باب النوع المحدّد بالجنس والفصل كقولهم: (الإنسان حيوان ناطق) حيث يقال: إنّ الحدّ عين المحدود، ويقال ـ أيضاً ـ: إنّ مفهوم النوع بسيط، فعندئذ يظهر الإشكال، وهو: أنـّه هل يكون كلّ من الحيوان والناطق بإزاء جزء من الإنسان أو يكون كلّ منهما بإزاء تمام الإنسان؟ فعلى الأوّل يلزم تركّب مفهوم الإنسان، وعلى الثاني تلزم وحدة مفهوم الحيوان ومفهوم الناطق؛ إذ المفروض وحدة مفهوم الحيوان مع الإنسان، ووحدة الإنسان مع مفهوم الناطق.

وأجابوا عن هذا الإشكال: بأنّ هذا التعدّد الماهوي الموجود في الحيوان الناطق موجود أيضاً بنحو الكمون والإجمال في الإنسان ـ وهذا التعدّد الماهوي لا ينافي وحدة الوجود؛ إذ ليست كلّ من الماهيتين متحصّلتين؛ حتّى يلزم من تعدّدهما تعدّد الوجود، بل الجنس ماهيّة بالقوّة تتحصّل وتتحصّص بواسطة الفصل، فلا مانع من أن تتحصّل ماهيّة واحدة ووجود واحد ـ واختلاف مفهوم النوع عن مفهوم حدّه بالوحدة والتعدّد إنّما نشأ من اختلاف اللحاظ دون الملحوظ، فتارة يلحظ بلحاظ

354

تفصيلي واُخرى يلحظ بلحاظ إجمالي، وذلك يشبه اختلاف الرؤية بالإجمال والتفصيل، فقد يرى الإنسان الحديقة برؤية الوحدة والإجمال، وقد يراها برؤية التفصيل وتعدّد الأشياء المتكثّرة من الأوراد والأشجار والأغصان وغيرها.

والخلاصة: أنّ الاختلاف هنا اختلاف لحاظي، لا اختلاف في الملحوظ، ولذا قالوا: إنّ الجنس والفصل أجزاء للحدود، دون المحدود. هذا ما ذهبوا إليه في المقام.

وعليه نقول: إنّ الجنس والنوع إذا لاحظناهما بما لهما من حدّ الكمون والتفصيل كانا متباينين، لا أقلّ وأكثر، فالإنسان بما أنـّه يكمن فيه الحيوان يباين الحيوان الملحوظ بالتفصيل لا بالكمون، لكنّ هذا الحدّ الإجمالي والتفصيلي ليس هو الذي يدخل في العهدة، وإنّما الذي يدخل في العهدة هو ذات المحدود والملحوظ، والنسبة بينهما بما هما ذات المحدود والملحوظ هي نسبة الأقلّ والأكثر، فتأتّي تلك الماهيّة التي هي بالقوّة ـ أعني الحيوان ـ في العهدة قطعيّ، وتأتّي مقدار زائد عليه فيها ـ وهو الفصل ـ مشكوك.

 

التعيين والتخيير الشرعي

المقام الثاني: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي، وبما أنّ الحال يختلف فيه باختلاف المباني في باب التخيير الشرعي، فلذا نتكلّم فيه على كلّ واحد من المباني المهمّة في باب التخيير الشرعي وهي ما يلي:

المبنى الأوّل في باب التخيير الشرعي هو: القول بأنّه عبارة عن عدّة وجوبات مشروطة، فكلّ عِدْل منها واجبٌ بشرط ترك الباقي، وعليه فمعنى الشكّ في كون العتق مثلاً واجباً تعيينياً أو تخييرياً: هو أنـّه هل يكون وجوبه مطلقاً أو مشروطاً بفرض عدم الصوم والإطعام؟، وهذا يعني أنّنا نعلم تفصيلاً بوجوب العتق في حالة عدم الصوم والإطعام، ونشكّ في وجوبه في حالة الصوم أوالإطعام، فنجري البراءة عن وجوبه في تلك الحالة، وبكلمة اُخرى: أنّنا نجري البراءة عن إطلاق الوجوب.

