249

الأوامر

الفصل السابع

 

 

تعلّق الأمر بالطبائع أو بالأفراد

 

○ تمهيد في أقسام العوارض.

○ الوجوه في تصوير المقصود من عنوان المسألة.

 

251

 

 

 

 

 

تمهيد: في أقسام العوارض:

اعلم أنّ العوارض على ستّة أقسام:

القسم الأوّل: ما يكون ظرف عروضه هو الذهن، وظرف اتّصاف الشيء به هو الذهن أيضاً. ويمثّلون لذلك بمثل النوعيّة والجنسيّة والفصليّة والكلّيّة والجزئيّة، فهي ليس لها وجودٌ خارجيّ، وإنّما وجودها وجود ذهنيّ. فظرف عروضها هو الذهن، كما أنّ ما يتّصف بها ليس هو الفرد الخارجيّ من الإنسان أو الحيوان أو الناطق مثلا، بل المفهوم الذهنيّ. إذن، فظرف الاتّصاف بها هو الذهن. فلنطلق عليها فعلا اسم العوارض الذهنيّة.

القسم الثاني: العوارض الخارجيّة، وهي ما يكون ظرف وجودها وظرف الاتّصاف بها هو الخارج، كالحرارة والبياض ممّا يكون له وجودٌ خارجيّ ويتّصف به الفرد الخارجيّ.

القسم الثالث: ما يكون ظرف عروضه هو الذهن، وظرف الاتّصاف به هو الخارج، كالإمكان والاستلزام، فظرف عروضه هو الذهن، ببرهان عدم وجود خارجيّ له كالبياض والحرارة، وإلاّ لزم التسلسل بحسب الخارج؛ إذ يقال مثلا: إنّ النار ممكن، وإمكانها واجب، ووجوب إمكانها واجب... وهكذا: إنّ النار ملازمة للحرارة، وملازمة لهذه الملازمة... وهكذا، فإذا لم يكن وجوده خارجيّاً فهو ذهنيّ.

252

وظرف الاتّصاف به هو الخارج، ببرهان اتّصاف الفرد الخارجيّ من الشيء به، فالفرد الخارجيّ من النار ـ مثلا ـ ممكن وملازم للحرارة. وهذا بخلاف ما مضى من مثل النوعيّة والفصليّة ممّا لم يكن الفرد الخارجيّ متّصفاً به. هذا ما قاله مشهور الحكماء.

والقسم الأوّل ـ وهو ما يكون ظرف عروضه وظرف الاتّصاف به ذهنيّاً ـ يسمّى بالمعقولات الثانويّة بحسب مصطلح المنطقيين. وأمّا بحسب مصطلح الحكماء فمطلق ما يكون ظرف عروضه هو الذهن يسمّى بالمعقولات الثانويّة، ولو كان ظرف اتّصافه به هو الخارج.

ونحن قد أشرنا في بعض الأبحاث السابقة إلى أنّ هذا غير معقول؛ فإنّ اتّصاف الشيء بعرض إنّما هو بلحاظ عروضه عليه، فلا يُعقل أن يكون عالم الاتّصاف به غير عالم عروضه.

كما بيّنّا أيضاً أنّ الاستلزام والإمكان إذا لم يكن موجوداً في الخارج بالبرهان، فلا يمكن أيضاً أن يقال: إنّ قوامه بفرض العقل واعتباره؛ لوضوح صدق قولنا: (العلّة تستلزم المعلول) حتّى لو لم يوجَد عقلٌ على وجه الأرض.

ومن هنا ذكرنا: أنّ الإمكان والاستلزام ونحوهما من الاُمور الخارجيّة، وظرف الاتّصاف بها وكذلك ظرف عروضها هو الخارج، لكنّها خارجيّة بنفسها لا بوجودها.

وتوضيح ذلك: أنّ كلّ أمر لا يكون للاعتبار دخلٌ في حقّانيّته نسمّيه خارجيّاً، وهو على قسمين:

فتارةً تكون حقّانيّته وخارجيّته بالوجود كالإنسان، فإنّه بما هو إنسان ليس خارجيّاً وحقّانيّاً، وإنّما هو ماهيّة نسبتها إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء.

