196


إلاّ أنّ الظاهر: أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ وذلك لأنّ واقع طرفَي النسبة هنا من موجودات عالم النفس الحضوريّة؛ إذ إنّ أحدهما عبارة عن النسبة التامّة الكامنة في جملة المدخول، وهي النسبة التصادقيّة، والتي مضى: أنّها ليست خارجيّة، بل هي من مخلوقات عالم الذهن؛ لأنّ الموجود في الخارج إنّما هو الاتّحاد، لا التصادق، ومن الواضح: أنّ جميع مخلوقات عالم الذهن موجودة بالوجود الحضوريّ لدى النفس. وثانيهما عبارة عن نفس المستفهِم، ومن الواضح: أنّ النفس موجودة لدى النفس بالوجود الحضوريّ. نعم، بإمكان النفس أن تصوّر نفسها بواسطة الذهن، فيكون لها وجود حصوليّ أيضاً، ولكن النفس ـ على أيّ حال ـ حاضرة لدى نفسها بالوجود الحضوريّ، وإذا كان كلا طرفي النسبة موجودين بالوجود الحضوريّ لدى النفس، فبإمكان النفس ـ لا محالة ـ أن تخلق نسبة بينهما، وهي النسبة الاستفهاميّة، فالبرهان الذي مضت إقامته على تحليليّة النسب المأخوذة من الخارج لا يأتي هنا؛ فإنّ ذاك البرهان يمكن أن يبيّن ببيان: أنّ النسبة الذهنيّة التي تريد أن تحاكي الخارج لو كانت واقعيّة، لما كان يخلو أمرها من إحدى صور ثلاث: إمّا أنّها هي نفس النسبة الواقعيّة الأصليّة، أو صورة عنها (وبتعبير مشهور الفلاسفة: انتقلت ماهيتها من دون وجودها الخارجيّ إلى الذهن)، أو مماثلة لها.

والشقّ الأوّل باطل؛ لأنّ ما في الخارج يستحيل أن ينتقل بوجوده الخارجيّ إلى الذهن.

والشقّ الثاني باطل؛ لأنّ النسبة ليس لها تقرّر ماهوي قبل وجودها المندكّ في وجود الطرفين، أو قل: قبل وجود الطرفين، فكيف يصوّرها الذهن باستقلالها، أو تنتقل الماهية إليه؟! على أنّ أثر النسبة وهو إلصاق أحد الطرفين بالآخر وإبطال التفكّك إنّما هو لواقع النسبة، لا لصورتها.

والشقّ الثالث باطل؛ لأنّ نشأة الذهن تباين نشأة الخارج، فيستحيل لها أن تخلق المماثل لما في الخارج من دون أخذ الصورة، أو انتقال الماهية.

197


فإذا بطلت كلّ الشقوق الثلاثة انحصر الأمر في تصوير الذهن لمجموع ما في الخارج من النسبة والطرفين، فتصبح النسبة في الذهن ـ لا محالة ـ جزءاً تحليليّاً، لا واقعيّاً. وهذا معنى نقصانها.

وهذا البرهان ـ كما ترى ـ لا ينطبق على المقام، فإنّ الصادق في المقام من تلك الشقوق الثلاثة هو الشقّ الأوّل، وهو: أنّ نفس النسبة الواقعيّة الأصليّة حاضرة لدى النفس، لا بانتقال من الخارج إليها، بل بحضور واقع الطرفين الأصليّين لديها، وهما: النفس والنسبة التامّة الكامنة في المدخول.

فإن قلت: إنّ هذا البيان يتمّ في المتكلّم، ولا يتمّ في السامع، فلا ريب أنّ السامع يفهم من المتكلّم المستفهِم كلاماً تامّاً في حين أنّ تلك النسبة الأصليّة الاستفهاميّة ليست حاضرة لدى نفس السامع؛ لأنّ نفس المستفهِم التي هي طرف لهذه النسبة ليست من الموجودات الحضوريّة لدى نفس السامع، وعليه يعود ما يشبه البرهان الماضي على تحليليّة النسبة في نفس السامع؛ لأنّها لو كانت نسبة واقعيّة لما كان يخلو أمرها من أحد الشقوق الثلاثة الماضية. والأوّل منها باطل لعدم حضور نفس تلك النسبة لدى نفس السامع، والثاني منها باطل؛ لأنّ تلك النسبة التي كانت في نفس المتكلّم لم يكن لها تقرّر ماهوي قبل الوجود حتّى توجد الماهية، أو صورة عن تلك النسبة في ذهن السامع، والثالث منها باطل؛ لأنّ ذهن غير المستفهم لا يستطيع أن يخلق نسبة استفهاميّة حقيقيّة بين شخص آخر غير نفسه والمستفهَم عنه.

قلت: تماميّة الكلام لدى السامع لا معنى لها هنا، إلاّ أخذ صورة عن كلام تامّ، ومن ثمّ التماميّة بلحاظ المدلول التصديقيّ أيضاً. وتوضيحه: أنّ النسبة الاستفهاميّة في نفس المستفهِم كانت واقعيّة لا تحليليّة كما مضى بيانه، فكلام المستفهم دلّ على مطلب تامّ تصوّراً، ودلّ أيضاً في مستوى الإرادة الجدّيّة على الاستفهام الواقعيّ، أو قل: النسبة الاستفهاميّة الواقعيّة لا التحليليّة، والسامع يأخذ هذه النسبة مع طرفيها بتصوير واحد في

198


ذهنه على مستوى الدلالة التصوّريّة، فتكون النسبة هنا تحليليّة، ولكن بما أنّ هذه الصورة الوحدانيّة صورة منتزعة من كلام مشتمل على النسبة التامّة، فالسامع ـ لا محالة ـ يتصوّر ويصدّق بوجود ذاك الكلام التامّ في نفس المتكلّم، فالفرق بين وضع السامع هنا ومن يتصوّر مثل «نار في الموقد» هو: أنّ الثاني لم يكن صورة منتزعة ممّا يشتمل على نسبة تامّة؛ إذ لا معنى للتماميّة والنقصان في النسبة الخارجيّة، وإنّما هما من صفات النسبة في النفس، ولو سمع أحد كلمة «نار في الموقد» من متكلّم، فانتزع صورة عمّا في نفس المتكلّم، فالموجود في نفس المتكلّم لم يكن نسبة تامّة كي ينتزع السامع صورة عن كلام مشتمل على النسبة التامّة. أمّا في المقام، فقد كانت النسبة واقعها عبارة عن نسبة تامّة في نفس المستفهم، والسامع انتزع بذهنه صورة عمّا في نفس المتكلّم من كلام مشتمل على نسبة تامّة، فستكون الدلالة التصوّريّة والتصديقيّة لدى السامع متعلّقة بالكلام التامّ لا محالة.

فإن قلت: إنّ النسبة الاستفهاميّة الواقعة بين النفس الحاضرة لدى نفس المستفهم ونسبة المدخول الحاضرة لديها أيضاً يستحيل أن تكون تامّة وواقعيّة؛ لأنّ هذا يساوق فرض الاثنينيّة بين طرفيها، في حين أنّ النفس بكلّ ما لديها من الاُمور الحاضرة أمر وحدانيّ بسيط، إذن فالنسبة التامّة لا تتعقّل إلاّ في عالم الذهن؛ لأنّ الذهن يصوّر صورتين مختلفتين عمّا في الخارج، ويخلق نسبة بينهما مع حفظ تعدّد الصورتين.

قلت: إن كان المقصود بهذا الكلام: أنّ الصور التي يلتقطها الذهن من طرفي النسبة متعدّدة حقيقة، فهذا غفلة عن أنّ ذاك الذهن أيضاً متّحد مع ما يأخذها من الصور، وهو أيضاً بسيط، فكيف يخلق النسبة فيما بين تلك الصور؟! فكما يقال في باب الذهن: إنّ بساطته لا تنافي نوع كثرة في عين الوحدة والبساطة، كذلك نقول في النفس: إنّ بساطتها لا تنافي نوع كثرة فيما بين الاُمور الحاضرة لديها في عين الوحدة، وليس الذهن الذي يصوّر الأشياء إلاّ مرتبة من مراتب النفس أيضاً.