ولا يقاس إطلاق الوجوب بإطلاق الواجب، فإنّ إطلاق الواجب لم يكن تكليفاً زائداً بخلاف إطلاق الوجوب، والوجوب المشروط مع الوجوب المطلق وإن كانا بحدّهما المشروطي والإطلاقي متباينين، لكنّ الذي يدخل في العهدة هو المحدود لا الحدّ، وذات الوجوبين تكون النسبة بينهما نسبة الأقلّ والأكثر، نظير ما

355

مرّ من أنّ الواجب المطلق والواجب المقيّد متباينان بحدّهما الإطلاقي والتقييدي، لكنّ العبرة بذات المحدود، وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر، فالعلم الإجمالي على هذا المبنى منحلّ حقيقة.

إلّا أنـّه ناقش في هذا الانحلال المحقّق النائيني(رحمه الله)(1)؛ لأنّه فرض مشروطيّة هذه الوجوبات في مرحلة البقاء دون الحدوث، وأنّ كلّ عِدْل من الوجوبات التخييرية واجب ما لم يأتِ بالآخر، فذكر في المقام: أنـّه لو صام مثلاً فقد شكّ في سقوط وجوب العتق عنه، لا في أصل حدوثه، والبراءة إنّما تجري في الشكّ في أصل حدوث التكليف، وأمـّا مرحلة السقوط فهي مرحلة الاشتغال لا البراءة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّنا لا نساعد على أن يفرض جزميّاً كون الاشتراط في مرحلة البقاء، بل لا أقلّ من احتمال كونه في مرحلة الحدوث، فمن صام مثلاً كشف ذلك عن عدم وجوب العتق عليه من أوّل الأمر، ولو بنحو الشرط المتأخّر.

وثانياً: هبّ أنّنا سلّمنا أنّ الاشتراط يكون في مرحلة البقاء، فيقع الشكّ في سقوط التكليف وبقائه، لا في حدوثه وعدم حدوثه، لكنّنا لا نسلّم اختصاص دليل البراءة بالشكّ في الحدوث دون الشكّ في البقاء، بل مهما كان الشكّ في أصل التكليف سواء كان بلحاظ حدوثه أو بلحاظ انبساطه بقاءً تجري البراءة، بغضّ النظر عن فرض تقدّم استصحاب بقاء التكليف على البراءة؛ وذلك لإطلاق دليلها وعدم مبرّر لتخصيصها بالقسم الأوّل، وأنـّما نقول في الشكّ في الامتثال بعدم جريان البراءة؛ لأنّ الشكّ في الحقيقة لا يكون في فعليّة التكليف، بل في فاعليّته كما مرّ بيانه.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ العلم الإجمالي بالأمر التعييني أو الأمر التخييري بناءً على رجوعه إلى أوامر مشروطة منحلّ انحلالاً حقيقيّاً.

إلّا أنّ هذا الانحلال إنّما هو بلحاظ العلم الإجمالي الواضح في المقام. ولكنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) أبدى في المقام علماً إجماليّاً آخر(2)، وبلحاظه لا يتمّ هذا الانحلال الحقيقي، وهذا العلم الإجمالي نؤجّل بيانه إلى ذيل المبنى الرابع من


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 156، وأجود التقريرات: ج 2، ص 215.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 289.

356

المباني في الوجوب التخييري الذي هو مختار المحقّق العراقي (رحمه الله)، فإنّ هذا العلم الإجمالي مشترك الورود بين المبنيين، ونشير هنا إلى أنـّه إذا امتنع الانحلال الحقيقي في المقام رجعنا إلى الانحلال الحكمي، بناءً على قوانين الاقتضاء، وكون تساقط الاُصول بملاك التعارض.

المبنى الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في بعض أقسام الواجب التخييري وهو: أن يفرض ـ أيضاً ـ إرجاعه إلى وجوبات مشروطة بعدد الأطراف، كما في المبنى الأوّل بفرق أنـّه في المبنى الأوّل لم يكن إطلاق لا للخطاب ولا للملاك، ولكن في هذا المبنى يفرض ثبوت الملاك في كلٍّ من العِدْلين مطلقاً، ولكن المولى لم يأمر بالإتيان بكلا العِدْلين جمعاً؛ لتزاحم في باب الأغراض، إمـّا من باب أنّ الملاكين متنافيان في مقام التحصيل خارجاً، أو من باب أنّ إيجابهما جمعاً مناف لمصلحة التسهيل(1).

