178

تفيد التوزيع من قبيل اغسلوا وجوهكم إلّا ان هذا يجب ان يرجع في الحقيقة إلى ما ذكرناه من المناسبات العرفية، وإلّا فليس كل مقابلة للجمع بالجمع تفيد التوزيع، فلو قال مثلاً: اتركوا شرب الخمور فهذا لا يعني انّ كل أحد يترك شرب خمره هو أمّا لو أراد شرب خمر الآخرين فهو غير مشمول لهذا النهي.

ويمكن ان يقال أيضاً في خصوص ﴿اوفوا بالعقود﴾: إنّ الوفاء لا معنى له إلّا إذا كان العقد عقده، والعمل بعقد الغير ليس وفاءً فإذا لم تشمل الإطلاقات العقد الذي يجريه غير المالك رجعنا فيه إلى أصالة الفساد.

هذا. ويحل محل الملك أمران: الولاية والاذن:

أمّا الولاية فلانّ نفس دليلها هو الذي يجعل الولي بحكم المالك بالحكومة فيصبح تصرف الولي صحيحاً ونافذاً وواجب الوفا، بمقتضى القاعدة بالقياس للوليّ أوّلاً ثمّ بالقياس للمولّى عليه بعد خروجه عن الحجر.

وأمّا الاذن فلا شك فقهياً في انّ اذن من بيده الأمر يكفي في صحّة العقد أي انّ عقد المأذون من قبل من بيده أمر ذاك العقد يكون بمنزلة عقده مباشرة، وهذا من ضروريات الفقه التي لا داعي للاستدلال عليها، وعليه السيرة القطعية العقلائية والمتشرعية بل سيرة المعصومين (عليهم السلام) إمّا مطلقاً أو في خصوص الوكالة لو افترضناها أخصّ من مطلق الاذن فانّهم (عليهم السلام) لم يكونوا دائماً يباشرون عقودهم ومعاملاتهم بأنفسهم، ولكن مع هذا نريد ان نبحث عمّا إذا كان دليل آخر غير البداهة الفقهية والسيرة القطعية وعمل المعصوم دالّاً على كفاية الاذن وحلوله محل الملك، وفائدة ذلك هي انّ مجرّد الضرورة أو السيرة أو عمل المعصومين أدلّة لبية قد يقال إنّه لا إطلاق لها يشمل الاذن المتأخّر المسمّى بالإجازة، فلو استطعنا ان ننتهي إلى دليل لفظي على ذلك فقد يفيدنا ذلك في بحث الإجازة المتأخّرة فنقول:

179

الدليل الخاص على كفاية إذن المالك:

يمكن أن يستدلّ على انّ اذن المالك يصحّح العقد الذي يجريه المأذون ويحل محل الملك ـ بقطع النظر عن تلك الوجوه اللبية وبقطع النظر عمّا إذا فرضنا دلالة دليل خاص على كفاية الإجازة المتأخّرة فتثبت بالأولوية كفاية الاذن ـ باُمور:

الأوّل ـ ما ذكره السيد الخوئي من دعوى انّ الاذن في الاعتباريات أو التصرّفات القانونية يصحّح إسناد ذاك الأمر الاعتباري أو التصرّف القانوني إلى الآذن حقيقة فمن باع وكيله أو المأذون من قبله بيته يصحّ أن يقول حقيقة: بعت بيتي ومن طلّق وكيله أو المأذون من قبله زوجته يصحّ أن يقول حقيقة: طلّقت زوجتي وبهذا يدخل العقد تحت الإطلاقات التي أشرنا إليها، فعقد الوكيل أو المأذون وإن لم يكن بما هو فعل مُادّي منسوباً حقيقة إلى المالك ولكنّه بما هو إيجاد أمر اعتباري أو تصرّف قانوني ينسب إليه حقيقة فيشمله قوله ﴿اوفوا بالعقود﴾ أو ﴿تجارة عن تراض﴾ أو نحو ذلك(1).

أقول: إنّ الأمر الاعتباري الذي يفترض وجوده في مورد العقود يكون له وجود في عوالم ثلاثة: فله وجود في عالم اعتبار المتعاقدين أنفسهما فهما يعتبران النقل والانتقال مثلاً، وله وجود في عالم اعتبار العرف والعقلاء حيث يوافقون على ما فعله المتعاقدان فيعتبرون المال مثلاً قد انتقل من البائع إلى المشتري، وله وجود في عالم اعتبار الشارع حيث أمضى ما فعلاه، فقد يوجد ذاك النقل الاعتباري في بعض هذه العوالم دون بعض كما لو تبايع صبيان وفرض


(1) راجع المحاضرات 2: 295، ومصباح الفقاهة 4: 19 ـ 20.

180

بيع الصبي باطلاً حتى في نظر العقلاء فالنقل الاعتباري وجد في لوح اعتبار المتعاقدين، ولكنّه لم يوجد في لوح اعتبار العقلاء ولا الشارع وكما لو تبايع شخصان الخمر فحصل النقل والانتقال في لوح اعتبار المتعاقدين وفي لوح اعتبار العقلاء ولم يحصل ذلك في لوح اعتبار الشارع.

فإن كان المقصود من صحّة إسناد الأمر الاعتباري إلى الاذن حقيقة صحّة إسناد الوجود الاعتباري الذي هو في لوح اعتبار المتعاقدين إليه فلعلّه من الواضح انّ هذا الأمر الاعتباري انّما يكون من فعل الوكيل لا الموكّل، ومن فعل المأذون لا الآذن، ولا يصحّ إسناده حقيقة إلى الموكّل والآذن.

وإن كان المقصود صحّة إسناد الأمر الاعتباري الذي تولّد في لوح اعتبار العقلاء إليه فهذا صحيح، ولكن إنّما يصحّ هذا الإسناد إليه حقيقة في طول انّ العقلاء يرون انّ اذنه جزء موضوع لوجود ذاك الأمر الاعتباري.

ولولا اعترافهم بذلك لما اعترفوا بانّ هذا الأمر الاعتباري مسند إليه اذن، فتمامية هذا الوجه بناء على تفسير الأمر الاعتباري بما في لوح اعتبار العقلاء تتوقّف على كفاية الاذن بحسب ارتكاز العقلاء، ولا أقصد بذلك انّ هذا الدليل رجع إذن إلى الاستدلال بالسيرة والارتكاز الكاشفين ولو بعدم الردع عن رأي المعصوم، فلنفترض انّ السيرة والارتكاز لا يكشفان عن رأي المعصوم وانّ عدم وصول الردع ليس دليل الإمضاء.

وانّما المقصود انّ هذه السيرة أو هذا الارتكاز أوجب إسناد البيع الاعتباري مثلاً إلى الاذن فدخل في إطلاق مثل أحل الله البيع.