199


وإن كان المقصود: أنّه في موارد تصوير الذهن يكون ذو الصورة الخارجيّ متعدّداً حقيقة، وبما أنّ الذهن يرى الصورة المنطبعة فيها من الخارج خارجيّة، فلهذا يراها متعدّدة، ويخلق النسبة فيما بينها، قلنا: إنّنا إمّا أن ننقل الكلام إلى الصور المتعدّدة التي يصوّرها الذهن من النفس التي لا شكّ في بساطتها، من قبيل ما لو انتزع الذهن في النفس صورة أنا، وقال: أنا محبّ لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، في حين أنّ صفة حبّه لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) متّحدة مع النفس فلسفيّاً، وإمّا أن نقول في جميع موارد النسب التصادقيّة التي تكون بمعنى انطباق عناوين متعدّدة على معنون واحد خارجاً، كما في «زيد قائم»: إنّ الصور برغم تعدّدها بمعنىً من المعاني منتزعة من أمر خارجيّ واحد، وفي الخارج لا يوجد التعدّد بينهما، بل يوجد الاتّحاد، فرجعنا مرّة اُخرى إلى كثرة الصور في عين الاتّحاد مع الذهن وبساطة الذهن.

ثُمّ إنّ الذي رجّحناه في المقام من كون مثل: «هل زيد قائم» مشتملاً على نسبتين: نسبة تصادقيّة في مدخول «هل»، ونسبة استفهاميّة تامّة بين المستفهِم والنسبة المستفهم عنها أولى ممّا رجّحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من اشتماله على نسبة واحدة، وهي النسبة التصادقيّة في وعاء الاستفهام؛ وذلك لما نحسّ به بالوجدان من أنّ حالة الاستفهام، أو التمنّي، أو الترجّي تتعلّق بالنسبة التصادقيّة، فهي في طول النسبة التصادقيّة، لا أنّها أوعية لتلك النسبة، وقصد الحكاية أيضاً يتعلّق بالنسبة التصادقيّة، فكأنّما الواضع وضع أدوات الاستفهام والتمنّي والترجّي لدلالة تصوّريّة على تلك الحالات أو النسب، واستغنى بذلك عن وضع شيء للدلالة التصوّريّة على قصد الحكاية، فبقيت دلالة الجملة الخبريّة على قصد الحكاية متمحّضة في مستوى التصديق.

وما ندّعيه من دلالة الوجدان على الطوليّة بين الاستفهام والنسبة التصادقيّة يكون أوضح جلاءً فيما يسمّى بالاستفهام التصوّريّ الذي يكون جوابه بتعيين الفرد، لا بنعم أو لا، كما في قولنا: «أزيد قائم أم عمرو»؛ إذ من الواضح هنا: أنّ أصل النسبة التصادقيّة ←

200

وقد برهنّا فيما سبق على أنّ النسب التي لها موطن أصليّ وراء عالم اللحاظ لا يمكن أن تكون واقعيّة وتامّة. وإن فرضت نسبة تحليليّة وناقصة، فهذا أيضاً غير معقول؛ وذلك لأنّ طرفي النسبة التحليليّة مع نفس النسبة تكون وجوداً واحداً، تنحلّ ماهيته إلى هذه الأجزاء الثلاثة، كما عرفت، وذاك الوجود الواحد هو المقيّد أو الحصّة، وأجزاؤه الثلاثة عبارة عن ذات المقيّد والقيد والتقيّد، وعندئذ: إمّا أن يفرض أنّ النسبة الموجودة بين زيد وعالم في مثل «هل زيد عالم؟» هو المقيّد، والطرف الآخر الذي هو معنىً اسميّ، وهو الاستفهام أو المستفهِم هو القيد، أو يفرض العكس. والأوّل غير معقول؛ لأنّ هذا الوجود الوحدانيّ المعبّر عنه بالمقيّد أو الحصّة: إن كان وجوداً ربطيّاً واندكاكيّاً، فلا يمكن أن يكون المفهوم الاسميّ جزءاً من ماهيته، وإن كان وجوداً استقلاليّاً، فهو خلف كونه وجود للنسبة. والثاني يستلزم كون «هل زيد عالم؟» كلاماً ناقصاً، لا يصحّ السكوت عليه؛ لأنّ النسبة


مفروغ عنها، ويتعلّق السؤال بتعيين أحد الفردين من النسبتين التصادقيّتين.

ويصعب توجيه ذلك بافتراض النسبة التصادقيّة في وعاء الاستفهام، إلاّ بإرجاع ذلك إلى سؤالين كالتالي: هل زيد قائم؟ هل عمرو قائم؟ في حين أنّه من الواضح: أنّ هذا السؤال ليس منحلاًّ إلى سؤالين، بل هو سؤال واحد فرضت فيه أصل النسبة التصادقيّة في وعاء التحقّق مثلاً مفروغاً عنها، وتعلّق السؤال بتعيين إحدى المفردتين من تلك النسبة.

وأوضح من ذلك في عدم الانحلال مثل قولنا: «مَن القائم؟» حيث دُمج طرف النسبة التصادقيّة مع الاستفهام في كلمة واحدة وهي «مَن».

أمّا توجيه: أنّ كلمة واحدة، وهي كلمة «مَن» كيف دلّت على معنىً اسميّ ومعنىً حرفيّ في وقت واحد؟ فيكون بالافتراض التالي:

وهو: أنّ كلمة «مَن» الاستفهاميّة وضعت للمعنى الاسميّ المتّصف بوقوعه طرفاً لنسبة مستفهم عن تعيينها، فدلّت بالملازمة على تلك النسبة.

201

التامّة الموجودة فيه صارت قيداً تحصيصيّاً للاستفهام أو المستفهِم، والمقيَّد هو الاستفهام أو المستفهِم، وهو بحاجة إلى أن يقع طرفاً لنسبة تامّة حتّى يكون هو مع الطرف الآخر والنسبة كلاماً تامّاً.

وحلّ المطلب هو: أنّ هذين الوجهين يشتركان في أنّ مفاد «هل» نسبة مغايرة لنسبة «زيد عالم» التصادقيّة، فعندنا نسبتان: إحداهما النسبة الموجودةالتي دخل عليها «هل»، والثانية: نسبة اُخرى تكون إحدى طرفيها تلك النسبة الاُولى التي كانت مفاد الجملة، بينما هذا بلا موجب؛ فإنّ هذا مبنيّ علىتخيّل أنّ النسبة بين زيد وعالم في قولنا «زيد عالم» لها طرفان: أحدهما زيد والآخر عالم، مع الغفلة عن مقوّم ثالث لها. وتوضيح ذلك: أنّ زيد وعالم في عالم الذهن مفهومان متغايران، ولا معنى للنسبة التصادقيّة بينهما إلاّ بلحاظ وعاءآخر، أي: أنّ الذهن يتصوّر صورة زيد وصورة عالِم متصادقتين ومتّحدتين في عالَم من العوالم، فالذهن كأنّ له توجّهاً إلى وعاء من الأوعية الخارجة عنالذهن، وبلحاظ ذاك الوعاء يرى نسبة تصادقيّة بين زيد وعالم، إذن فالطرف الثالث لتلك النسبة هو ذاك الوعاء، وذاك الوعاء في «زيد عالم» الإخباريّة هو وعاء التحقّق، وفي «هل زيد عالم؟» هو وعاء الاستفهام، أي: أنّ التصادق محفوظ في هذا المثال في وعاء الاستفهام، لا في وعاء التحقّق، وفي «ليت زيداًعالم» هو وعاء التمنّي وهكذا. وتمييز هذه الأوعية في لغة العرب يكون بأنّ وعاء التحقّق لا يحتاج إلى أداة مستقلّة، أي يستفاد من التجرّد من الأدوات، وسائر الأوعية لها أدواتها الخاصّة، ولعلّ في بعض اللغات يحتاج وعاء التحقّق أيضاًإلى أداة.

