145

هذه هي عاطفة السيّد ـ أيّها الإخوة ـ التي أساسها الدافع الإلهىّ، والتقرّب إليه، والسعي إلى رضاه.

 

القيادة النائبة:

والسيّد الشهيد(رحمه الله) حينما بدأ التحرّك بقصد الإطاحة بحكم الطاغوت وإعلاء كلمة الله، اعتقد أنّه هو بنفسه لن يوفّق لتحقيق الهدف في حياته؛ لأنّه يعرف صدّاماً وطبيعته الإجراميّة، ويعرف النظام الحاكم وقساوته؛ ولذلك فقد وضع مخطّطاً لاستمرار وإنجاح الثورة ـ وإن كان لم يوفّق لتنفيذه ـ بعد استشهاده: وهو ما أسماه بــ (القيادة النائبة). وعلى أيّة حال، فتخطيطه لاستمرار الثورة وكذلك تخطيطه لاُسلوب الشهادة كان على هذا النحو:

قرّر السيّد الشهيد(قدس سره) تشكيل القيادة النائبة التي كان من المفروض أن تقود الثورة في حالة فراغ الساحة من نفسه الزكيّة، وكان تصوّر السيّد الشهيد الأوّليّ لفكرة القيادة النائبة كالتالي:

أوّلاً: يقوم السيّد الشهيد بانتخاب عدد محدود من أصحاب الكفاءة واللياقة ينيط بهم مسؤوليّة قيادة الثورة بعد استشهاده.

ثانياً: يضع السيّد الشهيد قائمة بأسماء مجموعة اُخرى من العلماء والقياديّين الرساليّين، ويكون للقيادة النائبة التي انتخبها السيّد الشهيد اختيارُ أىّ واحد منهم حسب ما تقتضيه المصلحة؛ ليكون عضواً في القيادة، كما أنّ للقيادة اختيارَ أىّ عنصر آخر لم يرد اسمه في هذه القائمة؛ لينضمّ إليها، وذلك على حسب متطلّبات وحاجة الثورة.

ثالثاً: يصدّر السيّد الشهيد عدّة بيانات بخطّه، وتسجّل ـ أيضاً ـ بصوته يطلب فيها من الشعب العراقيّ الالتفاف حول القيادة النائبة وامتثال أوامرها وتوجيهاتها.

رابعاً: يطلب من الإمام القائد السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ دعم القيادة، بعد أن يوصيه بهم.

خامساً: في المرحلة الأخيرة يقوم السيّد الشهيد بإلقاء خطاب في الصحن الشريف بين صلاتي المغرب والعشاء يعلن فيه عن تشكيل القيادة النائبة، ويعلن أسماء أعضائها،

146

ويطلب من الجماهير مساندتها ودعمها. وقد أمرني السيّد الشهيد(قدس سره)بشراء مسدّس؛ ليستفيد منه في حالة منع الأمن له من الخروج إلى الصحن الشريف، وكان يقول: «وسوف أستمرّ في خطابي حتّى تضطرّ السلطة إلى قتلي في الصحن؛ لأجعل من هذا الحادث بداية عمل القيادة النائبة».

وكان يقول: «ليس كلّ الناس يحرّكهم الفكر، بل هناك من لايحرّكه إلّا الدم»، يعني(قدس سره): أنّه ـ لاشكّ ولاريب ـ لو أنّ الآلاف من أبناء العراق يرون السيّد الشهيد ـ بهذا الوجه المشرق بالإيمان والنور ـ صريعاً في صحن جدّه(عليه السلام)، والدماء تنزف من بدنه الشريف، فسوف يتأثّرون بالمستوى المطلوب الذي يتوقّعه السيّد(رحمه الله).

وظلّ السيّد الشهيد يفكّر ويخطّط في الوسائل الكفيلة بانجاح مشروع القيادة النائبة، ولم أرَه طيلة فترة الحجز اهتمّ بأمر كاهتمامه بمشروع القيادة النائبة، فقد كان يعلّق عليه الآمال، ويرى فيه الحلّ للمشاكل التي قد تواجه الثورة في مسيرتها نحو تحقيق حكم الله في الأرض، وذلك بعد فراغ الساحة منه بعد استشهاده، (رضوان الله عليه).

ولكن «ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه»، فلأسباب خارجة عن إرادة شهيدنا العظيم لم يقدّر لمشروع القيادة النائبة أن يرى النور. ولاحول ولاقوّة إلّا بالله العلىّ العظيم.

 

المفاوضات التي اُجريت معه:

أمّا المفاوضات التي اُجريت مع السيّد خلال فترة الاحتجاز، فقد حدثت لقاءات عديدة مع السيّد خلال تلك الفترة، كان أوّلها: اللقاء الذي حدث بين السيّد وبين المجرم (أبي سعد) مدير أمن النجف، قال له المجرم متناسياً كلّ ما صدر منهم من اعتداءات على السيّد: نحن ماذا صنعنا كي تتعامل معنا هكذا؟! فقال له السيّد: ما الذي صار؟ فقال المجرم: إنّ حادثة (رجب) كانت ثورة ناجحة لو لاحزم القيادة السياسيّة (يعني: لولا العنف والإرهاب والاضطهاد التي مُورست بحقّ أبناء العراق البررة الذين جاؤوا يبايعون السيّد الشهيد على الولاء والثورة، فلولا الإجراءات القمعيّة التي اتُّخذت بحقّ

147

هؤلاء، لكانت ثورة ناجحة). قال له السيّد: «أنتم ضغطتم على حرّيّة الناس، ومنعتموهم عن التعبير عن آرائهم وولائهم للمرجعيّة، فجاؤوا إلى هنا؛ ليعبّروا عن بعض ما في نفوسهم فما هو ذنبي؟!».

ثُمَّ طلب المجرم من السيّد أن يفتح باب البيت، ويعود إلى وضعه الطبيعيّ، ويستقبل كلّ من يأتي لزيارته، فرفض السيّد ذلك(1).

