1

 

 

 

 

 

 

مباحث الاُصول

 

 

 

 

تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى

الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)

 

 

الجزء الرابع

من

القسم الثاني

 

تأليف

سماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه

 

 

2

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قم المقدّسة ـ انتشارات دار الرسالة ـ الهاتف: 09123534404 ـ 09198531124

هويّة الكتاب

اسم الكتاب: … مباحث الاُصول / الجزء الرابع من القسم الثاني

تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)

المؤلف: … سماحة آية الله العظمى السيد كاظم الحسينيّ الحائريّ (دام ظلّه)

الناشر: … دار الرسالة

الطبعة وتأريخ الطبع: … الرابعة / 1436 هـ. ق

الكمّيّة: … 1000 نسخة

شابك الدورة: … 9 ـ 5 - 95278 ـ 600 ـ 978

الشابك: … 6 ـ 1 - 95278 ـ 600 ـ 978

 

إصدار مكتب سماحة السيّد الحائريّ (دام ظلّه)

حقوق الطبع محفوظة للناشر

 

 

 

 

 

3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

11

الاُصول العمليّة

3

 

 

أصالة الاحتياط

 

 

1ـ دوران الأمر بين المتباينين.

2ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

 

 

 

13

أصالة الاحتياط

1

 

 

 

دوران الأمر بين المتباينين

 

 

1 ـ منجّزيّة العلم الإجمالي.

2 ـ تنبيهات العلم الإجمالي.

 

 

 

15

 

 

 

 

 

 

منجّزيّة العلم الإجماليّ

 

لا يخفى أنـّنا على مسلكنا من إنكار مبدأ قبح العقاب بلا بيان نكون فارغين عن وجود المقتضي للتنجيز لكلّ من الطرفين، وهو نفس الاحتمال بلا حاجة إلى البحث عن أنّ العلم الإجماليّ هل يقتضي التنجيز بقدر الجامع، أو بقدر الواقع، وإنـّما نحتاج إلى البحث عن أنّ العلم الإجماليّ هل يمنع عن جريان الاُصول في الأطراف تماماً، أو في بعضها أيضاً، أو لا؟ في حين أنـّه على مبنى القوم القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان يقع البحث في أنّ العلم الإجمالي هل يقتضي التنجيز، أو لا؟ واقتضاؤه للتنجيز هل يكون بمقدار الجامع، أو بمقدار الواقع؟ واقتضاؤه له هل هو بنحو العلّيّة التامّة، أو لا؟

إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ رغم إيمانه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ذهب(1) في المقام إلى أنّ احتمال التكليف يقتضي التنجيز، ولا حاجة إلى البحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز، فذكر: أنّ احتمال التكليف بما أنـّه يقتضي في نفسه احتمال العقاب في المخالفة يقتضي ـ لا محالة ـ التنجيز في المقام؛ لأنّ احتمال العقاب يوجب التنجّز، ويحكم العقل على أساس هذا الاحتمال بلزوم الامتثال ما لم يوجد رافع لهذا الاحتمال، ومؤمّن من العقاب كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وحتّى في فرض القطع بالتكليف إنـّما يكون المنجّز هو احتمال العقاب لا القطع بالعقاب؛ إذ لا قطع بالعقاب، فإنـّه يحتمل عدم العقاب بمثل التوبة أوالعفو أوالشفاعة.

نعم، احتمال العقاب عند القطع بالتكليف أقوى منه عند الشكّ فيه؛ لأنـّه عند الشكّ يوجد منشأان لاحتمال عدم العقاب: أحدهما: احتمال عدم العقاب من


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 218ـ 219، والمصباح: ج 2، ص 344ـ 345.

16

باب السالبة بانتفاء الموضوع، بأن لا يكون في المقام تكليف أصلاً(1)، والآخر: احتمال عدم العقاب، من باب السالبة بانتفاء المحمول، بمثل العفو والشفاعة. وأمـّا مع القطع بالتكليف فلا يوجد إلاّ احتمال عدم العقاب من باب السالبة بانتفاء المحمول، وإذا كان الموجب للتنجّز هو احتمال العقاب الثابت بمجرّد احتمال التكليف، فلا حاجة في مورد العلم الإجماليّ إلى البحث عن أنّ العلم الإجماليّ ما هو تأثيره في مقام التنجيز؟ فإنّ المقتضي للتنجيز موجود قطعاً، وإنـّما يجب البحث عن وجود المانع عن التنجيز في المقام وهو القواعد المؤمّنة.

