68

وممّا يلفت النظر أيضاً هو: أنّ مضمون هذه الآية المباركة ـ آية تحريم بعض اللحوم ـ قد تكرّر في القرآن الكريم عدّة مرّات، وفي تلك المواطن التي جاء فيها هذا المضمون جاء الصدر والذيل فحسب، وأمّا المقطع الوسط ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ...﴾، فلم يجئ، وإليك مايلي:

أ ـ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

فهذه الآية عين تلك الآية من حيث مضمون صدرها وذيلها؛ إذ إنّ صدرها التحريم، وإنّ ذيلها الترخيص لمن يضطرّ، وأمّا الجملة الوسطيّة وهي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾، فغير موجودة.

ب ـ قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2).

فمضمون هذه الآية هو نفس مضمون صدر وذيل آية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ...﴾، وأمّا الوسط ـ وهو قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ ـ فلم يرد في هذه الآية المباركة.

ج ـ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا



(1) سورة البقرة، الآية: 173.

(2) سورة الأنعام، الآية: 145.

69

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

فمضمون صدر وذيل تلك الآية قد ورد هنا أيضاً، وأمّا الوسط فغير موجود.

وهذا ممّا يسترعي الانتباه إلى أنّ جملة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ كأنّما كانت جملة معترضة اُقحِمت إقحاماً في أثناء آية تحريم الميتة، ولم يكن لها علاقة بهذه الآية المباركة.

أمّا لو درسنا نفس مقطع ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾، وهل يمكن ربطه بقضيّة تحريم الميتة أو لا؟ فخلاصة الكلام في ذلك: أنّه ما المقصود بكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾؟ فهل تشير هذه الكلمة إلى عصر الإسلام كلّه ـ أي: منذ بعثة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى النهاية ـ أو تُشير إلى يوم مُعيّن ومحدّد من عصر الإسلام قد نزل فيه حكم خاصّ فكمل به الدين؟

فعلى التفسير الأوّل لكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾ يكون معنى الآية المباركة هو: أنّ الإسلام هو المكمّل للدين السماوي، فإلى ما قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يكن ذاك الدين السماوي كاملاً (2)، وقد كمل ببعثة


(1) سورة النحل، الآية: 115.
(2) من الطبيعي أنّ الأديان السماويّة كلّها كاملة، ولكن هناك درجات ومراتب بينها، فالبشريّة فيما سبق لم تكن واصلةً إلى مستوىً بحيث يمكن أن ينزل عليها الدين الكامل التامّ، وأمّا في زمن الإسلام الحنيف، فكانت البشريّة قد وصلت إلى ذلك المستوى الذي يؤهِّلها لتلقِّي الدين الكامل، فنزل الإسلام.
70

الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وفي عصر رسالته ودينه، ولذلك قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾.

وعلى ضوء هذا التفسير فإنّ كلَّ الأديان السابقة كانت إسلاماً ولا يوجد عندنا غير الإسلام من دين، فدين موسى إسلام، ودين عيسى إسلام، ودين إبراهيم إسلام...، فيكون معنى كلمة ﴿الإِسْلاَم﴾الواردة في قوله تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ هو نفس معناها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَم﴾(1)، فلا يوجد عندنا إلّا دين واحد وهو الإسلام، وعندئذ يكون معنى قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾ هو: أنّ الإسلام الذي كان ديناً منذ آدم(عليه السلام) وإلى اليوم أصبح كاملاً وتامّاً بمجيء رسول الله محمّد(صلى الله عليه وآله)، ورضيتُ أن تكون شريعته ( الشريعة الإسلاميّة ) ديناً لكم.

وهذا التفسير يُناسب فرض القائل بأنّ هذا المقطع، أي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ هو ضمن آية تحريم الميتة، فضمن بيان الله لأحكام الإسلام التي من جملتها تحريم الميتة، وتحريم الدم، وتحريم لحم الخنزير، وتحريم ما اُهلَّ لغير الله به، وضمن بيانه تعالى لمسألة الاضطرار يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾؛ ليبيّنَ أنّ هذا العصر ـ عصر الشريعة الإسلاميّة ـ هو عصر تكميل الدين، ولذا فإ نّي رضيت لكم الآن أن يكون دينكم الإسلام. وعندئذ يُصبح ارتباط



(1) سورة آل عمران، الآية: 19.

71

هذا المقطع بصدر الآية وذيلها ارتباطاً منطقيّاً.