ثُمَّ استمرّ مسلسل المفاوضات إلى الفترة التي سبقت استشهاد السيّد(قدس سره)باُسبوع.

إنّني ـ والله ـ طيلة فترة الاحتجاز كنت أرى السيّد الشهيد(قدس سره)يتفانى من أجل الإسلام، ومن أجل المسلمين، ومن أجل العراقيّين المؤمنين المجاهدين، ولم أره يفكّر بنفسه ومصيره، وما سوف يعاني قبل الإعدام من تعذيب وحشىّ في غرف وأقبية الأمن العامّ.

تفاني السيّد الشهيد تفان عظيمٌ، وإخلاصه إخلاص عظيم، والشيء الذي أودّ أن أقوله: هو أنّه مهما فعلنا ومهما قمنا وأدّينا من أعمال جهاديّة ضدّ السلطة الظالمة كوفاء للسيّد الشهيد، لايفي ذلك بجزء يسير من حقّه علينا؛ لأنّ السيّد الشهيد تعذّب واستشهد من أجلنا، وإلّا فإنّه كان بإمكانه أن يجنّب نفسه كلّ المشاقّ والصعاب والآلام التي تحمّلها، ويعيش كأىّ مرجع آخر، ويجنّب نفسه الاستشهاد وهو في هذا العمر.

 

قِصّة استشهاده(رحمه الله):

أمّا استشهاده(قدس سره)فكان مروّعاً ومؤثّراً، فقد جاء مدير أمن النجف ظهراً ومن دون علم سابق، وقال للسيّد(قدس سره): إنّ المسؤولين يودّون اللّقاء بك في بغداد. فقال السيّد: «إن كانت زيارة فلا أذهب، وإن كان اعتقالاً فاعتقلني». فقال مدير الأمن: «سيّدنا اعتقال». فأخذ السيّد الشهيد وهو في كامل الاطمئنان بالاستشهاد ولقاء الله تعالى وأجداده الطاهرين؛ إذ كان (رضوان الله عليه) قد رأى رؤياً بعد انتهاء المفاوضات مع الشيخ الخاقانيّ: كأنّ أخاه


(1) كأنّما كان هذا مصيدة؛ لمعرفة من تبقّى من المخلصين.

148

المرحوم السيّد إسماعيل الصدر، وخاله آية الله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، كلّ واحد منهما جالس على كرسىّ، وقد جعلوا كرسيّاً في الوسط للسيّد(قدس سره) وملايين الناس من البشر ينتظرونه، فقال لي(قدس سره)بعد أن قصّ علىّ هذه الرؤيا: أنا اُبشّر نفسي بالشهادة! وفعلاً في نفس الاُسبوع استشهد، رضوان الله عليه.

بعد يوم من اعتقال السيّد(قدس سره)جاء أحد ضبّاط الأمن إلى بيت السيّد، وقال: «إنّ السيّد يريد اُختة العلويّة بنت الهدى». وهذه المرأة المظلومة ـ التي مازالت مواقفها وبطولاتها وصمودها وحياتها الحافلة بالجهاد مجهولةً ـ ذهبت وكأنّها أسد في شجاعتها وثباتها وتماسكها غير مبالية بشيء!

بعد اعتقال بنت الهدى بيوم جاؤوا إلى المرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر، وأروه جثمان السيّد الشهيد، وتمّ الدفن بحضوره، وقد شاهد آثار التعذيب في رأسه الشريف، ولم يسمحوا له برؤية بدنه الشريف. واللهُ يعلم بما قد فعلوا ببدنه الطاهر.

هذا الدم الطاهر الزكىّ هو في الواقع أمانة في أعناقنا، فالسيّد الشهيد حينما كان يقول لنا: يا أبنائي، كان يقولها من قلب صادق، وشعور حقيقيّ، يرانا أبناءً له، فإذا لم نثأر لهذا الدم الطاهر، ونتنازل عن كلّ شيء من أجله، فمن ذا الذي يثأر له؟! وينتقم من ظالميه؟! ويقرّ عين محمّد(صلى الله عليه وآله) وعلىّ والزهراء والحسن والحسين(عليهم السلام)؟! إنّ السيّد الشهيد من هذه الذرّيّة الطاهرة، ومن هذه الشجرة المباركة، فليس من المعقول أن نسكت على دمه الذي هو كدم الحسين(عليه السلام)، ونفس المظلوميّة التي أصابت الحسين سيّد الشهداء أصابت الشهيد والمرجع المظلوم السيّد الصدر، رضوان الله عليه».

انتهى ما أردت نقله من نصّ كلام الشيخ النعمانيّ (حفظه الله) بتغيير يسير.

ولقد أثكل المسلمون في كلّ أنحاء العالم باستشهاده، وسادت مظاهر العزاء والحداد والتظاهرات والإضرابات ومجالس التأبين كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ. وقد رثاه الشعراء بقصائد رائعة، ومن أروعها ما أنشأه المرحوم السيّد الدكتور داود العطّار، والتي مطلعها:

149

باقِرَ الصدرِ منّا سلاما *** أىُّ باغ سقاكَ الحِماما

أنتَ أيقظتنا كيف تغفو *** أنت أقسمت أن لَن تناما والقصيدة معروفة.

وأبّنه العلماء الأعلام والمراجع العظام، وعلى رأسهم: آية الله العظمى، مفجّر الثورة الإسلاميّة في إيران، وقائد المسيرة الإسلاميّة في العالم، سماحة الإمام روح الله الموسوىّ الخمينىّ ـ دام ظله ـ الذي قال في تأبينه ما كانت ترجمته باللّغة العربية كالتالي:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

تبيّن ـ ببالغ الأسف ـ من خلال تقرير السيّد وزير الشؤون الخارجيّة، والذي تمّ التوصّل إليه عن طريق مصادر متعدّدة وجهات مختصّة في الدول الإسلاميّة، وحسب ما ذكرته التقارير الواردة من مصادر اُخرى: أنّ المرحوم آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر وشقيقته المكرّمة المظلومة، والتي كانت من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب، قد نالا درجة الشهادة الرفيعة على أيدي النظام البعثىّ العراقيّ المنحطّ، وذلك بصورة مفجعة!

