590


ومنها: روايات عدم نفوذ شهادة النساء غير المختصّة بباب المرافعة الواردة تارةًفي موارد خاصّة كالرضاع(1)، والعدّة(2)، والطلاق(3)، والنكاح(4)، واُخرى بشكل مطلق غير ما استثني(5)، وما كان منها غير مقيّد بفرض وثاقة الناقل لا تكون دلالته علىعدم حجّيّة خبر الثقة بمجرّد الإطلاق، بل بما هو أقوى من الإطلاق؛ لأنّ الظاهر أنّلها نظراً إلى خصوص خبر الثقة؛ إذ الحيرة والسؤال والجواب إنّما ينصبّ عادة علىخبر الثقة.

ويوجد في روايات شهادة النساء في باب النكاح ما يقول بأنّه لا تنفذ شهادة النساء إلّا مع رجل، وهذا يدلّ إضافة إلى عدم نفوذ شهادة النساء وحدهنّ على عدم نفوذ شهادة الرجل الواحد، وإلّا لما احتجنا إلى ضمّ امرأتين إليه.

ومنها: ما دلّ على أنّ الهلال لابدّ في ثبوته بالشهادة من شهادة رجلين عدلين(6).

ومنها: ما دلّ على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد(7).

أضف إلى ذلك كلّه ما هو من ضروريّات الفقه: من عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات في باب القضاء، ولا أقصد بذلك اختصاص الحجّيّة القضائيّة بالبيّنة، أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الوسائل، ج 14، ب 12 ممّا يحرم بالرضاع.

(2) راجع الوسائل، ج 15، ب 28 من العدد.

(3) (4) (5) جمع صاحب الوسائل أكثر هذه الروايات في الجزء 18، الباب 24 من الشهادات.

(6) توجد جملة من رواياته في الوسائل، ج 7، ب 11 من أحكام شهر رمضان.

(7) راجع الوسائل، ج 18، ب 44 من الشهادات، ح 2 و4، ص 298.

591


العدل الواحد مع اليمين، وإنّما أقصد بذلك أنّ المدّعي لو امتلك خبر واحد ثقة لم يتحوّل بذلك إلى المنكر لتطابق قوله مع الحجّة وهي خبر الثقة، وهذا يعني أنّ خبر الثقة إذن غير حجّة في الموضوعات في مورد القضاء.

وأضف إلى ذلك أيضاً ما هو واضح في باب الحدود نصّاً وفتوىً: من عدم كفاية خبر الواحد فيها، بل لابدّ من شاهدين في بعضها، وشهود أربعة في بعضها الآخر.

أمّا كيفيّة اقتناص النتيجة من هذه الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة فتكون بأحد وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: دعوى أنّ كثرة هذه الروايات وانقسامها إلى أبواب كثيرة من الفقه تشرف الفقيه على القطع بأنّها كانت ناظرة إلى قاعدة عامّة لا تختصّ بباب دون باب، وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، وهذا يعني الردع عن السيرة لو تمّت في نفسها.

وقد يقال: إنّ هذا القطع لو تمّ فإنّما يتمّ في القاسم المشترك الذي تشترك فيه أكثر هذه الروايات، وهي موارد ترقّب تدخّل الحاكم فيها من قبيل: الهلال، والحدود، والنكاح والطلاق، إمّا من باب أنّ من حقّ الحاكم ابتداءً التدخّل كما في الهلال والحدود، أو من باب أنّ المسألة ذات طرفين فيترقّب الانتهاء إلى النزاع، ووصول الأمر إلى الحاكم كما في النكاح والطلاق. أمّا ما يغلب عليه جانب الفرديّة البحتة كما في الطهارة، والنجاسة، وعدّة الطلاق، فالروايات الواردة فيه المانعة عن العمل بخبر الواحد قليلة، واحتمال الفرق وارد.

ولكن يمكن أن يقال في مقابل ذلك: إنّ احتمال الفرق بين ما يغلب عليه جانب الوظيفة الفرديّة وما يترقّب انتهاؤه إلى تدخّل الحاكم ولكنّه لم ينته إلى تدخّله صدفة لعدم النزاع وتوافقهما على العمل بخبر الواحد لو كان حجّة بعيد، خاصّة وإنّ ما يغلب عليه

592


الجانب الفرديّ قد يؤدّي أيضاً بالنتيجة إلى قضايا ذات طرفين وإلى النزاع، كما في عدّة الطلاق لو اختلفا في أنّ العقد أو رجوع الزوج كان في داخل العدّة أو خارجها، وكما في الطهارة والنجاسة لو اختلف البائع والمشتري في طهارة الجبن المشترى ونجاسته، وخاصّة إذا لاحظنا ما أشرنا إليه: من أنّ خبر الواحد في القضيّة التي هي في أصلها فرديّة لو كان حجّة فمن الغريب أنّه بعد تصادف وقوع النزاع لا يجعل من طابق قوله هذا الخبر منكراً، بينما ترى أنّ أيّ أصل من الاُصول العمليّة يجعل من طابقه قوله منكراً.

الوجه الثاني: الاكتفاء باحتمال كون هذه الروايات الكثيرة تشير إلى كبرى كلّيّة، وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، فإنّ هذا يعني احتمال الردع.

إلّا أنّ هذا الوجه لا يتمّ لو قلنا بما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من تماميّة إمضاء السيرة في صدر الشريعة، والحاجة إلى القطع بالردع كي لا يجري الاستصحاب.

وكذلك لا يتمّ لتخصيص الإطلاق المستفاد من مثل: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» بناءً على تعيين الكبرى المحذوفة ببركة السيرة في حجّيّة خبر الثقة مطلقاً على ما ادّعاه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)، وكذلك لا يتمّ لتخصيص إطلاق آية النبأ لو قلنا بتماميّة دلالتها على حجّيّة خبر العدل.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّ العرف بعد تعدّد المورد وتكثّره يُلغي خصوصيّة المورد ويفهم القاعدة العامّة، وهي: أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك ليس حجّة إلّا في مورد يفترض خروجه عن القاعدة بنصّ خاصّ.

وهذا الوجه مبتن على مبنى الاعتماد على ظهور يتكوّن من فرض الأدلّة المتفرّقة كخطاب واحد، وهذا ليس صحيحاً عندنا؛ لأنّه اعتماد على ظهور تقديري لا على ظهور فعليّ.

593


الوجه الرابع: أن يقال في كلّ رواية من الروايات الماضية: إنّ العرف يلغي فيها خصوصيّة المورد، ويستفيد منها قاعدة عامّة، وهي: عدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، أو ـ على الأقلّ ـ في غير الموضوعات الفرديّة البحتة.

إلّا أنّ هذا لو تمّ فقد يقال: إنّه إنّما يفيد بمقدار إيجاد احتمال الردع، ولا يفيد لإسقاط السيرة لو فرض تماميّة إمضائها في صدر الشريعة، ولا لتقييد إطلاقات الحجّيّة لو شملت الخبر في الموضوعات، وذلك بدعوى أنّه كما وردت أخبار خاصّة في موارد خاصّة من الموضوعات تدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد فيها، كذلك وردت أخبار اُخرى في موارد اُخرى من الموضوعات تدلّ على حجّيّة الواحد فيها، فلو انتزع العرف من الأوّل قاعدة عامّة تقتضي عدم الحجّيّة في مطلق الموضوعات كذلك ينتزع من الثاني قاعدة عامّة تقتضي الحجّيّة فيها، وهما يتعارضان.