وأمّا الوجود الاعتباري الشرعي لهذا النقل والانتقال فإن كان موضوعه الوجود الاعتباري العقلائي فقد تمّ في المقام الإطلاق الحكمي، لانّ الأمر

181

الاعتباري العقلائي قد استند حقيقة إلى الاذن فدخل تحت إطلاق ﴿أحلّ الله البيع﴾ الذي كان معناه أحلّ الله لكل أحد البيع الراجع إليه أي المنسوب له من ناحية، والواقع على ما في سلطته من ناحية اُخرى.

وإن كان موضوعه الوجود الاعتباري في لوح اعتبار المتعاقدين كما هو كذلك يقيناً في ﴿اوفوا بالعقود﴾ فانّ العقد عبارة عن قرار مرتبط بقرار، وهذا راجع إلى المتعاقدين لا إلى العقلاء فيتمّ في المقام عندئذ الإطلاق المقامي، وأقصد بذلك انّ قوله: ﴿اوفوا بالعقود﴾ يفهم منه العرف خطأً تمامية ملاك الإطلاق الحكمي على أساس عدم تمييزه الدقيق بين العوالم التي شرحناها، فإن لم يكن يقبل الشارع بفهم الإطلاق من كلامه كان عليه ان ينصب قرينة مانعة عن الوقوع في هذا الخطأ، فعدم نصبه لها دليل الإطلاق.

هذا. والفارق المهم الذي يترتّب على التمييز بين التقريب الذي ذكره السيّد الخوئي لهذا الوجه وهو مجرّد دعوى انّ الشيء الاعتباري يكفي في صدق انتسابه حقيقة إلى الشخص اذنه وإجازته، والتقريب الذي نحن ذكرناه هنا من انّ ما ينتسب إلى الشخص حقيقة بالاذن والإجازة انّما هو الأمر الاعتباري الموجود في لوح اعتبار العقلاء وذلك بعد فرض انّ العقلاء يرون كفاية الاذن والإجازة في تحقّق ذلك هو ما سيظهر في بحث الفضولي، من انّه بناء على ما تبنّاه السيّد الخوئي نمتلك إطلاقات العقود لتصحيح عمل الفضولي بالإجازة المتأخّرة بقطع النظر عن دليل السيرة العقلائية أمّا على مسلكنا فتمامية الإطلاقات توقّفت على تمامية السيرة، صحيح انّ الاستدلال بالإطلاقات لم يصبح لغواً فانّ الاستدلال بها في عرض الاستدلال بالسيرة بعد إثبات إمضائها بعدم الردع فقد لا يقبل أحد انّ عدم وصول الردع دليل الإمضاء ويقبل الإطلاقات، لكنّني أقول إنّ مَن يؤمن بدلالة

182

السيرة وكفاية عدم وصول الردع لا يستفيد فائدة إضافية من الإطلاقات، فانّه إنثبتت السيرة على صحّة الفضولي بالإجازة المتأخّرة كفت لإثبات الحكم وإلّا لم تتم الإطلاقات في حين انّه على مسلك السيّد الخوئي تتم الإطلاقات حتى لو لم تثبت السيرة.

الثاني ـ انّ العقد عهد والعهد أمر تكويني نفسي والمتعهّد الحقيقي في باب العهود التي تقام بواسطة نائب أو وكيل انّما هو الموكّل أو الآذن، وليس الوكيل أو المأذون في إجراء الصيغة بل وحتى الوكيل المطلق الذي يتعهّد ويلتزم هو بالوفاء بالعهد لا يمكن افتراض ان موكّله خارج عن دائرة العهد، فموكّله قد اعطى تعهّداً مسبقاً ولو إجمالاً بما سيفعله الوكيل المطلق، والمبرز لتعهّد الموكّل أو الآذن هو مجموع ما يصدر منه من الاذن أو التوكيل مع صيغة العقد التي يجريها المأذون أو الوكيل. إذن فالآذن أو الموكّل قد أصبح هو طرفاً للعهد مباشرة، وهذا غير ما مضى دعواه في الوجه الأوّل من انّ الاذن في الأمر الاعتباري يجعل الأمر الاعتباري منتسباً إلى الآذن حقيقة، بل العهد ليس أمراً اعتبارياً أصلاً بل هو أمر حقيقي نفسي متقوّم بالموكّل أو الآذن كما هو متقوّم بالطرف الآخر، فإذا أصبح العقد على هذا الأساس منتسباً إلى الآذن حقيقة صحّ فيه التمسّك بإطلاقات العقود.

إلّا انّ هذا الوجه من البيان لا يتم في جميع العقود، وذلك لانّ العقد ليس دائماً عهداً بالمعنى الذي يكون أمراً تكوينياً نفسياً يتقوّم بالموكّل والآذن، بل قد يكون قراراً لأمر اعتباري بحت فيجب عندئذ ان نرجع إلى الوجه الأوّل ولا يفيدنا هذا الوجه، ومثاله البيع بناء على مشرب الفقه الإسلامي من كون البيع بنفسه نقلاً لا التزاماً بالنقل كما يقوله الفقه الغربي(1)، فالبيع ليس عهداً بمعنى الأمر التكويني النفسي وهو


(1) راجع بهذا الصدد المقدّمة الرابعة من المقدّمات الأربع لبحثنا هذا في فقه العقود.

183

الالتزام بشيء على العهدة بل هو نقل مباشر للعين إلى المشتري وفي مثله لا يرد هذا الوجه، وانّما يختص هذا الوجه بمثل الأجير الذي ينشيء الالتزام بالعمل.

والواقع انّ هذا الوجه مع الوجه الأوّل يشكلان وجهاً واحداً متكاملاً لانّ العاقد إمّا أن ينشىء أمراً اعتبارياً، أو ينشىء العهد الذي هو عمل تكويني للنفس، أو ينشئهما معاً فإنشاء الأمر الأوّل هو مورد للوجه الأوّل، وإنشاء الأمر الثاني هو مورد للوجه الثاني فلدينا إذن وجه واحد ذو جزئين ويمتاز هذا الجزء عن الجزء الأوّل أو هذا الوجه عن الوجه الأوّل بانّ الوجه الأوّل كان حسب مسلكنا لتقريره متوقّفاً على ثبوت السيرة العقلائية كما مضى شرحه، في حين انّ هذا الوجه ليس متوقفاً على ثبوتها فانّ التعهّد أمر تكويني ومنتسب إلى الآذن حقيقة، وليس أمراً اعتبارياً تتوقّف صحّة انتسابه إليه على ما مضى من فرض ثبوت الاعتبار في لوح الاعتبار العقلائي.