فالشهادة تراث ناله أمثال هذه الشخصيات العظيمة من أوليائهم، والجريمةوالظلم ـ أيضاً ـ تراث ناله أمثال هؤلاء ـ جناة التأريخ ـ من أسلافهم الظلمة.

فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلاميّة على أيدي أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنّما العجب هو أن يموت مجاهدو طريق الحقّ في الفراش دون أن يلطّخ الظلمة الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم!

ولاعجب أن ينال الشهادة المرحوم الصدر وشقيقته المظلومة، وإنّما العجب أن تمرّ الشعوب الإسلاميّة، وخاصّة الشعب العراقىّ النبيل، وعشائر دجلة والفرات، وشباب

150

الجامعات الغيارى، وغيرهم من الشبّان الأعزّاء في العراق على هذه المصائب الكبرى التي تحلّ بالإسلام وأهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)دون أن تأبه لذلك، وتفسح المجال لحزب البعث اللّعين؛ لكي يقتل مفاخرهم ظلماً الواحد تلو الآخر.

والأعجب من ذلك هو أن يكون الجيش العراقىّ وسائر القوى النظاميّة آلة بيد هؤلاء المجرمين، يساعدونهم على هدم الإسلام والقرآن الكريم.

إنّني يائس من كبار القادة العسكريّين، ولكنّني لست يائساً من الضبّاط والمراتب والجنود، وما أتوخّاه منهم هو: إمّا أن يثوروا أبطالاً، وينقضّوا على أساس الظلمكما حدث في إيران، وإمّا أن يفرّوا من معسكراتهم وثكناتهم، وألّا يتحمّلوا عار مظالم حزب البعث.

فأنا غير يائس من العمّال وموظّفي حكومة البعث المغتصبة، وآمل أن يضعوا أيديهم بأيدي الشعب العراقىّ، وأن يزيلوا هذا العار عن بلاد العراق.

أرجوه تعالى أن يطوي بساط ظلم هؤلاء الجناة.

وها أنا اُعلن الحداد العامّ مدّة ثلاثة أيّام اعتباراً من يوم الأربعاء الثالث من شهر (اُرديبهشت) الثالث والعشرين من نيسان، كما اُعلن يوم الخميس عطلةً عامّة، وذلك تكريماً لهذه الشخصيّة العلميّة، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلميّة، ومن مراجع الدين، ومفكّري المسلمين.

وأرجو الخالق تعالى أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الكبرى والعظيمة على الإسلام والمسلمين. والسلام على عباد الله الصالحين.

( الثاني من شهر اُرديبهشت سنة 1359 )

روح الله الموسويّ الخمينىّ

هذا كلّ ما أردت تسجيله هنا من ترجمة مختصرة عن حياة شهيدنا الغالي آية الله العظمى، مفجّر الثورة الإسلاميّة في العراق، السيّد محمّد باقر الصدر، تغمّده الله برحمته.

151

وأقول: إنّها ترجمة مختصرة؛ لأنّ حياته الشريفة على رغم قصرها ـ حيث لم يكمل(رحمه الله)السابعة والأربعين من عمره ـ زاخرة ببحر من العطاء والجهاد والفداء والتضحيات، وليست هذه الترجمة عدا اغتراف غرفة من هذا البحر، وبإمكانك أيّها القارئ الكريم أن تطّلع ـ بمطالعة الكتب الاُخرى التي كتبت عنه(رحمه الله) وباستنطاق سائر طلّابه وغيرهم ممّن أدركوه وعاشروه ـ على معلومات اُخرى كثيرة عن حياته المباركة التي كانت كلّها وقفاً لخدمة الدين والعلم، ومازالت ثمرات مشاريعه القيّمة تدرّ على المسلمين بالخيرات والبركات، فهو على رغم اغتيال الاستكبار العالمىّ له سيبقى خالداً مدى الأعوام والدهور من خلال عطاءاته التي لاتنتهي، ومعين علمه وجهاده الذي لاينضب.

ولقد صدق المرحوم الدكتور السيّد داود العطّار(رحمه الله) إذ قال:

يا أبا جعفر سوف تبقى
مشعلاً هادياً يتسامى
كَذِبَ البعثُ ما زلتَ فينا
كالخمينىِّ تَهدي الأناما

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حيّاً.

تلميذه الصغير كاظم الحسينيّ الحائريّ

( 20 / شعبان المعظّم / 1406 هـ )

 

 

 

153

 

 

 

مباحث الاُصول

 

 

تقريراً لأبحاث سماحة آية اللّه العظمى

الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)

 

الجزء الأوّل

من

القسم الثاني

 

تأليف

سماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه

 

155

 

 

 

 

بحث القطع

 

○ المقدّمة.

○ حجّيّة القطع.

○ التجرّي.

○ أقسام القطع.

○ الموافقة الالتزاميّة.

○ الدليل العقلىّ.

○ العلم الإجمالىّ

 

157

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على نعمائه وبلائه، والصلاة والسلام على محمّد سيّد أنبيائه، وعلى الأئمّة المعصومين من آله صفوة أوليائه.