إلاّ أنّ هذا الكلام لا يناسب السيّد الاُستاذ، ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ احتمال العقاب ليس هو المنشأ للتنجّز، وإنـّما هو متأخّر رتبة عن التنجّز، ولولا تنجّز التكليف علينا لما كان وجه للعقاب؛ إذ هو عقاب بلا حقّ، وإنـّما نستحقّ العقاب بمخالفة التكليف المنجّز، وما ذكره خلط بين التنجّز الأخلاقيّ والتنجّز الجبلّيّ، فإنـّنا إنـّما نتكلّم في التنجّز الأخلاقيّ، وهو التنجّز الذي يحكم به العقل العمليّ، وهو منشأ للعقاب، وليس نتيجة لاحتمال العقاب.

وأمـّا التنجّز الجبلّيّ فهو ليس ضرورة خلقيّة، بل ضرورة جبلّيّة ناشئة من احتمال العقاب ولو من قبل ظالم جائر، فلو أوعدنا الظالم بالعقاب على ترك عمل فنحن نضطرّ إلى الاتيان به بجبلّتنا، وحبّنا لأنفسنا وفرارنا عن الأذى بطبيعتنا الذاتيّة، وليس الكلام في هذا التنجّز.

ثمّ النسبة بين احتمال العقاب والتنجّز عموم من وجه، فيمكن فرض التنجّز من دون احتمال العقاب، كما لو قطع العبد بأنـّه لو عصى لتعقّبت معصيته بالتوبة أو الشفاعة أو العفو؛ فإنـّه مع هذا لا تجوز له عقلاً المعصية، ويكون التكليف منجّزاً عليه. ويمكن فرض احتمال العقاب من دون التنجّز، كما لو شكّ العبد في صحّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وفرضنا أنـّها في الواقع صحيحة، فخالف تكليفاً مشكوكاً لم يتمّ عليه البيان، فهو يحتمل العقاب؛ لأنـّه يحتمل بطلان القاعدة، لكنّ التنجّز في الواقع غير ثابت؛ لفرض صحّة القاعدة بحسب الواقع.

وثانياً: أنّ ما ذكره ـ من احتمال عدم العقاب عند الشكّ من باب احتمال


(1) هذا هو مصبّ ما يأتي من الإشكال الثاني من إشكالات اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، إلاّ أنّ هذا إنـّما هو موجود في الدراسات، وليس موجوداً في المصباح.

17

السالبة بانتفاء الموضوع، وهو التكليف ـ غير صحيح على ما هو المسلّم بيننا وبينه، من أنّ التكليف بوجوده الواقعيّ ليس موضوعاً للعقاب، ولذا لا يفرّق بين المتجرّي والعاصي في مناط العقاب.

وثالثاً: لو سلّمنا كون احتمال العقاب بنفسه مقتضياً للتنجّز، قلنا: كيف فرض في المقام الفراغ عن مقتضي التنجيز، وأنّ البحث يجب أن يكون عن المانع؟ وأيّ شيء جعله أساساً في المقام؟ هل هو كبرى قاعدة منجّزيّة احتمال العقاب، أو صغرى ثبوت البيان؟

فإن جعل الأساس كبرى قاعدة منجزيّة احتمال العقاب، فاستغنى عن البحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ، فكيف صحّ له جعل هذه القاعدة أساساً في المقام، مع أنّ المفروض تقدّم قاعدة ثانويّة عليها، وهي قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، ففي العلم الإجماليّ لا بدّ أن نبدأ البحث من هنا، لا من قاعدة محكومة لهذه القاعدة، فيجب أن يتكلّم أوّلاً في مقدار بيانيّة العلم الإجماليّ، وكيفيّة الخروج به عن هذه القاعدة الثانويّة واقتضائه للتنجيز.

وإن جعل الأساس صغرى ثبوت البيان التي تفني موضوع ما أشرنا إليه من القاعدة الحاكمة، فعندها تكون قاعدة منجّزيّة احتمال العقاب غير محكومة، فالكلام يكون في نفس هذه الصغرى، ومقدار بيانيّة العلم الإجماليّ، ولا معنىً لغضّ النظر عنها، وفرضها أساساً مفروغاً عنه بحدوده.