الثالث ـ ما أفاده السيّد الإمام (رحمه الله) وهو انّنا لو خلّينا وطبع الإطلاق اللفظي لأدلّة العقود لاقتضت إمضاء عقد الفضولي والغاصب اللذين عقدا بلا اذن وإجازة فضلاً عن العقد الصادر عن اذن المالك، والمناسبات العرفية التي أخرجت العقد الذي يكون اجنبياً عنّا تماماً انّما اخرجت العقد الاجنبي الصرف ولم تخرج العقد الذي وقع باذننا فنتمسّك في ذلك بالإطلاق.

وبكلمة اُخرى انّ تقييد هذه الأدلّة بان يكون العقد عقداً له، أو البيع بيعاً له، أو التجارة تجارته لم يكن بدليل لفظي، وانّما بمجرّد دعوى الانصراف على أساس المناسبات ولا انصراف عن البيع المأذون بعد ما كان صحيحاً لازماً عرفاً وفي جوّ العقلاء(1).


(1) راجع كتاب البيع 2: 101.

184

أقول: إنّ هذا الكلام لا يتمّ كوجه مستقل عمّا سبق بالنسبة لاُوفوا بالعقود لأنّ القيد هنا وارد في اللفظ لما مضى من انّ الوفاء لا يصدق حقيقة إلّا ممّن ينتسب إليه العقد حقيقة، بل لا يتم كوجه مستقل عمّا سبق حتى في غير اوفوا بالعقود من قبيل احلّ الله البيع فانّ القيد المستفاد بالمناسبات العرفية لهذه الإطلاقات انّما هو قيد استناد البيع أو المعاملة إليه، فعلى أي حال لا بدّ من إحراز هذا القيد بالرجوع إلى الوجهين السابقين، فهذا الوجه لا يتمّ إلّا بإرجاعه إلى ما سبق.

هذه هي الوجوه التي اردنا التعرّض لها ممّا يدلّ على كفاية الاذن، وهذه الوجوه تثبت كفاية مطلق الاذن لا خصوص الوكالة لو قلنا انها أخص من الاذن.

وهناك وجه آخر يدلّ على كفاية مطلق الاذن وهو روايات الوكالة إمّا بدعوى انّ الوكالة عقد اذني ولا تتجاوز حقيقتها مجرّد الاذن، أو بدعوى انّها حتى لو كانت مشتملة على شيء زائد على مجرّد الاذن، فالمفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع من أدلّتها انّ نكتة نفوذها هي ما تشتمل عليه من الاذن، فالروح الحقيقية للوكالة التي عليها المعتمد انّما هي الاذن.

ولكن هذا الوجه لا يفيدنا في المقام لما عرفت من انّ هدفنا من هذا البحث ليست حقيقة معرفة كفاية الاذن في صحّة العقود فانّ هذه من الواضحات وليست بحاجة إلى بحث علمي، وانّما الهدف هو أن نرى هل يمكن توسيع الحكم المستفاد من دليل كفاية الاذن للإجازة المتأخّرة أو لا؟ وهذا التوسّع إن كان محتملاً فانّما يحتمل بلحاظ الوجوه الثلاثة التي ذكرناها، لا بلحاظ أدلّة الوكالة الواضح عدم صدقها في مورد الإجازة المتأخّرة.

هذا تمام الكلام في الاذن.

 

185

هل يقوم الرضا مقام الإذن:

وقد يقال: إنّ الرضا الباطني حاله حال الإذن وتجري فيه نفس الوجوه التي ذكرناها لمصححيّة الاذن، وأقصد بذلك الوجوه الثلاثة التي فرغنا عن بحثها قبل اسطر لا الوجوه اللبية من مثل المسلّمية والضرورة الفقهية، لوضوح عدم ورودها في الرضا الباطني البحت.

ولكن الصحيح انّ تلك الوجوه لا تكفينا لإثبات كفاية الرضا الباطني.

أمّا الأوّل وهو كون الاذن موجباً لصحّة إسناد الأمر الاعتباري إلى الآذن فهو انّما يكون لأجل كون الاذن عملاً اختيارياً للآذن صدر منه لأجل تبنّي ذلك الأمر الاعتباري فأوجب صحّة إسناد ذاك الأمر الاعتباري إليه حقيقة، أمّا في مورد الرضا الباطني فلم يصدر منه عمل من هذا القبيل أصلاً، والرضا ليس إلّا حالة نفسانية غير اختيارية وليس عملاً صادراً منه بهدف تبني ذلك الأمر الاعتباري اذن فهذا الوجه لا يصحّح كفاية الرضا.

وأمّا الثاني وهو كون الآذن طرفاً للتعهّد فهذا أيضاً لا يأتي في مجرّد الرضا لوضوح انّ مجرّد الرضا الباطني لا يؤثّر في تحقّق الطرفية في التعهّد والميثاق.

وأمّا الثالث وهو دعوى شمول الإطلاقات للعقد في المقام لانّ المناسبات العرفية التي تصرف الإطلاق عن العقد الذي يكون اجنبياً بحتاً عن المالك لا تأتي هنا، فقد أفاد السيّد الإمام (رحمه الله): إنّ هذا يشمل مجرّد الرضا كما يشمل الاذن ولا وجه للانصراف، سواء في مورد الإذن أو الرضا بعد كون المعاملة صحيحة لازمة عرفاً وفي جوّ العقلاء(1).


(1) كتاب البيع 2: 101 ـ 102.

186

أقول: إنّ كون المعاملة صحيحة لازمة عرفاً وفي جوّ العقلاء في موارد الاذن مقبول لدينا، أمّا كونها كذلك في موارد مجرّد الرضا الباطني من دون اذن فهو غير مقبول لدينا، ولو كان مقبولاً لكفى بنفسه دليلاً على الصحّة حتى مع غضّ النظر عن الإطلاقات وذلك على أساس إثبات إمضاء السيرة والارتكاز بعدم الردع.

نعم التشكيك في هذا الارتكاز والسيرة لا يضرّ بالاستدلال بالإطلاقات في المقام إذ ليس من شرط التمسّك بها وجود ارتكاز عرفي وعقلائي على طبقها، وانّما المهم عدم وجود ارتكاز ومناسبة عقلائية ترفضها.

ولكن على أيّة حال قد مضى منّا انّ هذا الوجه الثالث لا يتم كوجه مستقل عن سابقيه.

وقد يستدلّ على كفاية الرضا الباطني من قبل المالك المقارن لعقد الفضولي بقوله تعالى: ﴿إلّا ان تكون تجارة عن تراض﴾، وبقوله (عليه السلام): لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا بطيبة نفسه(1) وذلك باعتبار انّ الرضا أو الطيب الباطني كاف في دخول المعاملة في المستثنى.

ويردّ على الأوّل ما عرفته من انّ المناسبات العرفية تقتضي كون المنصرف من مثل هذه الإطلاقات ما إذا كانت التجارة تجارته والبيع بيعه والعقد عقده، ومجرّد الرضا الباطني غير كاف في استناد التجارة عليه.