وبعد، فإنّ قلبي يقطر دماً، ويتقطّع ألماً حينما أراني مُقدِماً على طبع أبحاث اُستاذي الشهيد القيّمة وآرائه الفذّة وهو غائب عنّا، لانستطيع الاستفادة من إشرافه على هذا العمل، قد غيّبته عن أبنائه وعن الاُمّة الإسلاميّة يد الظلم والطغيان المتمثّلة بزمرة البعث الكافرة العميلة المسيطرة على عراقنا الجريح، تلك الزمرة الحاقدة التي لم يروعطشها الدموىّ كلّ تلك الدماء الزاكيات التي أراقتها على مذابح التعذيب والتنكيل، وفي أقبية السجون، وعلى أعواد المشانق، حتّى مدّت يدها إلى أكرم نفس أنجبته أرض العراق المعاصر، وأعظم عبقريّة تجلّت في سماء الفكر الإسلامىّ الحديث، فِلذَة كبد الرسول(صلى الله عليه وآله)، والمرجع الإسلامىّ الذي أضاء بنوره سماء العالم الإسلامىّ، والقائد الذي قلّما شهدت المسيرة الإسلاميّة نظيراً له في التاريخ القريب، سيّدنا ومربّينا واُستاذنا، الشهيد السعيد، آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصّدر، تغمّده الله برحمته.

وإنّي إذ أبتهل إلى الله تعالى أن يتغمّده برضوانه أسأله تعالى أن يمنّ بنصره العاجل على عباده المؤمنين، فيأخذوا بثأرهم من هذه الزمرة العميلة الجاثمة على صدر أُمّتنا في العراق، وأن يصبّ عليهم عذابه ونقمته العاجلة في الدنيا قبل عذاب الجحيم، وأن يقرّ عيون المؤمنين بانتصار الثورة الإسلاميّة في العراق إنّه سميع مجيب.

وها هو بحث القطع من الأبحاث الاُصوليّة القيّمة التي أدلى بها اُستاذنا الشهيد خلال دورته الاُصوليّة، وقد بلغ هذا الموضع من البحث بتأريخ: ربيع الآخر من السنة (1383 هـ ).

صفر / 1406 هـ

كاظم الحسينىّ الحائرىّ

159

بحث القطع

1

 

 

 

المقدّمة

 

 

في التقسيم الذي جاء في أوّل ( الفرائد )

○ موضوع التقسيم.

○ التثليث الوارد في التقسيم.

○ متعلّق الأقسام.

وتتضمّن أيضاً:

1 ـ تفسير عمليّة الإفتاء.

2 ـ حكم المجتهد غير الأعلم.

 

 

 

161

 

 

 

 

بدأ الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) بالكلام في التقسيم الذي ذكره الشيخ الأعظم(الأنصارىّ)(رحمه الله)في أوّل فرائده، حيث قال:

«اِعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعىّ فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه، أو القطع، أو الظنّ».

قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): يقع الكلام هنا في عِدّة جهات:

 

الجهة الاُولى في موضوع التقسيم

 

إنّ موضوع التقسيم في كلام الشيخ(رحمه الله) عبارة عن (المكلّف).

وأورد عليه المحقّق الخراسانىّ(قدس سره)في تعليقته على الرسائل صريحاً ـ على ما أتذكّر ـ وفي الكفاية تلويحاً: أنّ ظاهر كلمة (المكلّف) فعليّة الكُلفة، كما هو شأن المشتقّات الظاهرة في فعليّة التلبّس بالمبدأ، في حين ربّما لاتكون عليه كُلفة في تلك الواقعة التي التفت إليها؛ ولذا أبدل هذا العنوان في الكفاية بعنوان «البالغ الذي وضع عليه القلم» وكأنّ مقصوده وضع مطلق قلم الحكم ولو لم يكن قلم التكليف، كما هو الحال في موارد الإباحة، وإلّا لم يبق فرق بين التعبيرين(1). وعلى أىّ حال، فهذا لايعدوأن يكون نقاشاً


(1) يرى صاحب الكفاية ـ على ما يبدومن تعليقته على الرسائل ـ فرقاً آخر ـ أيضاً ـ بين التعبيرين، وهو: أنّ التعبير الأوّل قد يوحي إلى تنجّز التكليف، في حين أنّه ليس الكلام في خصوص من تنجّز عليه التكليف، وإنّما الكلام فيمن وضع عليه القلم سواءٌ وصل الحال إلى مستوى التنجّز أم لا. ومقصوده(قدس سره) من التنجّز: إمّا هو المعنى المصطلح من التنجّز العقليّ، أو مرتبة الفعليّة التامّة على حسب ما يراه من ثبوت المراتب للحكم.

وعلى أىّ حال، فالصحيح: أنّ كلمة (المكلّف) ليس لها ظهور في فعليّة التكليف الإلزامىّ، أو تنجّزه في خصوص الحكم الذي التفت إليه وشكّ أو ظنّ أو تيقّن به؛ كي تكون حاجة إلى تبديل العبارة بعبارة اُخرى، وإن كان لها ظهور في الفعليّة، فإنّما ظهورها في فعليّة الحكم عليه في الجملة ولو بلحاظ بعض الأحكام، وهو مساوق لكلمة (البالغ)، أي: الذي أنهى دور السقوط الكليّ للتكاليف عنه.

162

لفظيّاً لاينبغي البحث عنه، والمراد واضح. والعمدة في المقام البحث عن أمرين:

 

شمول التقسيم لغير البالغ

الأمر الأوّل: أنّ الموضوع لهذا التقسيم هل ينبغي أن يكون خصوص البالغ ـ بأىّ تعبير عبّرنا عنه ـ أو لاوجه لاختصاصه به، بل ينبغي شموله لغير البالغ الذي يكون مميّزاً، بحيث يكون رفع التكليف عنه من باب المنّة، لامن باب عدم قابليّته لتوجّه التكليف إليه؟

الصحيح: هو الثاني؛ وذلك لأنّ غير البالغ ـ أيضاً ـ ربّما تحصل له شبهة حكميّة لابدّ له عقلاً من تحصيل مؤمّن اتّجاهها.

وإنّما قيّدنا الشبهة بكونها حكميّة؛ لأنّ تأسيس قواعد الشبهة الموضوعيّة كقاعدة الفراغ والتجاوز ليس من وظيفة علم الاُصول، والاستصحاب إنّما يجعل من أبحاث مسائل علم الاُصول بلحاظ دعوى جريانه في الأحكام أيضاً.