وعلى هذا المبنى لابدّ من الاحتياط؛ للعلم بالملاك الملزِم؛ وتمحّض الشكّ في القدرة على التحصيل، أو الترخيص في المخالفة لمصلحة التسهيل، ومثل هذا الشكّ ليس مؤمِناً(2).

المبنى الثالث: ما اختاره السيّد الاُستاذ (3) ويتراءى من كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله)(4) ـ على تشويش واضطراب في كلماته ـ وهو إرجاع التخيير الشرعي


(1) راجع الكفاية: ج2، ص 226 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(2) لا يبعد القول بأنّ احتمال عدم مطلوبيّة تحصيل الملاك لتزاحمه بمصلحة التسهيل كاف في إجراء البراءة الشرعيّة، بل لعلّه كاف في إجراء البراءة العقليّة أيضاً، وإلّا للزم عدم إجرائها حينما تكون مطلوبيّة شيء مقطوعاً بها مع التردّد بين الوجوب والاستحباب، فإنّ مجرّد كون الشيء ذا ملاك مطلوب محرّك للمولى لإبرازه كاف في إيجابه لولا التسهيل، مهما فرض الملاك خفيفاً؛ إذ لا داعي لتفويته لو لم يكن مزاحماً بمصلحة إحساس المكلّف بالحرّية والتسهيل.

(3) راجع المحاضرات: ج 4، ص 40. وراجع ـ أيضاً ـ مصباح الاُصول: ج 2، ص 454، وأيضاً الدراسات: ج 3، ص 284.

(4) لا يخفى أنّ صريح كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) ينفيه، راجع أجود التقريرات: ج 1،

357

إلى التخيير العقلي، بأن يقال: إنّ الواجب عنوان انتزاعي، وهو عنوان أحدهما. وأجرى السيّد الاُستاذ هنا نفس الانحلال الثابت في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، أو بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء، أو الشرائط، وهو يقول: إنّ ذلك انحلال حكمي، لكنّنا قلنا: إنّه انحلال حقيقي.

فهو يقول هنا بالانحلال بدعوى أنّ وجوب أحدهما معلوم تفصيلاً على كلّ تقدير، ووجوب تخصيص أحدهما بخصوصيّة العتق مثلاً مشكوك تجري عنه البراءة، نظير ما يقال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي: من أنّ وجوب إطعام الحيوان مثلاً معلوم، ووجوب خصوصيّة إطعام الإنسان غير معلوم، فتجري عنه البراءة(1).

ولكنّ هذا منه خلط بين عنوان أحدهما وواقع أحدهما.

فإن فرض أنّ ما هو المعلوم تفصيلاً وجوبه على كلّ تقدير، والذي أوجب انحلال العلم الإجمالي هو عنوان أحدهما الانتزاعي. قلنا: إنّه إنّما يكون عنوان أحدهما معلوم الوجوب على أحد التقديرين: وهو تقدير الوجوب التخييري، وأمـّا على التقدير الآخر فالواجب هو ذات العتق، لا عنوان أحدهما الانتزاعي.

وإن فرض أنّ ما هو المعلوم تفصيلاً وجوبه على كلّ تقدير هو واقع أحدهما، وهو ذات العتق، فمن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ هذا الواقع ليس هو معلوم الوجوب على كلّ تقدير، بل على أحد التقديرين، وهو كون الوجوب تعيينيّاً، أمـّا على تقدير التخيير فالواجب هو عنوان أحدهما الانتزاعي، فتخيّل وجود شيء واحد معلوم الوجوب على كلّ تقدير به ينحلّ العلم الإجمالي خلط بين واقع أحدهما وعنوان أحدهما؛ لأنّ الأوّل هو المعلوم على أحد التقديرين، والثاني هو المعلوم على


ص 184، وفوائد الاُصول: ج 1، ص 32، ولعلّ مراد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من أنـّه يتراءى ذلك من كلمات المحقّق النائيني على تشويش واضطراب في كلامه هو أنّ ما اختاره المحقّق النائيني من أنّ حقيقة الوجوب التخييري هي تعلّق الأمر بكل واحد من الشيئين أو الأشياء على وجه البدليّة، كما ورد في فوائد الاُصول، ج 1، ص 235، أو أنّ حقيقته هي تعلّق التكليف بواقع أحدهما، كما ورد في أجود التقريرات، ج 1، ص 184، لا يتصوّر له معنىً معقول إن لم يرجع ـ ولو ارتكازاً ـ إلى الأمر بالجامع الانتزاعي.