وأمّا الوجه الثاني وهو التمسّك بقوله: لا يحل مال امرء مسلم إلّا بطيبة


(1) الوسائل 3: 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث 1 و 19: 3، الباب 1 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

187

نفسه فإن حملناه على الحلّ التكليفي فحسب فمن الواضح عدم دلالته على المدعى، وإن حملناه على الاعم منه ومن الحل الوضعي فقد يقال: إنّ مقتضى إطلاق المستثنى كفاية الرضا الباطني في دخول المورد في المستثنى.

وقد أجاب عليه السيّد الخوئي على ما ورد في المصباح(1) انّ مثل هذا التركيب لا يدلّ على الحصر ولا يستفاد منه عدا كون المستثنى شرطاً، وهو لا ينافي فرض شرط آخر ولم يذكر ما هو السرّ في عدم الدلالة على الحصر وما هو الضابط في ذلك، وأشار في المحاضرات(2) إلى ضابط لذلك وهو انّه في موارد نفي الحقيقة ليس الاستثناء حقيقياً ودالاً على الحصر، وانّما هو صورة استثناء وانّما هو إشارة إلى الشرطية والجزئية من قبيل لا صلاة إلّا بطهور، ولا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، فكأنّه يقصد انّ قوله: لا يحل مال امرء مسلم أيضاً داخل في نفس الحقيقة ولو بأن يكون مقصوده من نفي الحقيقة ما يشمل نفي الصحّة، ولكن هنا أيضاً لم يوضح ما هو السرّ في عدم كون الاستثناء في موارد نفي الحقيقة استثناء حقيقياً أو عدم دلالته على الحصر وكونه فقط بصدد بيان الشرطية أو الجزئية، ولم يوضّح أيضاً انّ قوله: لا يحل مال امرء مسلم لما يلحق بنفي الحقيقة، مع انّه في قسم من مدلوله ـ وهو الحل التكليفي ـ لا ربط له بنفي الحقيقة، فهل انّ نفي الجواز أيضاً كنفي الصحّة ملحق بنفي الحقيقة؟ ثم نفي الصحّة لماذا يلحق بنفي الحقيقة؟ إن قيل إنّه نفيٌ لحقيقة الصحّة قلنا: إذن كل نفي نفي للحقيقة حتى في مثل ما جاء القوم إلّا زيداً، لانّه ينفي حقيقة المجيء وإن قصد بنفي الحقيقة تحديد


(1) مصباح الفقاهة 4: 7.

(2) المحاضرات 2: 291.

188

المفهوم لا المصداق كي لا يصدق في مثل ما جاء القوم فنفي الصحّة أيضاً ليس تحديداً لمفهوم الصحّة بل هو تعيين للمصداق.

وعلى أية حال فالذي ذكرنا لدى بحثنا عن إطلاقات العقود هو الاستفادة من حرف الباء في مثل لا صلاة إلّا بطهور أو بفاتحة الكتاب فالباء يعطي معنى التقييد والجملة باقية على دلالتها على الحصر وعلى إطلاقها. إلّا انّ الحكم الذي ثبت للمستثنى انّما هو تقيد نقيض حكم المستثنى منه به، فمفاد الجملة انّما هو تقيد صحّة الصلاة بالطهور أو الفاتحة وهذا مطلق يشمل الصلاة المستدبرة للقبلة مثلاً، لكن لا يعني ذلك صحّة الصلاة المستدبرة للقبلة إذا كانت مع الطهور، وانّما يعني انّ الصلاة المستدبرة للقبلة أيضاً لو صحّت فهي مقيدة بالطهور ومن هنا فصّلنا بين مثل لا صلاة إلّا بطهور أو بفاتحة الكتاب، ومثل لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض حيث توجد هنا حرف الباء ويكون الحكم المحكوم به على المستثنى هو نقيض حكم المستثنى منه لا تقيده به وهو حلّ الاكل، فهذا يدلّ على ثبوت الحلّية في كل موارد صدق التجارة عن تراض، في حين انّ الأوّل لا يـدلّ على ثبوت الصحّة في كل مـوارد تحقّق الطهور أو الفاتحة.

وبما انّ الحديث الذي نتكلم عنه في المقام وهو لا يحل مال امرء مسلم إلّا بطيبة نفسه مشترك مع لا صلاة إلّا بطهور أو بفاتحة الكتاب في النكتة التي شرحناها وذلك لمكان الباء. إذن يكون مفاد النص اشتراط الحل بطيب النفس لا عدم اشتراط شيء فيه غير الطيب، فلا يدلّ الحديث على كفاية الرضا الباطني.

وهناك أحاديث اُخرى قد يتمسّك بها لإثبات كفاية الرضا الباطني من قبل المالك المقارن لعقد الفضولي من قبيل:

189

1 ـ رواية عروة البارقي قال: قدم جلب فاعطاني النبي (صلى الله عليه وآله) ديناراً فقال: اشتر بها شاة فاشتريت شاتين بدينار فلحقني رجل فبعت احدهما منه بدينار ثم اتيت النبي (صلى الله عليه وآله) بشاة ودينار فردّه عليّ وقال: بارك الله لك في صفقة يمينك ولقد كنت أقوم بالكناسة أو قال بالكوفة فاربح في اليوم اربعين الفاً(1).

وفي نقل آخر مشابه لهذا النقل بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) معه بدينار يشتري له اضحية وقال مرّة أو شاة فاشترى له اثنتين فباع واحدة بدينار وأتاه بالاُخرى فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى التراب لربح فيه(2).

وعنه في نقل آخر قال: عرض للنبي (صلى الله عليه وآله) جلب فاعطاني ديناراً وقال: اي عروة أئت الجلب فاشتر لنا شاة قال فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو قال أقودهما فلقيني رجل فساومني فابيعه شاة بدينار فجئت بالدينار فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا ديناركم وهذه شاتكم قال كيف صنعت؟ قال فحدّثته الحديث فقال اللهم بارك له في صفقة يمينه فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فاربح اربعين الفاً قبل أصل(3) إلى أهلي وكان يشتري الجواري ويبيع(4).


(1) مستدرك الوسائل 2: 462 ـ 463، الباب 18 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث الوحيد في الباب.

(2) نقله في مصباح الفقاهة 4: 23، تحت الخط عن مسند أحمد 4: 375، حسب طبعة مصر التي في هامشها منتخب كنز العمال.

(3) هكذا جاء في كتاب (مصباح الفقاهة) والظاهر أنّ الصحيح: قبل أن أصل.

(4) نقله في مصباح الفقاهة 4: 8، تحت الخط عن مسند أحمد 4: 376، حسب الطبعة التي مضى ذكرها.