هذا، وليس المقصود: فرض كون أحد هذه الأوعية طرفاً اسميّاً للنسبة

202

التصادقيّة على حدّ طرفيّة زيد وعالم بأن تكون عندنا ثلاثة مفاهيم اسميّة أصبحت طرفاً للنسبة، بل المقصود: أنّ النسبة التصادقيّة بين زيد وعالم لها حصص إحداها: النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء التحقّق، والاُخرى: النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء الاستفهام، والثالثة: النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء التمنّي وهكذا. فإن شئت فقل: إنّ النسبة التصادقيّة لها طرفان، وتتعيّن إحدى حصصها بالأداة الداخلة على الجملة، أو بتجرّدها عن الأداة.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ الفرق بين الجمل الخبريّة والجمل الإنشائيّة: تارة يكون في عالم التصديق فقط، كما هو الحال في الجمل الإنشائيّة التي لا تكون متمحّضة في الإنشاء، بل تستعمل تارة في الإنشاء واُخرى في الإخبار من قبيل: «أنتِ طالق»، فالمدلول التصوّريّ الوضعيّ لذلك إنّما هو النسبة التصادقيّة بين «أنت» و«طالق» في وعاء التحقّق، إلاّ أنّ هذا بحسب عالم التصديق قد يكون ناشئاً من داعي قصد الحكاية، واُخرى ناشئاً من داعي اعتبار تحقّق الطلاق. واُخرى يكون في نفس عالم التصوّر بلحاظ الوعاء، كما هو الحال في مثل: «زيد عالم» و «هل زيد عالم؟».

وما مضى منّا من أنّ معنى «زيد عالم» سواء دخل عليه «هل» أو لم يدخل واحد؛ ولذا يجاب بنعم إنّما نقصد بذلك فرض الغضّ عن الوعاء، ويكون «نعم» بمنزلة تكرار المعنى من جميع الجهات، إلاّ من جهة الوعاء، أي: بمنزلة تكرار المعنى مع تبديل وعاء الاستفهام بوعاء التحقّق، وإلاّ لما كان للجواب فائدة.

وبكلمة اُخرى: أنّ كلمة «نعم» تكون في قوّة الإتيان بمعنىً مماثل لمعنى الجملة المستفهم عنها في كلّ النواحي عدا ناحية الوعاء، فوعاء معنى تلك الجملة هو وعاء الاستفهام؛ لدخول أداة الاستفهام عليها، ووعاء معنى «نعم» هو وعاء

203

التحقّق؛ لتجرّده عن الأدوات.

هذا، وقد يمكن تأويل كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) حيث ذهب إلى أنّ «هل» تدلّ على النسبة بين مفاد الجملة والاستفهام بأن يكون مقصوده هو ما قلناه من أنّ مفاد الجملة وهو النسبة التصادقيّة لوحظ بلحاظ وعاء الاستفهام، لا أن يقصد بالاستفهام معنىً اسميّ وقع طرفاً للنسبة مع مفاد الجملة، إلاّ أنّ تعبيره(رحمه الله) قاصر عن إفادة المقصود.

فإن قلت: لماذا تقسّم الجمل الإنشائيّة إلى قسمين، فبعضها يختلف عن الإخبار في عالم التصديق فقط، وبعضها يختلف عن الإخبار في عالم التصوّر بلحاظ الوعاء، فلتكن كلّ الجمل الإنشائيّة مختلفة عن الإخبار بلحاظ الوعاء، حتّى ما يكون مشتركاً بين الإخبار والإنشاء، من قبيل «أنتِ طالق»، أو «المصلّي يعيد صلاته»، فتكون النسبة التصادقيّة في «أنتِ طالق» الإنشائيّة بلحاظ وعاء الاعتبار، وفي «أنتِ طالق» الإخباريّة بلحاظ وعاء التحقّق؟

قلت: الصحيح: وجود فرق ثبوتيّ وإثباتيّ بين القسمين:

أمّا الفرق الثبوتيّ فهو: أنّ وعاء الاعتبار في «أنتِ طالق»، ووعاء الطلب في «المصلّي يعيد» ليس في عرض وعاء التحقّق على حدّ عرضيّة وعاء الاستفهام لوعاء التحقّق. أمّا وعاء الاعتبار، فلأنّ الاعتبار في أمثال «أنتِ طالق» إنّما يتعلّق بالنسبة التصادقيّة التحقّقيّة، بمعنى: أنّ المعتبر مفهوماً هو النسبة في الخارج(1).


(1) لا يخفى: أنّ مثل هذا البيان يمكن ذكره في القسم الآخر من الإنشاء أيضاً الذي ليست ضمن صيغة مشتركة بين الإنشاء والإخبار، وذلك بأن يقال: إنّ «هل زيد قائم؟» استفهام عن النسبة التصادقيّة في وعاء التحقّق، فهو لا يستفهم عن النسبة التصادقيّة

204


بلحاظ وعاء الاستفهام، ولا عن النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء الترجّي مثلاً، ولا عن ذات الموضوع أو المحمول، وإنّما يستفهم عن النسبة التصادقيّة بين الموضوع والمحمول بلحاظ وعاء التحقّق، فإنّها هي المشكوكة لديه، والنسبة التصادقيّة ليست لها حصص أو أوعية مختلفة، بل وعاؤها دائماً عبارة عن وعاء التحقّق، فتارة يحكى عنها، واُخرى يسأل عنها، أو تتمنّى، أو تترجّى مثلاً.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ خير ما يمكن أن يقال في الإنشاءات غير المشتركة مع الإخبار في الصيغة: إنّ حرف الإنشاء من قبيل: «هل» أو «ليت» أو «لعلّ» مفاده نسبة استفهاميّة، أو نسبة التمنّي، أو الترجّي مثلاً بين النسبة الموجودة في المدخول وبين الشخص المستفهم، أو المتمنّي، أو المترجّي، وهي نسبة تامّة؛ لأنّ موطنها الذهن، فإنّها نسبته متقوّمة بطرفين: أحدهما ذهنيّ بحت، وهي النسبة الموجودة في المدخول، والآخر نفس المستفهم، أو المتمنّي، أو المترجّي الثابتة في ذهنه بالوجود الحضوريّ.

هذا في مثل الاستفهام، وأمّا في مثل الأمر، فأفضل ما يمكن أن يقال في المقام ما قلناه في تعليق سابق عن المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من وجود نسبة تامّة بعثيّة ثلاثيّة الأطراف بين الأمر والمأمور والفعل، وكذلك في النهي نقول: إنّه توجد نسبة زجريّة تامّة ذات ثلاثة أطراف. ففرّق بين الصيغ الإنشائيّة غير المشتركة مع الإخبار التي يكون فرقها عن الإخبار بمجرّد دخول أداة عليها كأداة الاستفهام أو التمنّي، أو غير ذلك، فتلك الأداة تدلّ فيها على نسبة جديدة، وتكون نسبة المدخول طرفاً من طرفيها، وبين الصيغ الإنشائيّة التي يكون فرقها عن الإخبار في الهيئة، كالأمر والنهي، فلا توجد فيها نسبتان تامّتان، بل توجد فيها نسبة تامّة واحدة ذات أطراف ثلاثة.

هذا، والذي اخترناه هنا من كون صيغة الأمر أو النهي دالّة على نسبة تامّة بعثيّة أو زجريّة ثلاثيّة الأطراف أولى من الاحتمالات الآتية، وهي ما يلي:

1 ـ أن يختار ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في صيغة الأمر،

205

وأمّا وعاء الطلب فلأنّ إبراز الطلب بمثل «المصلّي يعيد» إنّما هو بعناية: أنّ إبراز تحقّق الشيء نحو استطراق إلى تفهيم كونه مطلوباً، أو بعناية: أنّ إبراز تحقّق الشيء من العبد المفروض كونه منقاداً وممتثلاً يلازم كونه مطلوباً.

