121

برؤيته له لم يهمَّ بها(1).

وهناك احتمالات تفسيريّة اُخرى بهذا الصدد من قبيل أن نقول: إنّ أصل الهمِّ لا يعدو أن يكون خاطراً يطرق القلب واشتياقاً نفسيّاً، وهذا الشوق والميل الخارج عن الاختيار لا يكون له مقام الفعل والعمل الاختياري الذي تكون المحاسبة عليه ويكون ظلماً، والآية لم تدلّ على صدور بعض المقدّمات عن يوسف(عليه السلام) وإن كانت بعض الروايات الواردة عن غير طريق أهل البيت(عليهم السلام)، تشير إلى شيء من ذلك، أمّا روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فخالية منها تماماً، ونفس عبارة ﴿هَمَّ بِهَا﴾ لا تدلّ على صدور بعض المقدّمات، بل تدلّ على حصول ميل نفسي، وهو ـ كما قلنا ـ خارج عن القدرة ولا يخضع للتكليف.

ومن الآيات التي يصعب توجيهها شيئاً ما قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(3).

ففي هذه الآيات ما يدلّ على نفي العصمة عن آدم(عليه السلام) والتي ثبتت بقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فهل ظلم آدم(عليه السلام) نفسه وعصى ربّه فغوى، أو نسي ولم يكن له عزم؟

وللجواب عن ذلك طريقان:

الطريق الأوّل: أن ننكر أنّ آدم(عليه السلام) قد صدرت عنه معصية عمديّة


(1) راجع المصدر السابق، الحديث 42.
(2) سورة طه، الآية: 121.
(3) سورة طه، الآية: 115.
122

بقرينة قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾(1). ففي إحدى الروايات أنّ آدم وحواء لم يكونا يعرفان إلى ذلك الوقت أنّ من المعقول والممكن أن يحلف شخص بالله تعالى كاذباً ولم يخطر ذلك ببالهما أبداً، فاستطاع الشيطان أن يُقنعهما بأ نّ النهي الإلهي الصادر لم يكن نهياً مولويّاً واجب الطاعة، وإنّما كان نهياً إرشاديّاً باعتبار أنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلق آدم لكي يكون خليفةً على وجه الأرض، لا أن يبقى في الجنّة(2)، كما يشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(3)، فلم يقُل: إنّي جاعل في الجنّة خليفة، بل خلقه للأرض من أوّل الأمر، فكأنّما أراد إبليس أن يُفهِمَ آدم وحواء بأنّ الله عزّ وجلّ إنّما نهاكما عن أكل هذه الشجرة نهياً إرشاديّاً لا نهياً تحريميّاً أو مولويّاً يصدر عن مولى لعبده؛ بل ليُبيّن لكما طريق الخروج من الجنّة والانحدار إلى الأرض، فإن كنتما تحبّان البقاء في الجنّة كملكين، فكُلا من هذه الشجرة ﴿قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾، فلو أكلتما من الشجرة، فستصبحان خالدين فيها، ولا تخرجان منها، وتكونان من ملائكتها ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾.

 



(1) سورة الأعراف، الآية: 20 ـ 21.

(2) راجع البحار 11: 164، الحديث 8.

(3) سورة البقرة، الآية: 30.

123

وكما في الرواية المشار إليها أنّ آدم وحواء لم يكونا يتوقّعان أن يجرأ أحدٌ على الحلف بالله كذباً، فاقتنعا بكلامه وأكلا.

فلو صحَّ هذا التفسير والتوجيه لم يكن آدم(عليه السلام) قد خالف نهياً يعتقد أنّه نهي تشريع، ونهي مولى لعبده، وإنّما كان يعتقد أنّه نهي إرشاد، وهذه أيضاً معصية؛ لأنّ المعصية لغة المخالفة، وعصى بمعنى خالف، فقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾ بمعنى خالف آدم ربّه، وحتّى المريض لو خالف الطبيب لقلنا عنه: إنّه عصى الطبيب على الرغم من أنّ أمر الطبيب أمر إرشادي وليس أمراً مولويّاً تجب طاعته، فمخالفة آدم النهي الإلهي كان معصية إلّا أنّها ليست بالمعنى المصطلح عليه شرعاً وما يستحقّ عليه العقاب.

الطريق الثاني: ما ورد في بعض الروايات من أنّ هذه المعصية إنّما صدرت عن آدم، وآدم لم يكن نبيّاً حينها، إنّما أصبح نبيّاً أو خليفة في الأرض بعد ذلك. وما كانت معصية سوى صغيرة من الصغائر، ومثلها موهوبة للأنبياء قبل نبوّتهم(1).