190

ونسب ما يشبه هذه القصة إلى حكيم بن حزام حيث روى انّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث معه بدينار يشتري له اضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى اضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فتصدّق به النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا ان يبارك له في تجارته(1).

وهذه القصة سواء اتحدت أو تعدّدت يستدل بها على المقصود باعتبار إحراز الرضا المقارن في ما فعله عروة أو حكيم بن حزام ممّا كان خارجاً عن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والنبي (صلى الله عليه وآله)اقرّه على فعله ولم ينهه عمّا صدر منه من التصرّف في العوضين بحجّة انّ العقد كان باطلاً فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله)معتمداً على تصحيح العقد الفضولي بالإجازة المتأخّرة لا على صحّته بالرضا المقارن لكان المفروض أن ينكر أوّلاً على عروة أو حكيم بن حزام باعتبار حرمة ما فعله من التصرّف ويصحّح ثانياً العقد بالإجازة، في حين انّه لم يصدر منه إنكار وردع من هذا القبيل.

وخير ما اُجيب به على دلالة هذا الحديث هو انّ التصرّف المادّي في مال الغير يكفي في تحليله الرضا الباطني ولا يتوقّف على الاذن، وانّما المدّعى في المقام توقّف صحّة العقد وحصول النقل والانتقال على الاذن، فلعلّ النبي (صلى الله عليه وآله)انّما لم يردع عروة أو حكيم بن حزام عمّا فعله من التصرّف المادّي في المال على أساس علمه بالرضا ثم بنى على صحّة المعاملة بتصحيحه هو (صلى الله عليه وآله) للعقد بالإجازة المتأخّرة(2).

 


(1) البحار 103: 136، الباب 12 من كتاب العقود والايقاعات، الحديث 4.

(2) راجع مصباح الفقاهة 4: 9، والمحاضرات 2: 291.

191

وعليه فغاية ما يمكن افتراض دلالة هذا الحديث عليه هو انّنا نفهم إجمالاً من هذا الحديث انّه إمّا الإجازة المتأخّرة تكون مصحّحة لعقد الفضولي، أو الرضا المقارن يكون مصحّحاً له، إذ لو لم يكن شيء منهما مصحّحاً لبطل العقد، في حين انّ النبي (صلى الله عليه وآله) بنى عملاً على صحّته ولم يصدر ردعاً عمّا فعله عروة أو حكيم.

وعلى أية حال فالقصة غير ثابتة سنداً.

2 ـ الروايات الدالة على صحّة نكاح العبد بمجرّد علم مولاه وسكوته(1).

وخير ما اجيب به عليها هو انّ مشكلة عقد الفضولي ـ على ما اتضح من الأبحاث السابقة ـ انّ عقده غير مستند إلى المالك، في حين انّ مشكلة نكاح العبد قد تكون مجرّد الحاجة إلى رضا المولى وقد فرض علمه وسكوته كاشفاً عن الرضا(2).

3 ـ روايات دلالة سكوت البكر على الرضا لدى استئمارها في النكاح(3).

والجواب: انّ سكوتها لدى استئمارها في النكاح يعتبر تصدّياً منها لإبراز الرضا ولا نعني بالاذن غير ذلك.

4 ـ ما ورد بسند تام عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفمّ النيل وأهل الأرض يقولون: هي أرضهم وأهل الاسنان يقولون هي من أرضنا فقال لا تشترها إلّا برضا أهلها(4).


(1) الوسائل 14: 525 ـ 526، الباب 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) راجع المحاضرات 2: 292، ومصباح الفقاهة 4: 8 ـ 9.

(3) الوسائل 14: 206 ـ 207، الباب 5 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

(4) الوسائل 12: 249، الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 3.

192

وقد اتضح الجواب على ذلك ممّا مضى في حديث لا يحل مال امرء مسلم إلّا بطيبة نفسه، فانّ الباء دليل التقييد ويكون معنى الحديث عندئذ: انّ رضا أهلها شرط وقيد في صحّة بيعها، لا انّ رضا اهلها كاف في صحّة البيع بلا حاجة إلى إبراز منهم وقد مضى شرح ذلك.

5 ـ مرسلة الاحتجاج عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ في مكاتبة له: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضا منه(1).

والجواب على هذا الحديث أيضاً كالجواب على سابقه لانّه أيضاً يشتمل على حرف الباء.

إلّا انّه قد يقال: إنّ هذا الحديث يختلف عن سابقه بعطف كلمة «رضا منه» على كلمة «بامره» فإذا كان المقصود من أمره اذنه لم يبق فرد آخر يعطف عليه بكلمة رضا منه إلّا الرضا الباطني، وهذا يعني كفاية الرضا الباطني من دون حاجة إلى الاذن وإلّا لم يكن معنى معقول لعطف الرضا على الاذن بـ (أو) بعدم فرض كون حمله على ما يشبه عطف المرادف على المرادف بـ (أو) خلاف الظاهر.

والجواب انّ الظاهر من كلمة بـ (أمره) كون البيع بطلب منه وعطف كلمة «رضا منه» يعني عدم اشتراط خصوص الطلب، فقد يكون البيع برضا منه دون طلبه وهذا تحته حالتان: إحداهما ثبوت الرضا وحده، والثانية ثبوت إبراز الرضا أيضاً وهو غير الطلب، وعندئذ يأتي ما ذكرناه من انّ حرف الباء تدلّ على انّ المقصود كون الرضا شرطاً وقيداً من دون نفي قيد آخر وهو الإبراز.


(1) الوسائل 12: 251، الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 8.

193

وقد تحصّل لدينا إلى الآن انّ الرضا المقارن للعقد غير كاف لصحّة العقد، وانّ صحّة العقد مشروطة بالملك أو الولاية أو الاذن.

 

تأخّر هذا الشرط عن العقد

وبعد هذا يقع الكلام في انّ هذا الشرط لو كان مفقوداً لدى تحقّق العقد ولكنّه وجد بعد ذلك فهل وجوده المتأخّر يصحّح العقد أو لا؟

والكلام في ذلك تارة يقع في حصول الملك أو الولاية متأخّراً من دون إجازة جديدة للمعاملة بعد حصول ذلك، واُخرى يقع في الإجازة المتأخّرة فلدينا بحثان:

لحوق الملك أو الولاية:

البحث الأوّل ـ في انّ مجرّد حصول الملك أو الولاية بعد العقد هل يكفي في تصحيح العقد أو لا؟ فقد يقال إنّ مقتضى القواعد كفايته باعتبار انّ حصول الملك أو الولاية بعد العقد كاف في انتساب العقد إلى المالك أو الولي لانّ العاقد كان هو نفس هذا الشخص، وإذا انتسب العقد إليه دخل في الإطلاقات. نعم يشترط في فرض الولاية كون العقد في صالح المولّى عليه مثلاً حين تحقّق الولاية، ولا يكفي كونه في صالحه حين العقد وقبل الولاية.