واُخرى تكون حقّانيّته بذاته، من قبيل: أنّ من الحقّ استحالة اجتماع النقيضين،

253

واستلزام العلّة للمعلول، فهذه الاستحالة وكذلك هذا الاستلزام ليس للاعتبار دخلٌ في حقّانيّتها، وهي حقّ بذاتها لا بلبسها ثوب الوجود، كما في الإنسان والحيوان ونحوهما، فوعاء الخارج أوسع من وعاء الوجود، وظرف الاتّصاف والعروض معاً للإمكان والاستلزام ونحوهما إنّما هو وعاء الخارج.

وبكلمة اُخرى: ماذا يقصد بقولهم: إنّ مثل الملازمة والإمكان والاستحالة اُمور ذهنيّة؟

إن قُصد بذلك: أنّها من قبيل الاعتبارات الذهنيّة الجزافيّة، كاعتبار الإنسان طويلا يصل إلى الشمس والتي لا واقع لها إلاّ نفس واقع الاعتبار، فهذا بديهيّ البطلان؛ لبداهة الفرق بين قولنا: (الإنسان ممكن)، وقولنا: (الإنسان طويل يصل إلى الشمس)، فالأوّل يعتبر صادقاً، والثاني يعتبر كاذباً. وهذا لا يكون إلاّ باعتبار لحاظهما خارج وعاء الاعتبار، فلو كانا من سنخ واحد ومن عالم الاعتبار لم يكن فرق بينهما في الصدق والكذب، وكان كلاهما صادقاً بلحاظ وعاء الاعتبار، وكاذباً بلحاظ الخارج.

وإن قُصد بذلك: أنّنا حينما نتصوّر الإنسان ينساق ذهننا إلى أن نولّد منه الإمكان، ولا ينساق ذهننا إلى أن نولّد منه الطول، فكون الإمكان أمراً ذهنيّاً يعني: أنّه حالة عقليّة ينساق إليها الذهن البشريّ عند تصوّر الإنسان. وهذا يفسّر لنا الفرق بين إمكان الإنسان وطوله، قلنا: إنّ هذا الانسياق إمّا أن يرتبط بنكتة فسلجيّة في نطاق ذات المفكّر، أو بنكتة ترجع إلى نفس الأمر المفكَّر فيه:

والأوّل خلاف الضرورة والوجدان، وإن ادّعاه بعض الفلاسفة الاُوربّيّين بالنسبة للمقولات؛ فإنّ الضرورة والوجدان حاكم بالفرق بين هاتين القضيّتين بقطع النظر عن وجودنا في العالم. فمثلا قولنا: (مساوي المساوي مساو) كلام صحيح، وُجد في العالم مُدرك أو لا. وقولنا: (مساوي المساوي مخالف) كلامٌ باطل، وُجد في العالم مُدرك أو لا.

254

وعليه فيتعيّن الثاني، وهو كون الفرق راجعاً إلى نفس المفكر فيه، فمثلا الفرق بين الإنسان واجتماع النقيضين؛ حيث يتولّد عندنا في تصوّر الأوّل حالة الإمكان وفي الثاني حالة الامتناع، يكون بنكتة راجعة إلى نفس الإنسان واجتماع النقيضين.

وهذا معنى قولنا: إنّ هذه الاُمور ليست ذهنيّة بل خارجيّة وحالها حال الأعدام، فما هو معدومٌ معدومٌ حقيقة، وعدمه واقعيٌّ لا اعتباريّ، كأن نعتبر الشمس معدومة، وليس معنى ذلك وجود العدم؛ فإنّ أحد النقيضين لا يتقبّل الآخر، بل العدم واقعيّ بنفسه وفي لوح الخارج والواقع.

وهذا أحد المسالك لإبطال قول من يحصر الواقع والخارج بالمادّة وظواهرها؛ فإنّه لا يمكنه أن يفسّر هذه الاُمور؛ فإنّها ليست مادّيّة ولا ظاهرة قائمة بالمادّة؛ إذ من الضروريّ رياضيّاً أنّه حتّى لو لم توجد مادّة في العالم فمساوي المساوي مساو، فالواقعيّة والخارجيّة أوسع من المادّيّة حتماً.

كما أنّه بما ذكرناه ظهر بطلان ما نقله صاحب الأسفار عن الخواجه نصير من افتراض أنّ مثل هذه القضايا من الموجودات الذهنيّة لما أسماه بالعقل الأوّل، لكي لا يرد إشكال أنّ هذه الاُمور كيف تكون ذهنيّة مع أنّها أقدم وأكبر من ذهننا؟

بيان البطلان: أنّنا نحسّ أنّ اجتماع النقيضين ممتنع سواء وُجد العقل الأوّل أو لا، فلا محيص عن الالتزام بلوح الواقع والخارج، وكونه أوسع من لوح الوجود فضلا عن لوح المادّة التي هي قطّاع من قطّاعات لوح الوجود.