وقد جمع اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المجلّد الثاني من البحوث روايات كثيرة قد يستدلّ بها على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو(رحمه الله) في دلالة أكثرها ولم يقبل عدا دلالة حديثين منها، ونحن هنا نقتصر على ذكر هذين الحديثين، أمّا باقي الأحاديث التي ذكرها فمن الواضح بالمراجعة عدم تماميّة دلالتها:

الأوّل: ما ورد بسند تامّ عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الاُمور، وأشهد له من ذلك شاهدين، فقام الوكيل، وخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً من الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل أن يعزل فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم (أن يعزل خ ل) العزل، أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه ؟ قال: نعم. قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضى الأمر ثُمّ

594


ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء ؟ قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثُمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبداً، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه (يشافهه خ ل) بالعزل عن الوكالة(1).

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث بأنّ غاية ما يدلّ عليه هذا الحديث هي: أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعيّ بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادفة العزل، وفي قطع استصحاب بقاء الوكالة، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقيّ الذي هو معنى حجّيّته.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث(2) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الطريقيّة في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: إنّ هذا الاستظهار غير واضح عندي.

الثاني: ما ورد بسند تامّ عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً فقال لي: إن حدث بي حدث فاعط فلاناً عشرين ديناراً، واعط أخي بقيّة الدنانير. فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين. ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً. فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 13، ب 2 من الوكالة، ح 1، ص 286.

(2) ج 2، ص 98.

(3) الوسائل، ج 13، ب 97 من الوصايا، ح 1، ص 482.

595

 

منع الحاجة إلى قرينة إضافيّة:

الجهة الثانية: هل أنّ وثاقة الراوي، أو موثوقيّة الرواية بمعنى الظنّ بصدقها الناشئ من وثاقة الراوي كافية في حجّيّة الخبر ؟ أو لابدّ من أمر زائد وهو وجود قرينة خارجيّة وشاهد صدق لذلك الخبر ؟

التحقيق: كفاية تلك الوثاقة أو الموثوقيّة، وعدم الحاجة إلى قرينة اُخرى خارجيّة، ودليلنا على ذلك هو السنّة والسيرة:

أمّا السنّة: فلأنّ مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان» ظاهر في فرض الموضوع للحجّيّة نفس الوثاقة أو الموثوقيّة بالمعنى الذي عرفت دون دخل شيء آخر فيه، فإنّه فرّع الحجّيّة على الوثاقة وعلّلها بها منفردة. ونحو ذلك بعض الروايات المؤيّدة لهذه الرواية كقوله: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده مرضيّاً» بناءً على دلالته على


ولعلّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) حمل جهة السؤال في هذا الحديث على السؤال عن حجّيّة إخبار الثقة، ولكن من المحتمل: أنّ هذا السائل كان جازماً بصدق المخبر ولو بقرينة أنّه أخبره بأمر وقع بينه وبين المرحوم في غياب هذا المخبر الثقة، بل ولعلّ المقصود من قوله: «رجل مسلم صادق» الجزم بصدقه، وكان سؤاله منصبّاً على أنّه هل يجب إطلاع الوارث على الأمر كي يقبل بذلك، أو يرفع الأمر إلى الحاكم، أو بإمكانه أن ينفّذ الوصيّة ويعطي الباقي إلى الوارث من دون إعلامه بالأمر حذراً من عدم اقتناع الوارث بذلك، وتحقّق النزاع والمحاكمة ؟ فكان الجواب بالعمل بالوصيّة. ولو فرض إجمال السؤال فالصحيح أنّ إجمال السؤال يؤدّي إلى إجمال الجواب لا إلى الإطلاق بملاك ترك الاستفصال.

596

حجّيّة خبر الثقة. فإنّ ظاهره كون المقياس هو كون الراوي مرضيّاً من دون إضافة قيد آخر.

أمّا السيرة: فللتمسّك بها هنا تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّنا لو فرضنا عدم قطعيّة السنّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وكان دليلنا القطعيّ عبارة عن السيرة، فلا إشكال في أنّ حديث عبدالله بن جعفر الحميريّ الذي ورد فيه قوله: «العمريّ وابنه ثقتان ...» داخل في القدر المتيقّن من السيرة، ولو مع فرض الشكّ في موضوع الحجّيّة الثابتة بالسيرة، وأنّه هل هو وثاقة الراوي وحدها، أو لا ؟ فإنّ هذا الحديث شامل لكلّ ما يحتمل دخله في حجّيّة الخبر، من وثاقة الراوي، وعمل الأصحاب، وذكره في الكتب المعتبرة، واعتمادهم عليه، ونحو ذلك، فإنّ القرائن التي تذكر في الفقه لصحّة الخبر عبارة عن هذه الاُمور، وهذه مجتمعة في هذا الحديث، ولو فرض لزوم التعويل على قرينة اُخرى لزم عدم حجّيّة خبر في الفقه، وإذا ثبتت حجّيّة هذا الحديث بالسيرة تمسّكنا بظهوره. وقد عرفت ظهوره في موضوعيّة وثاقة الراوي وحدها للحجّيّة بما هي وثاقة للراوي، أو بما هي مورثة لموثوقيّة الرواية.

التقريب الثاني: أنّ الأخبار الواردة عن الثقة من دون الاحتفاف بقرينة معاضدة كانت موجودة في ضمن أخبار أصحابنا لا محالة، وكانت ممّا يعمّ بها الابتلاء، فلا يخلو الأمر من أربعة فروض:

إمّا أنّهم كانوا يعملون بها من دون سؤال.

أو أنّهم سألوا الإمام عن حجّيّتها، فاُجيبوا بالإثبات فعملوا بها.

أو أنّهم سألوا فاُجيبوا بالنفي فتركوا العمل بها.

أو أنّهم تركوا العمل بها من دون سؤال.

والأوّلان لا يفيدان المطلوب، والأخيران باطلان، فإنّنا لا نحتمل تركهم للعمل

597

من دون سؤال أصلاً؛ إذ لئن لم يكن الارتكاز العقلائيّ لهم على الحجّيّة فلا أقلّ من الميل، وإلّا فلا أقلّ من تحيّرهم واحتمالهم للحجّيّة، فإنّ حجّيّتها ليست ممّا يخالفه الارتكاز والطبع العقلائيّ. ولا نحتمل أيضاً أنّهم سألوا فاُجيبوا بالنفي، ولم يصلنا النفي بالرغم من توفّر الدواعي في مثل ذلك إلى السؤال والجواب والنقل. ويؤيّد المقصود أنّه بدلاً عن أن يصلنا النفي وصلنا الإثبات في بعض الروايات، وتؤيّده أيضاً القرائن الكثيرة الدالّة على ارتكاز موضوعيّة عنوان وثاقة الراوي للحجّيّة في أذهان أصحاب الأئمّة وفقهائنا المتقدّمين ـ رضوان الله عليهم ـ إلى زمان الشيخ الطوسيّ(قدس سره)، وتلك القرائن كثيرة جدّاً، منها ما يلي:

1 ـ قوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني ؟» فإنّه يدلّ على مركوزيّة حجّيّة خبر الثقة بما هو خبر الثقة في ذهنه.