وأمّا على التفسير الثاني لكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾ الواردة في ذلك المقطع من الآية المباركة، والقائل بأنّنا لا نُعيد ( لام العهد ) فيه إلى عصر الإسلام كلِّه وإلى عصر بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وإنّما نُعيدها إلى جزء من ذلك العصر، أي: إلى يوم معيّن قد نزل فيه حكم معيّن من الأحكام التي بعث بها النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، بحيث كان ذلك الحكم مكمّلاً للدين، فإنّ معنى الآية المباركة يكون هو: أنّ الشريعة الإسلاميّة التي جاء بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قد كملت اليوم بإنزال آخر حكم من أحكامها، ومن هنا فقد رضيت أن تكون لكم ديناً.

أمّا الاحتمال الأوّل القائل بافتراض أنّ اللام في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ﴾ تعود إلى كلِّ عصر الرسالة وليس إلى يوم معيّن ومحدّد، وأ نّ النظر ليس إلى حكم خاصٍّ من أحكام الإسلام، فإنّه غير معقول وغير متصور؛ وذلك لأنّ هذا الاحتمال لمعنى كلمة ﴿الْيَوْمَ﴾لا ينسجم مع قوله تعالى في العبارة السابقة: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾؛ إذ لابدّ وأن يكون معنى كلمة ﴿الْيَوْمَ﴾ في العبارتين واحداً، فلو كان النظر إلى الإسلام كلِّه وإلى عصر بعثة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لكان معنى قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ هو: أنّ الكفّار قد يئسوا من الأديان السماويّة ببعثة الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولكن كيف يكون الكفّار غير يائسين قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله)مع وجود الدين السماوي، ثُمّ ييأسون بمجرّد بعثة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومع هذا يبقون على محاربتهم للمسلمين؟!

 

72

فهذا الدين ( الدين الإسلاميّ ) لم يكن موجوداً، والأديان السابقة كانت تُحارَب من قبل الكفّار، وحينما جاء دين الإسلام فإنّه حورب أيضاً من قبل الكفّار، ولم ييأسوا بمحض مجيء الرسول(صلى الله عليه وآله)، فقد حاربوا سنين كثيرة وعديدة، ولم يكونوا يائسين من دحض الإسلام؛ إذ لو كانوا كذلك لما حاربوه، فجملة ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ...﴾ تبقى لا مورد لها بناءً على هذا التفسير ( الأوّل ) لكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾.

وإذا أبعدنا التفسير الأوّل وأسقطناه، تعيّن التفسير الثاني، فقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ إشارة إلى يوم معيّن من أ يّام الإسلام، وليس إشارةً إلى عصر الإسلام كلّه.

ففي ذلك اليوم المعيّن يئس الذين كفروا من الإسلام بعدما كانوا ـ قبل ذلك اليوم المعيّن ـ يحتملون أن يغلبوا المسلمين، وكان لهم أمل بأن يهزموا الإسلام ويلغوه بموت رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ إذ كانوا يقولون: إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله)يحاربنا مادام حيّاً، وأمّا حينما يموت، فإنّ كلّ شيء ينتهي، وسننتصر على المسلمين.

فيكون إذن قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ...﴾ إشارة إلى يوم معيّن كان فيه حادث معيّن أوجب يأس الكفّار، فما هو ذلك الحادث؟!

إنّ ملامح ذلك الحادث بارزة في الآية المباركة، وهي:

1 ـ إنّ ذلك الحادث هو سنخ حادث أوجب يأس الكفّار.

2 ـ إنّه أكمل الدين، فهو إذن آخر حكم من أحكام الإسلام التي

73

نزلت بحيث إنّ الدين قد كمل به ولم ينزل بعده أيّ حكم آخر.

3 ـ إنّه سنخ حكم بحيث يكون أهمّ أحكام الإسلام على الإطلاق، أو من أهمِّها بحيث حينما جاء الحكم رضي الله تعالى لنا الإسلام ديناً.

ولا توجد في التأريخ قصّة تنطبق عليها هذه المواصفات إلّا قصّة تعيين الخليفة، وتنصيب مَن يخلف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فهذه القصّة هي الوحيدة الواردة في التأريخ التي تنطبق عليها هكذا مواصفات.

فتعيين الخليفة هو الذي أوجب يأس الكفّار الذين كانوا حتّى ذلك اليوم يتربّصون بالمسلمين، ويعتقدون بأنّهم سوف يتمكّنون من الإجهاز على الإسلام وإنهائه بعد موت الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم يئسوا من ذلك بعدما تبيّن لهم أنّ هناك من يحفظه بعده(صلى الله عليه وآله).

وتعيين الخليفة هو آخر حكم نزل، فبعد أن بيّن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كلّ أحكام الإسلام لم يبقَ له إلّا أن يعيّن خليفته.