(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 454، والدراسات: ج 3، ص 284.

358

التقدير الآخر، ولا يقاس ذلك بمسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، فإنّ الجامع هناك جامع حقيقي، فيكون تحت الوجوب حتّى على تقدير تعلّق الوجوب بإحدى الحصّتين؛ لانطواء تلك الحصّة في ذاتها على ذلك الجامع، وأمـّا العنوان الانتزاعي فلا يسري إليه الوجوب من الوجوب المتعلّق بمنشأ الانتزاع.

نعم، لو اُنكرت الجوامع الحقيقيّة رأساً، وقيل: إنّ مثل كلمة الحيوان وغيرها من الكلّيّات ليست إلّا مجرّد رمز، لا جامعاً حقيقيّاً بين عدّة أشياء، أصبح حال دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي هو حال دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي، فهناك أيضاً يبطل هذا الانحلال.

وعلى أيّة حال، ففرض رجوع الوجوب التخييري إلى وجوب الجامع الانتزاعي لا يساعد على الانحلال الحقيقي.

نعم، هنا شيء: وهو أنّ الأمرين المتباينين اللذين نعلم بدخول أحدهما في العهدة، وهما واقع أحدهما ـ أعني العتق ـ والعنوان الانتزاعي، ـ أعني عنوان أحدهما ـ يكون بينهما في حصول الامتثال عموم مطلق، فالإتيان بواقع أحدهما ـ أعني العتق ـ يساوق الإتيان بعنوان أحدهما، دون العكس.

وهنا ينفتح علينا باب العلوم الإجماليّة التي تكون من هذا القبيل، أي يكون امتثال أحدهما غير منفكّ عن امتثال الآخر، بخلاف العكس، من دون وجود قدر متيقّن في الوجوب موجب لانحلال العلم الإجمالي حقيقة، ويمكن أن تذكر لذلك عدّة أمثلة من قبيل:

1 ـ ما لو دار الأمر بين وجوب شيء ووجوب عنوان ينتزع منه ومن غيره، كالقيام والتعظيم حينما يعلم إجمالاً: إمّا بوجوب ذات القيام الذي ينتزع منه التعظيم، أو وجوب التعظيم المنتزع من القيام ومن غير القيام أيضاً.

2 ـ ما لو دار الأمر بين أحد عنوانين انتزاعيين يكون أحدهما أخصّ من الآخر في مقام الانتزاع، كما لو علم إجمالاً بوجوب إظهار القراءة بالجهر المنتزع، ووجوب إسماعها، بمعنى أنـّه لو كان عنده أحد لسمعه، فإنّ الأوّل لا ينفكّ عن الثاني لكنّ الثاني ينفكّ عن الأوّل؛ إذ يمكن الإسماع مع الإخفات.

3 ـ ما لو دار الأمر بين وجوب المعلول ووجوب أحد أجزاء علّته، فالأوّل لا ينفكّ عن الثاني دون العكس، كما لو علم إجمالاً بوجوب وضع السلّم أو الكون على السطح.

359

4 ـ ما لو دار الأمر بين وجوب شيء يلازم شيئاً آخر دون العكس ووجوب ذاك اللازم، كما لو علم إجمالاً بوجوب إكرام الخادم أو المخدوم، وفرضنا أنـّه يحصل بإكرام الخادم إكرام المخدوم ـ أيضاً ـ دون العكس.

وكل علم إجمالي يكون من هذا القبيل لا يكون منحلاًّ انحلالاً حقيقيّاً؛ لأنّه بلحاظ ما في العهدة يكون الأمر دائراً بين المتباينين. نعم، بلحاظ ما لابدّ تكويناً من الإتيان به لو أراد حصول الامتثال يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ أحدهما لا ينفكّ امتثاله عن الآخر بخلاف العكس، لكنّ هذا انحلال بلحاظ اللابدّيّة التكوينيّة، لا بلحاظ اللابدّيّة الشرعيّة وما يدخل في العهدة شرعاً.