2 ـ كلام الشيخ(قدس سره) في العدّة: أنّي وجدت الطائفة مجمعة على العمل بهذه الأخبار (يعني غير المحفوفة بقرينة تفيد العلم) حتّى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوا من أين قلت ؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف، وأصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكرون حديثه سلّموا الأمر في ذلك، وهذه عادتهم من عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمّة إلى زمان الصادق الذي انتشر عنه العلم، وكثرت الرواية من جهته.

3 ـ قال النجاشيّ(رحمه الله) في محمّد بن أحمد بن يحيى: وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمّد بن موسى الهمدانيّ، وعدّ نيّفاً وعشرين رجلاً ثُمّ قال: قال أبو العبّاس ابن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر ابن بابويه على ذلك إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد، فلا أدري ما رأيه فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة.

598

4 ـ ما في الفقيه: وأمّا خبر صلاة يوم الغدير (يشير بذلك إلى خبر ورد في استحباب صلاة العيد في يوم الغدير)، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن كان لا يصحّحه، ويقول: إنّه كان من طريق محمّد بن موسى الهمدانيّ، وكان غير ثقة، وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ـ قدّس الله روحه ـ ولم يحكم بصحّته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح. فإنّ الظاهر من مثل هذا الكلام كون الوثاقة هي المدار وجوداً وعدماً.

5 ـ ما يوجد في كلمات الرجاليّين كالنجاشيّ وغيره في شهاداتهم بشأن الرواة: من أنّ فلاناً صحيح الحديث، وثقة في حديثه، ونحو ذلك، فإنّ مثل هذا الكلام منهم يشعر بأنّ الوثاقة بنفسها موضوع للاعتماد على الحديث.

6 ـ ما يذكر من عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير والبزنطيّ وغيرهما؛ لأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

7 ـ كلام جعفر بن قولويه في كامل الزيارات: إنّه لا يروي في الكتاب إلّا ما انتهى إليه من جهة الثقات من أصحابنا، فإنّ هذا يشعر بأنّ خبر الثقة يكون معتمداً عليه ومقبولاً.

8 ـ ما ذكره عليّ بن إبراهيم بن هاشم في مقدّمة تفسيره ـ بناءً على صحّة إسناد ما يسند إليه: من التفسير ـ من قوله: ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم. فإنّ هذا كسابقه يشعر أيضاً بالمقصود.

وعلى أيّ حال، فقد تحصّل إلى هنا أنّه لا تشترط في حجّيّة خبر الثقة قرينة إضافيّة على صدقه، بل تكفي في حجّيّته الوثاقة، فيكون خبر الثقة حجّة مطلقاً في قبال دعوى اشتراط القرينة سواء فرضنا أنّ موضوعيّة الوثاقة تكون بما هي حالة نفسيّة قائمة بالراوي، أو بما هي تعطي الكشف للخبر.

599

 

وثاقة الراوي وموثوقيّة الرواية:

الجهة الثالثة: في أنّ وثاقة الراوي متى تؤدّي إلى موثوقيّة الرواية، ومتى لا تؤدّي إليها ؟ وأيّ حالة من هذه الحالات تدخل في نطاق الحجّيّة ؟ فنقول:

تارةً: يفترض أنّ الوثاقة التي هي حالة نفسيّة موجبة للتحرّج والتحرّز من الكذب بالغة إلى مستوى يغلب جميع دواعي الكذب على الإطلاق بما فيها أقوى المغريات والدواعي للكذب التي يمكن افتراضها في نفس المخبر، وهذا يؤدّي إلى القطع بالصدق، وهو خارج عن محلّ البحث، فإنّ كلامنا في الخبر الظنّيّ.

واُخرى: يفترض أنّ الوثاقة لم تبلغ هذه الدرجة، وهذا هو محلّ البحث عن أنّه متى يحصل الظنّ بصدق الخبر على أساس وثاقة المخبر، ومتى لا يحصل. وهذا البحث وإن كان لم يطرق حتّى الآن، ولكنّه بحث مثمر كما سوف يظهر، ومن السهل لنا طرقه بعد أن عرفنا قيام ذلك على أساس حساب الاحتمالات.

ولا يخفى أنّ هذه الوثاقة ليست هي العامل الوحيد الذي يجب حسابه في حصول الظنّ، بل لابدّ من ضمّها إلى حساب حال مزاحمها: من داعي الكذب، كي تخرج النتيجة النهائيّة، فلو فرض القطع بغالبيّة داعي الكذب في نفس هذا المخبر على مستوى الوثاقة الموجودة لديه حصل القطع بالكذب، ولو فرض القطع بعدم داعي الكذب في نفسه، أو مغلوبيّته لما يمتلكه من الوثاقة حصل القطع بالصدق، وكلّ هذا خارج عن محلّ الكلام، ولابدّ من نشوء شكّ في المقام كي يكون خبره محطّاً للبحث عن الحجّيّة، ويتصوّر للشكّ في صدق خبر الثقة أحد مناشئ ثلاثة:

المنشأ الأوّل: الضيق في جانب الوثاقة أو احتماله، وذلك في نفس الوثاقة، أو في اقتضائها لعدم الكذب:

أمّا الضيق في نفس الوثاقة، فكما لو لم تكن وثاقته قائمة على أساس الدين،

600

بل كانت قائمة على أساس علم الأخلاق، وكان يبني علم الأخلاق على أساس المصلحة والمفسدة لا على أساس الحسن والقبح، ففي المورد الذي يعتقد هذا الشخص عدم المفسدة في الكذب لا يكون في نفسه تحرّج عن الكذب. أو كانت وثاقته قائمة على أساس الدين وحرمة الكذب، لكنّه كان يرى أنّ الكذب في جعل المعجز للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة(عليهم السلام)، ونقل فضائلهم ومصائبهم ـ مثلاً ـ ليس حراماً؛ لأنّه ترويج للدين، والكذب في ترويج الدين غير حرام، من قبيل ما عن بعض العامّة: من أنّه إنّما يحرم الكذب على النبيّ(صلى الله عليه وآله) لا الكذب له، ونحن ننقل المعاجز له كذباً، وهو كذب له لا عليه، فلا يشمله قوله: «من كذب عليّ فليتبوّء مقعده من النار».

ومهما احتملنا في مورد مّا خروجه عن دائرة وثاقة الراوي للضيق فيها، لم يكن خبره فيه حجّة حتّى لو قيل بأنّ الوثاقة بما هي حالة نفسيّة موضوع للحجّيّة لا بما هي مورثة للوثوق بالرواية والكشف الفعليّ. (ومقصودنا بالكشف الفعليّ هنا عدم انتفاء كشف الوثاقة من ناحية المزاحم الداخليّ، أعني: داعي الكذب. وأمّا انتفاؤه من ناحية تأثير المزاحم الخارجيّ ووجود أمارة معارضة، فهذا ما سوف نبحثه مستقلاًّ عن هذه الجهة إن شاء الله ).