فإن أردنا التسليم بهذه النصوص والعمل وفقها، فعندئذ سنقول بالتفصيل والتفريق بين مقام النبوّة ومقام الإمامة، باعتبار أنّ آدم(عليه السلام)لم ترد بشانه آية ولا رواية تقول: إنّه كان بمستوى الإمامة كما هو الحال في إبراهيم(عليه السلام) ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فيكون المقصود بقوله: ﴿لاَ يَنَالُ


(1) راجع البحار 11: 164، ذيل الحديث الثامن.
124

عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ هو عهد الإمامة، وليس مجرّد النبوّة المستلزمة للوحي فقط، بل عهد الإمامة الذي يستلزم عصمة صاحبه حتّى قبل إمامته عن كلّ صغيرة وكبيرة.

فإبراهيم(عليه السلام) لم تصدر عنه أيّ معصية حتّى الصغيرة، كما يُستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ﴾، أي: لم تصدر عنه أيّ مخالفة، وعندها استحقّ مقام الإمامة، فقال له تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، أي: أنّ الإمامة لا تُعطى لإنسان صدر عنه أيّ ظلم ولو بمستوى المعصية الصغيرة قبل الإمامة.

أمّا بالنسبة إلى النبوّة المجرّدة، فبحسب بعض الروايات التي لا تصلح لدينا سنداً قد تصدر الصغائر الموهوبة عن الأنبياء قبل نبوّتهم(1).

وبالمقارنة بين الطريق الأوّل والطريق الثاني نجد أنّ المنهج والتفسير الأوّل هو الأوفق لما ذهب إليه علماؤنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ من أنّ هذه المعصية لآدم لم تكن معصية ولا صغيرة.

وهناك بعض الآيات التي يظهر منها عدم عصمة الأنبياء(عليهم السلام)، والجواب عنها واضح كلّ الوضوح، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾(2).

فقد تُذكر هذه الآية بعنوان صدور الذنب عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّها



(1) المصدر السابق.

(2) سورة الفتح، الآية: 1 ـ 2.

125

واضحة في كونها أجنبيّة عن المقام، فالذنب في هذه الآية لا يُقصد به المعصية؛ إذ لا علاقة له بالفتح، يقول تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ بفتح مكّة أو فتح العالم أو فتح باب السلطة على الناس، فأيّ علاقة لذلك بمغفرة الذنب؟! فيكون المقصود من قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ﴾ الذنوب التي كانت له أمام الناس حيث كانوا يَعُدّون عليه الذنوب، أمّا حين انتصر عليهم، فسيتحوّل حديث الناس، وستتحوّل هذه الذنوب إلى حسنات في نظرهم، كما هوالمشروح في بعض الكتب.

وأيضاً قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَضَالّاً فَهَدَى﴾(1)، فقوله: ﴿وَجَدَكَ ضَالّاً﴾ لا يدلّ على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان قد صدرت عنه المعاصي قبل النبوّة، إنّما المقصود هو الإشارة إلى مستوى الهداية التي وصل إليها النبيّ(صلى الله عليه وآله) لو قسنا بينها قبل نزول الوحي وبعد نزوله، فهو قبل الوحي لم يكن يملك ذاك المستوى من الإيمان الذي فهمه بالوحي، كما قال تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الاِْيمَانُ﴾(2)، إنّما بلغ ما بلغ من مستوىً بالوحي والذي نزل عليه بعد سنّ الأربعين ﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً﴾ يعني الضلال بالنسبة إلى هذا المستوى الرفيع من الإيمان والعلم والمعرفة التي نزلت عليه بالوحي، ولا يعني ذلك صدور معصية عنه قبله.

 



(1) سورة الضحى، الآية: 6 - 7.

(2) سورة الشورى، الآية: 52.

126

وأيضاً قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾(1).

قد يقول القائل: إنّ قوله تعالى: ﴿وَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ ـ والوزر بمعنى المعصية ـ يدلّ على صدور المعصية عنه(صلى الله عليه وآله)، وهي ليست معصية صغيرة بدلالة قوله: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، فلابدّ أن تكون من جنس المعصية الكبيرة التي تنقض ظهر الرسول(صلى الله عليه وآله).

ولكنّ الوزر لا يعني المعصية، بل يعني ـ لغةً ـ الحمل الثقيل، وإنّما سُمّيت المعصية وزراً بمناسبة أنّها حمل يكون على ظهر ابن آدم حتّى يرد ساحة الحساب يوم القيامة، فالوزر لا يعني المعصية، وإنّما الحمل، ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ أي: الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرك، فأكبر الظنّ أنّ المقصود به أعباء هداية الناس، وهذه الآية على ما يبدو من ظاهرها واردة في أواخر أ يّام الرسول(صلى الله عليه وآله)، وليست في أوائل أيّامه(صلى الله عليه وآله) بقرينة قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾؛ فإنّ هذا الرفع للذِكر لم يكن في أوائل أيّامه(صلى الله عليه وآله)، بل كان العكس، معاداة الناس وأذاهم له، ثُمّ رفع الله له ذكره بالتدريج حتّى كانت أواخر أيامه حيث وفّقه الله تعالى لهداية المجتمع الذي كان يعيش فيه، ووضع عنه عِبء هدايتهم الذي أنقض ظهره وما أثقله من عِبء!