القسم الرابع: العوارض الذهنيّة التي تكون كالمعقولات الثانويّة المنطقيّة، إلاّ أنّه يختلف عنها في أنّ المعروض هنا يلحظ مرآةً للخارج، ولذا يكون للعَرَض معروض آخر بالعرض، كما في الحبّ والبغض والعلم ونحوها من الصفات النفسيّة ذات الإضافة، فهي من الكيف النفسانيّ ومعروضها بالذات قائم في عالم النفس،

255

وهي الصورة الذهنيّة القائمة في نفس ذلك الاُفق لا الخارج، برهاناً ووجداناً:

أمّا الوجدان فلأنّه قد يعلم بشيء أو يحبّه وهو غير موجود، فيعلم بإمامة زيد ـ مثلا ـ أو يحبّها بينما هو في الواقع ليس بإمام.

وأمّا البرهان فلأنّ العلم ونحوه صفة نفسيّة ذات إضافة، فلا يتصوّر ـ بتمام مراتبه بما فيها مرتبة ذاته ـ أن ينفكّ عن طرفه، وهذا معناه لزوم ثبوت المضاف إليه حتّى في مرتبة ذاته، في حين أنّ القسم الأوّل ـ أعني: المعقولات الثانويّة المنطقيّة كالكلّيّة ونحوها ـ تعرض في ذهن الإنسان بما هي هي لا بما هي مرآة للخارج، فالحبّ ـ مثلا ـ يعرض للصورة الذهنيّة لا بما هي صورة ذهنيّة، بل بما هي تُرى بالنظر التصوّريّ عين الخارج وفانياً في الخارج وإن كانت بالنظر التصديقيّ غيره، ولذا وُجد في هذا القسم معروض بالعَرَض، وهو ما في الخارج الذي تحاكيه تلك الصورة، بينما في القسم الأوّل لا يوجد معروض بالعَرَض.

القسم الخامس: العوارض الذهنيّة التي تختلف عن القسم الأوّل والقسم الرابع، كالطلب الذي معروضه بالذات هو الصورة الذهنيّة بنفس البرهان والوجدان الماضيين، لكنّها ليست صورة ذهنيّة ملحوظة بما هي هي كالقسم الأوّل، فإنّنا لو لاحظنا الصورة الذهنيّة بما هي صورة ذهنيّة لم نطلبها؛ لأنّنا مثلا عطاشا، والصورة الذهنيّة لا ترفع العطش. مضافاً إلى أنّ طلبها تحصيل للحاصل؛ لحصول الصورة الذهنيّة، فإنّما هي صورة ذهنيّة ملحوظة فانية في الخارج، أي: إنّه تعلّق الطلب بها بما هي منظور إليها بالنظر التصوّريّ الذي يُرى به عين الخارج.

فهذا القسم يشترك مع القسم الرابع في المرآتيّة والفناء، لكن فرقه عن القسم الرابع: أنّه في القسم الرابع كان يوجد في الخارج معروضٌ بالعرض، فحينما نحبّ الإمام(عليه السلام) يكون حبّنا عارضاً بالذات وحقيقةً على الصورة الذهنيّة وبالعرض على شخص الإمام، باعتبار أنّ تلك الصورة إنّما يعرض عليها الحبّ بما هي ملحوظة

256

بالنظر التصوّريّ الذي يُرى به عين الخارج، فهذا المحبّ يرى بالنظر التصوّريّ أنّه يحبّ الشخص الخارجيّ.

أمّا في المقام فبالرغم من كون الطلب قد تعلّق بالصورة الذهنيّة بما هي حاكية عن الخارج، لكنّه مع ذلك ليس هناك مطابق لهذه الصورة الذهنيّة في الخارج، فإنّ المولى حينما يعطش يطلب صرف وجود الماء؛ إذ لا يفرق في حقّه أيّ فرد من الأفراد، وصرف الوجود ليس له مطابق في الخارج، وكلّ ما هو موجود في الخارج إنّما هو مصداقٌ لمحكيّ الصورة، لا نفس محكيّها.