أمّا كيف يشكّ غير البالغ في الحكم؟ فهذا ما يمكن تصوّره بعدّة أنحاء:

1 ـ أن يشكّ فيما جعل حدّاً للبلوغ: هل هو الدخول في الخامسة عشر، أو إكمالها مثلاً؟

2 ـ أن يشكّ في مفهوم ما جعل حدّاً للبلوغ، كما لو شكّ في مفهوم (الإنبات) سعة وضيقاً.

3 ـ أن يحتمل ثبوت بعض الأحكام على غير البالغ، كما صرّح بعض الفقهاء بثبوت الأحكام الناشئة من قاعدة الملازمة بين حكم العقل بالقبح والحرمة الشرعيّة، كحرمة الظلم على غير البالغين كثبوتها على البالغين.

فلابدّ له من تحصيل مؤمّن من قطع أو ظنّ معتبر، أو العمل بوظيفة الشاكّ الشرعيّة أو العقليّة.

فلو فرضنا أنّ الشخص غير البالغ كان مجتهداً، رجع في القسم الأوّل ـ مثلاً ـ إلى العموم والإطلاق المثبت للتكليف؛ لحجّيّة العامّ عند الشكّ في تخصيص زائد منفصل، فإن لم يتمّ عنده عموم أو إطلاق، رجع إلى الاُصول النافية للتكليف.

وفي القسم الثاني يرجع إلى استصحاب عدم تحقّق مفهوم الإنبات ـ مثلاً ـ إن تمّ عنده

163

الاستصحاب في مورد الشبهات المفهوميّة، ورآه مقدّماً على عموم العامّ أو الإطلاق، وإن لم يتمّ عنده الاستصحاب في ذلك، رجع إلى عموم التكليف وإطلاقه، وإن لم يتمّ العموم والإطلاق، أو رآه معارضاً للاستصحاب في الشبهات المفهوميّة من دون تقديم أحدهما على الآخر(1)، رجع إلى الاُصول النافية للتكليف.

وفي القسم الثالث يرجع إلى إطلاق دليل رفع التكليف عن الصبىّ ما لم يثبت عنده المقيّد له، فلو رأى أنّ الملازمة العقليّة الثابتة بين حكم العقل وحكم الشرع واسعة بسعة طرفيها بحيث تشمل غير البالغ، قيّد بها إطلاق أدلّة الرفع.

 

شمول التقسيم لغير المجتهد

الأمر الثاني: أنّ الموضوع لهذا التقسيم هل ينبغي أن يكون خصوص المجتهد؛ لاختصاص الوظائف المقرّرة للظانّ والشاكّ به، أو ليس كذلك؟

اختار المحقّق النائينىّ(قدس سره) وجملة من المحقّقين الأوّل.

والتحقيق: أنّه ينبغي هنا البحث في مقامين:

الأوّل: أنّه هل يكون غير المجتهد داخلاً في هذا التقسيم ولو لأجل كونه كالمجتهد في الجملة في ثبوت وظيفة الشكّ والظنّ له؟ فإنّ ثبوت وظيفة الشكّ والظنّ له في الجملة كاف في دخوله في التقسيم.


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): أنّه لو قلنا بجريان استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة، فعندئذ: لو علمنا من الخارج أنّ صدق عنوان موضوع المخصّص ـ لغة ـ ملازم لانتفاء حكم العامّ، وكان المولى سنخ مولىً يترقّب منه كونه بصدد بيان المعنى اللّغويّ، بأن لم تكن نسبته ونسبتنا إلى المعنى اللّغويّ على حدّ سواء، دلّ العامّ بالملازمة على عدم صدق ذلك العنوان، فيكون حاكماً على الاستصحاب.

وإن لم يكن المولى كذلك، وقعت المعارضة بين العامّ والاستصحاب.

وإن لم نعلم من الخارج بذلك، وإنّما كان لدينا عامّ وخاصّ متنافيان لايمكن اجتماع حكمهما على مورد واحد، فالعامّ بعمومه يدلّ على ثبوت حكمه في مورد الشكّ المفهوميّ في عنوان الخاصّ، وصدق ذلك يلازم خروج هذا المورد من دليل الخاصّ إمّا تخصّصاً بأن لايكون عنوان الخاصّ صادقاً في علم الله ـ لغة ـ عليه، أو تخصيصاً بأن يكون عنوان الخاصّ صادقاً عليه، ومع ذلك لايصدق عليه حكم الخاصّ، وعندئذ إن قلنا بتقدّم التخصّص على التخصيص لدى الدوران بينهما، كما لو كان الخاصّ بلسان العموم بناءً على أنّ تخصّص العامّ أولى من تخصيصه، قدّم العامّ على الاستصحاب، وإلّا ـ كما لو كان الخاصّ بلسان الإطلاق مع عدم كون التخصّص أولى من التقييد ـ تعارض العامّ والاستصحاب.

164

والثاني: أنّه هل يثبت لغير المجتهد تمام الوظائف المقرّرة للظانّ والشاكّ كالمجتهد، أو لا؟

أمّا المقام الأوّل: فالصّحيح: أنّ غير المجتهد ينبغي إدخاله في التقسيم؛ فإنّه مكلّف بالأحكام الشرعيّة بلا إشكال، فلابدّ له من الالتفات إليها. وإذا التفت إليها فتارة يحصل له القطع بالحكم، كما في الأحكام الضروريّة القطعيّة له، وعندئذ يعمل بقطعه. وهذا هو القسم الأوّل.

واُخرى لايحصل له القطع به، ولكن يوجد لديه طريق ظنّيّ إلى الحكم، كفتوى المجتهد، وعلى هذا التقدير: تارة يحصل له القطع بحجّيّة ذاك الطريق الظنّيّ، فيدخل في القسم الثاني.