 


من أنّ صيغة الأمر تدلّ على نسبة بعثيّة ناقصة بين المادّة وذات مّا، وهيئة الجملة تدلّ على النسبة التصادقيّة بين ذات مّا وزيد مثلاً.

وهذا مبنيّ على افتراض النسبة البعثيّة محاكاة للبعث التكوينيّ باليد مثلاً، فلها منشأ خارجيّ، فتصبح ناقصة، لكن الظاهر أنّ النسبة البعثيّة في الذهن أمر مستقلّ، وموطنها الأصليّ هو الذهن، ولا نحسّ بالمحاكاة عن بعث خارجيّ، وقد مضى أنّ كلّ نسبة يكون مولدها وموطنها الأصليّ هو الذهن لا الخارج تكون نسبة تامّة.

2 ـ أن يختار مثل ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الاستفهام من دلالة الجملة الاستفهاميّة بمعونة أداة الاستفهام على النسبة التصادقيّة في ظرف الاستفهام، فكذلك نقول في جملة الأمر مثلاً: إنّها تدلّ على النسبة التصادقيّة في ظرف الطلب.

وهذا عيبه: أنّ الاستفهام استفهام عن النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء الخارجالتي هي محلّ شكّ المستفهم، وليس بلحاظ وعاء الاستفهام تصادق بين الموضوع والمحمول.

3 ـ أن يختار مثل ما اخترناه في الاستفهام من أنّه يدلّ على نسبة استفهاميّة تامّة بين طرفين: أحدهما المستفهِم، والآخر النسبة التصادقيّة الموجودة في الجملة المستفهم عنها، فيقال في الأمر أيضاً: إنّه يدلّ على نسبة بعثيّة تامّة بين طرفين: أحدهما الأمر، والآخر النسبة التصادقيّة الموجودة بين المادّة والفاعل التي ليست بمعنى وحدة المعنون، بل بمعنى وحدة المركز.

وهذا عيبه: أنّنا نحسّ بوجداننا بأنّ المأمور ركن مباشر في نسبة الأمر، وكذلك المأمور به، وهذا بخلاف باب الاستفهام الذي يكون الركن المباشر للاستفهام فيه عبارة عن المستفهم عنه، لا عن خصوص موضوع المستفهم عنه، أو محموله، وليس المستفهم عنه إلاّ عبارة عن النسبة التصادقيّة المفروضة بين الموضوع والمحمول.

206

وعلى كلّ حال، فالتحقّق ملحوظ أوّلاً في أمثال هذه الموارد، وهذا بخلاف القسم الثاني من الإنشاء.

وأمّا الفرق الإثباتيّ، فهو عدم وجود الأداة المستقلّة التي تساعد علىافتراض وعاء آخر غير وعاء التحقّق الذي يقتضيه نفس التجرّد كما عرفت، في حين أنّها موجودة في القسم الثاني من الإنشاء الذي يختصّ بتعبير متمحّض في الإنشائيّة.

 

الأدوات الإنشائيّة التي لا تدخل على جملة تامّة:

بقي الكلام في الأدوات الإنشائيّة التي لا تدخل على جملة تامّة، بل قد يتصوّر أنّه تكون الجملة تامّة بها، كما في قولنا: «يا زيد»، فإنّ ما سبق في الجمل الإنشائيّة لا يمكن تطبيقه بدون عناية على جملة النداء؛ إذ لا توجد فيها بقطع النظر عن حرف النداء نسبة تصادقيّة، فنقول:

إنّ تصوير مفاد الجملة الندائيّة يمكن أن يكون: إمّا بتقريب إرجاعها إلى جملة فعليّة، بحيث يكون قولنا: «يا زيد» في قوّة قولنا: «أدعو زيداً» ـ طبعاً بداعي الإنشاء لا الإخبار(1) ـ فيطبّق عليه ما ذكرناه في الجملة الفعليّة. وإمّا بتقريب آخر، حاصله: أنّ حرف النداء باعتباره منبّهاً تكوينيّاً على حدّ المنبّهيّة التكوينيّة لكلّ صوت، فإطلاقه إيجاد لما هو المنبّه تكويناً، لا لما هو حاك ودالٍّ عليه بالدلالة اللفظيّة، ولكن حيث إنّ المنبّهيّة التكوينيّة لحرف النداء نسبتها إلى زيد


(1) مع فرض فرق بين كلمة «يا» وكلمة «أدعو»، وهو أخذ الدلالة في «يا» على ما في النفس من الإنشاء على مستوى الدلالة التصوّريّة في الموضوع له؛ ولذا لم يكن مشتركاً بين الإنشاء والإخبار.

207

وغير زيد على حدّ واحد، وحيث إنّه حينما يراد به تنبيه زيد بالخصوص لابدّ من دالّ على ذلك، فلابدّ من أن تكون هيئة «يا زيد» موضوعة لتوجّه النداء نحو زيد الذي هو أمر نسبيّ قائم في الذهن بين النداء وزيد، وبهذا يظهر أنّه لا يمكن استبدال حرف النداء بأيّ صوت آخر برغم منبّهيّته التكوينيّة؛ وذلك لأنّ الهيئة المتحصّلة من ضمّ صوت آخر إلى كلمة زيد غير موضوعة لإفادة توجّه النداء نحو زيد بالخصوص، فلا يحصل ربط بذلك. وعلى هذا الأساس نعرف الفرق بين نداء زيد و«يا زيد»، فإنّ نداء زيد دالّ حكائيّ على حصّة خاصّة من مفهوم النداء، وأمّا «يا زيد» فهو نداء حقيقيّ، وقد اُفيد توجّههه إلى زيد بدالّ حكائيّ. وإن شئت قلت: إنّ نداء زيد أو تنبيهه تارة يكون موجوداً بوجود حكائيّ مقيّداً وقيداً، وذلك بعبارة مثل قولنا: تنبيه زيد، واُخرى يكون موجوداً بنفسه حقيقة مقيّداً وقيداً، كما إذا أمسكنا زيداً وجذبناه بقصد كسب انتباهه، فإنّ المنبّه وكونه منبّهاً لزيد موجود حقيقةً، وثالثة يكون أصل المنبّه موجوداً حقيقةً، وتكون نسبته وتوجّهه إلى زيد موجوداً بوجود حكائيّ.

وهذه النسبة ناقصة؛ لأنّ موطنها الأصليّ هو الخارج، فإنّ التنبيه وكونه تنبيهاً لزيد أمرٌ خارجيّ، والهيئة دلّت على النسبة التحليليّة بين التنبيه وزيد. وفرق هذه النسبة عن النسبة في «نداء زيد»، أو «تنبيه زيد» أنّ النسبة في «نداء زيد» أو «تنبيه زيد» نسبة بين مفهوم النداء أو التنبيه وزيد، وهذه نسبة بين واقع النداء أو التنبيه وزيد.

فإن قلت: إذا كانت النسبة في «يا زيد» ناقصة، إذن فهي نسبة تحليليّة، وهي مع طرفيها شيء واحد في الذهن، إذن فما معنى كون جزء تحليليّ من ذلك موجوداً حقيقة، وجزء تحليليّ آخر منه موجوداً بوجود حكائيّ؟!

208

قلت: مقصودنا من ذلك: أنّ مجموع الوجود الخارجيّ للمنبّه مع تلك الهيئة تعاونا في إعطاء ذاك الشيء الواحد إلى الذهن، لا أنّ كلّ واحد منهما أوجد حقيقة جزءاً مستقلاًّ من ذاك الشيء، حتّى يقال: إنّه لا يعقل ذلك.

هذا، ولا ضير في افتراض كون الحكاية عن توجّه واقع المنبّه إلى زيد، بمعنى إعطاء صورة ذلك إلى الذهن عن طريق إيجاد واقع المنبّه، ونسبته بالوجود الحكائيّ إلى زيد موجدة لواقع ذي الصورة، أي: أنّه يتحقّق بذلك واقعاً تنبيه زيد، من قبيل إيجاد بعض الحالات النفسيّة في شخص عن طريق الإيجاد بوجودها فيه.