وبهذا تنحلّ عويصة في المقام وهي: أنّ الطلب إن كان موضوعه أمراً خارجيّاً ففعليّته في طول تحقّق الموضوع، وهذا تحصيل للحاصل. وإن كان أمراً غير خارجيّ فمن الواضح أنّ الطالب لا يطلب أمراً غير خارجيّ، فإنّ غرضه إنّما يحصل بالعمل في الخارج.

وقد أجاب عن ذلك المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بأنّ الطلب يتعلّق بإيجاد الشيء لا وجوده(1).

وهذا الجواب ليس فنّيّاً، فإنّ الإيجاد والوجود شيء واحد وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار، فطلب الإيجاد يعني طلب الوجود. فيقال: هذا الإيجاد أو الوجود إن اُريد به الخارج ففعليّة الطلب تساوق فعليّة ذاك الإيجاد أو الوجود ويلزم تحصيل الحاصل. وإن اُريد به غير الخارج فلا يريده الطالب.

والحلّ هو: أنّ الطلب لم يتعلّق بالصورة الذهنيّة بما هي صورة ذهنيّة بالنظر التصديقيّ، حتّى يرد إشكال أنّ الطالب لا يريد غير الأمر الخارجيّ؛ لعدم حصول


(1) الكفاية، ج 1 بحسب طبعة المشكينيّ، ص 223، وبحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 139.

257

غرضه إلاّ بالأمر الخارجيّ، وإنّما تعلّق طلبه بالصورة الذهنيّة بما هي ملحوظة بالنظر التصوّريّ الذي تُرى به عين الخارج وفانيةً في الخارج، ولكن في نفس الوقت لا يلزم طلب الحاصل، لا بلحاظ المعروض بالذات، ولا بلحاظ المعروض بالعرض:

أمّا بلحاظ المعروض بالذات فلأنّ المعروض بالذات لهذا الطلب إنّما هو في الحقيقة وبالنظر التصديقيّ الصورة الذهنيّة التي هي مباينة لما في الخارج، فهو لم يعرض على ما في الخارج حتّى يلزم طلب الحاصل.

وأمّا بلحاظ المعروض بالعرض فلأنّه ليس له معروضٌ بالعرض في الخارج كما هو الحال في حبّ الأعيان، بل ما في الخارج مصداقٌ للمعروض بالعرض، أي: للمحكيّ بالصورة، والمعروض بالعرض هو صرف الوجود، وليس ما في الخارج هو المعروض بالعرض حتّى يلزم كون الطلب له سنخ وجود متأخّر عن وجوده فيلزم طلب الحاصل.

كما أنّه بما ذكرناه يمكن الاستغناء عمّا ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من دسّ معنى الوجود في مفهوم الهيئة، وأنّ الطلب لا يتعلّق ابتداءً بالطبيعة، بل هناك همزة وصل بين الطلب والطبيعة وهي الوجود، ويدسّ مفهوم الوجود في مفاد الهيئة، فالمادّة تدلّ على الطبيعة، والهيئة تدلّ على طلب الوجود.

وتبرير الاحتياج إلى هذا الدسّ يتصوّر بعدّة تقريبات:

الأوّل: أنّ الطبيعة بما هي هي ليست مورداً لغرض الطالب؛ فإنّ الطبيعة والماهيّات ليست إلاّ اُموراً اعتباريّة وانتزاعيّة، وإنّما الغرض يترتّب على الوجود خارجاً؛ إذ لو كان مترتّباً على الماهيّة لانحفظ بانحفاظ الماهيّة في الذهن.

وهذا باطل؛ لأنّ الماهيّة بما هي أمر اعتباريّ انتزاعيّ وإن لم تكن مورداً لغرض الآمر لكن يمكن أن تُلحظ بما هي فانية في الخارج، وبما هي عين منشأ

258

انتزاعها في الخارج بالنظر التصوّريّ، وبهذا النظر يمكن تعلّق الطلب بها بلا حاجة إلى توسيط الوجود، وإلاّ لسرى الإشكال إلى طلب الوجود أيضاً؛ إذ لو اُريد به مفهوم الوجود من دون أن يُلحظ فانياً في الخارج فمفهوم الوجود حاله حال الماهيّة أمرٌ اعتباريّ انتزاعيّ. وإن لوحظ فانياً في الخارج فلتلحظ الطبيعة كذلك بلا حاجة إلى توسيط مفهوم الوجود. وأمّا حقيقة الوجود فليست داخلة في مداليل الألفاظ؛ لعدم إمكان تصوّرها لنا.