وهنا يجب أن ننتقل من الانحلال الحقيقي إلى البحث عن الانحلال الحكمي، لنرى هل يوجد في المقام انحلال حكمي أو لا؟

والتحقيق: أنـّه إن فرضنا أنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع بمرتبة الموافقة القطعيّة تنجيزاً علّيّاً فلا معنى هنا للانحلال الحكمي، ولابدّ من الاحتياط باختيار العتق؛ لأنّ كلاّ من عنوان العتق وعنوان أحدهما يحتمل أن يكون هو الواقع الذي هو منجّز حسب الفرض.

وإن فرض أنّ العلم الإجمالي إنّما ينجّز الجامع، أو ينجّز الواقع بمقدار الجامع، أو أنّ تنجيزه للواقع بمرتبة الموافقة القطعيّة ليس بنحو العلّيّة، وأنّ تنجيزه بهذه المرتبة نتيجة لتعارض الاُصول في الأطراف، ففيما نحن فيه يتّجه الانحلال الحكمي بجريان البراءة عن وجوب العتق، ولا تعارض بالبراءة عن وجوب أحدهما؛ لأنّ البراءة عن وجوب أحدهما غير جارية بقطع النظر عن المعارضة، فإنّ الهدف من إجراء البراءة هو التأمين عن العقاب، ففي أيّ حال يفترض تأمين هذه البراءة عن العقاب؟ هل في حال الإتيان بأحدهما، أو في حال عدم الإتيان بذلك؟! طبعاً ينبغي أن يطلب منها التأمين في الحال الثاني؛ إذ الحال الأوّل هو حال امتثال عنوان أحدهما، ولا معنى للتأمين عن عقابه في حال امتثاله، وإنّما المقصود من إجراء البراءة هو إثبات عدم استحقاق العقاب لو خالف، ومن المعلوم أنّ الحال الثاني ـ وهو حال ترك عنوان أحدهما ـ مساوق لحال المخالفة القطعيّة للواجب، وترك الجامع رأساً، وثبوت العقاب في هذا التقرير قطعيّ، وليس في هذا الحال عقاب ثان تفرض البراءة مؤمّنة عنه.

وإذا كان المختار في باب العلم الإجمالي التفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة

360

الشرعيّة، بأنّ البراءة العقليّة لا تجري بقطع النظر عن المعارضة. وأمـّا البراءة الشرعيّة فهي تجري لولا المعارضة اتّجه هذا التفصيل هنا، فالبراءة العقليّة لا تجري، والبراءة الشرعيّة عن العتق تجري لما عرفت من عدم ابتلائها بالمعارض، وهذا هو مختارنا. نعم، لابدّ من التفتيش عن دليل يشمل في نفسه فرض العلم الإجمالي كالاستصحاب.

هذا. وقد يقال في المقام: إنّ ثبوت العلم الإجمالي من دون انحلال حقيقي بلحاظ ما في العهدة، وإن كان تامّاً في مثل دوران الأمر بين وجوب القيام ووجوب التعظيم المنتزع من القيام وغيره؛ لدوران أمر ما علمنا إجمالاً دخوله في العهدة بين المتباينين، وهما القيام و التعظيم، ولكن في مثل ما نحن فيه ـ وهو دوران الأمر بين عنوان أحدهما وواحد معيّن منهما، وهو العتق مثلاً ـ لا يتمّ ذلك.

والفرق بين الموردين: هو أنـّه فيما نحن فيه لا يتشكّل علم إجمالي بلحاظ ما في العهدة؛ لأنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بوجوب العتق، أو وجوب أحدهما مثلاً المنتزع منه ومن الصوم مثلاً، لكنّ الذي يمكن أن يدخل في العهدة إنّما هو العتق، وأمـّا عنوان أحدهما فلا يمكن أن يدخل في العهدة؛ إذ هو عنوان يخاط في معمل النفس بوهمها وخيالها ليُلبسه على ما في الخارج، وليس له ما بإزاء في الخارج واقعاً، فليس هذا حاله حال العناوين الانتزاعيّة التي تنتزع باعتبار مالها بإزاء في الخارج، فالتعظيم المنتزع من القيام يكون بلحاظ شيء ثابت مع القيام لولاه لما انتزع ذلك من القيام، فتكوّن العلم الإجمالي بلحاظ ما في العهدة بين أمرين متباينين وهما التعظيم والقيام معقول بخلاف الحال فيما نحن فيه.