وعلى أيّة حال فنحن نعقد البحث هنا في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز وإن كنّا لا نحتاج على مسلكنا إلى البحث عن ذلك؛ لكفاية اقتضاء نفس الاحتمال للتنجيز.

الثاني: في مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول في تمام الأطراف.

الثالث: في مانعيّته ثبوتاً أو إثباتاً عن جريانها في بعض الأطراف.

والحاجة إلى البحث عن هذين المقامين الأخيرين ثابتة حتّى على مبنانا من مبدأ منجّزيّة الاحتمال.

 

18

 

 

 

اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز

 

أمـّا المقام الأوّل، وهو البحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز وعدمه، فللتنجيز مرتبتان:

المرتبة الاُولى: التنجيز بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة، ولا ينبغي الإشكال في اقتضاء العلم الإجماليّ لهذا المستوى من التنجيز، فإنّ البيان بمقدار الجامع ثابت على كلّ حال، ولم يستشكل أحد من المحقّقين المتأخّرين في اقتضائه للتنجيز بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة، ونسب القول بعدم الاقتضاء إلى من لم نقف على اسمه من المتقدّمين، ولعلّه كان في عصر لم يميّز فيه بعدُ بين الأصل العقليّ والشرعيّ، فكان مقصوده ـ في الحقيقة ـ دعوى جريان البراءة الشرعيّة في الأطراف لا البراءة العقليّة. وعلى أيّة حال، فإنكار الاقتضاء في المقام واضح البطلان.

والمرتبة الثانية: التنجيز بمقدار وجوب الموافقة القطعيّة، وهذا هو الذي يكون في الحقيقة مثاراً للبحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز وعدمه.

وقد ذهب المحقّق النائينيّ (قدس سره) ـ على ما في تقرير السيّد الاُستاذ(1) ـ إلى عدم اقتضائه للتنجيز بهذا المقدار، ولكنّ المشهور في مدارس المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) هو الاقتضاء، وهو المنقول عن المحقّق النائينيّ في تقرير الشيخ الكاظميّ(2).

والظاهر أنّ الاختلاف بين التقريرين باعتبار تعدّد الدورتين، لأنّ دورة البحث التي كتبها الشيخ الكاظميّ سبقت الدورة التي كتبها السيّد الاُستاذ، فكأنّ الشيء الذي استقرّ رأي المحقّق النائيني (رحمه الله) عليه أخيراً هو القول بعدم الاقتضاء.

وربط بعضٌ اقتضاءَ العلم الإجماليّ للتنجيز بمقدار الموافقة القطعيّة وعدمه بحقيقة العلم الإجماليّ وما هو المنكشف به، فنحن نتكلّم أوّلا في حقيقة العلم الإجماليّ، وبيان الوجوه في ذلك، ثمّ نتكلّم على كلّ وجه من تلك الوجوه في مقدار اقتضاء العلم الإجماليّ، فنقول:


(1) ج 2، ص 245 .

(2) راجع فوائد الاُصول: ج4، ص9 .

19

 

حقيقة العلم الإجمالي

إنّ لهم في حقيقة العلم الإجماليّ مباني ثلاثة:

المبنى الأوّل: ما يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ (قدس سره) في تعليقته على كفايته(1) : من كون العلم الإجماليّ علماً بالفرد المردّد، حيث إنـّه ذكر (رحمه الله) في بحث الواجب التخييريّ في الكفاية: أنّ أحد الأقوال فيه كون الواجب هو الواحد المردّد، وذكر في تعليقته على الكفاية: أنّ هذا لا يرد عليه الإشكال من ناحية أنـّه كيف يتعلّق وصف بالواحد المردّد؟ فإنـّه قد يتعلّق الوصف الحقيقيّ ذو الإضافة كالعلم به، فضلاً عن الوصف الاعتباريّ كالوجوب.