فإن قلت: إذا كانت هذه النسبة ناقصة، فلماذا نرى أنّ «يا زيد» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها؟

قلت: إنّها ليست جملة تامّة بمعنى أنّها أوجدت نسبة بين شيئين مستقلّين كافيين في إيجاد تلك النسبة، وصحّ سكوت المخاطب على تلك النسبة على حدّ تماميّة «زيد قائم» مثلاً. نعم، هي تامّة بمعنى أنّه كان المقصود إيجاد تنبيه زيد خارجاً وقد وجد هذا التنبيه، فليست هناك حالة انتظاريّة من ناحية التنبيه، فيرجع زيد متوجّهاً إلى المنادي، لكي يسمع ما يريد أن يقوله له(1).

هذا تمام الكلام في حقيقة المعنى الحرفيّ ومعنى هيئات الجمل.


(1) يمكن افتراض كون حرف النداء موضوعاً لنسبة ندائيّة، أو دعوتيّة، أونوع من النسبة الطلبيّة تختلف عن التنبيه التكوينيّ، وتكون هذه النسبة مولدهاالأصليّ الذهن، فهي نسبة تامّة، أحد طرفيها الداعي باعتباره حاضراً لدى نفسه، والثاني المدعوّ باعتبار حضور صورته لدى نفس الداعي، شبيهاً بما شرحناه في النسبة الاستفهاميّة.

209

كيفيّة وضع الحروف والهيئات:

بقي الكلام في أنّه هل من الصحيح: أنّ الحروف والهيئات يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له فيها خاصّاً، أو لا؟

فنقول: إنّ الكلام تارة يقع في موارد النسب الواقعيّة بحسب مصطلحنا، كالنسبة التصادقيّة، والإضرابيّة، والتفسيريّة، والتأكيديّة، ونحو ذلك، واُخرى في النسب التحليليّة، كنسبة الظرفيّة.

أمّا الكلام في النسب الواقعيّة، فلابدّ أن نعرف أوّلاً: ما المراد بكون الموضوع له فيها عامّاً، أو خاصّاً؟ فنقول: ليس المراد هو الصدق على كثيرين في الخارج وعدم الصدق؛ لوضوح: أنّ النسبة الواقعيّة التي موطنها الأصليّ هو الذهن لا تصدّق على الخارج أصلاً، ففي الخارج لا يتعقّل إضراب أو تفسير ونحو ذلك، ولا يتعقّل في الخارج التصادق؛ إذ الخارج وعاء الوحدة، لا وعاء التصادق.

كما أنّه ليس المراد بالعموميّة والخصوصيّة ما جاء في كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، من أنّ معنى الخصوصيّة كون تقيّد المعنى الحرفيّ بطرفيه داخلاً في حريم معنى الحرف وإن كان طرفاه خارجين عنه من باب دخول التقيّد وخروج القيد، ومعنى العموميّة كون التقيّد والقيد كلاهما خارجين(1). فإنّ هذا الكلام لا معنى له؛ إذ ليس لنا زائداً على المعنى الحرفيّ أمران: قيد وتقيّد حتّى يتكلّم في أنّه: هل كلاهما خارجان عن حريم معنى الحرف أو أنّ التقيّد داخل والقيد خارج؛ فإنّ المعنى الحرفيّ امتيازه عن المعنى الاسميّ هو: أنّه بذاته ربط، فلا يحتاج إلى ربط


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 54 ـ 59 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات ج 1، ص 28 ـ 29.

210

وتقيّد، وإلاّ لاحتاج ذاك الربط والتقيّد إلى ربط وتقيّد آخر، وهكذا.

والذي ينبغي أن يقال في معنى: أنّ الموضوع له عامّ أو خاصّ: إنّ أفراد هذه النسب الواقعيّة كأفراد النسبة التصادقيّة، أو أفراد النسبة الإضرابيّة، أو أفراد النسبة التأكيديّة، وغير ذلك هل يتصوّر بينها جامع حقيقيّ مع إلغاء خصوصيّات الطرفين يصدق على كثيرين في نفس عالم الذهن، حتّى يعقل وضع اللفظ بإزائه، فيكون الموضوع له عامّاً، أو لا يتصّور جامع حقيقيّ بينها، فيكون الموضوع له خاصّاً لا محالة؟

والصحيح: استحالة الجامع كما بيّنّاه في المسلك الثالث في المعنى الحرفيّ. وخلاصة ما بيّنّاه: أنّ النسبة متقوّمة بتمام ذاتها بشخص الطرفين، فإن تحفّظنا على خصوصيّات الأطراف استحال أخذ الجامع لتباين الخصوصيّات، وإن ألغينا خصوصيّات الأطراف ألغينا بذلك نفس النسب، فلا جامع حقيقيّ ذاتيّ بين الأفراد، فيتعيّن وضع الحرف بإزاء أفراد هذه النسب. وهذا معنى: أنّ الموضوع له خاصّ، والواضع يتصوّر مفهوماً إجماليّاً ـ حسب تصوّراتهم للوضع ـ ويشير به إلى أشخاص النسبة التصادقيّة، أو الإضرابيّة مثلاً، فيكون الوضع عامّاً.

وأمّا الكلام في النسب التحليليّة من قبيل مفاد «في» ونحو ذلك من النسب التي يكون موطنها الأصليّ هو الخارج، فهنا ـ بحسب الحقيقة ـ لابدّ من الكلام في المرتبة السابقة على البحث عن كون الموضوع له عامّاً أو خاصّاً في أنّه هل هناك للحرف وضع مستقلّ ليقع الكلام في أنّ الموضوع له خاصّ أو عامّ، أو ليس له وضع مستقلّ؟ وعليه نقول: إنّ الصحيح: أنّ كلمة «في» في قولنا مثلاً: «نار في الموقد» ليس لها وضع مستقلّ، وذلك لما وضّحنا من أنّ النسب التي موطنها الأصليّ هو الخارج هي نسب تحليليّة، ومعنى النسبة التحليليّة: أنّ هناك وجوداً

211

واحداً في عالم الذهن، وهو وجود لمركّب تحليليّ أحد أجزاء ماهيته التحليليّة هو النسبة، وقد مضى البرهان على ذلك، وإذا كان كذلك استحال كون جملة «نار في الموقد» دالّة على ثلاثة معان بنحو تعدّد الدالّ والمدلول؛ لأنّ هذا معناه وجود ثلاثة انتقالات ذهنيّة بعدد كلمات الجملة، مع أنّنا برهنّا على أنّ هناك لحاظاً واحداً في الذهن، ومعنىً واحداً في ذاك الصقع وإن تعدّدت أجزاؤه التحليليّة، وانتقالاً واحداً للذهن، فكيف يعقل أن تكون كلمة «في» بنفسها في هذه الجملة تعطي معنىً، وكلمة «نار» تعطي معنىً آخر، وكلمة «الموقد» تعطي معنىً ثالثاً؟! فالصحيح: أنّ هناك دلالة تصوّريّة واحدة لمجموع «نار في الموقد»، فوضع الحرف في النسب التحليليّة وضع ضمنيّ، كما أنّ مدلوله ضمنيّ تحليليّ، وعليه يقع الكلام في هذه الجملة والمعنى الوحداني: هل هذا بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، أو لا؟ وطبعاً من الواضح: أنّ الأمر كذلك، فإنّ الواضع بعد أن وضع كلمة «النار» لمعناها، وكلمة «الموقد» لمعناها، ووضع كلمة «رجل» لمعناها، وكلمة «الحديقة» لمعناها، وهكذا جاء إلى جملة «نار في الموقد»، وجملة «رجل في الحديقة»، ونحو ذلك، فوضعها لتلك الحصص، وهو لم يتصوّر تمام هذه الجمل، بل أشار إليها إجمالاً. فالوضع عامّ لكنّه وضع لواقع الحصص، فالموضوع له خاصّ.