إلى هنا قد اتضح لنا أنّ عصمة من جعله الله تعالى للناس إماماً



(1) سورة الانشراح، الآية: 1 ـ 6.

127

عن الذنب أمر ثابت في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام).

كما أنّ الآيات التي تكون ظاهرة في نسبة الذنب إلى بعض الأنبياء (عليهم السلام)، بل إلى بعض اُولي العزم منهم، وحتّى إلى شخص الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قد اتضح أنّها تتحدّث عن حسنات الأبرار التي هي سيّئات المقرّبين، وليست هي الذنوب التي يترتّب عليها العقاب، بل هي من باب ترك الأولى.

ومن المؤسف أنّنا نجد بعض الروايات القليلة في كتب الشيعة فضلاً عن كتب أهل السنّة تحمل روحاً مخالفة لذلك، وهي روايات ينبغي أن نضربها عرض الحائط، كما أمرنا بذلك أئمّتنا(عليهم السلام) حين قالوا: إنّ كلّ رواية تخالف كتاب الله عزّ وجلّ يجب أن تضرب عرض الحائط ويُقطع بكذبها، وأن يعلم أنّ هناك من أخطأ في روايتها على خلاف ما كانت عليه، أو تعمّد التحريف، فليس من شأنهم أن يصدر عنهم خلاف الكتاب الكريم الذي هو كتاب الله الصامت، وهم كتاب الله الناطق.

وما ورد من قول المعصوم: « لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى »(1) لا يعني نفي المعارضة للنصّ القرآني الصريح فحسب، كأن يأمر القرآن الكريم بالصلاة وترد عنهم رواية تنهى عنها، فهكذا خلاف لا يرد عادة، وليس هناك كذّاب يضع الحديث عنهم يجرأ أن



(1) البحار 2: 250، الحديث 62.

128

يكذب بهذا الوضوح، بل المراد بقوله(عليه السلام): « لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى » كلّ أنواع المخالفة سواء كانت نصّاً أو مضموناً وروحاً، فكلّ ما خالف روح القرآن الكريم والمعنى العامّ المفهوم من مجموع الآيات الشريفة لم نقله.

ولنذكر لذلك مثالاً يتعلّق بعصمة الأنبياء(عليهم السلام)، حيث ورد في تفسير القمّي(1) في قصّة داود ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ أنّه: نادى ربّه فقال: يا ربّ، قد أنعمت على الأنبياء بما أثنيت عليهم ولم تُثنِ عليَّ. فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: هؤلاء عبادٌ ابتليتهم فصبروا وأنا اُثني عليهم بذلك. فقال: يا ربّ، فابتلِني حتّى أصبر. فعيّن الله تعالى له يوماً للبلاء والامتحان، فلمّا كان اليوم الذي وعده الله عزّ وجلّ اشتدّت عبادته، وخلا في محرابه، وحجب الناس عن نفسه وهو في محرابه يصلّي، فإذا طائر قد وقع بين يديه، جناحاه من زبرجد أخضر ورجلاه من ياقوت أحمر ورأسه ومنقاره من لؤلؤ وزبرجد، فأعجبه جدّاً، ونسي ما كان فيه، فقام ليأخذه، فطار الطائر، فوقع على حائط بين داود وبين اُوريا بن حنّان ـ وكان داود قد بعث اُوريا في بعث ـ فصعد داود(عليه السلام) الحائط ليأخذ الطير وإذا امرأة اُوريا جالسة تغتسل، فلمّا رأت ظِلّ داود نشرت شعرها وغطّت به بدنها، فنظر إليها داود فافتتن بها ورجع إلى محرابه.

ولا تكتفي هذه الرواية بنسبة العمل القبيح إلى داود(عليه السلام)، بل تذكر



(1) اُنظر تفسير القمّي 2: 229 ـ 231.

129

ما هو أعظم من ذلك، حيث تقول: إنّه أخذ يفكّر بتحقيق غرضه الشهواني، فماذا يصنع واُوريا كان قد ذهب إلى الجهاد والقتال في سبيل الله بأمره هو؟!

لقد كان مع الجيش وقتئذ تابوت السكينة، وكان هذا التابوت يُجعل أمام جيش بني إسرائيل فيغلب جيش الكفر، وكلّ من يتقدّم التابوت يُقتل ومن يتأخّر عنه ينجو ويسلم من القتل.