واُورد عليه من قِبَل من تأخّر عنه بأنـّه لا يعقل تعلّق العلم بالفرد المردّد، وأنـّه إن أراد الواحد المردّد المفهوميّ فهو ليس مردّداً، وإن أراد واقع الفرد المردّد ـ والظاهر أنـّه المراد له ـ، فهذا غير معقول؛ إذ كلّ ماهيّة لها تعيّن ماهويّ لا محالة، وما ليس له تعيّن ماهوي ليس ماهيّة حتّى يتعلّق العلم به، بل يلزم أيضاً التردّد في الوجود، فإنّ المعلوم بالذات موجود بنفس وجود العلم، فيلزم أن يكون العلم موجوداً بوجود متردّد، والتردّد في الوجود غير معقول.

والخلاصة: أنّ التقرّر الماهوي مساوق للتعيّن الماهويّ، والوجود الخارجيّ مساوق للتعيّن الخارجيّ، ولا يعقل التردّد في الماهيّة، ولا في الوجود، وعلى أساس أمثال هذه الكلمات أقاموا صرح المبنى الثاني.

والمبنى الثاني: هو ما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ(2)(قدس سره)، ويظهر من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) أيضاً، من أنّ العلم الإجماليّ يتعلّق بالجامع(3) بخلاف العلم التفصيلي، فالفرق بينهما يكون من ناحية المعلوم بهذا الوجه، ولا فرق بينهما من ناحية العلم.


(1) راجع الكفاية: ج 1، ص 226 بحسب طبعة المشكيني، التعليق على السطر العاشر من الصفحة.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 242 و302 و30 - 31، و ج 1، ص 255 .

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 4، وأجود التقريرات: ج 2، ص49 - 50 .

20

وبرهن المحقّق الإصفهانيّ على أنّ العلم الإجماليّ علم بالجامع مع شكوك في الأفراد بأنّ العلم إمّا أنـّه لا يتعلّق بشيء، أو يتعلّق بالجامع، أو يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصيّ مردّداً، أو بالفرد المعيّن.

أمـّا الأوّل وهو عدم تعلّق العلم بشيء، فباطل، فإنّ العلم من الأوصاف ذات الإضافة.

وأمـّا الثالث، فقد فرغنا عن بطلانه.

وأمـّا الرابع، فمن الواضح أنـّنا لا نعلم بأحد الفردين معيّناً، فلا نقطع بوجود زيد مثلاً في المسجد، ولا بوجود عمرو فيه.

فتعيّن أنّ العلم متعلّق بالجامع بينهما، وقال(1) (رحمه الله): إنـّنا نعلم بشيئين: نعلم بوجود إنسان في المسجد، وهو الجامع، ونعلم ـ أيضاً ـ أنّ ذاك الإنسان ليس غير زيد وعمرو، وهو (قدس سره) وإن عبّر بوجود علمين في المقام، لكن ـ في الحقيقة ـ يوجد علم واحد متعلّق بإنسان ليس غير زيد وعمرو(2)، فلا يقال: قد نحتمل أو نعلم بوجود شخص آخر أيضاً.

ويمكن إقامة صورة برهان أيضاً في قبال هذا البرهان، وهي أنـّنا وإن كنّا نعلم بوجود الجامع في المسجد، لكنّنا نعلم ـ أيضاً ـ بشيء زائد على هذا، فإنـّنا عرفنا في المنطق أنّ الجامع لا يوجد إلاّ في ضمن خصوصيّة الفرد، ولا يوجد مستقلاّ ً عن الأفراد، فنعلم ـ لا محالة ـ أنّ هذا الجامع ليس باستقلاله موجوداً في المسجد، بل توجد خصوصيّة في المسجد، فقد تعدّى علمنا من الجامع إلى خصوصيّة زائدة، ثمّ ننقل الكلام إلى تلك الخصوصيّة الزائدة التي تعلّق بها العلم، فنقول: هل هي ـ أيضاً ـ جامع أو جزئيّ؟ فإن فرضت جامعاً أعدنا البرهان، وقلنا: إنـّه لا يوجد إلاّ في ضمن خصوصيّة ... وهكذا إلى أن يتسلسل وهو مستحيل، أو ينتهي الأمر إلى الفرد، فالعلم يتعلّق بالفرد لا بالجامع.