ومعلوم أنّ قضيّة تعيين الخليفة في غاية الأهمّيّة بحيث يصحّ أن يقال بسببها: « رضيت لكم الإسلام ديناً ».

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه:

أوّلاً: أنّ هذا المقطع ـ أي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ ـ سنخ مقطع بحيث لو رفعناه لرأينا الآية ـ بصدرها وذيلها ـ متناسقة ومتكاملة، وهذا شاهد على أنّ هذه الجملة معترضة لا علاقة لها بقصّة تحريم بعض الاُمور.

وثانياً: أنّ هذا المقطع لا ينسجم ـ أصلاً ـ مع المورد وهو قضيّة

74

تحريم بعض اللحوم.

ولكن يبقى هنا سؤال واحد، وهو: لماذا اُقحمت هذه الجملة ضمن هذه الآية؟

ففي أغلب الظنِّ أنّ هذا العمل هو عمل رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ إذ إنّه (صلى الله عليه وآله)هو الذي كان يعيّن موطن الآيات ومحلّها، أو لعلّه كان من عمل جبرائيل، وبالتالي فهو عمل الله تعالى، فلماذا جعل هذا المقطع هنا؟ ولمَاذا ذلك الإقحام؟

هنا احتمالان:

الأوّل: دفع التحريف عن القرآن؛ إذ إنّ جعل هذا المقطع هنا وفي غير موضعه يمكن أن يكون من أجل الحفاظ عليه ومنع تحريف القرآن(1)، فلو وقع هذا النصّ في غير مثل هذا المورد، لجلب الانتباه، ولفت أنظار الأعداء، وعندئذ كان من المحتمل أن تمتدَّ يد الطغيان إلى اقتطاع هذه العبارة ورفعها، فُيحرّف القرآن، ولذا صُمِّمت الآية بشكل لا يجلب الانتباه، فالقارئ حينما يقرأ وقبل أن يلتفت إلى هذه التدقيقات التي شرحناها يظنُّ بأنّ هذا المقطع له علاقة بأكل الميتة وحرمة الدم والخنزير، وهذا الظنُّ يوجب الأمن من التحريف أو الإسقاط.

ويوجد شيء متعارف لدى الناس، وهو: أنّه لو كانت هناك


(1) إنّ القول بالتحريف ليس بصحيح عندنا، فنحن نقول بأنّ القرآن الكريم لم يُحرّف، وأنّ القرآن الكريم الموجود بأيدينا اليوم هو نفس القرآن الذي نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
75

جوهرة ثمينة في البيت، فإنّهم لا يضعونها في مكان يجلب الانتباه لئلاّ تُسرق.

الثاني: دفع الارتداد، فلو أنّ هذا المقطع وضع في موضعه الطبيعي، لكانت هناك خشية الارتداد عن أصل الإسلام.

فالسياسة التي صُمِّمت على رفض مضمون هذه الآية المباركة لو عرفت أنّ هذه الآية وهذا المضمون هو صريح القرآن، فربما ترفع يدها عن أصل القرآن بالنكتة التي دعتها لرفع يدها عن هذا المضمون، فحفاظاً على أصل الإسلام جعل هذا المقطع هنا بشكل لا يلفت الانتباه في أوّل وهلة، وهذه هي عين النكتة التي من أجلها امتنع رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن كتابة ما أراد أن يكتب ـ وهو محتضر ـ حينما قال: «ائتوني بدواة وكَتف»(1)؛ إذ إنّه(صلى الله عليه وآله) لمّا رأى الأصحاب قد اختلفوا وتعارضوا في الموضوع، عرف أنّ هذا الأمر لن يُطاع، وأ نّ كتابته بشكل صريح على ورقة من المحتمل أن تؤدِّي إلى ترك أصل الإسلام، ولهذا امتنع الرسول(صلى الله عليه وآله) عنها.

وأقول هنا كلاماً عامّاً يشمل هذا وغيره: إنّ الوحي حينما كان ينزل على الرسول(صلى الله عليه وآله) فإنّه كان ينزل بما يفهمه الرسول(صلى الله عليه وآله)، وهذا ممّا لاشكّ فيه، أمّا بالنسبة إلينا، فلم يكن الأمر هكذا، ولم يكن الوحي ينزل دائماً بالآيات الواضحات بحيث يمكننا أن نفهمها؛ إذ لم يكن ينزل بالآيات المحكمات؛ إذ كان ينزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله)على مستويات عديدة، وهي:

 


(1) البحار 22: 468، الحديث 19.
76

1 ـ مستوى الآيات المتشابهات، وهي التي فيها نوع من الغموض في التطبيق، فقد لا نعرف كيفيّة واُسلوب التطبيق، ولذا يجب أن يُشرح ذلك لنا من قبل الرسول(صلى الله عليه وآله)أو من قبل خلفائه(عليهم السلام).