والوجه فيما قلناه: من عدم الحجّيّة في المقام حتّى على مبنى الاكتفاء بالوثاقة بمعنى الحالة النفسيّة واضح؛ لأنّ أصل الوثاقة في هذا المورد غير محرزة بحسب الفرض.

وأمّا الضيق في اقتضاء الوثاقة، فمقصودنا منه: أن يفرض أنّ الحالة النفسيّة الثابتة لهذا الشخص ليست عبارة عمّا يوجب التحرّز عن أصل الكذب، وإنّما له حالة التحرّج عن تكرّر الكذب وتكثّره على اختلاف درجات ذلك. ولا يبعد أن يقال: إنّ مَن لا يتحرّج عن أصل الكذب لا يصدق عليه عرفاً ثقة، أو ـ على

601

الأقلّ ـ يشكّ في ذلك، ولايشمله دليل الحجّيّة.

المنشأ الثاني: الشكّ في جانب المزاحم الداخليّ وهو داعي الكذب، بأن يشكّ في أصل وجوده، أو في نسبته إلى درجة الوثاقة في نفس هذا الشخص، للجهل بمرتبة الداعي أو الوثاقة. وعندئذ تارةً يفرض أنّه لا يحصل الظنّ بصدق خبره (والكلام كلّه بقطع النظر عن المزاحم الخارجيّ المانع عن حصول الظنّ)، واُخرى يفرض أنّه يحصل الظنّ بصدق خبره، أي: في نفسه لا بالاعتضاد بقرينة خارجيّة:

أمّا الفرض الأوّل: فكما لو عرفنا ـ مثلاً ـ أنّه لو وجد في هذا المورد لدى هذا الشخص داعي الجاه والعظمة الموجب للكذب لكان غالباً على وثاقته، لكن شككنا شكّاً متساوي الطرفين في وجود هذا الداعي وعدمه، أو عرفنا وجود هذا الداعي لكن شككنا في درجة الوثاقة شكّاً متساوي الطرفين، فدار أمرها بين درجة غالبة على هذا الداعي، أو درجة مغلوبة له، أو علمنا بكون درجة الوثاقة في نفسها غالبة أو مغلوبة لكن احتملنا احتمالاً متساوي الطرفين طروّ حالة نفسيّة على الراوي في زمان نقله لهذا الحديث تجعل وثاقته مغلوبة أو غالبة، وحجّيّة خبر مثل هذا الشخص في هذا الفرض وعدمها تترتّب على أنّ الموضوع للحجّيّة هل هو وثاقة الراوي بما هي حالة نفسيّة له، أو وثاقته بما هي تعطي الكشف للخبر. فعلى الأوّل يكون حجّة، وعلى الثاني لا يكون حجّة؛ لانتفاء الكشف حتّى في نفسه وبقطع النظر عمّا يعارض كشفه؟ والصحيح هو الثاني، فإنّ حديث: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»، ظاهر في الثاني:

أمّا أوّلاً: فلأنّ كلمة الثقة بنفسها يفهم منها عرفاً أخذها بعنوان الطريقيّة والكاشفيّة لا بعنوان الموضوعيّة بما هي تعبّداً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ظاهر التعليل بالوثاقة في ذيله هو التعليل المتفاهم في نظر

602

العرف المقرّب للحكم المعلّل في نظرهم، لا التعليل التعبّديّ الصرف، فإنّ الظاهر من التعليلات والغالب فيها كونها للتقريب إلى الذهن وتوجيه الحكم بما يستحسنه العقلاء، وإن كان قد يتّفق أنّ التعليل ليس لذلك، وإنّما هو لأجل إعطاء ضابط كلّيّ.

وعلى هذا فلابدّ أن تكون العبرة بالوثاقة بما لها من الكشف، حتّى يكون تعليلاً بأمر يناسب الحكم في نظر العقلاء ومقبولاً بالنظر إلى ارتكازاتهم، فيكون تقريباً للحكم إلى نظرهم. أمّا لو فرض أخذها بما هي حالة نفسيّة، إذن لم يكن هذا إلّا تعبّداً صرفاً، لا تعليلاً متفاهماً عند العرف.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ كلمة المأمون في قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» قرينة على المطلب؛ إذ لو كان احتمال كذبه في هذا الحديث مساوياً لاحتمال صدقه كيف يصدق أنّه مأمون في هذا الحديث عن الكذب ؟!

وإن شئت مصداقاً لهذا الفرض فيما بأيدينا من الأخبار، قلنا: إنّ أحد الرواة المشهود بوثاقتهم هو رفاعة، وهو ينقل حديثاً في جواز استعباد أطفال الكفّار بالسبي وبيعهم(1). وبالمراجعة إلى أحواله يظهر أنّه كان تاجراً نخّاساً، فقد يحرز بذلك داعي الكذب في شأنه بدرجة تغلب على بعض درجات الوثاقة باعتبار أنّ عيشه وعمله مبنيّان على النخاسة، فيحتاج إلى مثل هذه الرواية في مقام التحفّظ على أساس عيشه، وتجارته، والتحفّظ على ماء وجهه بين الناس، والتخلّص من ذمّ الناس إيّاه. فمع فرض الشكّ في كون وثاقته بدرجة تغلب على هذا الداعي شكّاً متساوي الطرفين يسقط خبره عن الحجّيّة.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو فرض حصول الظنّ من الخبر ـ: فهذا لا إشكال في حجّيّته إن كان الظنّ مستنداً إلى الوثاقة بخلاف ما لو لم يكن مستنداً إليها؛ وذلك


(1) راجع الوسائل، ج 11، ب 50 من جهاد العدوّ، ح 6، ص 100.

603

لما مضى: من أنّ الوثاقة إنّما اُخذت باعتبار ما لها من الكاشفيّة لا بما هي حالة نفسيّة، فإذا كان الظنّ مستنداً إليها كانت لها الكاشفيّة، وإلّا فلو قلنا بالحجّيّة وجعلت الوثاقة شرطاً كانت شرطيّته تعبّداً محضاً، وبما هي حالة نفسيّة. أمّا فرض كون مقياس الحجّيّة مجرّد موثوقيّة الحديث مع إسقاط الوثاقة عن الحساب، فهذا ما سنوضّح بطلانه في بحث مستقلّ عن هذه الجهة إن شاء الله.

يبقى الكلام في تشخيص الضابط بين القسمين، أعني: الظنّ المستند إلى الوثاقة، والظنّ الغير مستند إليها، والضابط لذلك يمكن بيانه بنحوين:

النحو الأوّل: أن يقال ـ بعد فرض حصول الظنّ من الخبر ـ: إنّ كلّ داع من دواعي الكذب يكون الاحتمال منصبّاً عليه ابتداءً لابدّ أن يفترض أنّ الوثاقة لها دخل في الظنّ بعدم تأثير هذا الداعي عن طريق غلبتها على بعض حصص الداعي المحتمل، وإلّا فالظنّ الناشئ من الخبر ليس مستنداً إلى الوثاقة.