وتأخّر الملك أو الولاية عن العقد يتحقّق في عدّة فروع بعضها يناسب المقام وبعضها يناسب مبحث شرائط المحل(1):


(1) ونحن نبحثه هنا وبه نأتي على أهمّ ما نريد بحثه في شروط المحلّ ولذلك نحذف البحث عن الركن الرابع وهو المحلّ.

194

الفرع الأوّل ـ أن يكون المال مملوكاً لغيره فيبيعه قبل ان يملكه ثم يتملّكه وهذا هو المقصود ممّا تعارف في لسان فقهائنا من عنوان «مَن باع شيئاً ثم ملك».

والفرع الثاني ـ أن يكون المال من المباحات الأوّلية فيبيعه ثم يحوزه كما لو باع سمكة ثم صادها.

والفرع الثالث ـ أن يكون الشيء مملوكاً له على تقدير وجوده وانّما العيب انّه غير موجود من قبيل مَن باع ثمار أشجاره قبل تكوّنها، أو باع أولاد حيواناته قبل حبلها.

أمّا ما عدا هذه الفروع الثلاثة فيرجع الأمر فيه حسب تصوّرات فقهنا الإسلامي إلى بيع ما في الذمة أي انّ المبيع غير المملوك فعلاً للبائع إن لم يضف إلى عين خارجية أو نماء عين خارجية اذن هو مضاف إلى الذمة في مقام البيع وهذا يكون خارجاً عن مبحثنا، لانّ كل إنسان يملك ذمّته بمعنى عام من الملك وقد قلنا منذ البدء انّ مقصودنا من شرط الملك هو معنى عام من الملك لا خصوص المصطلح الخاص.

والفرع الأوّل من هذه الفروع الثلاثة يناسب المقام باعتبار انّ المحل لا عيب فيه فهو أمر مملوك، وانّما العيب في العاقد حيث لم يكن مالكاً ولكن الفرع الثاني والثالث يناسبان بحث شرائط المحل لانّ العيب في المحل حيث كان من المباحات الأوّلية وكانت نسبته للكل على حدّ سواء أو كان غير موجود.

ومقتضى القاعدة في كل هذه الفروع حسب تصوّرات الفقه الوضعي هو الصحّة حيث ارجعوا العقود الناقلة إلى التعهّد بالنقل، والتعهّد بالنقل لا ينافي عدم دخول العين في ملك العاقد بالفعل فبإمكانه ان يتعهّد بنقل هذه العين إلى ملك المشتري ولو بعد شرائها أو بعد حيازتها، أو نقل هذه الثمرة إليه بعد تكوّنها. نعم لو

195

تعهّد بالنقل الحالي بطل لعدم إمكانه. واستثنوا من ذلك بيع الوارث مال مورّثه قبل موته لكونه خلاف الآداب وموجباً لانتظار موت المورّث، وموجباً في كثير من الأحيان لتبديد الوارث من الآن ما يحتمل تملّكه ايّاه في المستقبل(1).

أمّا في فقهنا الإسلامي فالعقود الناقلة هي ناقلة ابتداءً وليست تعهّداً بالنقل.

وعلى هذا الأساس فمقتضى القاعدة في الفرعين الأوّلين هو البطلان إذ حينما انشأ النقل لم يكن مالكاً وحينما ملك لم يكن المفروض تبنّيه لما فعل وانتحاله ايّاه، فصحيح انّ هذا النقل منسوب إلى المالك كما مضى إلّا انّه انّما يكون منسوباً إلى ذات المالك وليس منسوباً إلى المالك بما هو مالك كي يكون مشمولاً للإطلاقات.

وبهذا تنحلّ شبهة انّه ما الفرق بين الاذن في ما سيأتي من بحث الفضولي والملك حيث يقال بكفاية الاذن المتأخّر وهو الإجازة ولا يقال بكفاية الملك المتأخّر بناء على انّ كفاية الإجازة تكون ثابتة على القاعدة؟! فانّ الجواب هو: إنّ الإجازة المتأخّرة تنسب الأمر الاعتباري أو التعهّد إلى المالك بما هو مالك فيوجب دخول ذلك في الإطلاقات، لكن الملك المتأخّر من دون إجازة بعد حصول الملك لا ينسبه إلى المالك بما هو مالك.

وفي الحقيقة هذه الشبهة سارية في كل الشروط.

والجواب نفس الجواب فمثلاً يتوجّه السؤال عن انّه ما الفرق بين شرط الاذن وشرط البلوغ حيث يكفي الاذن المتأخّر وهو الإجازة ولا يكفي البلوغ المتأخّر ما لم يجز العقد بعد البلوغ؟! والجواب هو ان الاذن المتأخّر يصحّح


(1) راجع الوسيط، الجزء 1، الفقرة 217.

196

انتساب العقد إليه بما هو مالك في حين انّ البلوغ المتأخّر لا يصحّح انتساب العقد إليه بما هو بالغ وإن كان العقد منسوباً إلى ذات البالغ لصدوره منه قبل بلوغه.

هذا بلحاظ التمسّك بالإطلاقات.

وكذلك الحال بلحاظ التمسّك بالسيرة إن كانت ثابتة في مورد الفضولي فيقال: إنّ موضوع هذه السيرة وإن لم يكن هو الانتساب في الاُمور الاعتبارية بناء على ما اخترناه من انّ الانتساب في طول السيرة، ولكن موضوعها هو الانتحال والتبنيّ وفي الإجازة المتأخّرة تم انتحال المالك وتبنّيه للعقد بما هو مالك وهذا بخلاف سائر الشروط لو تأخّرت.

وأمّا بلحاظ الامور التعهديّة فموضوع السيرة أيضاً هو الانتساب فيأتي فيه عين ما ذكرناه في الإطلاقات.

هذا كلّه في ما إذا أجرى عقداً ناقلاً على ما لا يملكه ممّا هو مملوك للآخرين أو ما كان من المباحات الأصلية، وقد عرفت انّ مقتضى القاعدة عدم نفوذه ويدعم ذلك ما ورد في بعض الروايات من المنع عن بيع ما لم يستوجبه ومورد الروايات هو بيع مال الآخرين(1).

وأما إذا أجرى التعهّد بالنقل فمقتضى القاعدة نفوذ ذلك ويجب عليه عندئذ أن يشتريه إن كان مملوكاً لغيره أو يحوزه إن كان من المباحات كي يفي بوعده.

ولكن في تلك الروايات التي اشرنا إليها ما يمنع بإطلاقه عن التعهّد أيضاً وانّه لا بدّ أن يكون هو بعد تملّكه، وكذلك من يشتريه منه بالخيار إن شاء فعل وإن شاء ترك(2)، ومورد الروايات هو بيع مال الآخرين وهل يتعدّى من ذلك إلى باب


(1) راجع الوسائل 12: 375، الباب 8 من أبواب أحكام العقود.