الثاني: ما ذكره في الكفاية من أنّ الماهيّة بما هي هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومة، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، فلابدّ من توسيط الوجود بينها وبين الطلب.

ويرد عليه: أنّ معنى كون الماهيّة بما هي هي ليست إلاّ هي ـ الذي جاء في كلام الفلاسفة ـ هو أنّ الماهيّة في مرتبة ذاتها ليست إلاّ هي وجنسها وفصلها ونوعها. وفي هذه المرتبة كلا النقيضين مرتفع، فلا هو وجود ولا عدم، ولا هو طلب ولا عدمه، وهذا غير مرتبط بما ندّعيه من تعلّق الطلب بالماهيّة بما هي هي؛ فإنّنا لا نقصد بكلمة (بما هي هي) ما قصده الفلاسفة، وهو معنى مرتبة الذات، بل نقصد بذلك معنى تحديدها بحدودها، فيقال: إنّ هذه الماهيّة بهذه الحدود أصبحت مطلوبة لا بتوسّط الوجود مثلا. وهذا لا يرجع إلى فرض الطلب داخلا في ذاتها حتّى يجاب على ذلك بأنّ الماهيّة بما هي ليست إلاّ هي. وما أكثر ماوقع الخلط والاشتباه على أساس مصطلح فلسفيّ.

الثالث: أنّه لو لم نُدخل الوجود في الحساب لم يبق فرق بين الأمر والنهي، فكلٌّ من: (صلّ) و(لا تصلّ) مشتمل على المادّة والهيئة، فإذا افترضنا أنّ المادّة فيهما إنّما تدلّ على الماهيّة وأنّ الهيئة فيهما إنّما تدلّ على الطلب، فأيّ فرق يبقى بينهما؟! فالفرق يكون بافتراض أنّ الأمر طلبٌ لوجود الماهيّة، والنهي طلب لتركها.

259

ويرد عليه: أنّ هذا مبنيّ على أنّ النهي مفاده الطلب، بينما الصحيح ـ على ما سوف يأتي توضيحه إن شاء الله ومضت الإشارة إليه في بعض الأبحاث السابقة ـ: أنّ النهي ليس مفاده الطلب، بل مفاده الزجر والمنع، فهو أيضاً يتعلّق بالماهيّة، ولا يتوقّف التفريق بين الأمر والنهي على إدخال الوجود أو العدم في الحساب(1).

القسم السادس: العناوين التي يصوغها العقل ويصنعها لكي يشير بها إلى ما في الخارج، من قبيل عنوان: أحدهما أو مجموعهما أو كلّ منهما، فهذه العناوين من ناحية ليست من العوارض الذهنيّة؛ لأنّ ما يوصف بها هو الشيء الخارجيّ، فيقال ـ مثلا ـ في حقّ زيد الخارجيّ: إنّه أحد الأخوين، ويشار إليهما بعنوان مجموعهما أو كلّ واحد منهما. ومن ناحية اُخرى ليست خارجيّة؛ لأنّه لو غُضّ النظر عن كلّ مفكِّر ومتصوِّر ففي الخارج لا يوجد وراء زيد وعمرو ـ مثلا ـ شيء آخر اسمه: أحدهما أو مجموعهما أو كلّ واحد منهما.

وبحسب الحقيقة هذه عناوين يخيطها الذهن ليشير بها إلى ما في الخارج من دون أن يضاف إلى ما في الخارج شيء. فعناوين البدليّة أو المجموعيّة أو الاستغراقيّة في الحقيقة كيفيّةٌ لملاحظة ما في الخارج، لا محمولٌ جديد يضاف إلى ما في الخارج من الموضوع كما هو الحال في الأقسام السابقة، وهي شبيهة بالوضوح والخفاء في الصورة التي تنطبع في عدسة آلة التصوير اللذين ليسا من


(1) الرابع: أنّه لو فُرض الطلب منصبّاً على الطبيعة من دون أيّ مفهوم من مشتقّات الوجود، فهو إمّا أن يكون منصبّاً على الطبيعة الخارجيّة، وهو تحصيلٌ للحاصل، أو على الطبيعة في الذهن، ولا قيمة لها، على أنّها هي حاصلة في ذهن المولى، فلماذا يطلبها؟! فهذا أيضاً تحصيل للحاصل.

وهذا التقريب قد اتّضح جوابه ممّا سبق.