إذن فلو استبعدنا داعياً من دواعي الكذب عن غير طريق الجزم بغلبة وثاقة الراوي عليه يجب أن نرى أنّ الاحتمال هل انصبّ على هذا الداعي ابتداءً، أو انصبّ ابتداءً على الجامع بينه وبين داع آخر أو دواعي عديدة، لعدم احتمال اجتماع تلك الدواعي، إمّا للتضادّ فيما بينها، أو لاستبعاد اجتماعها على حدّ استبعاد اجتماع الصدف المتماثلة استبعاداً قطعيّاً أو اطمئنانيّاً ؟ فإن كان الاحتمال منصبّاً على الجامع، وفرضنا غلبة الوثاقة على بعض حصص الجامع كفى ذلك في استناد الظنّ إلى الوثاقة، ولو كان استبعاد الحصص الاُخرى عن غير طريق الجزم بغلبة الوثاقة عليها.

وإن كان الاحتمال منصبّاً على نفس ذاك الداعي ولم نجزم بغلبة الوثاقة عليه، أو كان الاحتمال منصبّاً على الجامع ولم نجزم بغلبة الوثاقة على بعض حصصه، ولكن مع ذلك ظننّا بصدق الخبر؛ للظنّ بعدم داعي الكذب، أو للظنّ بغلبة الوثاقة

604

عليه، فالظنّ هنا غير مستند إلى الوثاقة.

ولكن الصحيح عدم تماميّة هذا الضابط، فإنّه يكفي في استناد الظنّ إلى الوثاقة عرفاً أن يكون سهيماً في استبعاد بعض دواعي الكذب.

النحو الثاني: أن يقال ـ بعد فرض حصول الظنّ في الخبر ـ: إنّه يجب أن نرى أنّ الوثاقة هل كانت مؤثّرة في استبعاد بعض دواعي الكذب، أو لا ؟ فإن كانت مؤثّرة في ذلك ولو ضمناً صحّ إسناد الظنّ إلى الوثاقة حتّى مع فرض علّة اُخرى للاستبعاد كافية ـ لو بقيت وحدها ـ للقطع بعدم ذاك الداعي، وحتّى لو فرض أنّ بعض الدواعي الاُخرى المنصبّ عليها الاحتمال ابتداءً لم يستند استبعادها إلى الوثاقة، وإنّما استبعدت بعامل آخر تماماً.

وإن لم تكن كذلك لم يسند الظنّ إلى الوثاقة.

ومثال القسم الثاني هو: ما لو علمنا بوثاقة شخص لكن علمنا أنّه ابتلى صدفة في زمان إخباره بحالة نفسيّة من انبساط وميل إلى الكذب ـ مثلاً ـ تجعل وثاقته مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب، وهذا لا ينافي أصل ملكة الوثاقة كما أنّ غلبة بعض الدواعي المهمّة للكذب على الوثاقة لا ينافي أصل ملكة الوثاقة، ولا توجب أيضاً تلك الحالة النادرة وكذا ذاك الداعي المهمّ النادر حصوله قصور الوثاقة ذاتاً عن الرادعيّة عن مثل هذا الكذب، ولذا ترى أنّه يشعر في حين ارتكابه لهذا الكذب بالاشمئزاز الروحي، والتأثّر على ما يصدر منه من الكذب، وهذا هو نتيجة عدم قصور وثاقته ذاتاً عن الردع عن هذا الكذب، وإنّما لم تؤثّر فعلاً في الردع لابتلائها بالمزاحم: من تلك الحالة، أو الداعي المهمّ.

فإذا علمنا أنّ هذا الراوي الثقة ابتلى في حين روايته بتلك الحالة النفسيّة التي تجعل وثاقته مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب لكنّنا ظننّا مع ذلك بصدق خبره من باب الظنّ بعدم تحقّق داعي الكذب في هذا الخبر في نفسه بقطع النظر عن

605

الوثاقة، ففي مثل هذا المورد لا يكون الظنّ مستنداً إلى الوثاقة، ولا يكون خبره حجّة.

وأمّا مثال القسم الأوّل الذي يكون الظنّ فيه مستنداً إلى الوثاقة، فنذكر لذلك أمثلة ثلاثة:

المثال الأوّل: أن يفرض القطع بغالبيّة درجة وثاقته على أيّ داع للكذب يحتمل وجوده في المقام، ولكن نحتمل طروّ حالة في نفسه في زمان نقله لهذا الخبر صدفة تجعلها مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب، وكان هذا الاحتمال ضعيفاً لكون طروّ مثل هذه الحالة صدفة نادرة، والغالب في الوثاقة دفعها لمثل هذه الحالات وغلبتها عليها، وفي مثل ذلك لا إشكال في أنّه يسند الظنّ بالصدق إلى الوثاقة.

والمثال الثاني: أن يفرض أنّ أصل وجود الداعي للكذب مشكوك، وأنّه على فرض وجوده يكون مردّداً بين الغالب على الوثاقة والمغلوب لها، إمّا للشكّ في درجة الداعي، أو في درجة الوثاقة، أو في الحالة النفسيّة للراوي في وقت الرواية، فيحصل الظنّ بالصدق؛ لأنّه على تقدير عدم الداعي للكذب، وعلى أحد تقديري وجوده يكون صادقاً، وعلى تقدير واحد من تقديري وجوده يكون كاذباً، فالظنّ هنا نشأ من عاملين، أحدهما: احتمال عدم داعي الكذب في نفسه، والثاني: احتمال غلبة الوثاقة.

المثال الثالث: أن يفرض كون الداعي الكذبي على فرض وجوده مردّداً بين دواع عديدة يكون ما ثبت للراوي من الوثاقة غالباً على أكثرها، فلا نحتاج في حصول الظنّ بالصدق إلى عامل احتمال عدم داعي الكذب، بل هو حاصل حتّى بقطع النظر عنه.

المنشأ الثالث: في فرض تساوي درجة الوثاقة وداعي الكذب الذي وجد

606

صدفة. وعندئذ لو بنينا على مبنى الفلاسفة: من استحالة الترجيح بلا مرجّح حتّى في الاختياريّات، فالنتيجة: أنّ هذا الشخص لا يخبر أصلاً، فلا يبقى موضوع للشكّ في صدقه وكذبه، إلّا إذا وجد مرجّح تكوينيّ في أحد المبادئ العالية بحسب ما يقولون، واحتمال وجود مرجّح للصدق مساو لاحتمال وجود مرجّح للكذب، فيتساوى احتمال صدقه وكذبه، ولا يبقى كشف للخبر.

ولو بنينا على ما هو الصحيح: من عدم استحالة ذلك في الاختياريّات، وأنّ المختار يرجّح أحد الطرفين على الآخر من دون مرجّح، فقد يخبر هذا الشخص بلا حاجة إلى فرض المرجّح في المبادئ العالية، ويتساوى احتمال صدقه وكذبه، ولا يبقى للخبر كشف.

وعلى أيّة حال، فلو قلنا بموضوعيّة الوثاقة بما هي حالة نفسانيّة للحجّيّة كان خبره حجّة، ولو قلنا بما هو الصحيح: من أنّ الوثاقة اُخذت في موضوع الحجّيّة من باب الكشف، فمبدأ حجّيّة خبر الثقة لا ينطبق في المقام.