2 ـ مستوى الآيات المحكمات، وهي التي نفهمها بوضوح حينما تقرأ علينا.

3 ـ مستوى الحروف من قبيل: « ك هـ ي ع ص » أو « أ ل م »إلى آخره، وهي عبارة عن رموز بين الله ورسوله(صلى الله عليه وآله)، أمّا نحن فلا نفهم شيئاً منها أصلاً، بل لعلّ الوسيط الذي كان ينزل بها على الرسول(صلى الله عليه وآله)، لم يكن يفهمها هو أيضاً.

4 ـ ما يكون من قبيل هذه الآية المباركة: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ...﴾، حيث يقحم مقطع ما في مكان غير مكانه الأصلي لمصلحة ما ولنكتة معيّنة.

ولئن ناقش أحدٌ في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾، وأخذ يعاند ويقول بأنّ هذا المقطع لا علاقة له بقصّة الغدير والخلافة؛ لأنّ سياق الآية المباركة التي ورد فيها هذا المقطع لا يساعد على هذا الحمل؛ إذ إنّ هذا المقطع وارد ضمن آية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهلَّ لغير الله به وما شابه، فعندئذ لدينا آية اُخرى وهي أصرح من هذه الآية، وأصرحيّتها من ناحية أنّها لم تقحم ضمن سياق من هذا القبيل، فتكون واضحة الدلالة على المضمون، فلا يتمّ النقاش فيها حتّى بلحاظ السياق، وإلّا فإنّهما لا تختلفان، وهي آية التبليغ.

 

77

الآية الثانية: قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(1). وهي صريحة في أنّ الموضوع الذي تشير إليه هو سنخ موضوع له هذه المعالم:

1 ـ إنّه سنخ موضوع يصرُّ الله سبحانه وتعالى على إبلاغه؛ إذ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾.

2 ـ إنّه سنخ موضوع بحيث لو لم يبلّغ فكأنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) لم يبلّغ الرسالة أصلاً، وهذا يعني أنّ إسقاط هذا الموضوع هو إسقاط للصلاة والصوم والحجّ وكلّ الإسلام؛ إذ قال تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾.

3 ـ إنّه سنخ موضوع بحيث إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يخشى الناس في تبليغه، فكان يخشى أن يؤذوه ويخالفوه ويعارضوه؛ إذ قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، فهذا دليل على أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يستثقل إبلاغ هذا الأمر خوفاً وخشيةً من الناس، ولهذا فإنّ الله تعالى يُطَمئِنه ويقول له: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.

فما هو ذلك الموضوع الذي أشارت إليه تلك الآية الكريمة، والذي يتّصف بهذه المواصفات الثلاث؟

التأريخ لم يحدِّثنا بشيء يمكن أن تكون به هذه المواصفات الثلاث إلّا مسألة تعيين من يخلف رسول الله(صلى الله عليه وآله).

 

 

 


(1) سورة المائدة، الآية: 67.
79

الفصل الثالث

 

العصمـة

 

 

○   معنى العصمة.

○   منشأ العصمة.

○   بعض الأدلّة على عصمة الأئمّة(عليهم السلام).

○   معنى ذنوب الأنبياء (عليهم السلام).

 

 

81

 

 

 

 

 

معنى العصمة

 

إنّ العصمة هي وصف من أوصاف الإمام في نظر الشيعة.

وقد يقال: إنّنا لا نفهم معنىً معقولاً لكلمة (العصمة)؛ لأنّ العصمة يدور أمرها بين الجبر من ناحية، وبين مفهوم العدالة من ناحية اُخرى، أي أنّ العصمة لو كانت تعني: استحالة صدور المعصية عن المعصوم، لكان هذا هو الجبر بعينه؛ إذ إنّه لا يستطيع أن يعصي، وعندئذ تفقد العصمة قيمتها. وإن كانت العصمة تعني: أنّ المعصوم واجد لحالة نفسانيّة تمنعه من المعصية، فإنّ هذا يساوق معنى العدالة؛ إذ إنّ العدالة هي: الملكة التي تردع عن المعصية، فلا شيء إذن وراء العدالة يسمّى بــ ( العصمة ).

وهنا لابدّ من إيضاح المعنى المقصود من العصمة.