260

صفات الخارج وكيفيّاته، بل من كيفيّات تصوير العدسة لما في الخارج.

هذا كلّه كان مقدّمةً لبحث تعلّق الأمر بالطبيعة أو بالأفراد.

وبعد هذا نقول: إنّ هذا العنوان قد جاء على لسان قدماء الأصحاب أيضاً، وهو أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالأفراد، والمتأخّرون وقع عندهم الاشتباه والغموض فيما هو المقصود من هذا العنوان. ويمكن أن يذكر بهذا الصدد عدّة وجوه لتصوير المطلب:

261

 

الوجوه في تصوير المقصود من عنوان المسألة:

الوجه الأوّل: ما ذكره بعض من أنّ المقصود هو إنكار التخيير العقليّ وعدمه. ويُقصد بالتخيير العقليّ في المقام: كون الشارع قد أوجب الجامع والعقل هو الذي يخيّر بين الأفراد. أمّا التخيير الشرعيّ فيقصد به هنا: كون الشارع هو الذي نظر إلى الترديد بين العِدلين الراجع إلى أمرين مشروطين.

فمعنى تعلّق الأمر بالطبائع أنّه كثيراً مّا يكون الأمر متعلّقاً بالجامع بين الأفراد من دون نظر للشارع مباشرةً إلى الأفراد، والعقل هو الذي يخيّر بينها. ومعنى تعلّق الأمر بالأفراد هو تخيير الشارع مباشرةً بين الأفراد.

وقد استبعد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هذا التفسير بدعوى: أنّه لم يُعهد من أحد النقاش في التخيير العقليّ وإنكاره، وإنّما القسم المتنازع فيه هو التخيير الشرعيّ.

أقول مضافاً إلى هذا: إنّ تعلّق الأمر بالفرد بمعنى الجزئيّ الحقيقيّ غير معقول؛ إذ المفهوم لا يصبح جزئيّاً حقيقيّاً إلاّ بالإشارة به إلى ما فرغ عن وجوده خارجاً، وتعلّق الأمر بذلك يكون طلباً للحاصل. أمّا مجرّد تقييد المفهوم بمفهوم آخر فلا يُخرجه عن الكلّيّة إلى الجزئيّة مهما زاد التقييد، وليست نتيجته إلاّ تضييق دائرة الجامع.

إذن فالتخيير العقليّ ممّا لابدّ منه ولا يتصوّر التخيير الشرعيّ بين الأفراد الجزئيّة. نعم، دائرة التخيير العقليّ قد تكون وسيعة واُخرى تكون ضيّقة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من ربط المسألة ببحث فلسفيّ، وهو: أنّه هل الوجود يعرض على الماهيّة في طول التشخّص، أو أنّ الوجود يعرض رأساً على الماهيّة، ومن شؤون الوجود وملازماته تشخّص الماهيّة؟ والثاني هو معنى وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج.

262

فإن فرض الثاني كان هذا أثره على الإرادة التكوينيّة أنّها تتعلّق بإيجاد الماهيّة.

وإن فرض الأوّل كان أثره على الإرادة التكوينيّة أنّها تتعلّق بإيجاد الأفراد؛ وذلك لأنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق لا محالة بإيجاد ما يوجَد خارجاً، فإن كان هو ذات الماهيّة فالإرادة تتعلّق بإيجادها، وإن كان هو الماهيّة المشخّصة فالإرادة تتعلّق بإيجاد الماهيّة المشخّصة.

وتعيين متعلّق الإرادة التكوينيّة يؤثّر في تعيين متعلّق الإرادة التشريعيّة؛ حيث إنّ الإرادة التشريعيّة علّة للإرادة التكوينيّة ولتحريك العبد، فلو كان العبد تحرُّكه وإرادته التكوينيّة نحو الماهيّة فالإرادة التشريعيّة أيضاً تتعلّق بالماهيّة والطبيعة. ولو كان نحو الماهيّة المتشخّصة فالإرادة التشريعيّة أيضاً تتعلّق بالماهيّة المشخّصة. والأوّل هو معنى تعلّق الأمر بالطبائع، والثاني هو معنى تعلّق الأمر بالأفراد.