وكأنّ ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (قدس سره) من أنـّنا نعلم ـ مضافاً إلى الجامع ـ بأنّ هذا الجامع ليس غير زيد وعمرو علاجٌ لهذا المطلب، أي: ما يرى من أنّ العلم تعدّى من الجامع إلى شيء زائد على الجامع، ولكنّ هذا الشيء الزائد إن كان بنفسه جامعاً


(1) في نهاية الدراية: ج 2، ص 242.

(2) وهو المستفاد ممّا في نهاية الدراية: ج 2، ص 202.

21

وكلّيّاً، عاد ما ذكرناه من البرهان من أنـّنا نعلم بأنّ الجامع لا يوجد إلاّ مع التعيّن في ضمن فرد، والانطباق عليه، فلابدّ من انتهاء الأمر إلى تعلّق العلم بالفرد.

ولا يكفي أن يقال: إنـّنا نعلم بالجامع مفروغاً عن انطباقه، أي: نعلم أنـّه وجد الجامع منطبقاً على الفرد، فإنـّنا نعيد الكلام في هذا الانطباق المعلوم فنقول: هل نعلم بجامع الانطباق، أو بانطباق معيّن؟

فإن علمنا بانطباق معيّن فقد آل الأمر إلى تعلّق العلم بالفرد، وإن علمنا بجامع الانطباق أعدنا برهان العلم بأنّ الجامع لا يوجد إلاّ في ضمن الفرد.

ولا أدري ألهذا أو لغير هذا أقام المحقّق العراقيّ (رحمه الله) صرح المبنى الثالث.

المبنى الثالث: وهو تعلّق العلم بالواقع، وأنّ الفرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ إنـّما هو في نفس العلم، أو قل في المعلوم بالذات.

وقد ذكر المحقّق العراقيّ(1) (رحمه الله): أنـّه بلغني عن بعض من يدّعي الفضل من أهل العصر أنـّه لا فرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ من ناحية نفس العلم، وإنـّما الفرق من ناحية المعلوم الخارجيّ، ففي العلم التفصيليّ يعلم بالواقع، وفي العلم الإجماليّ يعلم بالجامع، والصحيح: أنّ العلم سواء كان إجماليّاً أو تفصيليّاً يتعلّق بالواقع، وينكشف به الواقع، إلاّ أنّ الفرق في نفس العلم والانكشاف، أو قل: المعلوم بالذات، والمنكشف بالذات، فقد يكون الانكشاف انكشافاً تامّاً وتفصيليّاً، واُخرى يكون انكشافاً مجملاً وغير واضح، أي: أنّ الفرد قد ينكشف بصورته المفصّلة، وقد ينكشف بصورة مشوّشة .

ولو أردنا أن نشبّه العلم الإجماليّ بحسب ما يقوله هو (قدس سره)بالإحساسات الخارجيّة ـ وإن لم يشبّهه هو ـ قلنا: إنّ شخصين يريان جسماً، أحدهما يراه من قريب، والآخر يراه من بعيد، فهو يرى شبحاً لا يدري أنـّه إنسان أو حيوان أو شجر مثلاً، فكلّ من هذين الشخصين يتعلّق إحساسهما بالواقع المعيّن الواحد، لكنّ أحدهما إحساس تفصيليّ، والآخر إجماليّ ومشوّش وغير واضح، فمثل هذا الفرق الثابت بين الإحساسين الظاهريّين نتصوّره بين الإدراكين الباطنيّين.

هذا، والمحقّق العراقيّ (رحمه الله) لا يقيم في صريح عبارته برهاناً على مبناه من أنّ


(1) راجع المقالات: ج2، ص84، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص309.

22

العلم الإجماليّ ـ أيضاً ـ يتعلّق بالواقع، وأنّ الفرق بينه وبين العلم التفصيليّ في نفس العلم، وإنـّما هو يستَبْدِهُ ما ذكره، ولكن يوجد في عبارته شيء لعلّه يراه هو البرهان على مقصوده، وذلك الشيء هو أنّ الصورة الإجماليّة تنطبق على تمام ما في الخارج انطباق المجمل على المفصّل، والمبهم على المبيّن، ولا تنطبق على جزء منه فحسب انطباق الكلّيّ على الفرد، فلعلّ هذا إشارة إلى ما مضى منّا في الاستشكال في المبنى الثاني، من أنـّنا نعلم بشيء زائد على الجامع الذي هو جزء الفرد؛ إذ نعلم أنّ ذلك الجزء لا يستطيع أن يقف على قدميه.