فكتب داود إلى صاحبه الذي بعثه: أن ضع التابوت بينك وبين عدوّك وقدّم اُوريا بين يدي التابوت، فقدّمه وقُتل. وكان لداود تسع وتسعون زوجة، وهنا جاءت قصّة الملكين اللذين تمثّلا بمثال بشرين، وبدءا بالتخاصم بينهما، فقال أحدهما: إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، وطلب منّي نعجتي إلى نعاجه، فقال داود: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فضحك المستعدى عليه من الملائكة وقال: قد حكم الرجل على نفسه.

فقال داود: أتضحك وقد عصيت، لقد هممت أن اُهشَّم فاك. قال: فعرجا وقال الملك المستعدى عليه: لو علم داود أنّه أحقّ بهشم فيه منّي، ففهم داود الأمر وذكر الخطيئة، وعرف أنّها كانت إشارة إلى قصّته، فهو الذي كان يملك تسع وتسعين زوجة وأخذ زوجة اُوريا.

ولكن أين هذه الرواية من قوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾؟! وحتّى لو لم نؤمن ـ لا سمح الله ـ بعصمة الأنبياء والأئمّة، وافترضنا أنّ الذنب الصغير يمكن أن يصدر عنهم قبل النبوّة وقبل الوحي، ولكن كيف نقبل أنّه نبيّ وخليفة وإمام ثُمّ يصدر عنه

130

هذا النوع من المعاصي الكبيرة التي تهتزّ لها السماوات والأرض؟! فهذا أمر غير مقبول أبداً وينبغي طرح ورفض هكذا روايات.

 

موعظة وعبرة

 

وهنا لابدّ أن نعتبر بما ورد عنهم (عليهم السلام)، فنقول: لئن كان نبيّ من الأنبياء كيونس(عليه السلام) قد أفنى عمره في سبيل الله وهداية الخلق إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وجلب مرضاته، ولم يصدر عنه ذنب إلّا ترك أولى حين ضاق صدره ودعا على قومه لمّا رأى من كفرهم وعتوّهم، وكان ينبغي منه سعة الصدر والصبر، فكان عقاب الله عزّ وجلّ حيث يقول: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، إذن ما حالنا نحن؟! وما موقفنا أمام الله تبارك وتعالى؟!

إنّ نبيّاً من الأنبياء لم تصدر عنه معصية، بل ترك أولى، فعاقبه الله عزّ وجلّ بهذا العقاب الشديد، إذن ماذا نستحقّ نحن من عقاب في الدنيا وفي الآخرة على ما صدر عنّا من ذنوب صريحة، ومعاصي كبيرة وصغيرة، وممّا لا يُحصيه إلّا الله تبارك وتعالى؟! وكلّ ذلك سنراه كما قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ﴾(1).

 


(1) سورة الزَلزَلة، الآية: 7 ـ 8.
131

نحن نعلم أنّ ذلك الحساب الدقيق الذي حاسب الله به يونس(عليه السلام)سوف لا نحاسب به، فإنّ الله عزّ وجلّ يغفر لنا من الخطايا والذنوب ومن صغائر أعمالنا، فليس حالنا حال يونس(عليه السلام)، وما فعله الله به كان تأديباً لنبيٍّ من أنبيائه بلحاظ مستوى النبوّة، وهذا الفارق لا يوجب سرورنا بل يكشف عن قلّة قدرنا، وصغر خطرنا، وخسّة أمرنا، فنحن لا نستحقّ هذا التأديب وهذه الرعاية الدقيقة الكاشفة عن علوّ قدر المؤدّب بها، وشدّة الاعتزاز به، فأنت تحرص على تأديب ولدك أكثر من حرصك على تأديب صبي آخر؛ وذلك لأنّ ابنك أعزّ لديك وأحبّ إليك. إنّ يونس(عليه السلام) كان من الأجلاّء عند الله تبارك وتعالى، وعزيزاً عليه، فلا يتركه على خطأ ولو كان ترك أولى، أمّا نحن فنعصي الله ليل نهار دون أن يعاقبنا مباشرة، فهذا السكوت عنّا كاشف عن قلّة قدرنا، وهذا لطف من الله بنا ورعاية لحالنا أيضاً؛ إذ إنّنا لا نتحمّل أكثر من ذلك.

إنّ الله عزّ وجلّ لو أحبَّ مؤمناً فهو يعاقبه وينبّهه حين صدور الزلّة عنه فوراً، ويوجب له عثرة تكون في طريقه كي ينتبه ويرتدع عن خطئه ومعصيته.