إنّنا لا نؤمن بأنّ المعصوم يستحيل عليه الذنب؛ لأنّنا لا نؤمن بالجبر؛ إذ لا تصبح هناك منقبة للمعصوم؛ لأنّه سوف يصبح كالجماد وغيره من الأشياء التي لا تستطيع أن تعصي.

فهذا المفهوم مرفوض من قبلنا نحن، ونقول: إنّ عمل المعاصي

82

عمل اختياري لكلِّ الناس بما فيهم المعصوم، فهو مثلنا تماماً، وكما أنّنا نترك المعصية باختيارنا كذلك المعصوم يترك المعصية بمحض اختياره، فهي شبيهة بالعدالة، ولكن العدالة تختلف عن العصمة، فصحيح أنّ العدالة مَلَكة أو حالة نفسانيّة رادعة عن المعصية، غير أنّها ذات مستوىً من القوّة بحيث تستطيع أن تردع عن المغريات الاعتياديّة التي يبتلى بها الإنسان، أمّا لو فرضنا أنّ المغريات قد ضوعفت آلاف المرّات، فإنّ هذا الإنسان العادل قد يزل عندئذ وينهار أمام هذه المغريات، وعندئذ يفقد هذا العادل عدالته، ويحتاج مرّة اُخرى إلى تحصيل الملكة، وإذا كانت الملكة موجودةً، فإنّ التوبة ـ كما قالوا ـ تكفي لرجوع العدالة.

وأمّا العصمة فهي عبارة عن تلك المناعة النفسيّة التي لو قوبلت بكلّ ما يتصور من مغريات العالم ـ من أوّله إلى آخره ـ في نقطة معيّنة وقوبلت بالمناعة النفسيّة الموجودة في نفس الإنسان المعصوم، لتغلَّبت تلك المناعة على كلِّ هذه المغريات، وسنخ ملكة من هذاالمستوى هو الذي نسمّيه بــ ( العصمة ). فالعصمة إذن تختلف عن العدالة، كما أنّ المسألة ليست مسألة جبر.

 

 

83

 

 

مَنشـأ العصمة

 

هل العصمة من الله تعالى، أو هي صفة اكتسابيّة؟

والجواب: أنّ العصمة من الله تبارك وتعالى، ولكن ليس بالمعنى الذي يؤدّي إلى الجبر، وإنّما بمعنى أنّ شفّافيّة نفس المعصوم وطيبتها من الله تعالى.

ولتوضيح هذا نقول: هل تكون الطاعة والمعصية أساساً منّا، أو تكونان من الله تعالى؟ وهل نحن الذين نطيع ونعصي، أو أنّ الهدى والضلال من الله تعالى؟

إنّنا نرى أنّ هناك لهجتين ولسانين، بل اُسلوبين موجودين في الكتاب والسنّة، فهل هما متعارضان ومتناقضان؟

فهناك آيات صريحة في أنّ الهداية والضلال منّا، وأنّنا لم نُجبر على الهداية أو على الضلال من قبل الله تعالى:

فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(1).

وقال تعالى أيضاً: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(2).

وغيرهما من الآيات والروايات الدالّة على أنّنا نضلّ أو نهتدي بمحض اختيارنا.

وهناك آيات دالّة على أنّ الهداية والضلال من الله سبحانه:

 


(1) سورة الدهر، الآية: 3.
(2) سورة البلد، الآية: 10.
84

فقد قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾(1).

وقال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفَاسِقِينَ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿اللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم﴾(3).

وقال تعالى: ﴿قُل لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم﴾(4).

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾(5).

وأمثال هذه الآيات كثير.

وهذا التعارض الظاهر بين هذين اللسانين لا يعني أنّ الله سبحانه قد ناقض نفسه في القرآن الكريم، فتارةً يقول: إنّكم تهتدون وتضلّون بمحض اختياركم، واُخرى يقول: أنا الذي أهدي وأنا الذي اُضلّ؛ إذ لا تناقض بين هاتين اللهجتين، ولا تنافي بين التعبيرين، وما علينا إلّا أن ندقّق في النصوص الإلهيّة الواردة في القرآن، ونراجع الأخبار الواردة عن المعصومين(عليهم السلام)؛ لكي نتعرّف على لهجتها ويتّضح معنى أنّ الله هو الذي يهدي وهو الذي يُضلّ.

فهناك نصوص صريحة في أنّ القدرة والاختيار بيد الإنسان،



(1) سورة القصص، الآية: 56.

(2) سورة البقرة، الآية: 26.

(3) سورة البقرة، الآية: 213.

(4) سورة البقرة، الآية: 142.