وذكر(رحمه الله): أنّ ثمرة البحث تظهر في باب اجتماع الأمر والنهي بعنوانين، فبناءً على تعلّق الإرادة بالماهيّة المشخّصة لا يمكن اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ العنوانين ـ حتّى إذا فُرض تغايرهما ـ لا إشكال في أنّ كلّ واحد منهما من مشخّصات الآخر، فيتّحد متعلّق الأمر والنهي، وهذا بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الإرادة بمطلق الطبيعة، فيجوز حينئذ اجتماع الأمر والنهي.

أقول: إنّ في هذا الكلام مواقع للنظر أذكر أحدها، وهو: أنّ الإرادة التشريعيّة وإن كانت هي العلّة للإرادة التكوينيّة، إلاّ أنّه لو فُرض تعلّق الإرادة التكوينيّة بالماهيّة المشخّصة، فهذا لا يعيّن كون الإرادة التشريعيّة متعلّقة بها؛ فإنّ غاية الأمر أنّ الإرادة التشريعيّة ـ التي يكون المفروض فيها أن تكون محرّكة للإرادة التكوينيّة للعبد ـ لابدّ أن تتعلّق بما يكون داخلا في متعلّق الإرادة التكوينيّة ولو ضمناً، لكي لا يلزم التكليف بما لا يمكن التحرّك نحوه.

263

الوجه الثالث: ربط المطلب بوجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج وعدمه، فعلى الأوّل يتعلّق الأمر بالطبيعة، أمّا على الثاني فلا يُعقل تعلّقه بالطبيعة، فيصرف إلى الفرد؛ إذ لو تعلّق بالطبيعة لكان تكليفاً بما لا يمكن إيجاده في الخارج.

إلاّ أنّه يرد على هذا الكلام: أنّ النزاع في وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج وعدمه إنّما هو نزاع فيما هو الموجود بالذات، لا في مطلق الوجود ولو بالعرض والانتزاع، ولا إشكال في أنّ الكلّيّ الطبيعيّ له حظّ من الوجود في الخارج ولو بمعنى كونه منتزعاً من الخارج، وهذا المقدار يكفي لإمكان تعلّق التكليف به؛ فإنّ العبد يقدر على إيجاد العنوان الانتزاعيّ بإيجاد منشأ انتزاعه.

بل لا يُعقل تعلّق الأمر بالفرد الشخصيّ؛ لما مضى من أنّ المفهوم لا يصبح جزئيّاً شخصيّاً إلاّ بالإشارة إلى ما فرغ عن وجوده خارجاً، ومعه يصبح الأمر طلباً للحاصل.

الوجه الرابع: ما يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي: أنّ المشخّص الحقيقيّ للماهيّة هو الوجود، وهو يسبق المشخّصات العرضيّة والضمائم الخارجيّة، من قبيل الطول والعرض واللون والحجم والتكوّن في مكان معيّن أو زمان معيّن ونحو ذلك، إلاّ أنّ المشخّص عرفاً ومسامحة هو هذه الضمائم العرضيّة التي هي في الحقيقة ليست إلاّ مصاديق لماهيّات اُخرى. فحينما يُسئل أحدٌ: مَن هو زيد؟ يستعين بهذه المشخّصات لتعيينها ويضمّها إلى الوجود المحور لهذه المشخّصات، فيتكوّن بذلك ما نُطلق عليه اسم الفرد، ونُطلق على ذات ذاك الوجود اسم الحصّة. فالفرد عبارة عن ذاك الوجود المنضمّ إليه تلك المشخّصات العرفيّة، والحصّة عبارة عن ذات ذاك الوجود المتشخّص بالذات بغضّ النظر عن كلّ هذه الضمائم.

إذا عرفت ذلك فنقول:

يمكن أن يكون المقصود من مبحث تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد: أنّ الأمر

264

هل يسري بحسب جعله أو بحسب التطبيق إلى الأفراد، أي: إلى هذه الوجودات بما معها من ضمائم، أو لا؟

فمعنى تعلّق الأمر بالأفراد هو السريان والتوسّع في دائرة التطبيق بلحاظ هذه الضمائم، أو السريان والتوسّع بلحاظها بحسب عالم الجعل، أو ـ على الأقلّ ـ بحسب عالم الحبّ، فلن يقف الحبّ على ذات الصلاة، بل يسري إلى تلك الضمائم بجوامعها، أي: أن تكون الصلاة في مكان مّا أو زمان مّا ونحو ذلك؛ لاحتياج الصلاة إليها. ولئن كان لا يُعقل السريان بحسب التكليف ـ باعتبار قهريّة هذه المشخّصات وحتميّة وقوعها ـ فلا أقلّ من السريان بحسب روح التكليف وهو الحبّ.