إنّ هناك اُموراً أربعة تؤثّر في الارتداع عن الذنوب والمعاصي وردت في القرآن الكريم والروايات:

 

الأمر الأوّل ـ العذاب:

عذاب يوم القيامة الذي لا تقوم له السماوات والأرض، نار

132

جهنّم، أعاذنا الله منها، وقد ورد في وصفها: أنّ نار الدنيا هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم، وأنّها غُسلت سبعين مرّةً بماء الجنّة ثُمّ اُنزلت إلى الدنيا، ونحن نعرف أنّ عذاب النار في الدنيا هو أشدّ أنواع العذاب، أمّا ما يقوم به الطواغيت من تعذيب سجنائهم بألوان العذاب الاُخرى، فليس لأنّها أشدّ من النار؛ بل لأنّ التعذيب بالنار قد يؤدّي إلى قتل السجين بسرعة، فلا يصلون إلى مآربهم وينتهي التعذيب، أمّا عذاب الله تبارك وتعالى بالنار يوم القيامة، فقال تعالى عنه: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾(1)، وهذا أشدّ العذاب، وهو يكفينا ردعاً عن الذنوب والمعاصي، أعاذنا الله تعالى من كلِّ ذلك.

 

الأمر الثاني ـ الجنّة ومراتبها:

وقد قارن الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم بين وضع الآخرة ووضع الدنيا، فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض﴾(2)، أي: كانت الفوارق في الدنيا كبيرة بين إنسان وإنسان آخر من حيث النِعم الدنيويّة، فهذا يصعب عليه تحصيل الخبز وذاك إلى جنبه يملك القصور والأموال وما لا يحصى من النِعم، ونحن هنا لا نتكلّم عن الجانب التشريعي لهذا التفاوت وهل هو مقبول أو مرفوض، وإنّما الحديث عمّا هو قائم فعلاً ولو نتيجةَ ظلم الظالمين.

 


(1) النساء، الآية: 56.
(2) سورة الإسراء، الآية: 21.
133

ثُمّ يقول الله تعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾، فالفارق بين المؤمنين وهم في الجنّة سيكون أكبر وأكبر من الفوارق المعهودة في الدنيا بين الناس، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

 

الأمر الثالث ـ الابتعاد عن رحمة الله ورضاه:

وهو أعظم عند أهله من عذاب النار، وما هي إلّا صورة من صور الغضب الإلهي، والخشية منه هي التي تردع أولياء الله من الذنوب والمعاصي، فغضب الله عزّ وجلّ أعظم من النار، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) كما في دعاء كميل: « هَبْنِي صَبَرْتُ عَلى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِرَاقِكَ »، أي: فراق الله ورحمته، وهو أصعب وأشدّ عند أمير المؤمنين(عليه السلام) من عذاب النار.

 

الأمر الرابع ـ التنبيهات الدنيويّة:

من قبيل ما ورد بشأن يونس (عليه السلام) من تنبيهه بإلقائه في بطن الحوت، ومن قبيل ما ورد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى﴾(1).


(1) سورة السجدة، الآية: 21.
135

الفصل الرابع

 

 

الولاية التكوينيّة للمعصوم(عليه السلام)

 

 

 

○   إدارة العالم والعلاقة بين الخالق والمخلوق.

○   معنى الولاية التكوينيّة للمعصوم(عليه السلام).

○   بعض روايات إثبات الولاية التكوينيّة للأئمّة(عليهم السلام).

 

 

137

 

 

 

 

قد انتهينا من الحديث عن الولاية التشريعيّة، وهي الولاية المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1).

فهذه الآية المباركة تدلّ ـ كما تقدّم البحث عنها ـ على ما يسمّى بالولاية التشريعيّة، فالإمام هو الذي يؤتمُّ به، فقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ يعني: إنّي جاعلك مقتدىً للاُمّة، ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه.

فالإمامة تعني الولاية، وتعني وجوب الطاعة ووجوب الالتزام بما يأمر وينهى، وهذا هو معنى الولاية التشريعيّة، وهي ثابتة للإمام.

إنّ الولاية في جانب التشريع مصطلح قرآني وارد في القرآن الكريم ووارد في السنّة أيضاً:

أمّا القرآن فكقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾(2)، فهذه ولاية تشريعيّة، أي: يجب على المؤمنين أن يتّبعوا النبيّ(صلى الله عليه وآله)لو أمرهم بأيّ أمر، فهو أولى بهم من أنفسهم، فكما أنّ الإنسان وليّ



(1) سورة البقرة، الآية: 124.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 6.

138

نفسه وله الحقّ في أن يتصرّف بالشكل الذي يحلو له ما لم يخرج من دائرة الشريعة، فكذلك النبيُّ(صلى الله عليه وآله) أولى به من نفسه، وعليه أن يطيعه.

وأمّا السنّه الشريفة، فكقوله(صلى الله عليه وآله): « مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ »(1)؛ إذ أعطى الولاية التشريعيّة لعليٍّ(عليه السلام)، أي: أنّ عليّاً كنفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) يجب على المسلمين أن يتّبعوه كما كان يجب عليهم أن يتّبعوا الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

أمّا عنوان الولاية التكوينيّة، فإنّا لم نجده لا في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الشريفة، وإنّما هو مصطلح متأخّر جاء على لسان بعض علمائنا الأعلام ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في زمن متأخّر، ولهذا لا نستطيع أن نبحث عن معنى هذه الكلمة في الكتاب والسنّة.