نعم لو أخذنا جملة واحدة معيّنة من قبيل: «نار في الموقد» فليس معناها خاصّاً بلحاظ أفراد هذا المعنى؛ فإنّ هذه الجملة تعطي حصّة خاصّة من المفهوم الاسميّ الذي يتصوّر فيه الجامع، وليست من قبيل الحروف التي تدلّ على النسب الواقعيّة، فالموضوع له بلحاظ هذه الأفراد عامّ، وإن كان خاصّاً بلحاظ أفراد كلّيّ المحصّص بالنسبة الظرفيّة مثلاً، أي: أنّه وضع بوضع واحد «نار في الموقد»

212

لحصّة، و «رجل في الحديقة» لحصّة اُخرى وهكذا(1).

 


(1) ولا بأس بالحديث في نهاية المطاف عن ثمرة بحث المعاني الحرفيّة ولو مختصراً.

وليس المقصود بالثمرة الثمرة العمليّة التي تنتج بالفعل أثراً عمليّاً لكلّ فقيه؛ إذ ربّ فقيه يرى لنفسه دليلاً آخر يثبت ما أراد استفادته من بحث المعنى الحرفيّ في المورد الفلانيّ، أو يرى مناقشة في أصل تلك الثمرة، أو يرى مبنىً في بحث آخر غير بحث الحروف يوجب إلغاء تلك الثمرة، ولكن كلّ هذا لا يعني جواز حذف بحث المعاني الحرفيّة عن قاموس علم الاُصول، بل يضطرّ الفقيه إلى بحث المعاني الحرفيّة، وبحث تلك النكاتوالمباني الاُخرى، كي يثق بالنهاية إلى النتيجة التي يفتي بها؛ إذ من المحتمل إذا بحث أن لا يقتنع بتلك النكتة التي ما أبقت مورداً للثمرة، وبالتالي يصبح بحث الحروف منتجاً له.

والثمرات التي يمكن تفريعها على بحث الحروف على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما قد يترتّب على أصل بحث المعنى الحرفيّ، ونذكر لذلك مثالين:

المثال الأوّل: ما قد يقال من أنّ الوجوب المستفاد من صيغة الأمر؛ أو من جملة الأمر لا يمكن أن يُقيّد بقيد، فوجوب الحجّ مثلاً لا يمكن تقييده بالوقت المخصوص، وبالتالي سيتقدّم الوجوب على وقت الحجّ، ويكون الوقت قيداً للمادّة لا للهيئة، ويستنتج من ذلك وجوب المقدّمات المفوّتة من قبل أوان الواجب؛ لأنّ وجوب ذي المقدّمة فعليّ من قبل الوقت، فيترشّح الوجوب على المقدّمات. والوجه في عدم إمكان تقييد الهيئة: إمّا القول بأنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ؛ لأنّ الموضوع له فيه خاصّ، فلا يقبل التقييد، أو القول بأنّ المعنى الحرفيّ لا يمكن الالتفات إليه، بمعنى: أنّه مندكّ في الأطراف، وليس له استقلال ذاتيّ كي يمكن تقييده.

ومثل هذه الثمرة كافية في ضرورة بحث المعنى الحرفيّ وإن كان للفقيه والاُصوليّ طُرقاً لمناقشتها، إلاّ أنّه ـ كما ـ قلنا لو لم يبحثها كيف يناقشها؟!

فمثلاً قد يقول القائل: نحن لدينا طرق اُخرى للوصول إلى وجوب المقدّمات المفوّتة

213


كلزوم فوات غرض المولى في وقته على تقدير ترك المقدّمات قبل الوقت.

أو يقول القائل: إنّ الاندكاك بالمستوى المانع عن الالتفات المستقلّ، أو التقييد إنّما هو في النسب الناقصة؛ لأنّ وجودها تحليليّ بحت، لا واقعيّ. أمّا الوجوب الذي يستفاد من النسبة التامّة فليس تقييده مستحيلاً؛ لأنّ له وجوداً واقعيّاً في الذهن.

أو يقول القائل: إنّ كون الموضوع له خاصّاً، وكون المعنى الحرفيّ جزئيّاً إنّما هو بلحاظ أطرافه التي تَقَوُّم النسبة بها، لأنّه لو قشّر المعنى الحرفي عنها لم يبقَ شيء، ولو لم يقشّر عنها لم نحصل على الجامع الحقيقيّ. أمّا بلحاظ القيود الاُخرى العَرَضيّة، فبالإمكان تقييد المعنى الحرفيّ بها.

إلاّ أنّ كلّ هذه الأجوبة لو تمّ بعضها لا يمنع ـ كما قلنا ـ عن ضرورة بحث المعاني الحرفيّة.

المثال الثاني: ما قد يقال في مفهوم الشرط من توقّفه على تعليق سنخ الحكم على الشرط، كي ينتفي بانتفاء الشرط سنخ الحكم، فيثبت المفهوم، إلاّ أنّ تعليق سنخ الحكم محال؛ لأنّ مفاد الهيئة معنىً حرفيّ جزئيّ، فلا يدلّ إلاّ على شخص الحكم، أو لأنّه معنىً اندكاكيّ لا يقبل الإطلاق والتقييد.

وهب أنّ فقيهاً اُصوليّاً يناقش في ذلك: إمّا بإنكار المفهوم، حتّى بعد فرض إمكان الإطلاق في المعنى الحرفيّ؛ وذلك للقول بأنّ الجزاء نسبته إلى الشرط كنسبة المحمول إلى الموضوع، والإطلاق إنّما يتمّ في الموضوع لا في المحمول، فقولنا مثلاً: «إنّ النار حارّة» إنّما يدلّ على أنّ النار بكلّ أقسامها تحمل الحرارة، لا على أنّ النار تحمل جميع أقسام الحرارة.

وإمّا بإنكار كون جزئيّة المعنى الحرفيّ مانعة عن الإطلاق والتقييد؛ لما أشرنا إليه من أنّ جزئيّة المعنى الحرفيّ إنّما هي بلحاظ أطرافها الركنيّة، لا بلحاظ قيود اُخرى تُعرض عليها، وبإنكار كون معنى الهيئة التامّة مندكّاً بنحو يستحيل إطلاقه وتقييده، إلاّ أنّ كلّ هذا

214


لو تمّ لم يمنع عن ضرورة بحث المعنى الحرفيّ كما أشرنا إليه.

القسم الثاني: ما قد يترتّب على الفرق الجوهريّ بين النسب التامّة والنسب الناقصة، ونذكر لذلك مثالاً، وهو: دعوى الفرق بين مفهوم الشرط ومفهوم الوصف، بالإيمان بالأوّل وإنكار الثاني، ببيان: أنّ أداة الشرط تدلّ على النسبة الشرطيّة التامّة بين طرفين: أحدهما: نسبة الجزاء، والثاني: نسبة الشرط. وبما أنّ نسبة الجزاء علّقت على الشرط نجري فيها الإطلاق لإثبات أنّ المعلّق سنخ الحكم، فيثبت المفهوم، في حين أنّه لو بدّل قوله: «إن كان الرجل عالماً فأكرمه» بقوله: «أكرم الرجل العالم» فهنا ليست النسبة بين الرجل والإكرام تامّة، ولا يوجد هناك ما يدلّ على تعليقها على العلم، ويبقى أن يقال في تقريب المفهوم: إنّنا نجري الإطلاق في الرجل الواجب إكرامه بلحاظ وقوعه طرفاً للنسبة الناقصة مع العالم، فيقال بمقتضى الإطلاق: إنّ كلّ رجل يجب إكرامه يكون مقيّداً بكونه عالماً، وبهذا يثبت المفهوم، وهو: أنّ الرجل الذي لا يكون عالماً لا يجب إكرامه، ولكن يرد على ذلك: أنّ النسبة بين الرجل والعالم نسبة ناقصة، فقد أصبح الموصوف والصفة حصّة واحدة، فلا معنى لإجراء الإطلاق في الموصوف وحده؛ لأنّه اندكّ ضمن الحصّة، فلا يجري الإطلاق إلاّ في الحصّة، ومعنى إطلاق الحصّة وجوب إكرام كلّ رجل عالم، أمّا عدم وجوب إكرام غير العالم كما لو كان الرجل جاهلاً ولكنّه كان عادلاً مثلاً، فغير معلوم.