(2) المصدر نفسه.

197

الإرث فلا يجوز تعهّد الوارث بأموال المورّث لشخص بالنسبة لما بعد موت المورّث أو إلى باب حيازة المباحات فلا يجوز التعهّد ببيع ما سيحوزه مثلاً أو لا؟ لا بد من الرجوع في ذلك إلى فهم العرف فان ساعد فهم العرف على التعدّي يتعدى من مورد الروايات بقدر مساعدة العرف على ذلك.

وهناك اُسلوب ثالث لإجراء التعامل على ما لا يملكه ممّا هو مملوك للغير، أو من المباحات الأوّلية وهو ان ينشىء نقل هذا المال لا على الإطلاق، أو بقيد الحال بل بقيد الاستقبال فالتعامل الذي يجريه على هذا السمك الذي لم يصده بعدُ مثلاً أو هذا الكتاب الذي لم يشتره بعدُ ليس عبارة عن نقله بقيد الحال أو على الإطلاق كما هو الاُسلوب الأوّل، ولا التعهّد بالنقل والتمليك مستقبلاً كما هو الحال في الاُسلوب الثاني بل هو عبارة عن نقله بلحاظ الزمان المستقبل أي انّه من الآن ينقل ملكية هذه العين التي كان المفروض ان تثبت له بالحيازة أو الشراء إلى الشخص الآخر، فإنشاء التمليك (وليس التعهّد بالتمليك) ثابت من الآن، ولكن بلحاظ المستقبل نظير الوقف على البطون بالنسبة للبطون المتأخّرة، ونظير الوصية بالملك إن صحّت الوصية بالنتيجة أو الوقف المنقطع الأوّل لو صحّ، ونظير التحرير الاستقبالي في التدبير والمكاتبة وهذا لو تمّ عرفاً وعقلائياً دخل في الإطلاقات ولم يردّ على دخوله في الإطلاقات إشكال عدم انتساب هذا العقد إلى المالك، فانّه لم يتصرّف حينما تصرّف بنقل هذا المال إلّا بلحاظ زمان مالكيته وهذا كاف في شمول الإطلاق له لو تمّت عرفيته وعقلائيته.

ولكنّ العيب في ذلك ما مضى منّا في بحث الإطلاقات من انّ إطـلاقات أدلّة العقود انّما تـدلّ على احتـرام العقد بما هـو ربـط قرار بقـرار، أمّا ان نفس متعلّق القرار هـل هـو مبـاح في ما هو على وزان شـرط الفعل، أو قابل للنفوذ في

198

ما هو على وزان شرط النتيجة؟ فهذا خارج عن عهدة أدلّة العقـود فلو ملّك شخص حرّ نفسه لشخص آخر بثمن مثلاً لم يدلّ إطلاق أدلّة العقود على صحّة ذلك، لانّ أصل تحوّل الحرّ إلى العبد أمر غير شرعي، وكذلك الحال فيما نحن فيه أي لا بد من قيام دليل على أصل مشروعية خلق ملكية ما لا يملكه من الآن بلحاظ زمان مالكيته، فلو ثبت ذلك ببناء عرفي وعقلائي مع عدم الردع دخل هذا التعامل في إطلاق أدلّة العقود بل ثبتت السيرة غير المردوعة على نفس هذا المتعامل فتثبت صحّته حتى لو لم تكن لدينا إطلاقات، ولكن لم يثبت بناء عقلائي على ذلك.

هذا تمام الكلام في الفرعين الأولين.

وأمّا الفرع الثالث وهو نقل الأثمار والنماءآت قبل وجودها فإن كان المقصود بذلك التعهّد بنقلها بعد وجودها فلا إشكال في ذلك، والروايات المانعة عن البيع قبل التملّك الواردة في بيع ملك الغير قبل شرائه لا علاقة لها بالمقام، واحتمال الفرق موجود فلا معنى للتعدّي من موردها إلى المقام.

وإن كان المقصود بذلك النقل الحالي أو النقل المطلق بناء على انّه ينتج نتيجة النقل الحالي فهذا وإن لم تكن فيه استحالة فلسفية حتى بناء على عدم مملوكيتها الآن، لانّ النقل ليس عدا أمر اعتباري كالملكية نفسها، ولا استحالة في تمليك ما لا يملكه لكنه قد يقال: إنّه ليس عرفياً إلّا إذا فرض مملوكيتها من الآن لمالك الأصل، وكذلك ليس العقد الصادر منه مستنداً إليه بما هو مالك لها ولا عقداً صادراً منه بلحاظ زمان مالكيته إيّاها فهو غير مشمول للإطلاقات، وبكلمة اُخرى يأتي فيه نفس ما ذكرناه في الفرعين الأوّلين.

ولكن يمكن أن يقال في مقابل هذا الكلام بأحد أمرين:

199

الأوّل ـ ان يدّعى انّ ملكية مالك الأصل للنماءآت ثابتة عرفاً قبل وجودها سنخ ما قد يقال في إيجار المنافع المستقبلية للأعيان، كما لو آجر بيته للسَنة المقبلة من انّ المنفعة المستقبلية للعين مملوكة من الآن لمالك العين فبإمكانه ان يملّكها للمستأجر وإن كان هذا الكلام في المقيس عليه مورد تأمّل لانّ منفعة العين التي يمكن ان تكون مملوكة لمالك العين ـ ولو ملكية مندكة في ملكية العين ـ انّما هي قابـلية العيـن للانتفاع بها الثـابتة من الآن، واستمـرارها في عمود الزمان ليس إلّا كاستمرار نفس العين في عمود الزمان، وتمليكها بلحاظ الزمان المستقبل ليس إلّا كتمليك نفس العين بلحاظ الزمان المستقبل للبطون المتأخّرة في الوقف على البطون، وليس هذا تمليكاً لما سيملكه مستقبلاً ولا يملكه الآن.

الثاني ـ ان يدّعى انّ هذه النماءآت وإن لم تكن مملوكة لمالك الأصل الآن ولكن حيث انّ لها نحو إضافة إلى مالك الأصل باعتبارها نماءآت لما يملكه كان هذا النحو من الإضافة مصحّحاً لتمليكه ايّاها فيملكها الغير رغم عدم مالكية البائع ايّاها سنخ انّ من يبيع منّاً من الحنطة في ذمّته يملكه المشتري، مع انّ البائع لم يكن ملكاً له لا ملكية اعتبارية سنخ ملكيته للأعيان، ولا ملكية حقيقية سنخ ملكيته لأعماله، وغاية ما في الأمر انّ لذمّته نحو اختصاص به فهي ذمّة مضافة إليه ولا يحقّ لأحد غيره إشغالها من دون موافقته، وكان هذا هو مقصودنا حينما قلنا: إنّ الذمة مملوكة ـ بمعنى عام من الملك ولِمَا امتلكه المشتري من الشيء الكلّي ـ ظرف خاص به يناسبه وهو ذمة البائع، ولِمَا امتلكه المشتري من الثمار أيضاً ظرف خاص به يناسبه وهو الزمان المستقبل أو قل: ظرف الخارج في الزمان المستقبل.