 

الوثاقة والعدالة:

الجهة الرابعة: في أنّه هل يشترط في حجّيّة خبر الثقة كونه ثقة في جميع أعماله وهو العدل، فلو كان فاسقاً لنقص في عمله، أو نقص في اعتقاده عن تقصير لم يكن خبره حجّة، أو تكفي في الحجّيّة وثاقته في إخباره ؟

الصحيح: أنّ دليلي الحجّيّة ـ وهما السنّة والسيرة ـ شاملان للفاسق الثقة في إخباره:

أمّا السنّة: فلأنّ حديث «العمريّ وابنه ثقتان» ظاهره كما مضى الانحلال، أي: أنّ كلّ من كان ثقة في شيء يعتمد على كلامه في ذلك الشيء، فالثقة في الفتوى ـ مثلاً ـ يؤخذ بفتواه، والثقة في الحديث يؤخذ بحديثه. وهذا مطلق يشمل فرضي

607

العدالة والفسق، فإن قلنا: إنّ هذا الحديث بنفسه يفيد القطع أو الاطمئنان، أخذنا بإطلاقه، وإن قلنا بالاحتياج إلى مجموع أحاديث الباب لحصول القطع أو الاطمئنان، وفيها ما لا يدلّ على أزيد من حجّيّة خبر العادل(1)، قلنا: ثبتت بمجموع تلك الأخبار حجّيّة حديث «العمريّ وابنه ثقتان»؛ لأنّ رواته جميعاً عدول، فهو قدر متيقّن ممّا استفدناه بالقطع من مجموع الأخبار: من الحجّيّة في الجملة، وعندئذ نتمسّك أيضاً بإطلاقه لإثبات حجّيّة خبر مطلق الثقة.

وأمّا السيرة: فتثبت بالنسبة لخبر الثقة غير العادل بنفس بيان ثبوتها في خبر العادل، وما مضى: من المؤيّدات جلاًّ أو كلاًّ يأتي هنا، وقد نقل الشيخ الطوسيّ(قدس سره)عن الفقهاء والأصحاب أنّهم يعملون جيلاً بعد جيل بأخبار الثقات المنحرفين، والفاسدي المذهب.

فقد تلخّص: أنّ دليل الحجّيّة شامل لخبر الثقة الفاسق.

نعم، يبقى الكلام فيما يعارض هذا الدليل، وهو آية النبأ، حيث أوجبت بمنطوقها


(1) وهو أكثر الروايات الماضية، فإنّنا إذا استثنينا الحديث الأوّل، والسادس، والسابع، والحادي عشر من الأحاديث التي ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تماميّة دلالتها مع مرسلتي الاحتجاج اللتين ذكرناهما تحت الخطّ، فباقي الروايات التامّة دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لا تدلّ على أكثر من حجّيّة خبر العدل، ولا يتخيّل أنّ التوقيع الشريف: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ...» دلّ على حجّيّة كلّ الروايات، فإنّ هذا الحديث لم يدلّ على حجّيّة خبر الرواة فحسب، بل أعطى مقاماً عامّاً للرواة تدخل فيه حجّيّة رواياتهم، ومنصب ولاية الفقيه مطلقاً أو في الجملة، ومنصب الفتوى والقضاء؛ إذ مقتضى الإطلاق الرجوع إليهم في كلّ هذه المقامات، ولا شكّ بحسب الارتكاز المتشرّعيّ في أنّ مقاماً من هذا القبيل تدخل تحته هذه المناصب لا يمكن أن يثبت للفاسق. إذن فالحديث منصرف إلى الإنسان العادل، وبالتالي حجّيّة الخبر المستفادة من هذا الحديث لا تكون لأكثر من خبر العادل.

608

التبيّن عن نبأ الفاسق، وهو بيان لعدم حجّيّته كما مضى، فقد يقال: يقع التعارض بين الآية ودليل حجّيّة خبر الثقة بالعموم من وجه، ومادّة الاجتماع هي الثقة الفاسق، فإن كان هذا داخلاً في معارضة الآية للدليل الظنّيّ السند، وهو حديث «العمريّ وابنه ثقتان» مثلاً الذي تفرض حجّيّته تعبّداً؛ لكونه داخلاً في القدر المتيقّن من مفاد أخبار الحجّيّة، تقدّمت الآية عليه، فقد سقط دليل الحجّيّة في المقام، وإلّا بأن فرضنا هذا الحديث ـ مثلاً ـ قطعيّ الصدور أو مطمأنّاً بصدوره، فقد تعارضا وتساقطا، والمرجع عندئذ هو أصالة عدم الحجّيّة.

والجواب ـ بعد غضّ النظر عن أنّ كون الاصطلاح الثابت اليوم للفاسق ثابتاً في زمان نزول الآية غير معلوم، فلعلّ المقصود به في الآية لم يكن هو الفاسق بهذا المعنى المصطلح وهو العاصي مثلاً، وإنّما المقصود به في الآية هو الفسق بمعناه اللغويّ وهو الانحراف، وعلى هذا تكون دعوى كون المقصود الظاهر بمناسبة الحكم والموضوع الانحراف فيما حكم بالتبيّن فيه وهو النبأ غير بعيدة ـ: أنّ هذه الآية معلّلة بقوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ...﴾، والجهالة فيها إمّا أن نقول بظهورها في الجهالة العمليّة، أي: السفاهة والعمل غير العقلائيّ، أو نقول بظهورها في الجهالة الاعتقاديّة، أي: خلاف العلم، أو نقول بإجمالها بينهما.

فإن قلنا بالأوّل سقطت الآية عن الدلالة؛ إذ التعليل عندئذ يوجب اختصاص الحكم بكلّ خبر كان العمل به غير عقلائيّ ويعدّ سفهيّاً، وخبر الثقة غير العادل إن لم نقل بكون العمل به عقلائيّاً جزماً، فلا أقلّ من أنّنا غير جازمين بسفهيّته في نظر العقلاء ورفضهم للعمل به.

وإن قلنا بالثالث سقطت الآية أيضاً عن الدلالة؛ لأنّ المفروض أنّ كلمة الجهالة مجملة بين احتمالين، وأنّها على أحد الاحتمالين ـ وهو احتمال كون المراد بها السفاهة ـ غير دالّة على المقصود.

609

وإن قلنا بالثاني فالآية عندئذ وإن دلّت على عدم حجّيّة خبر الفاسق والنسبة بينه وبين الثقة عموم من وجه، لكن إذا لاحظنا التعليل رأينا أنّ النسبة بين التعليل ودليل حجّيّة خبر الثقة إنّما هي العموم المطلق؛ لأنّ التعليل يدلّ على عدم حجّيّة كلّ خبر غير علميّ، ومن المعلوم أنّ خبر الثقة غير العلميّ أخصّ من ذلك، فيقدّم دليل حجّيّته على هذا التعليل، وبعد هذا لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق الحكم المعلّل في الآية، وهو قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا﴾، بدعوى أنّه يشمل الفاسق الثقة، فيعارض دليل حجّيّة خبر الثقة بالعموم من وجه؛ وذلك لأنّ المفروض أنّه ثبت بواسطة التعليل أنّ عدم الاعتماد على خبر الثقة ليس لأجل فسقه إهانة له مثلاً، وإنّما هو لعلّة كون الخبر غير علميّ، وقد فرض تقديم دليل حجّيّة خبر الثقة على هذا التعليل، ومعنى ذلك أنّه ثبت أنّ هذه العلّة لا تصلح للعلّيّة في مقابل الوثاقة، وإنّما تصلح للعلّيّة في غير فرض الوثاقة، فبضمّ هاتين المقدّمتين إحداهما إلى الاُخرى، وهما: كون العلّة في عدم الاعتماد على خبر الفاسق هي عدم العلم، وعدم صلاحيّة ذلك للعلّيّة في فرض الوثاقة، يسقط شمول إطلاق الحكم بعدم الاعتماد المعلّل بهذه العلّة لخبر الفاسق الثقة عن الحجّيّة.