(5) سورة الرعد، الآية: 27.

85

وهذا ما نحسُّ به بوجداننا وبفطرتنا، فعندما نعمل عملاً إنّما نعمله بقدرتنا واختيارنا.

ولكن مع هذا يصحّ أن نقول: إنّ الله هو الهادي وهو المضلّ؛ وذلك لأنّ الهداية والضلال تعود إلى صفات نفسيّة قد خلقها الله تعالى مع النفس، كما ورد ذلك في الروايات، فعندما يرد خبر بأنّ: « الشقيّ من شقي في بطن اُمّه والسعيد من سعد في بطن اُمّه »(1) فإنّ هذا لا يعارض الاختيار؛ إذ إنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاء بمحض اختياره، ولكنّ طينة الشقاء كانت موجودة معه في نفسه حين خلقت، وهو الذي يختار السعادة بمحض اختياره، ولكنّ طينة السعادة أيضاً كانت موجودة في نفسه حين خلقها الله تعالى.

فمعنى أنّ الله يهدي ويُضلّ إذن هو: أنّ مناشئ الهداية والضلال هي من عند الله تعالى؛ إذ إنّه سبحانه قد خلقها في نفس الإنسان منذ أن خلقه، وهذا لا يعني خروج الاختيار من يد الإنسان، بل يبقى قادراً على مخالفة الحالة النفسيّة التي عنده.

ولا نريد الدخول في البحث الكلامي الموجود بشأن أنّ هذا هل هو ظلم من الله تبارك وتعالى؛ لأنّه يجعل الشقيّ شقيّاً والسعيد سعيداً، أو يجعل الغلبة في بعض الناس لفطرة الشرّ، ولبعض الناس لفطرة الخير؟

لا نريد الدخول في هذا البحث ـ فإنّه أجنبيّ عمّا نحن فيه ـ كي



(1) البحار 5: 9، الحديث 13.

86

ندخل في جوابه الفلسفي الذي يقول: ما خلق الله المشمشة مشمشة، بل أوجدها، والله تعالى أوجد هذه النفس بما لها من صفات، ولم يخلق صفةً إضافيّةً ما إلى النفس، لتقودها إلى الخير أو الشرّ، ليُقال: إنّ هذا ظلم.

ولكن الذي نريد أن نقوله هو أنّه: على الرغم من أنّ أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي فطرة التوحيد، فإنّ بذور الضلال موجودة من أوّل الأمر في كلّ إنسان، وتكون الغلبة أحياناً لهذه وأحياناً لتلك.

ولمّا كان الله سبحانه هو الذي أوجد مناشئ الهداية والضلال في نفس الإنسان، فإنّه يصحّ إسناد الهداية والضلال إليه تعالى، وبالشكل الذي لا ينافي الاختيار والقدرة في النفس، فيصحّ أن نقول: إنّه تعالى يهدي ويُضلّ، وذلك باعتباره خالقاً لبذور الهداية والضلال في نفس الإنسان.

وعلى أساس نفس هذا المعنى نفهم ونفسِّر العصمة، فنقول بأنّها من الله تعالى بمعنى أنّه هو الذي خلق نفساً شفّافةً روحانيّةً طيّبةً إلى هذا المستوى من الطيب، بحيث لو جُوبِهَ صاحبها بكلّ مغريات العالم مجتمعة، فإنّه لن يتورّط أبداً في أيّ معصية.

 

 

87

 

 

بعض الأدلّة على عصمة الأئمّة (عليهم السلام)

 

آيتا التطهير ولا ينال عهدي الظالمين:

هناك في القرآن الكريم آيتان واضحتا الدلالة على العصمة:

إحداهما تختصّ بأهل البيت(عليهم السلام)، والاُخرى لا تختصّ بهم، وإنّما تُعطي عنواناً عامّاً وهو عنوان عصمة الإمام، فتُثبِت الآية إذن عصمة كلِّ من كان إماماً، حتّى الأنبياء الذين كانوا أئمّةً كرسولنا(صلى الله عليه وآله)، وكإبراهيم، وكاُولي العزم إطلاقاً، وغيرهم.

أمّا الآية الاُولى الواضحة الدلالة على العصمة والمختصّة بأهل البيت(عليهم السلام)، فهي آية التطهير، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(1).

فهذه الآية المباركة تدلّ على العصمة؛ وذلك لأنّ الله تبارك وتعالى قد أراد أن يُذهب الرجس عن أهل البيت بأن يكونوا مطهَّرين.