ولكن يمكن الاستشكال في هذا المبنى ـ أيضاً ـ بما يستخرج من مجموع كلمات المحقّق الإصفهانيّ من أنّ الحدّ الشخصي للفرد هل هو داخل تحت الصورة الاجمالية المنكشفة أو لا؟ وعلى الأوّل هل الداخل تحت دائرتها هو الحدّ الشخصي المعيّن، أو الحدّ الشخصيّ المردّد ؟ فإن فرض دخول الحدّ الشخصيّ المعيّن تحت تلك الصورة المنكشفة أصبح العلم الإجماليّ علماً تفصيليّاً، ومن المعلوم أنـّنا لا نرى حدّاً شخصيّاً معيّناً في تلك الصورة الإجماليّة، وإن فرض دخول الحدّ المردّد تحتها فقد اتّضح بطلانه فيما سبق، وإن فرض عدم تعدّي العلم إلى الحدود الشخصيّة فهذا معنى تعلّق العلم بالجامع، وهكذا نرجع إلى المبنى الثاني، والذي هو ـ أيضاً ـ بدوره يبطل بما مضى من البرهان، كما أنـّه إن رجعنا إلى مبنى الفرد المردّد ورد علينا إشكال الفرد المردّد، إذن فما هو العلاج ؟

وحيث إنّ العلم الإجماليّ أمر وجدانيّ راجع إلى وجدان كلّ أحد، فلذلك يحتمل قويّاً أنّ مقصود من قال بتعلّق العلم بالفرد المردّد، ومن قال بتعلّقه بالجامع، ومن قال بتعلّقه بالواقع المعيّن شيء واحد، إلاّ أنـّه قد نظر كلّ واحد منهم إلى جهة من جهات المطلب، فعبّر بالتعبير المناسب لها.

وتحقيق الحال في هذا المقام: هو أنّ الصورة الكلّيّة المستوردة في الذهن على قسمين:

القسم الأوّل: الصورة الكلّيّة المستوردة في الذهن من الجزئيات والأفراد الخارجيّة، فترد في الذهن مثلاً صور جزئيّة من أفراد للإنسان، والذهن البشريّ يقشّرها ويطرح مميّزات كلّ فرد عن الآخر، فتبقى صورة كلّيّة قابلة للانطباق على كثيرين، لأنـّها منتزعة من كثيرين، وهو جزء موجود في كلّ واحد منها بناءً على تصوّرات المنطق الاُرسطيّ، ولذا يقال: إنّ الكلّيّ موجود بوجود الفرد، وإذا وجد الكلّ وجد الجزء.

23

القسم الثاني: الصورة التي يخلقها الذهن البشريّ نفسه، ويُلبِسها على ما في الخارج، ويجعلها رمزاً لكلّ فرد من الأفراد، وثوباً قابلاً للإلباس على كلّ فرد من الأفراد، فليست هذه الصورة قابلة للانطباق على ما في الخارج بالمعنى الصادق في القسم الأوّل، إذ ليست هي ـ في الحقيقة ـ جزءاً مقشّراً لكلّ فرد، وموجودة في ضمن كلّ فرد من الأفراد، وإنـّما هي رمز يرمز به إلى الفرد الخارجيّ بقشوره، وهذه الصورة كثيراً مايخلقها الذهن البشريّ، خصوصاً إذا لم يستطع أن يسيطر على الأفراد، فينسج صورة بنفسه، حتى يرمز بها إلى أيّ فرد أراد، وذلك كما في صورة العدم، حيث إنـّه لا معنىً لاتيان أفراد العدم من الخارج إلى الذهن، وأيّ شيء يرد إلى الذهن من الخارج لكي يقشّره ويكوّن منه صورة العدم الكلّي؟! فلمّا لم يستطع الذهن أن يسيطر على الأفراد صاغ هذا الرمز ليرمز به إلى الواقع، ومثله صورة الوجود، حيث إنّ أفراد الوجود لم تكن تأتي إلى الذهن حسب ما يقال من أنّ الوجود هو أنـّه في الأعيان، وهذا لا يأتي في الذهن، فلمّا لم يقدر الذهن البشريّ على السيطرة على أفراده جعل في نفسه هذا الرمز كي يرمز به إلى الأفراد، ومن هذه الصور المصوغة من قبل الذهن البشريّ عنوان (أحدهما) ونحوه، فهو عنوان رمزيّ، وليس شيئاً ينطبق على ما في الخارج، وجزءاً من كلّ فرد، بل هو رمز لتمام ذاك الفرد بقشوره، وإذا أردنا أن نشبّهه بشيء في باب اللغة شبّهناه بالمشترك اللفظي الذي هو رمز لكلّ واحد من المعاني بتمامه، لا لخصوص الجزء الجامع بينها، فهذه الرموز تجعل من قبل الذهن البشريّ من قبيل جعل الألفاظ رمزاً إلى المعاني، إلاّ أنـّها ليست بصناعة اللغة، كما في رمزيّة الألفاظ، بل بقوّة خاصّة في الفهم البشريّ أودعها الله (تعالى) فيه ليدرك بها الأشياء.