 

إدارة العالم والعلاقة بين الخالق والمخلوق:

 

وقبل أن نبحث في الولاية التكوينيّة للأئمّة(عليهم السلام) ـ والتي تتلخّص في الحقيقة في معنى أنّ الله تبارك وتعالى كأنّما قد فوّض للأئمّة(عليهم السلام)بمستوىً من مستويات التفويض أمر إدارة العالم إليهم ـ نشير إلى العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين الله تبارك وتعالى وإدارة العالم الذي خلقه، ثُمّ ننتقل من هذا الارتباط الموجود بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه أو العالم المخلوق له إلى موضوع الأئمّة(عليهم السلام)


(1) ينابيع المودّة 1: 114.
139

وعلاقتهم بالعالم؛ لكي نرى هل رُبطت علاقة الإدارة ـ مثلاً ـ بالإمام المعصوم، وهل وهبها الله تعالى للإمام المعصوم أو لا؟

إنّ سَير الاُمور والأحداث دائماً ـ فلسفيّاً وعقليّاً ـ لا يخلو من أن يكون خاضعاً لأحد مبدأين:

المبدأ الأوّل: مبدأ العلّيّة، وهو الذي يُسيّر الحوادث، أي: أنّ الأحداث تتكرّر وتتغيّر وتتحرّك وتتبدّل وفق عللها، وهذا ما قال به الفلاسفة العقليّون الذين آمنوا بضرورة العلّيّة وبحجّة أنّ الشيء الممكن ـ المسمّى بممكن الوجود ـ نسبته إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء، فلا يمكن أن يرجّح جانب الوجود فيه إلّا بعلّة؛ إذ لو لم تكن هناك علّة، إذن كان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ترجيحاً بلا مرجّح، وهو مستحيل على حدّ قول الفلاسفة.

وقد أنكر الفلاسفة المادّيّون الجدد مبدأ العلّيّة، ولم يؤمنوا إلّا بمبدأ التقارن، أي: تقارن شيء بشيء، كاقتران النار بالاحتراق، واقتران حركة المفتاح بانفتاح الباب، وما شابه ذلك من دون أن يؤمنوا برابطة العلّيّة بين النار والاحتراق، أو بين حركة المفتاح وانفتاح الباب، وافترضوا رابطة العلّيّة هذه شيئاً غيبيّاً لا يمكن أن يخضع للتجربة، وبما أنّ الفلاسفة المادّيين هم تجريبيّون يؤمنون بأنّ مصدر المعرفة هو التجربة، والتجربة لا تستطيع أن تكشف مبدأ العلّيّة، لذا أنكروا هذا المبدأ، وقالوا: إنّ سير الاُمور لا يكون إلّا بحفنة من التقارنات والصدف. ولا نريد أن ندخل في صميم البحث الفلسفي في ذلك؛ فإنّ ذلك لا يتناسب مع ما بنينا عليه من الاختصار

140

والبساطة في هذه الأبحاث.

ولاُستاذنا الشهيد الصدر ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في هذه المسألة بحث مفصَّل وطريف وممتع في كتابه (الاُسس المنطقيّة للاستقراء)، يقول فيه: إنّ إيماننا بمبدأ العلّيّة لا يقوم على أساس المباني الفلسفيّة العقليّة ـ فحسب ـ التي تقول باستحالة الترجيح بلا مرجّح، وأنّ الممكن نسبته إلى الوجود وإلى العدم على حدّ سواء، فلابدّ إذن من علّة كي تترجّح كفّة الوجود على كفّة العدم، بل نضيف إلى ما قاله الفلاسفة العقليّون: أنّ التجربة لوحدها أيضاً كافية لإثبات مبدأ العلّيّة، خلافاً للفلاسفة المحدَثين الذين قالوا: إنّ العلّيّة لا تثبت بالتجربة(1). وهذا له بحث مفصَّل وعميق لا مجال لشرحه هنا، وإجمال قوله (رضوان الله عليه) هو: أنّنا حينما نكرّر إيجاد شيء ونرى نتيجةً تقترن مع ذاك الشيء ـ كما في تكرار إيجاد النار واقتران الاحتراق بها مثلاً ـ نستكشف من هذا التكرار والتعدّد بحساب الاحتمالات نقطة مشتركة ثابتة في كلّ هذه الأعداد من التجربة، هي العنصر المشترك بين هذه التجارب العديدة، وليس هذا العنصر المشترك إلّا العلّيّة؛ إذ لولا أنّ النار علّة للاحتراق لكان هذا التكرار مجرّد تجمّع صدف ومن دون وجود نقطة مشتركة فيما بينها، وهذا مستبعد جدّاً بضرب القيم الاحتماليّة بعضها في بعض.