القسم الثالث: ما قد يترتّب على الخلاف في فهم حقيقة غُصن من أغصان الحروف، من قبيل: معنى أداة الشرط مثلاً، فقد يقال: إنّ أداة الشرط تجعل الشرط ركناً ثالثاً للنسبة الموجودة بين الموضوع والمحمول في الجزاء، وقد يقال: إنّ أداة الشرط تعلّق نسبة الجزاء التي ليس لها إلاّ رُكنان: الموضوع والمحمول، على الشرط، فعلى الثاني قد يتمّ مفهوم الشرط لإجراء الإطلاق في النسبة المعلّقة على الشرط لإثبات أنّ المعلّق سنخ الحكم، في حين أنّنا لو قلنا: إنّ النسبة في الجزاء أصبحت ثلاثيّة الأركان، ثالثها الشرط، لم يكن انتفاء الشرط إلاّ موجباً لانتفاء هذا الشخص من الحكم، فيبطل المفهوم.

215


الأسماء المبهمة:

ولنختم الحديث في هذا الفصل عن كلام حول الأسماء المبهمة كالموصولات والضمائر وأسماء الإشارة، حيث قد يقال فيها أيضاً بأنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له فيها خاصّ، كما قيل في الحروف والهيئات، فينبغي تثليث البحث عن الحروف والهيئات بالبحث عن الأسماء المبهمة.

وقد مشى الآخوند الخراسانيّ(رحمه الله) في هذا القسم نحو مشيه في الحروف والهيئات، فذكر: أنّ بالإمكان إرجاع الفرق بين الأسماء المبهمة وغيرها في الوضع، لا في الموضوع له، ويكون فرقه في الوضع بلحاظ طور الاستعمال، فأسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر، كما أنّ بعض الضمائر وضعت ليخاطب بها المعنى. والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص، لا أنّ التشخّص نتج من كون المستعمل فيه أو الموضوع له خاصّاً (راجع الكفاية، ج 1، ص 16 بحسب طبعة المشكينيّ).

وأورد عليه السيّد الخوئيّ(رحمه الله) بأنّنا حتّى لو سلّمنا الاتّحاد الذاتيّ بين المعنى الحرفيّ والاسميّ، وكون اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ ملحوظين في مقام الاستعمال، وغير مأخوذين في الموضوع له لا نقبل بمثل ذلك في الإشارة إلى المعنى. والفرق بين الموردين هو: أنّ لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال ضروريّ لابدّ منه، سواء أخذه الواضع قيداً للموضوع له أو لا؛ لأنّ الاستعمال فعل اختياريّ للمستعمل، متوقّف على لحاظ المعنى واللفظ، فلا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى ـ آليّاً كان أو استقلاليّاً ـ قيداً للموضوع له، بل يكون ذلك عبثاً ولغواً بعد ضرورة وجوده في مقام الاستعمال، ولكن الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لابدّ منه في مرحلة الاستعمال، حتّى يستغني الواضع من أخذها قيداً في الموضوع له، فإنّ المقصود بالإشارة إن كان هو نفس استعمال اللفظ في المعنى، والدلالة باللفظ على المعنى، فهذا غير مخصوص بأسماء الإشارة وما يلحق بها، بل يشترك فيها جميع الألفاظ، وإن كان أمراً زائداً على الاستعمال،

216


فلابدّ للواضع من أخذه في الموضوع له؛ إذ ليس هو كلحاظ المعنى الذي لابدّ منه في مقام الاستعمال، فإنّ الاستعمال بدونه ممكن.

والتحقيق: أنّ الوضع الذي هو عبارة عن التعهّد يشمل واقع الإشارة والتخاطب في المقام، فكلّ متكلّم تعهّد في نفسه بأنّه متى ما قصد تفهيم معاني أدوات الإشارة والتخاطب يُقرن بالاستعمال واقع الخطاب، أو واقع الإشارة باليد، أو الرأس، أو العين مثلاً، فبدون الإشارة أو الخطاب لا توجد للّفظ دلالة على معناه.

هذا، وبما أنّ كلمة «هذا» أو «هو» وضعت لواقع المفرد المذكّر، أعني به كلّ مفهوم كلّيّ أو جزئيّ يكون مذكّراً، لا لمفهوم المفرد المذكّر بأن يصبح لفظ «هذا» مرادفاً للّفظ «المفرد المذكر»، إذن فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً، وكذلك الحال في باقي أسماء الإشارة والضمائر (راجع المحاضرات، ج 1، ص 90 ـ 91).

وأورد السيّد الاُستاذ(رحمه الله) على كلّ ما مضى بما يلي، وذلك بناءً على النقل الوارد في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله (بحوث في علم الاُصول، ج 1، ص 337 ـ 338):

أوّلاً: أنّ ما أفاده السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من التفصيل بين لحاظ الآليّة أو الاستقلاليّة في الاستعمال والإشارة أو التخاطب في المقام بإمكان استغناء الواضع عن أخذ الأوّل في الموضوع له؛ لأنّه لابدّ منه في الاستعمال بخلاف الثاني، غير صحيح، فإنّ ما لابدّ منه في الاستعمال إنّما هو أصل لحاظ المعنى، أمّا كونه آليّاً في الحروف أو استقلاليّاً في الأسماء، فليس ممّا لابدّ منه. فهذا أيضاً بحاجة إلى أخذه من قبل الواضع مثلاً. والشيخ الآخوند(رحمه الله)لم يقل بنفي أخذ ذلك بحسب الوضع من قبل الواضع، وإنّما قال بأنّ آليّة اللحاظ أو استقلاليّته لدى الاستعمال مأخوذة بلحاظ الوضع في نفس العلقة الوضعيّة، لا في الموضوع له، ويفترض ذلك أيضاً في الإشارة والتخاطب أيضاً.

نعم يرد على الآخوند(رحمه الله) أنّ تقييد العلقة الوضعيّة بقيد ما من دون تضيّق في الموضوع له على التصوّرات الصحيحة لحقيقة الوضع غير ممكن، وأنّ دعوى الترادف في المعنى

217


والموضوع له بين كلمة «هذا» وكلمة المفرد المذكّر مثلاً خلاف الوجدان.

وثانياً: أنّ فرض أخذ واقع الإشارة أو التخاطب من قبل الواضع في الموضوع له ـ كما أفاده السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ مبنيّ على مبناه من مسلك التعهّد، وكون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة، وقد أوضحنا نحن بطلان هذا المسلك.