وفي باب العلم الإجماليّ لمّا لم يستطع الذهن البشريّ أن يسيطر على الفرد الموجود من الفردين في الخارج ويصبّ العلم على صورته، نسج عنوان (أحدهما)، وانصبّ العلم على هذه الصورة التي هي رمز تصلح لأن يرمز بها إلى أيّ واحد من الفردين(1)، وهذا لا يرد عليه شيء من الإشكالات السابقة.


(1) إن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) رمز للواقع كرمزيّة اللفظ للمعنى فليس تحت هذا اللفظ مفهوم غير المفهوم المنطبق مباشرة على الواقع، فهذا واضح البطلان، فإنّ لدينا مفاهيم ثلاثة متباينة في عالمها، وهي مفهوم زيد مثلاً ومفهوم عمرو، ومفهوم (أحدهما) بإرجاع الضمير إلى زيد وعمرو، ولو كان لفظ (أحدهما) مفهومه عين المفهوم المنطبق على الواقع لما حلّ لنا مشكلة تصوير العلم الإجماليّ، فإنـّه في الجهالة يساوي الواقع المجهول؛ لأنـّهما متّحدان مفهوماً، فلم نصنع شيئاً لحلّ الإشكال.

وإن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) يعطينا مفهوماً خاصّاً به يباين المفهوم الحاكي مباشرة عن الواقع بخصوصه، والذي لم نعلمه بالضبط، وأنّ هذا المفهوم رمز بحت، أي: خاو عن الواقعيّة من قبيل بحر من زئبق، فهذا ـ أيضاً ـ واضح البطلان، إذ لو كان كذلك لما صحّ حمل عنوان (أحدهما) على كل من زيد وعمرو، إذن فمفهوم أحدهما ليس أمراً خيالياً بحتاً كما نبّه على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحث الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

وإن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) جامع انتزاعيّ لكنّه جامع عرضي، وليس جامعاً ذاتياً كي يكون بالضرورة جزءاً من الفرد لا يحصل إلاّ بالتقشير، وإنما هو جامع انتزاعي صحّ انتزاعه من كلا الفردين بما لهما من القشور الزائدة على الجامع الذاتي، فهذا مطلب صحيح، ولكن عبارة المتن قاصرة عن أداء ذلك.

وهذا الكلام يأتي في جميع الجوامع الرمزيّة، فهي دائماً تكون في واقعها جوامع انتزاعيّة عرضيّة لا خياليّة بحتة.

وافتراض تعلّق العلم الإجماليّ بهذا الجامع الانتزاعي أو العرضي، لا يرد عليه ما مضى من أنـّنا نعلم بوجود شيء أكثر من الجامع في المسجد، لأنّ الجامع لا يوجد إلاّ ضمن خصوصيّة الفرد، وذلك؛ لأنّ هذا الجامع ليس هو ذاك الجامع الذي هو من ضمن الفرد؛ إذ ليس جزءاً من الفرد انتزع عنه بالتقشير، وإنما هو جامع منتزع من الفردين بما هما فردان، وبما لهما من قشور بالمقدار الداخل تحت العلم.

24

أمـّا إشكال الفرد المردّد، فلأنّ عنوان (أحدهما) ليس فرداً مردّداً واقعاً، وإنـّما هو رمز يمكن أن يرمز به إلى هذا الفرد بتمامه، ويمكن أن يرمز به إلى ذاك الفرد بتمامه.