 



(1) راجع الاُسس المنطقيّة للاستقراء: 117. والبرهان الكامل على المدّعى تجده في مبحث القسم الثالث من الكتاب.

141

وعلى أيّ حال فهذا أحد المبدأين اللذين بالإمكان افتراض سير هذا العالم والأحداث التي نراها على أساس أحدهما.

والمبدأ الثاني الذي يمكن افتراض قيام العالم على أساسه هو: مبدأ القدرة والسلطنة، وهذا ما اعتقده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مبدأً لظهور العالم، فإيجاد الله سبحانه وتعالى للعالم ليس بالعلّيّة؛ فإنّ العلّيّة أمر يَستبطن استحالة الانفكاك بين العلّة والمعلول، وهذا بدوره يستبطن الجبر، أمّا الله تبارك وتعالى، فهو يفعل ما يشاء وفق إرادته ووفق قدرته وسلطنته، والقدرة شيء والعلّيّة شيء آخر، والفارق بين القدرة والعلّيّة أمر مبرهن في محلّه، وفي الجملة: لا شكّ أنّنا نحسّ في وجداننا بالفارق بينهما، فهناك فرق ـ كما مثّل العلماء ـ بين حركة الحجر الذي يسقطونه من الأعلى، وبين حركة الإنسان وهو ينزل من الدرج، هاتان حركتان: حركة الإنسان وهو ينزل من الأعلى إلى الأسفل، وحركة الحجر أيضاً حينما ينزل من الأعلى إلى الأسفل، لكن الوجدان يحكم بفارق جوهري بينهما، ويعتقد كثير من العلماء أنّ الفارق بينهما هو عبارة عن الإرادة، فالحجر لا يمتلك الإرادة، بينما يملكها الإنسان، فالحجر ينزل من الأعلى إلى الأسفل بلا إرادة، بلا شوق، بلا حبٍّ، بلا اختيار، أمّا الإنسان فإنّه ينزل من الأعلى إلى الأسفل بإرادة وشوق، وعلى هذا الأساس امتاز مبدأ الجبر من مبدأ الاختيار، واُستاذنا الشهيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر(قدس سره)يرى أنّه لا يُكتفى بهذا المقدار من الفارق؛ لأنّه لا يحقّق الاختيار، ولا يخرجنا من عالم الجبر، فأيُّ فرق بين ما

142

يصدر عن الإنسان في حالة الوجل من حركات غير اختياريّة، وبين ما يصدر عن إنسان آخر اعترتهُ حالة الشوق؟ فلو كان الأمر كما قالوا من أنّ الإرادة تعني أن تعتري الإنسان حالة الشوق والرغبة الأكيدة، فيصدر عنه العمل الذي اشتاق إليه قهراً، فلا فرق إذن بين ما يصدر عن الإنسان في حالة الشوق أو حالة الوجل أو حالة الخجل أو سائر الحالات، فمجرّد أنّ هذا شوق ومحبّة ورغبة لا يجعل هذا العمل اختياريّاً.

إنّ المائز والمقياس الحقيقي الذي يفصل بين الجبر والاختيار هو مسألة السلطنة والقدرة، وليس مسألة الشوق، ولا يعني هذا الاستغناء عن الشوق والإرادة، فهذا ممّا لابدّ منه،فإنّ الشوق يلازم الاختيار، والإنسان المختار لا يعمل شيئاً إلّا بالشوق والاختيار، إلّا أنّ الشوق ليس هو الذي جعل هذا العمل اختياريّاً لو لم يكن إلى جانبه القدرة والسلطنة التي تعني أنّه يستطيع أن يفعل ويستطيع أن لا يفعل.

ولاُستاذنا الشهيد(قدس سره) رأي آخر طرحه على مستوى الافتراض والاحتمال لا الجزم واليقين بعد أن كتب الاُسس المنطقيّة للاستقراء يقول فيه: إنّنا نفترض أنّ مبدأ العلّيّة بالمعنى الفلسفي لا وجود له في العالم، وهذا احتمال لا دليل لدينا يمنعنا عن ذلك أو يبطله، فمن المحتمل أنّ كلّ ما نراه يعود إلى مبدأ السلطنة والقدرة وإرادة الله تبارك وتعالى، وحتّى ما نراه من أنّ النار تحرق، فالتفكير الفلسفي الاعتيادي المتعارف وإن كان يقول: إنّ النار علّة للإحراق وإنّ الله