وإن غضضنا النظر عن هذه النكتة التي بيّنّاها بواسطة التعليل قلنا: إنّ هذه الآية لا تصلح رادعة عن السيرة، وإنّما السيرة تكشف عن مخصّص لها، فإنّها لو صلحت للردع لوقع الارتداع، وقد أثبتنا استقرار سيرتهم في زمان الإمام(عليه السلام)على العمل بخبر الثقة الفاسق، ولا يحتمل كون عملهم به من باب العصيان. ولا تصلح الآية لإسقاط هذه السيرة مع فرض استقرارها عن الحجّيّة، فإنّها إمّا سيرة عقلائيّة، فتكشف كشفاً قطعيّاً عن رضا المعصوم؛ إذ لولا رضاه لكان يردع بمقدار يوجب ارتداع المتديّنين. وإمّا سيرة المتشرّعة وهي في طول ثبوت الحكم من قبل المعصوم، فأيضاً تكشف كشفاً قطعيّاً عن حجّيّة خبر الثقة الفاسق.

610

 

الخبر المعارض لأمارة غير حجّة:

الجهة الخامسة: في أنّه إذا كان خبر الثقة بذاته مورثاً للظنّ المستند إلى الوثاقة لكنّه تعارض مع أمارة اُخرى غير حجّة، وأوجب ذلك سقوطه عن إيراث الظنّ، فهل يبقى على حجّيّته، أو لا ؟

وهذا التعارض ينقسم إلى قسمين: فإنّه تارةً يفرض تعارضه مع أمارة اُخرى، وانتفاء الظنّ الحاصل منه بلحاظ حالة شخصيّة لشخص خاصّ لا يشترك فيه نوع العقلاء، وإنّما يكون ناشئاً عن انحراف ذاك الشخص عن الحالة العقلائيّة المتعارفة. واُخرى يفرض تعارضه مع أمارة اُخرى، وانتفاء الظنّ الحاصل منه في نظر نوع العقلاء، فكلّ عاقل يطّلع على تلك الأمارة المعارضة لا يبقى له عادة ظنّ ناشئ من هذا الخبر.

أمّا القسم الأوّل: فكما لو كان الشخص وهميّاً بحسب حالته النفسيّة، فيعتمد على اُمور وهميّة، فالرؤيا مثلاً تورث له الظنّ بالحكم، ففي مقام الكشف يوقع المعارضة بين الرؤيا وخبر الثقة، ويسقط خبر الثقة عن الكشف.

أو لم يكن وهميّاً في نفسه، ولكن أثّرت فيه اُمور خارجيّة أوجبت له عقدة نفسيّة، كما لو ابتلى صدفة في حياته بأخبار كاذبة كثيرة واردة من الثقات فحصلت له العقدة تجاه خبر الثقة، فأوجبت تلك العقدة إيقاعه للمعارضة بين خبر الثقة، وأدنى أمارة مخالفة بنحو ينتفي في نفسه الظنّ الناشئ من خبر الثقة.

نعم، لو فرض أنّ رؤيته لتلك الأخبار الكاذبة أوجبت تغيير موضوع حساب الاحتمالات في خبر الثقة في ذهنه، فبالرغم من أنّ الناس يعتقدون أنّ الثقة يصدق بمقدار تسعين من المئة ـ مثلاً ـ يعتقد هذا الشخص أنّه يصدق بمقدار سبعين من المئة، وأنّ كلّ مَن اطّلع على ما اطّلع عليه من كذب الثقات لصدّقه في

611

ذلك، فينتفي من نفسه الظنّ إذا تعارض خبر الثقة مع أمارة اُخرى تكشف أيضاً بمقدار سبعين من المئة، كان هذا خارجاً عمّا نحن فيه؛ إذ هو يعتقد أنّ زوال كاشفيّة هذا الخبر ليس بملاك خاصّ في نفس هذا الشخص، بل هو بملاك عامّ لو اطّلع عليه كلّ عاقل لصدّقه، وإنّما الكلام في المقام يكون فيما إذا فرض أنّه بالرغم من موافقته لسائر العقلاء في النسبة المئويّة لصدق خبر الثقة يختلّ في ذهنه تأثير حساب الاحتمالات، وينتفي الظنّ بالتعارض مع أدنى أمارة لأجل ماله من عقدة نفسيّة تجاه خبر الثقة ناشئة من اجتماع أخبار الثقات الكاذبة صدفة لديه، نظير العقدة النفسيّة التي قد تحصل للإنسان تجاه الطبيب بالرغم من علمه بإصابته للواقع غالباً، وذلك من ناحية ابتلائه صدفة في حياته الشخصيّة بأخطاء الأطبّاء.

وكما لو كانت حركة حساب الاحتمالات سريعة في ذهنه، فهذا قسم ثالث يوجب أيضاً انتفاء كشف خبر الثقة من نفسه بتعارضه مع بعض الأمارات من دون موافقة سائر العقلاء معه في ذلك، كما لو فرض أنّه أخبره ثقة بشيء، وسمع أيضاً همهمة من ثقة آخر مقترنة ببعض القرائن، فأوجب ذلك له الظنّ بأنّ هذا الثقة كذّب ذاك الثقة مع أنّ حساب الاحتمالات في ذلك لم يتوفّر بنحو يوجب هذا الظنّ في متعارف العقلاء، وكان ذلك بنحو أوجب انتفاء الظنّ من نفسه الحاصل من خبر الثقة الأوّل.

وقد نقل السيّد الاُستاذ عن بعض أنّه كان يحصل له القطع بالحكم الشرعيّ عن اتّفاق الشيخ الأنصاريّ، والسيّد ميرزا حسن الشيرازيّ، والشيخ ميرزا محمّد تقي الشيرازيّ على فتوى من الفتاوى، فنقول: إنّ هذا الشخص لو اطّلع على توافق اثنين من هؤلاء على فتوى حصل له الظنّ بالصحّة، فلو تعارض ذلك مع خبر الثقة فقد يسقط خبر الثقة في نظره عن الكشف.

وخلاصة الكلام: أنّه متى ما كان انتفاء الكشف في خبر الثقة بأمر من هذا

612

القبيل، أي: بالمعارضة لأمارة مّا بحسب حالة شاذّة لهذا الشخص، فهل يبقى خبر الثقة حجّة، أو لا ؟ التحقيق: بقاؤه على الحجّيّة، ولا نحتاج في ذلك إلى تكلّف إثبات انطباق السيرة على ذلك حتّى يناقش فيه أو لا يناقش، بل يكفينا إطلاق حديث «العمريّ وابنه ثقتان» ونحوه، وليست هناك قرينة على خلاف هذا الإطلاق: من ارتكاز عقلائيّ، فإنّ جعل الحجّيّة لخبر الثقة رغم تزاحمه بمثل هذه الأمارات لغلبة صدقه على صدقها إن لم يكن عليه ارتكاز العقلاء، فلا أقلّ من عدم الارتكاز العقلائيّ على خلافه.