ولمّا كانت إرادة الله سبحانه لا تنفكّ عن مراده سبحانه، فإنّ ما أراد الله تعالى ـ وهو تطهير أهل البيت(عليهم السلام) ـ واقع لا محالة، فيكونون معصومين إذن، ولا نقصد بالعصمة إلّا هذا.

والنقاش الوارد على الاستدلال بهذه الآية المباركة يكون على


(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
88

مستويين: مستوى الدلالة، ومستوى السياق.

أمّا النقاش على مستوى الدلالة، فيقال: إنّ الله سبحانه عندما قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ...﴾ فإنّه:

أ ـ إمّا أن يقصد الإرادة التشريعيّة، فلا تدلّ الآية عندئذ على العصمة، ولا تكون هذه الإرادة خاصّةً بشأن أهل البيت(عليهم السلام).

ب ـ وإمّا أن يقصد الإرادة التكوينيّة، وعندئذ تدلّ على أنّهم مجبورون على العصمة، فلا فضل لهم بها ولا ميزة.

ولتوضيح هذا الأمر نقول: إنّ علماءنا الأبرار ـ رضوان الله عليهم ـ قسّموا الإرادة إلى قسمين:

1 ـ الإرادة التشريعيّة: ويعنون بها ما يريده الله تبارك وتعالى من تشريعات وأحكام، فهي إرادة راجعة إلى التشريعات والأحكام، فتحريم الخمر والميسر وإيجاب الصلاة والزكاة ـ مثلاً ـ يعني أنّ الله قد أراد من الخلق أن يتركوا الخمر والميسر، وأن يقيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة، وهذا النوع من الإرادة يسمّى بــ ( الإرادة التشريعيّة )، أي: أنّه تعالى قد أراد منّا بتشريعاته وأحكامه وقوانينه ونظمه أن نترُك الخمر والميسر، ونُقيم الصلاة ونُؤتي الزكاة.

2 ـ الإرادة التكوينيّة: وهي التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(1)، فقد أراد الله تعالى أن يخلُقنا فخُلقنا، وأراد أن يخلُق الأرض والسماء فخُلقتا، وقال


(1) سورة يس، الآية: 82.
89

العلماء: إنّ إرادة الله التكوينيّة لا تتخلّف عن المراد، أي: أنّ الله تعالى حينما يُريد أن يخلُق شيئاً فإنّه يُخلق بمجرّد إرادته تعالى لخلقه.

وأمّا الإرادة التشريعيّة، فتتخلّف عن المراد، أي: أنّ إرادة الله تعالى الكامنة في الأحكام والتشريعات تتخلّف عن مراده، فقد أراد الله منهم أن يُقيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة و...، ولكنّ الكثير منهم لا يُصلِّي ولا يُؤدِّي، وأراد الله منهم أنّ لا يشربوا الخمر ولا يُقامروا، بينما نرى أنّ هناك من يشرب أو يُقامر، وهذا هو معنى تخلّف الإرادة التشريعيّة عن المراد.

وهنا نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى عندما قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ هل كان يقصد الإرادة التشريعيّة أو الإرادة التكوينيّة؟ فإن كان يقصد بها الإرادة التشريعيّة، فإنّ الآية إذن لا تدلّ على العصمة أوّلاً، ولا تكون مختصّة بأهل البيت (عليهم السلام) ثانياً. أمّا أنّها لا تدلّ على العصمة، فلأنّ الإرادة التشريعيّة ـ كما قلنا ـ قد تنفكّ وتتخلّف عن المراد، فلا تكون مطابقة للمراد دائماً، فلا تثبت العصمة. وأمّا إن كان المقصود بها هو الإرادة التكوينيّة من قبيل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فإنّ هذه الإرادة لا تتخلّف عن المراد، فإذا كانت إرادة الله التكوينيّة قد تعلّقت بطهارة أهل البيت(عليهم السلام) وابتعادهم عن الرجس، فإنّ هذا يعني: أنّهم المبتعدون عن الرجس حتماً، وأنّهم مطهّرون حتماً؛ إذ لا يمكن أن تتخلّف إرادة الله التكوينيّة عن المراد، إلّا أنّ هذا هو

90

الجبر بعينه، ويعني: أنّ أهل البيت مجبورون على الطهارة وعن الابتعاد عن الرجس؛ لأنّ الله أراد لهم إرادة تكوينيّة، وما أراده الله إرادة تكوينيّة فإنّه كائن حتماً، وبذلك نرجع إلى الجبر مرّةً اُخرى. وهذا معناه: أنّ عصمة أهل البيت إذن ليست شرفاً أو مدحاً لهم؛ لأنّ العصمة لم تكن باختيارهم، وإنّما كانت بإرادة الله تعالى كإرادته للبشر أن يكونوا بشراً وإرادته للحجر أن يكون حجراً. هذا هو الإشكال الكامن في الاستدلال بهذه الآية المباركة.