143

تعالى خلق العلّة وهي النار مثلاً، وعلّيّتها ذاتيّة لها، ولكن توجد إلى جانب ذلك فرضيّة اُخرى معقولة أيضاً، وهي: أن تكون قد اقتضت الحكمة الربّانيّة أن يخلق الله تعالى دائماً الإحراق متى ما تتحقّق الملاقاة بالنار، وكلا هذين الأمرين محتملان، فالأوّل ـ وهو الرأي الفلسفي المعروف ـ محتمل، والثاني ـ وهو الذي طرحه السيّد الشهيد الصدر(قدس سره) وهو أن لا تكون النار علّة للإحراق، وإنّما شاءت إرادة الله تبارك وتعالى أن يخلق الإحراق متى وجدت النار ـ محتمل أيضاً، ولا ينفيه القانون الفلسفي الذي يقول بأنّ الممكن نسبته إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ولا يوجد إلّا بمرجّح، فصحيح أنّ الممكن بحاجة إلى مرجّح، ولكن من قال: إنّ مرجّحه مبدأ العلّيّة؟ فلعلّ مرجّحه مبدأ الإرادة، إرادة الله وقدرته تبارك وتعالى، فالقانون الفلسفي لا يبطل هذا الاحتمال، وكذلك القانون التجريبي الذي أشرنا إليه، فإنّ كثرة التجارب بإشعالنا النار آلاف المرّات ـ مثلاً ـ ورؤيتنا ترتّب الإحراق على ذلك، يدلّنا على وجود عنصر مشترك فيما بين هذه التجارب العديدة، ولكن من قال: إنّ هذا العنصر المشترك هو عبارة عن العلّيّة؟ فلعلّه عبارة عن إرادة الله تبارك وتعالى وقدرته وسلطنته، فهو أراد أن يخلق الاحتراق متى ما صنعنا النار.

وعلى أيّة حال فحينما ننتقل إلى لغة القرآن نرى أنّ الله تبارك وتعالى نسبَ كلّ شيء في هذا العالم إليه جلّ وعلا، ونرى هذه اللغة واردة حتّى في الأفعال الاختياريّة للإنسان كما في كثير من الآيات،

144

فهنالك لونان من الآيات المباركة: لون منها ينسب الاُمور إلى الله تعالى، ولون آخر ينسب أفعال البشر بمستوىً من مستويات النسبة إلى الله تبارك وتعالى.

أمّا اللون الأوّل، فهو من قبيل قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾(4)، وغير ذلك من الآيات.

وأمّا اللون الآخر الذي يَنسب فعل البشر إلى الله تعالى، فهو من قبيل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(5)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾(6)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(7)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ﴾(8)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾(9)، وقوله تعالى: ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(10)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾(11)،



(1) سورة الأعراف، الآية: 54.

(2) سورة الذاريات، الآية: 58.

(3) سورة الزمر، الآية: 42.

(4) سورة التوبة، الآية: 51.

(5) سورة الأنفال، الآية: 17.

(6) سورة الكهف، الآية: 23 ـ 24.

(7) سورة البقرة، الآية: 253.

(8) سورة الأنعام، الآية: 107.

(9) سورة الأنعام، الآية: 137.

(10) سورة الأنعام، الآية: 149.

(11) سورة يونس، الآية: 99.

145

وأمثال ذلك من الآيات.

إنّ تفسير الآيات من القسم الأوّل الراجع إلى غير الأفعال الاختياريّة هو أحد تفسيرين: إمّا أنّ الله تبارك وتعالى بإرادته المباشرة وبلا وساطة مبدأ العلّيّة يفعل الاُمور، ويخلق ما يريد، ويصنع ما يشاء، ويغيّر، ويبدّل، ويحرّك، كلّ ذلك وفق إرادته مباشرةً. وإ مّا أنّ الاُمور تجري بأسبابها وعللها، « أبى الله أن يُجري الأشياء إلّا بالأسباب »(1)، فقانون العلّيّة هو الذي يحكم العالم، ويسيّر الاُمور، ولكنّ إرادة الله تكمن فوق العلل، أي: أنّ أصل العلل الأساسيّة مخلوقة من قبل الله تبارك وتعالى وبإرادته سبحانه، فإرادته عزّ وجلّ ليست هي التي تسيّر الاُمور بالمباشرة وإنّما تسيّرها من وراء قانون العلّيّة، والعلّة مخلوقة لله. فبأحَدِ التفسيرين ترجع الاُمور كلّها إلى الله كما نطقت بذلك هذه الآيات المباركات.

وأمّا القسم الثاني من الآيات ـ وهي الآيات الراجعة إلى الأفعال الاختياريّة للبشر ـ كقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(2)، فهذا أيضاً تفسيره واضح، ولا نؤوّل هذه الآيات ولا نلتزم بالجبر، فلا نقول: إنّ هذه الآيات تفيد الجبر وتسلب القدرة والاختيار من الإنسان وتجعل أعمالنا هي أعمال الله، بل نقول: إنّ الذي نفهمه من هذه الآيات هو أنّ الفعل البشري دائماً له جانبان:



(1) بصائر الدرجات 1: 6، الحديث 2.

(2) سورة الأنفال، الآية: 17.