واُخرى يشكّ في ذلك، أو لايوجد مجتهد، أو لايتمكّن من الرجوع إليه، فيدخل في القسم الثالث، ويعمل بما يحكم به عقله من الاُصول العقليّة: من براءة، أو احتياط، أو تفصيل. فحال غير المجتهد في الأقسام هو حال المجتهد عيناً.

إلّا أنّه قد يدّعى أنّ الطرق الظنّيّة للمجتهد كثيرة، ولغيره منحصرة في فتوى المجتهد. وهذا لايوجب خروج غير المجتهد عن المقسم.

وأمّا المقام الثاني: فمن المستحسن بيانه في ضمن البحث عن عنوان (عمليّة الإفتاء للعامّيّ) وأنّ المجتهد كيف يصحّ له إفتاء العامّيّ وبيان حكمه له؟ ولابأس بأن نلحق بذلك ـ في خاتمة البحث ـ الكلام في حكم المجتهد غير الأعلم: هل يجوز له العمل بفتواه، أو يجب عليه الرجوع إلى الأعلم كما يجب على غير المجتهد الرجوع إلى المجتهد؟ وبهذا يكتمل بحث فنّىّ مهمّ قد أهمله الأصحاب؛ فإنّهم لم ينقّحوا في مورد من الموارد عمليّة الإفتاء للعامّيّ، ولامسألة رجوع غير الأعلم إلى الأعلم وعدم رجوعه إليه:

 

1 ـ تفسير عمليّة الإفتاء:

وليس المقصود من هذا البحث البرهنة على جواز التقليد، بل المقصود ـ بعد تسليم جواز التقليد بأدلّته المذكورة في محلّها ـ إيضاح الطريقة التي يتمّ بها تعقّل إفتاء المجتهد للعامّيّ، وتقليد العامّيّ له.

165

فنقول: إنّ المرتكز في الأذهان هو: أنّ الإفتاء عبارة عن عمليّة بيان ما عرفه مَنْ هو مِن أهل الخبرة لمن ليس من أهل الخبرة، كما هو الحال في جميع موارد رجوع الجاهل إلى العالم.

وتصوير ذلك واضح بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة التي عرفها المجتهد بالقطع واليقين؛ لأنّ الحكم الواقعىّ ثابت بشأن الجميع، سواء في ذلك المجتهد والعامّيّ، وإنّما الفرق بينهما هو: أنّ المجتهد ذوخبرة وبصيرة يتمكّن بها من درك الحكم، بخلاف العامّيّ، فرجوعه إليه كرجوع الناس في شتّى الفنون والعلوم من الطبّ والهندسة وغير هما إلى أهل الخبرة.

ولكن يقع الإشكال فيما إذا لم يكشف المجتهد الحكم الواقعىّ بمستوى القطع واليقين، فاضطرّ إلى التنزّل إلى الحكم الظاهرىّ الثابت بأصل أو أمارة، فسوف تواجه عمليّة الإفتاء في الغالب مشكلة اختصاص الحكم الظاهرىّ بالمجتهد، وذلك ليس من جهة أخذ عنوان الاجتهاد في موضوعه، بل لأنّه مقيّد بقيد لايتحقّق إلّا في المجتهد: فحجّيّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ مشروطة بالفحص عن المعارض والمخصّص والمقيّد، والحاكم، والذي يقدر على ذلك هو المجتهد، وليس العامّيّ. وحجّيّة استصحاب النجاسة في الماء المتغيّر الزائل تغيّره تتوقّف على يقين سابق، وفحص في الأخبار، وهما لايحصلان إلّا للمجتهد. وأصالة الاشتغال إنّما تجري عند تحقّق العلم الإجمالىّ بأحد حكمين، وهو إنّما يحصل للمجتهد... وعندئذ فالمجتهد بأىّ شيء يفتي العامّىّ؟ بالحكم الواقعىّ، أم بالحكم الظاهرىّ؟

فإن أراد إفتاءه بالحكم الواقعىّ، لم يجز له ذلك؛ لأنّ حاله في ذلك حال العامّىّ، غاية الأمر إمكان افتراض كونه ظانّاً بالحكم الواقعىّ، ولكن الظنّ لايغني من الحقّ شيئاً.

وإن أراد إفتاءه بالحكم الظاهريّ، ورد عليه: أنّ هذا الحكم مختصّ بالمجتهد نفسه، ولم يتحقّق موضوعه بشأن العامّيّ، ويكون حاله حال حكم الولاية والقضاء المختصّين بالفقيه، ولا معنىً لأن يفتي أحداً بما يختصّ بنفسه!!

على أنّه قد يتّفق عدم ثبوت الحكم بشأن المجتهد أيضاً، كما في إفتاء الرجل المجتهد للمرأة بحرمة نظرها إلى الرجال بلا ريبة، مع عدم قطعه بالحرمة الواقعيّة، فهنا يشتدّ الإشكال؛ إذ يقال: إن أراد الإفتاء بالحكم الواقعىّ، فهو غير عالم به، وإن أراد الإفتاء

166

بالحكم الظاهرىّ، فهو غير ثابت بشأنه، ولابشأن المرأة التي تقلّده، أمّا الأوّل؛ فلعدم حرمة نظر الرجل إلى مثله، وأمّا الثاني؛ فلعدم تماميّة قيود الحكم الظاهرىّ غالباً بشأن العامّيّ.

وهذا الإشكال لو استعصى على الحلّ بحسب الطبع الأوّلي للتقليد، بمعنى: أنّه لم يمكن تطبيق قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة ابتداءً على التقليد، كشفنا بنفس جواز التقليد عن أمر يتمّ به المطلوب، ويثبت به الحكم الظاهرىّ للعامّيّ؛ إذ المفروض مسلّميّة جواز التقليد، وذلك كدعوى: أنّ فحص المجتهد يقوم مقام فحص العامّىّ، فيتمّ بشأنه موضوع حجّيّة خبر الواحد، وكذلك يقينه وشكّه و...