ويقول(رحمه الله) على ما في كتاب السيّد الهاشميّ: والصحيح: أنّ كلمة «هذا» تستبطن الإشارة بلا إشكال؛ لشهادة الوجدان اللغويّ بذلك، ولكن لا بمعنى وضعها لمفهوم الإشارة، فإنّ مفهوم الإشارة ليس إشارة، كما أنّ مفهوم النسبة ليس نسبة، ولا بمعنى وضعها لواقع الإشارة الذي هو فعل من النفس، ونحو توجّه خاصّ(1)؛ لأنّ هذا يعني كون الكلمة ذات مدلول تصديقيّ بحسب وضعها، وقد أبطلنا ذلك، ولا بمعنى وضعها للمقيّد بواقع الإشارة، لا على نحو دخول القيد والتقيّد، ولا على نحو دخول التقيّد وخروج القيد؛ لأنّه يستبطن أيضاً محذور الرجوع إلى التعهّد والدلالة التصديقيّة، بل توضيح ما نقوله من استبطان كلمة «هذا» للإشارة هو: أنّ الإشارة نحو نسبة وربط مخصوص بين المشير والمشار إليه، والنسبة الإشاريّة مع مفهوم الإشارة تكون تماماً كالنسبة الابتدائيّة مع مفهوم الابتداء، وكما أنّ النسبة الابتدائيّة لها صورة ذهنيّة في مرحلة المدلول التصوّريّ، كذلك تلك النسبة الإشاريّة، ولفظة «هذا» موضوعة لكلّ مفرد مذكّر واقع طرفاً لهذه النسبة الإشاريّة، لا بمعنى: أنّ الواقع الخارجيّ للإشارة مأخوذ، ليلزم انقلاب الدلالة الوضعيّة إلى التصديقيّة، بل الإشارة بما هي أمر نسبيّ تصوّريّ مأخوذة على حدّ سائر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا يخفى أنّ ما مضى منّا نقله من محاضرات الشيخ الفيّاض كان عبارة عن فرض الإشارة بمثل اليد أو الرأس أو العين، لا الإشارة بمعنى توجّه خاصّ من النفس، ولكن من الواضح: أنّ هذا التعبير الوارد هنا عن اُستاذنا(قدس سره) أدقّ وأنسب لمقام السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وكأنّه المقصود من التخاطب أيضاً، بمعنى: أنّه قصد بالتخاطب نحو توجّه خاصّ من النفس.

218


النسب الحرفيّة في مرحلة المدلول التصوّريّ. ونفس الشيء يقال في التخاطب أيضاً، فإنّه يحقّق نسبة معيّنة تخاطبيّة على الوجه المذكور، وعلى هذا الأساس يكون الوضع في المبهمات من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

أقول: إنّ عدم كون الواقع الخارجيّ للإشارة مأخوذاً قيداً في الموضوع له؛ لأنّه يلزم من ذلك انقلاب الدلالة الوضعيّة إلى التصديقيّة، بل المأخوذ صورة ذهنيّة عن واقع الإشارة، قد ينقض بالنسبة التصادقيّة في مثل «زيد قائم»؛ فإنّ الهيئة تعطي للذهن واقع النسبة التصادقيّة، لا صورة عنها، ومع ذلك لم تنقلب الدلالة الوضعيّة إلى التصدّقيّة، فإنّ المقياس في انقلابها إلى التصدّقيّة إنّما هو فرض رجوع الوضع إلى التعهّد، ومع عدمه لا تكون الدلالة الوضعيّة كاشفة كي يحصل بها التصديق، ومجرّد إعطاء واقع النسبة لا يعني الكشف.

ولكن يحتمل أن يكون المقصود في المقام هو: أنّه بما أنّ النسبة التصادقيّة كان بالإمكان خلق مثلها في ذهن السامع، فكون الهيئة موضوعة لواقع النسبة التصادقيّة لم يكن بمعنى الكشف عنها، ولكن النسب التي لا يمكن خلقها في ذهن السامع برغم كونها ذهنيّة الموطن بلحاظ نفس المتكلّم، وذلك كالإشارة والتخاطب، وكالاستفهام على تفسير مضى منّا للاستفهام، فهنا لا معنى لفرض كون الوضع معطياً لواقع النسبة، إلاّ أن يكون الواضع كاشفاً عن واقع النسبة. وهذا رجوع إلى الدلالة التصديقيّة، إذن فمعنى إعطاء الوضع للنسبة إلى ذهن السامع إعطاؤه لصورة ما عنها إلى ذهن السامع ولو تحليليّة. أمّا ما يوجد في نفس المتكلّم، فلا ينبغي الإشكال في أنّه عبارة عن واقع النسبة كما قلناه في الاستفهام.

ثُمّ إنّ السرّ في عدم كون مجرّد الإشارة كلاماً تامّاً برغم أنّها ذهنيّة الموطن وغير تحليليّة هو: أنّ الإشارة لابدّ لها من هدف عقلائيّ، لا يتمّ بمجرّد الإشارة، وهو الإخبارعن حالة للمشار إليه مثلاً، أو الأمر بإيجاد، أو نحو ذلك، فليس النقصان هنا

219


بمعنى تحليليّة النسبة في ذهن المتكلّم، بل بمعنىً آخر. وهذا نظير ما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في نسبة النداء، حيث فرضها تحليليّة، ولكن في نفس الوقت كان يعتبر الكلام تامّاً بمعنىً آخر من التماميّة، غير واقعيّة النسبة، وكان ذاك المعنى عبارة عن أنّ الهدف المقصود من الكلام وهو التنبيه قد حصل.

بقي الكلام في الأسماء الموصولة. والظاهر أنّها أيضاً موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لكلّ أمر واقع طرفاً للنسبة الناقصة بين الموصول والصلة، والتي تدلّ عليها هيئة الموصول والصلة.

وقد تقول: لماذا تكون نسبة الموصول والصلة ناقصة مع أنّها ذهنيّة المولد؟

ولكن الجواب ما مضى منّا في نسبة الوصف والموصوف، من أنّ البرهان إنّما دلّ على نقصان كلّ نسبة ذهنيّة تكون خارجيّة المولد، ولم يقم البرهان على أنّ كلّ نسبة ذهنيّة المولد لابدّ وأن تكون واقعيّة وتامّة.

ثُمّ إنّه قد اتّضح بكلّ ما ذكرناه السرّ في أنّ الأسماء المبهمة دائماً تتلوّن بلون المورد، ولا يمكن أن يجرى فيها الإطلاق بأكثر ممّا يناسبه المورد بحجّة أنّ المورد لا يخصّص الوارد، فمثلاً لو كان الحديث بين شخصين عن عدد من الرمّانات، فقال أحدهما لصاحبه: «إنّي اُحبّ ما هو أكبر» لم يكن لصاحبه أن يحمل هذا الكلام على إطلاقه في كلّ شيء يستفيد منه أنّه يحبّ في جميع الفواكه، أو الأطعمة، أو في كلّ الأشياء ما هو أكبر. والسّرّ في ذلك: أنّ الأسماء المبهمة موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لأيّ معنىً يشير إليه المتكلّم مثلاً، أو يريده طرفاً للصلة، فأوّلاً يجب تحديد ذاك المعنى الذي جعل طرفاً للصلة، أو مشار إليه مثلاً بمناسبات المورد، وبعد ذلك يصحّ التمسّك بإطلاق ذاك المعنى المفهوم بمناسبات المورد لأفراده، أو لحالاته.

وقد يقال ببيان آخر لتوضيح تلوّن المبهمات بلون موردها لو تمّ لم يختصّ بالمبهمات بالمعنى المصطلح المذكور في المقام بل يشمل حتّى مثل كلمة «شيء» وما شاكل ذلك

220

 

 


ممّا يكون مبهماً، بمعنى كون سعة مفاده فوق ما يؤلف قصده في الموارد المتعارفة، وإن كان يقصد مفاده بسعته الواسعة في بعض الموارد التي تناسب ذلك من قبيل: ﴿إنّ الله على كلّ شيء قدير﴾، وعندئذ يقال: إنّه في المورد الذي لا يناسب إرادة تلك السعة كما هو الغالب ينصرف عرفاً ذاك المبهم إلى دائرة المورد، ولا يفهم منه الإطلاق بالقدر المعقول من الإطلاق، فحينما يقول القائل مثلاً في مورد الأطعمة: «إنّي لا اُحبّ شيئاً» حمل ذلك على الأطعمة، لا على كلّ ما يعقل دخوله في دائرة عدم الحبّ.

وعلى أيّ حال، فسواء تمّ هذا البيان أو لم يتمّ، فلا إشكال في أنّ المورد يبطل إطلاق الأسماء المبهمة بالمعنى المصطلح لهذه الكلمة كالموصولات؛ وذلك لما عرفت من أنّ الموضوع له فيها خاصّ، فالمعنى المقصود من تلك الكلمة يجب أوّلاً تعيينه بقرينة المورد، ثُمّ إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة في دائرة ذاك المعنى المقصود.