وقد كان اُستاذنا الشهيد الصدر ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يُجيب عن هذا الإشكال قائلاً بأنّ هناك إرادة ليست تكوينيّة ولا تشريعيّة، وإنّما هي قسم ثالث من الإرادة من سنخ ما يقول المعلّم لطلاّبه: اُريدكم أن تكونوا علماء، واُريد أن أصنع منكم علماء أو فقهاء مثلاً، فهذه الإرادة ليست تكوينيّة ولا تشريعيّة ومجرّد أمر ونهي تشريعيّين بأن يأمرهم أن يكونوا علماء، وإنّما تعني أنّ هذا المعلّم يُريد أن يُهيّئ ما بيده من المقدّمات التي ستؤدّي بهؤلاء الطلاّب إلى أن يتخرّجوا أو يُصبحوا علماء، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا يكون بمحض اختيارهم وليس بالجبر، فالمعلّم يُلقي على طلاّبه الدروس الدقيقة ويوفّر مناخ الدرس والفهم لهم، فيُصبحون بذلك علماء، وسوف تكون إرادة المعلّم هذا مطابقة للواقع حينما يكون قادراً على توفير كلّ المقدّمات لطلاّبه، فيصبحون علماء فعلاً. ويرى(قدس سره) أنّ هذه الإرادة لم تكن تشريعيّة بحتاً، ولم تكن تكوينيّة بمعنى ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وإنّما هي إرادة بمعنى أنّه أراد أن

91

يُحقّق المقدّمات التي تنتهي إلى النتيجة، وهي: أنّ هؤلاء الطلاّب يصبحون علماء، ولكن هذه النتيجة تنتهي بمحض اختيار الطلاّب وقدراتهم وبإرادتهم. والآية الشريفة السابقة الذكر هي من هذا القبيل، فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ يعني: أنّ الله تبارك وتعالى أراد أن يوفّر كلّ المقدّمات الدخيلة في صيرورة أهل البيت(عليهم السلام) طاهرين وبعيدين عن الرجس، ولم تكن مجرّد إرادة تشريعيّة ولا هي تكوينيّة من قبيل ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، ولمّا كان الله تعالى قادراً على تهيئة كلّ المقدّمات الدخيلة في العصمة، وهو يُريد تهيئة تلك المقدّمات إرادة تكوينيّة، فإنّ هذه المقدّمات لا تتخلّف عن مراده، فتتحقّق حتماً، وبذلك يصبح أهل البيت(عليهم السلام)طاهرين مُطهّرين ومُبتعدين عن الرجس بمحض إرادتهم واختيارهم. فالآية الشريفة إذن تدلّ على عصمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وكان ذلك بمحض اختيارهم.

وقد يُستشهد لما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ من أنّ الإرادة هنا ليست تشريعيّة ولا تكوينيّة، بل هي بالمعنى الثالث الذي شرحناه ـ بأنّه لو اُريدت بها الإرادة التكوينيّة، لزم الجبر وهو باطل، ولو اُريدت بها الإرادة التشريعيّة، كان المناسب أن يقال: يريد الله أن تبتعدوا عن الرجس وتتطهّروا، لا أن يقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ﴾؛ ذلك لأنّه في باب الإرادة التشريعيّة يُسند الفعل إلى العبد والإرادة إلى الله، فيقال: يريد الله لعباده أن يُصلّوا، ولا يقال: يريد الله لنا أن يجعلنا مصلّين.

 

92

وبالإمكان تثبيت الإرادة التكوينيّة في المقام، ولكن لا بمعنى جبرهم على ترك المعصية، بل بمعنى ما مضت الإشارة إليه، وهو إعطاؤهم نفساً شفّافةً وروحانيّةً طيّبةً إلى مستوى لو جُوبه صاحبها بكلّ مغريات العالم مجتمعة، فإنّه لن يتورّط أبداً في أيّ معصية، فالإرادة التكوينيّة تعلّقت بهذه الشفّافيّة والطيب، لا بترك المعصية مباشرةً، حتّى يلزم الجبر.

وأمّا النقاش على مستوى السياق، فيقال: إنّ هذه الآية المباركة ( آية التطهير ) قد وردت ضمن آيات نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فيدلّ سياقها على أنّ لآية التطهير علاقة بهنّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾(1).

 



(1) سورة الأحزاب، الآية: 28 ـ 34.