وبيان حقيقة الحال في هذا الإشكال يستدعي البحث عن ثلاثة اُمور:

أوّلاً: هل الأحكام الظاهريّة خاصّة ـ بغضّ النظر عن دليل جواز التقليد ـ بالمجتهد، أو لا؟

ثانياً: لو ثبت اختصاص الحكم الظاهرىّ ـ ابتداءً ـ بالمجتهد، فهل يمنع ذلك عن مصداقيّة التقليد؛ لقاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة قبل اكتشاف نكتة خاصّة من دليل جواز التقليد، أو لا؟

ثالثاً: ما هي النكتة التي تحلّ مشكلة التقليد لو لم يمكن حلّها في المرحلتين الاُولى والثانية، وانحصر الأمر في حلّها بالرجوع إلى دليل جواز التقليد؛ لاكتشاف نكتة الحلّ؟

وتختلف النتيجة باختلاف النكتة، كما تختلف النتيجة بالحاجة إلى نكتة مستفادة من جواز التقليد، وعدم الحاجة إليها؛ لاشتراك الحكم الظاهريّ بينهما ابتداءً، أو لعدم مانعيّة اختصاصه بالمجتهد عن تطبيق قانون الرجوع إلى أهل الخبرة في المقام. وبهذا يخرج البحث عن كونه بحثاً علميّاً صرفاً، وينتهي إلى نتيجة عمليّة.

ولنبحث الآن الأمر الثاني، ثُمَّ الثالث، ثُمَّ الأوّل، فلدينا مقامات ثلاثة للبحث:

المقام الأوّل: في أنّه بناءً على اختصاص الحكم الظاهرىّ بالمجتهد، هل يمكن إدخال التقليد في قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة، بلا حاجة إلى اكتشاف نكتة خاصّة مستنبطة من دليل جواز التقليد، أو لا؟

غاية ما يمكن استفادته من مجموع كلماتهم في الموارد المتفرّقة لتوجيه الحال بحيث

167

ينطبق قانون الرجوع إلى أهل الخبرة على التقليد في أحكام الشريعة، هو أن يقال: صحيح أنّه كانت حجّيّة الدليل حكماً ظاهريّاً خاصّاً بالمجتهد بحسب الفرض، ولكنّ المحكىّ بالدليل هو حكم واقعىّ مشترك بين العامّيّ والمجتهد، وحجّيّة الدليل عبارة عن طريقيّته وجعله علماً تعبّداً، فالمجتهد بإمكانه أن يفتي بالحكم الواقعىّ الشامل للعامّيّ؛ لأنّه عالم به ولو تعبّداً، ولايفتي بالحكم الظاهرىّ كي يقال: إنّه مختصّ بالمجتهد، فلايكون التقليد فيه مصداقاً للرجوع إلى أهل الخبرة.

ولكن الملحوظ في ذلك:

أوّلاً: أنّ هذا لو تمّ، فهو يختصّ بمورد الأمارات الحاكية عن الواقع، دون مورد الاُصول العمليّة التي ليس مُفادها حكماً واقعيّاً، كي يتمّ فيه القول: إنّ مُفاد دليل حجّيّتها هو العلم التعبّديّ بالواقع وطريقيّتها إلى الواقع، فلايمكن للمجتهد أن يفتي في موردها بالحكم الواقعيّ؛ لعدم علمه به، ولابالحكم الظاهرىّ؛ لاختصاصه بالمجتهد بحسب الفرض.

وثانياً: أنّ هذا لو تمّ في الأمارات، فإنّما يتمّ على مبنىً واحد، وهو مبنى جعل الطريقيّة، كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ولايتمّ على سائر المباني، كجعل الحكم المماثل وغيره، فعلى سائر المباني ـ غير جعل الطريقيّة ـ لايمكن للمجتهد الإفتاء بالحكم الواقعيّ؛ لعدم علمه به، ولا بالحكم المماثل أو غيره من الأحكام الظاهريّة؛ لأنّها تختصّ بالمجتهد.

وثالثاً: أنّ هذا لايتمّ حتّى في الأمارات على مبنى جعل الطريقيّة والعلم تعبّداً واعتباراً؛ وذلك لأنّ موضوع الرجوع إلى أهل الخبرة ليس مجرّد كون من يرجع إليه عالماً؛ ولذا أفتوا بعدم جواز التقليد ممّن حصل له العلم بالحكم عن طريق الرمل والأسطرلاب والنوم، ونحو ذلك، بل الموضوع هو خبرويّته، بأن يكون عالماً عن خبرة، والعلم الاعتبارىّ والجعلىّ لايحقّق خبرويّة بالنسبة إلى الإنسان، فلنفرض أنّ دليل جعله عالماً أصبح حاكماً على أدلّة حرمة الإفتاء بغير علم؛ لأنّه أخرجه بالتعبّد عن موضوع الحرمة، وهو عدم العلم، ولكنّ هذا غير كاف لحلّ مشكلة التقليد الذي هو عبارة عن الرجوع إلى أهل الخبرة، ودليل اعتباره عالماً إنّما دلّ على علمه بالاعتبار، ولم يدلّ على اعتباره علماً عن خبرة. وقد اتّضح بهذا العرض: أنّه ـ بعد تسليم اختصاص الحكم الظاهريّ بالمجتهد ـ

168

لايمكن تطبيق قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة على المقام، من دون افتراض مؤونة زائدة تكشف ببركة دليل جواز التقليد.