وأمـّا إشكال: أنـّنا نعلم بأنّ الجامع والجزء المشترك لا يوجد إلاّ في ضمن الجزئي وفي ضمن القشور الفرديّة، فلأنّ العلم لم ينصب على الجامع، وإنـّما انصبّ على صورة رمزيّة يمكن أن يرمز بها إلى أيّ واحد من الفردين بقشوره.

وأمـّا إشكال: أنّ الحدّ الشخصيّ هل هو داخل تحت الصورة الإجماليّة مردّداً أو معيّناً؟ فالأوّل غير معقول، والثاني يلزم منه انقلاب العلم الإجماليّ إلى العلم

25

التفصيليّ، فلأنـّنا لا ندّعي كون مصبّ العلم هو الحدّ الشخصيّ، بل مصبّه هو عنوان (أحدهما).

هذا هو واقع المطلب الذي اختلفت التعابير عنه، فيمكن أن يعبّر عنه بالفرد المردّد، ويمكن أن يعبّر عنه بالجامع، ويمكن أن يعبّر عنه بالواقع، فإنّ هذا الرمز بطبيعته له مرونة، يمكن أن يرمز به إلى هذا الفرد، ويمكن أن يرمز به إلى ذاك الفرد، وفي نفس الوقت لا يمكن أن يرمز به إلى الفردين معاً بنحو المجموعيّة، بل يرمز به إلى كلّ واحد منهما على سبيل البدل عيناً من قبيل الثوب الذي يصحّ أن يقال: إنـّه صالح لأن يلبسه كلّ أحد، ويصح أن يقال: إنـّه لا يصلح إلاّ للبس فرد واحد، فمن نظر إلى مرونة هذا الرمز عبّر بالجامع، ومن نظر إلى الفرد المعيّن الذي رمز إليه بهذا الرمز عبّر بالواقع، ومن نظر إلى أنّ ما يصلح لأن يرمز إليه هو أحد الفردين على سبيل البدل عبّر بالفرد المردّد، فالخلط بين هذا الرمز والجامع يوجب التعبير بالفرد المردّد، فإنّ ما يكون منطبقاً على كلّ واحد من الفردين كالجامع ـ لا رمزاً إليه ـ ويكون انطباقه على الفرد انطباقاً عليه مع قشوره إنـّما هو الفرد المردّد.

هذا وتجدر الإشارة هنا إلى المراد من التعبير بالواقع، وحاصل الكلام: أنّ هذا الرمز ليس دائماً يرمز إلى الواقع المعيّن، بل قد لا يرمز إليه، أي: أنّ علم الشخص لا يكون متوجّهاً نحو فرد معيّن؛ لاستواء نسبته إلى كلا الفردين، ولا أقصد بذلك التفرقة بين ما لو كان كلا طرفي المعلوم بالإجمال ثابتاً في الواقع وما لو كان أحد طرفيه فقط ثابتاً في الواقع، بل أقصد بذلك التفرقة بين ما لو كان منشأ العلم الإجماليّ ما يدلّ بمقتضاه الأوّلي على عدم اجتماع نقيض كلّ من طرفي العلم الإجماليّ كحساب الاحتمالات، أو البرهان على عدم الاجتماع، وما لو كان منشأه ما لا تستوي نسبته إلى الطرفين، كما لو سمع صوت أحد الشخصين فعرف وجود أحدهما في المسجد مثلاً، فالعلم الإجماليّ في الثاني له توجّه نحو أحد الفردين بالخصوص بخلافه في الأوّل.

لكنّ هذا التفصيل لا يوجب إشكالاً على التعبير بتعلّق العلم الإجماليّ بالواقع، وتوضيح ذلك: أنّ المقصود بتعلّق العلم الإجماليّ بالواقع ليس هو كون المعلوم بالذات هو الواقع، فإنّ ذلك معلوم بالعرض، والمعلوم بالذات ثابت في اُفق النفس، وليس أيضاً المقصود بذلك: أنّ المعلوم بالذات دائماً يوجد في الخارج ما يطابقه من معلوم بالعرض معيّن، فإنّ العلم الإجماليّ قد يكون جهلاً مركّباً، كالعلم