والجواب: أنّ عنوان أحدهما وإن كان عنواناً تخيطه النفس لكنّه ليس مجرّد أمر وهمي من قبيل أنياب أغوال، بل هو شيء تصنعه النفس في معملها الخاصّ لتُري به درجة من التغيّر الواقع في العالم الخارجي، فحينما نعرف أنـّه دخل أحد الشخصين في الدار فهذا في الحقيقة يكشف عن نوع تغيّر واقع في العالم الخارجي، وهو عدم انضمام عدم هذا الشخص في الدار إلى عدم انضمام ذاك الشخص فيها، إذن يكون له نحو ما بإزاء في الخارج وبلحاظه يدخل في العهدة.

المبنى الرابع: ما اختاره المحقّق العراقي (رحمه الله) من إرجاع الوجوب التخييري إلى عدّة وجوبات بعدد الأعدال كما هو الحال على المبنى الأوّل، مع فرض ضيق في جانب الوجوبات كما هو الحال أيضاً على المبنى الأوّل، إلّا أنّ الفرق بينه وبين

361

المبنى الأوّل هو أنـّه كان يتصوّر الضيق في المبنى الأوّل في نفس الوجوبات، فكانت الوجوبات تفرض بخطاباتها وملاكاتها مشروطة بترك الآخر، وأمـّا على هذا المبنى فالوجوب مطلق وإنّما الضيق يكون في المتعلّق، فيكون الواجب بعض مراتب الوجود، وبما أنـّه في جانب الوجود لا تتصوّر مراتب بل الشيء إمـّا موجود أو معدوم، فصاحب هذا الوجه يُرجع ارتكازاً متعلّق الوجوب إلى سدّ أبواب العدم، فالواجب التعييني هو ما وجب سدّ جميع أبواب عدمه، وأمـّا الواجب التخييري فهو ما وجب سدّ بعض أبواب عدمه، فصلاة الظهر يوم الخميس مثلاً يجب سدّ تمام أبواب عدمها، ولكنّ صلاة الظهر في يوم الجمعة بناءً على التخيير بينها وبين صلاة الجمعة يجب سدّ باب عدمه المقارن لعدم صلاة الجمعة، ولا يجب سدّ باب عدمه المقارن لوجود صلاة الجمعة(1).

وبناءً على هذا المبنى نقول بالانحلال الحقيقي، كما قلنا به على المبنى الأوّل؛ لأنّ روح المبنيين في الحقيقة شيء واحد، ففي المبنى الأوّل قلنا بالانحلال الحقيقي بتقريب: أنّ وجوب العتق في فرض الإتيان بالصوم غير معلوم فينفى بالبراءة ويقتصر على القدر المتيقّن من الوجوب، وهو وجوبه في فرض عدم الإتيان بالصوم، وهنا نقول: إنّ وجوب سدّ باب عدم العتق المقارن لعدم الصوم معلوم، ولكنّ وجوب سدّ باب عدمه المقارن لوجود الصوم غير معلوم فينفى بالبراءة، غاية الأمر أنّ الشكّ هناك كان في وجوب زائد، وهنا يكون في واجب زائد.

إلّا أنّ هذا الانحلال الحقيقي الذي ذكرناه هنا وهناك إنّما هو بقطع النظر عمّا أبداه المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) من علم إجمالي في المقام مشترك الورود بين المبنيين، وتقريبه بلغة المبنى الأوّل هو أن يقال: إنّه إذا دار الأمر بين وجوب العتق تعييناً، أو التخيير بينه وبين الصوم فقد علمنا بأنّه إمّا أنّ العتق واجب حتّى على تقدير الصوم، أو أنـّه لا يجوز ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق، فإنّ العتق لو كان واجباً تعيينيّاً فهو واجب حتّى على تقدير الصوم، لكن لا يحرم ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق، وإنّما


(1) راجع نهاية الأفكار: ج 1، ص 391 - 392 بحسب طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، وراجع ـ أيضاً ـ نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص288.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 289.