المقام الثاني: في أنّه لو لم يمكن تطبيق قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة على التقليد في الأحكام الشرعيّة ابتداءً؛ لعدم اشتراك العامّيّ للمجتهد في الحكم، فما هي النكتة التي نستكشفها من دليل التقليد في سبيل تحقّق الاشتراك في الحكم وتتميم عمليّة التقليد؟

يمكن تتميم عمليّة التقليد بجعل دليل التقليد كاشفاً عن مؤونة زائدة في المقام، وهي: تنزيل حالات المجتهد من الفحص واليقين والعلم الإجمالىّ و... منزلة ثبوتها للعامّيّ، ففحصه فحصه، ويقينه يقينه، و...

وبتعبير آخر يقال: إنّ العامّيّ فحص بوجوده التنزيليّ، وتيقّن بوجوده التنزيلىّ و... فالأحكام الظاهريّة تصبح بذلك مشتركة بين المجتهد والعامّيّ، فيفتيه المجتهد بالحكم الظاهرىّ، ويرجع إليه العامّيّ في ذلك؛ لكونه عالماً به عن خبرة. والتنزيل بالنسبة إلى موارد الحكم العقليّ ـ كالبراءة العقليّة ـ لابدّ أن يكون بمعنى جعل حكم شرعىّ مماثل للحكم العقلىّ وفي رتبته.

وتختلف الثمرة العمليّة لهذا الوجه عن القول باشتراك الحكم بين العامّيّ والمجتهد ـ بغضّ النظر عن جواز التقليد ـ من وجوه، أهمّها اثنان:

الأوّل: أنّه يسقط على هذا الوجه أهمّ أدلّة التقليد، وهو سيرة العقلاء، فإنّ سيرة العقلاء إنّما قامت على رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، ولم تقم على تلك المؤونة الزائدة، وهي تنزيل حالات المجتهد منزلة ثبوتها للعامّيّ(1).

والثاني: أنّه على هذا الوجه لايجوز للمجتهد الإفتاء، إلّا إذا أحرز جواز تقليد العامّىّ له، بأن أحرز عدالة نفسه، وعرف أنّه أعلم من غيره، أو تساويه لغيره بناءً على جواز تقليد أحد المتساويين؛ وذلك لأنّ حكمه الظاهرىّ إنّما يثبت كونه حكماً ظاهريّاً للعامّىّ بجواز تقليده الدالّ على ذاك التنزيل، فلو لم يعلم بذلك لم يعلم بكون ما يفتي به حكماً للعامّىّ كي يفتيه به، إلّا إذا أحرز موافقته في الرأي لمن يجوز له تقليده، وهذا بخلاف ما لو قلنا


(1) بل لايسقط هذا الدليل؛ لأنّ السيرة العقلائيّة في اُمورهم على التقليد تقتضي منهم الجري ـ ولو غفلة ـ على هذا المنوال في الشرعيّات.

169

باشتراك الحكم بين المجتهد والعامّيّ ابتداءً وبغضّ النظر عن جواز التقليد(1).

ولنا مسلك آخر متوسّط بين مسلك التنزيل ومسلك اشتراك الحكم ابتداءً، وبغضّ النظر عن دليل التقليد، وهو: أن يقال: إنّ الحكم الذي يفتي به المجتهد يتمّ بالنظر إلى دليل التقليد اشتراكه بين العامّىّ والمجتهد، وإن لم يكن مشتركاً بينهما بغضّ النظر عن دليل التقليد، فلاحاجة إلى فرض مؤونة زائدة، وهي التنزيل.

وبيان ذلك: أنّ التقليد في كلّ مسألة سابقة يثبت موضوع الحكم الظاهريّ في المسألة اللّاحقة، فيقلّد فيها، وهذا يشبه ما يقال في بحث الإخبار مع الواسطة وإن لم يكن مثله تماماً.

مثاله: أنّ المجتهد إذا علم بأحد حكمين، فوجب عليه الاحتياط، فعلمه بذلك ليس منزّلاً منزلة علم العامّىّ، ولكن فتواه بثبوت أحد الحكمين على سبيل الإجمال حجّة في حقّ العامّىّ، فيتحقّق له العلم بأحد الحكمين اعتباراً، فيجب عليه الاحتياط، فيفتيه المجتهد بوجوب الاحتياط.

وأيضاً: لو علم المجتهد بنجاسة الماء المتغيّر بملاقاة النجس، كان ذلك حجّة في حقّ العامّىّ، فقد تمّ له العلم اعتباراً بالنجاسة، فيثبت بشأنه الاستصحاب عند زوال التغيّر، فيفتيه المجتهد بعد زوال التغيّر بالنجاسة استصحاباً.

وأمّا بالنسبة إلى الفحص، ففحص المجتهد عن المعارض لما دلّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً ـ والذي أدّى إلى إفتائه بوجوب صلاة الجمعة؛ لعدم وجدانه للمعارض ـ يفيد العامّىّ، بأن يقال: إنّ فحص كلّ شخص بحسبه، ففحص المجتهد يكون بالتتبّع في كتب الأخبار، وفحص العامّىّ يكون باطّلاعه على إفتاء مجتهده بما كان من نتيجة فحص المجتهد، ففحص العامّىّ عن عدم المعارض عبارة عن فحصه عن إخبار المجتهد بعدم المعارض.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ نفس وجود فتوى المجتهد في المسألة السابقة يكفي في صحّة فتواه في المسألة اللّاحقة بالنسبة إلى غير جهة الفحص.

وأمّا بالنسبة إلى الفحص، فلابدّ له أن يقصد في إفتائه للعامّىّ: أنّ هذا هو حكمك


(1) لايخفى أنّ الثمرة الثانية ليست من الثمرات المهمّة؛ إذ للمجتهد أن يفتي بفتواه، بأن يقول: هذا حكم الله في حقّي وحقّ من يجوز له تقليدي. وليس عليه تشخيص الصغرى.

نعم، قد يشكل الأمر من ناحية كون التصدّي للإفتاء مع عدم جواز تقليده إغراءً للناس بجواز تقليده وتضليلاً لهم. إلّا أنّ هذا ليس ثمرة لبحثنا؛ فإنّه يرد على كلّ المباني في المقام.