وأمّا القسم الثاني: فكما لو تعارض خبر الثقة مع أخبار عديدة من غير الثقات، أو مع الشهرة، أو نحو ذلك من الأمارات الظنّيّة، ففقد ما كان له من الكشف بحسب نظر العقلاء، فعندئذ هل يكون هذا الخبر حجّة، أو لا ؟ تارةً يستشكل في حجّيّته ثبوتاً، واُخرى يستشكل فيها إثباتاً:

أمّا الإشكال الثبوتيّ: فبتقريب أنّ مبنانا في الأحكام الظاهريّة يكون على الطريقيّة لا السببيّة، وعليه فلا يعقل ثبوتاً جعل الحجّيّة لهذا الخبر؛ لأنّ جعلها له دون نقيضه ترجيح بلا مرجّح. وبكلمة اُخرى: إنّ ملاك الحجّيّة غير موجود في المقام؛ لأنّ ملاكها الكشف، وهو غير ثابت لهذا الخبر، فإنّ نسبة هذا الخبر ونقيضه إلى الواقع على حدّ سواء.

وأمّا الإشكال الإثباتيّ: فتقريبه أنّ الوثاقة كما عرفت اُخذت بما لها من الكشف لا بما هي حالة نفسيّة، ومع قطع النظر عن الكشف يصبح التعليل بالوثاقة تعليلاً تعبّديّاً صرفاً، والمفروض أنّ الخبر فيما نحن فيه غير كاشف بالفعل، واقتضاء الكشف غير الكشف.

وربّما يجاب عن الإشكالين بأنّ من الممكن افتراض أنّ المولى رأى أنّ الموافق للواقع في أخبار الثقات المعارضة للشهرة ـ مثلاً ـ أكثر من الموافق للواقع

613

في تلك الشهرات، فيعقل ثبوتاً جعله للحجّيّة لخبر الثقة المعارض للشهرة. كما ينتفي بذلك أيضاً الإشكال الإثباتيّ؛ لأنّ الكشف المأخوذ في الدليل يحمل على الكشف لدى المولى، فلو كان المولى يرى أنّ صدق خبر الثقة المعارض للشهرة أكثر من صدق الشهرة المعارضة له فالكشف ثابت في المقام، ولو اطّلع العبد على ذلك عرف كاشفيّة خبر الثقة.

ولا يرد على هذا التقريب: ما نقوله في بعض الأحيان: من أنّه ليس البناء على إعمال الغيب في مقام بيان الأحكام الشرعيّة، فإنّ ما قلناه إنّما هو بالنسبة للموضوعات الخارجيّة للأحكام، فلو قال السائل مثلاً: (هل أغتسل في هذا اليوم ؟) فقال الإمام: (نعم)، لم يحمل ذلك على أنّه(عليه السلام) كان يعلم بعلم الغيب بكونه مجنباً، فأمره بالغسل، إنّما يحمل على استحباب الغسل في ذلك اليوم. وأمّا بالنسبة لنفس الأحكام، وحدودها وملاكاتها التي يكون حسابها على المولى، فلابدّ للمولى من النظر إلى تمام الجهات ولو بإعمال الغيب حتّى يحكم.

كما أنّه لا يرد على هذا التقريب: أنّه بعد فرض تقيّد الحكم بالكاشفيّة يكون التمسّك هنا بالإطلاق تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ إحراز الكاشفيّة بمعنى غلبة الصدق في نظر المولى غير متحقّق لنا، فكيف نتمسّك بالإطلاق ؟ أو إحراز ذلك من نفس الإطلاق فيستبطن الدور.

والجواب على ذلك من قبل صاحب هذا الوجه: أنّ هذا المخصّص اللبّيّ ـ مثلاً ـ أحرزه نفس المولى، فإطلاق كلامه كإطلاق قوله: (أكرم جيراني) الدالّ على عدم وجود عدوّ له في جيرانه، إذا علم أنّه لا يريد إكرام عدوّه.

ولكن التحقيق: أنّ هذا التقريب وإن دفع الإشكال الثبوتيّ، لكنّه لا يدفع الإشكال الإثباتيّ، فإنّ ظاهر الدليل كان هو أخذ الوثاقة بما لها من الكشف، فالكشف لابدّ أن يكون مستنداً إلى الوثاقة كي يدخل الخبر في إطلاق دليل حجّيّة

614

خبر الثقة، والكشف بالنحو الذي بيّن في هذا التقريب لا يكون ناشئاً من الوثاقة، وإنّما المفروض أنّ المولى اطّلع على هذه الأخبار فرأى أنّ موافقتها للواقع أكثر من موافقة الأمارة الاُخرى المعارضة له. أمّا لو فرضنا المولى إنساناً اعتياديّاً غير مطّلع على ذات الواقع، ومحتاجاً في الكشف إلى عنوان الوثاقة، فسوف لن يرى أنّ النسبة المئويّة في الصدق في جانب خبر الثقة المعارض للشهرة ترجّح على النسبة المئويّة في الصدق في جانب الشهرة المعارضة له.

والصحيح مع ذلك هو حجّيّة خبر الثقة وإن عارضته أمارة اُخرى غير حجّة فانتفى كشفه في مورده، فإنّه ليس في ذلك محذور ثبوتيّ ولا إثباتيّ: أمّا المحذور الثبوتيّ فيكفي في دفعه التقريب السابق. وأمّا المحذور الإثباتيّ ـ وهو أخذ الكشف في دليل الحجّيّة ـ فندفعه بتقريب جديد. وتوضيحه: أنّ خبر الثقة في نفسه كاشف باعتبارين:

الأوّل: كشفه باعتبار مورده الخاصّ، وهذا الكشف تنتفي فعليّته بالتعارض مع أمارة اُخرى مثله في درجة الظنّ، بل في الحقيقة إنّ تعبيرنا بأنّ هذا الخبر يقتضي الكشف ولكن لم يصل اقتضاؤه إلى مرحلة الفعليّة لوجود المانع مسامحة في الكلام، والواقع أنّه بهذه المعارضة ينتفي أصل المقتضي للكشف؛ إذ الكشف في الأمارات الظنّيّة قائم على أساس حساب الاحتمالات المرتكز على أساس العلم الإجماليّ، والوجه في حصول الكشف الظنّيّ هو ثبوت المنكشف على تقدير أكثر أطراف العلم الإجماليّ، كما لو فرضنا أنّ دواعي الصدق في الثقة ثلاثة، وداعي الكذب واحد، فإذا أخبرنا بخبر علمنا إجمالاً بتحقّق أحد الدواعي الأربعة، والعلم الإجماليّ ينقسم على أطرافه بالتساوي، فيحصل الظنّ بالصدق بقدر ثلاثة أرباع اليقين، ولنفرض أنّ الأمارة التي عارضت خبر الثقة ـ وهي الشهرة مثلاً ـ توجد أسباب ثلاثة لموافقتها للواقع، وسبب واحد لمخالفتها، فإذا دلّ الخبر على شيء،