200

وإن كان المقصود بذلك النقل بلحاظ الزمان المستقبل أي انّ مالك الأصل ينشىء من الآن ملكية النماء للمشتري من حين وجوده فهذا الاحتمال كان عيبه في الفرعين الأوّلين عدم ثبوت بناء عقلائي على ذلك، ولكن لا يبعد في خصوص الثمارات والنماءات ثبوت بناء العرف والعقلاء عليه بمناسبة كونها نماءات للأصل الذي يملكه.

فهذه هي التخريجات التي يمكن ان يدّعي بها أحد عقلائية بيع الأثمار والنماءآت قبل وجودها وتتلخّص في وجوه ثلاثة:

1 ـ دعوى ثبوت ملكيتها من الآن لمالك الأصل.

2 ـ دعوى كفاية مالها من إضافة إلى مالك الأصل لنقلها من الآن.

3 ـ دعوى كفاية مالها من إضافة إلى مالك الأصل لنقلها بلحاظ زمان وجودها.

والتخريج الثالث قد لا ينطبق على الواقع الخارجي حينما لا يكون حصول النماء في المستقبل مضموناً وقطعياً، ويكون العقد منجّزاً وقطعياً على كل حال أي سواء حصل النماء في المستقبل أو لا من دون أن يكون العقد في واقعه مركباً من بيع وهبة أي انّه لو حصل النماء كان بيعاً وإلّا كان المشتري قد ملّك الثمن مجاناً فعندئذ ينحصر الأمر في تخريجين فقط وهما:

1 ـ انّ ذاك النماء يكفي احتمال ثبوته أو الظن بثبوته في المستقبل فرضه مملوكاً الآن فيباع هذا الوجود المحتمل أو المظنون.

2 ـ انّ هذا المقدار من إضافة ذاك الوجود المحتمل أو المظنون إلى مالك الأصل ولو لم تسمّ ملكاً صحّح بيع هذا الوجود المحتمل أو المظنون.

والروايات بخصوص الترخيص ـ في بيع أثمار الأشجار قبل وجودها ـ

201

كثيرة(1) وإن كان المعارض أيضاً موجوداً قليلاً(2). أمّا التعدّي إلى سائر النماءآت أو عدمه إن لم نقل بصحّة بيعها بمقتضى القاعدة فهو موكول إلى العرف.

ثم انّ شريعة الإسلام إن لم توافق بشكل واسع على البيوع الاستقبالية فقد فتحت باباً آخر تحلّ محل ذلك وتشبع الحاجة إليها لم يعرف الفقه الغربي ذاك الباب وهو بيع ما في الذمّة.

الإجازة المتأخّرة عن العقد:

البحث الثاني ـ في الإجازة المتأخّرة عن العقد وهذا ما يسمّى بعقد الفضولي.

والمتيقن من صحّة الفضولي بالإجازة بناء على صحّته هو العقد وليس الإيقاع، بل نقل الشيخ (رحمه الله)(3) عن غاية المراد دعوى الإجماع على بطلانه في الإيقاعات.

إلّا انّ السيد الخوئي (رحمه الله)ذكر(4): انّ صحّة عقد الفضولي لو بنينا عليها بمقتضى القاعدة لا بمقتضى أدلّة خاصّة فحسب تسري إلى الإيقاعات أيضاً، لانّها أيضاً تنسب بمجرّد الإجازة إلى المجيز كما هو الحال في العقد فتشملها الإطلاقات، ولا قيمة للإجماع المنقول خاصة إذا لم يكن متكرّراً فانّ الظاهر انّ ناقل الإجماع منحصر في المقام بغاية المرام فانّه موهن لصحّة النقل، ولو فرض حصول الاتفاق فانّما هو في الطلاق والعتق دون غيرهما كالإ براء، مضافاً إلى عدم ثبوت تعبدية الإجماع لو ثبت الإجماع.

 


(1) و (2) راجع الوسائل 13، الأبواب الاُولى من بيع الثمار.

(3) راجع المكاسب 1: 124، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(4) راجع المحاضرات 2: 288، ومصباح الفقاهة 4: 4 ـ 5.

202

أقول: إنّ فرض جريان صحّة الفضولي في الإيقاعات على الإطلاق على تقدير صحّته على القاعدة في العقود مشكل، فانّ نكتة صحّته في العقود على القاعدة ان تمّت فهي عبارة عن أحد الأمرين الماضيين في الاذن.

الأوّل ـ ما سبق نقل دعواه من السيد الخوئي من انّ الاذن أو الإجازة يوجب انتساب الأمر الاعتباري حقيقة إلى الآذن أو المجيز.

ولكنه مضى منّا انّ هذا غير صحيح بلحاظ وجود ذاك الأمر الاعتباري في لوح اعتبار المتعاقدين، وانّما يصحّ بلحاظ وجوده في لوح اعتبار العقلاء وهذا يتوقّف على ثبوت ارتكاز وسيرة عقلائيين، وثبوت ذلك في الاذن المتقدّم لا يستلزم ثبوته في الإجازة المتأخّرة فقد يكون الارتكاز والسيرة ثابتين في العقود لدى الإجازة المتأخّرة أيضاً، وغير ثابتين في الإيقاعات أو بعضها كالطلاق لدى الإجازة المتأخّرة.

ولو سلّمنا صحّة هذا الوجه بالنظر إلى الوجود الاعتباري في لوح المتعاقدين ولم نحتج إلى فرض ارتكاز وسيرة عقلائيين قلنا: إنّ مجرّد انتساب الأمر الاعتباري إلى الآذن أو المجيز انّما يكفي في دخول ذلك في الإطلاقات لو كان لدينا إطلاق، وفي باب العقود لو لم نجد إطلاقاً خاصّاً بكل قسم من أقسام المعاملات فلا أقل من إطلاقين عامّين: أحدهما ﴿تجارة عن تراض﴾ والآخر ﴿اوفوا بالعقود﴾، في حين انّه في باب الإيقاعات لا نمتلك إطلاقاً من هذا القبيل فيجب أن نرجع في كل قسم من أقسام الإيقاعات على حدة إلى الأدلّة اللفظية لنرى هل نجد له إطلاقاً أو لا، فان لم نجدله إطلاقاً فيها لم يتم هذا الوجه لتصحيح الإجازة المتأخّرة. نعم الاذن السابق تكفي في تصحيح الارتكاز أو السيرة العقلائيين.