وفي مقابل ذلك: القول بتعلّق الأمر بالطبيعة، أي: أنّه لا يسري إلى تلك الضمائم لا بحسب الجعل ولو بروحه، ولا بحسب التطبيق. أمّا الأوّل فلأنّ الجعل تابع لملاكه، والملاك إنّما هو في ذات الطبيعة ولو فُرضت لا في زمان أو مكان، ومجرّد الملازمة لا يوجب سريان الحبّ إلاّ بناءً على وحدة المتلازمين في الحكم. وأمّا الثاني فلأنّ مطبق الماهيّة إنّما هو الحصّة، وأمّا العوارض فكلّ واحد منها مطبق لماهيّة اُخرى لا لهذه الماهيّة، فلا معنى لسريان الأمر إليها بالتطبيق.

والأثر العمليّ لذلك هو: أنّه لو قلنا: إنّ الحرام هو الكون في المكان المغصوب، وقلنا: إنّ هذا الكون من العوارض لماهيّة الصلاة، فبناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة لا بأس باجتماع الأمر والنهي، ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدّين على مصبّ واحد. أمّا بناءً على تعلّقه بالفرد فالكون في المكان صار مصداقاً للواجب أو للمحبوب على الأقلّ، فيلزم الاجتماع الباطل.

وقد اتّضح من خلال البيان أنّ الحقّ هو تعلّق الأمر بالطبائع.

265

الأوامر

الفصل الثامن

 

بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب وعدمه

 

 

○   مقتضى دليلي الناسخ والمنسوخ.

○   مقتضى الأصل العمليّ في المسألة.

 

 

267

 

 

 

 

 

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟

والكلام يقع في ذلك في مقامين: أحدهما فيما يقتضيه دليل الناسخ والمنسوخ. والثاني فيما هو مقتضى الأصل العمليّ لو لم يدلّ الدليلان على شيء:

 

مقتضى دليلي الناسخ والمنسوخ:

أمّا المقام الأوّل: فلا دلالة لدليل الناسخ بشكل عامّ على الجواز. نعم، قد يدلّ على ذلك صدفةً حينما يكون بلسان خاصّ كما لو كان بلسان التخفيف، وليس بنحو الضابط الكلّيّ.

وأمّا دليل المنسوخ فكأنّهم لم يستشكلوا في أنّه أيضاً لا يمكن أن يستفاد منه بقاء الجواز، وقالوا في تقريب ذلك: إنّ ما هو مفاد الدليل هو الوجوب وقد بطل، وما هو محتمل الثبوت فعلا وهو الجواز بالمعنى الأخصّ ـ مثلا ـ لم يكن مفاداً له.

ولكن التحقيق هو: التفصيل بحسب المباني والتقادير، فعلى بعضها يمكن استفادة ذلك. وتوضيح ذلك ببيان تقريبات استفادة بقاء الجواز مع الإشارة إلى مباني ذلك:

التقريب الأوّل: مبنيّ على عدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقال: إنّ الدليل كان يدلّ بالمطابقة على وجوب الصدقة ـ مثلا ـ في كلّ زمان، وبالالتزام على نفي حرمتها في كلّ زمان. والدلالة المطابقيّة سقطت عن الحجّيّة

268

بالنسخ، لكنّ الالتزاميّة تبقى حجّة بناءً على ما ذهب إليه المشهور ومدرسة صاحب الكفاية من عدم التبعيّة.

وقد يخطر على البال إشكالٌ على ذلك، وهو: أنّ دليل وجوب الصدقة كما كان يدلّ بالالتزام على عدم الحرمة، كذلك كان يدلّ بالالتزام على عدم الاستحباب، وعلى عدم الكراهة، وعلى عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ، وبعد نسخ الوجوب نعلم بانتقاض أحد الأعدام، فيقع التعارض بين الدلالات الالتزاميّة الأربع.

ويمكن الجواب على ذلك: بأنّ الإباحة بالمعنى الأخصّ ليست في الحقيقة إلاّ مجموع سلوب الأحكام الاقتضائيّة الأربعة، وليست أمراً وجوديّاً في مقابل تلك السلوب، فنفي الإباحة معناه نقيض مجموع هذه السلوب وهو إثبات واحد منها. ودليل الوجوب بالمطابقة يدلّ على ذلك؛ فإنّه يدلّ على الوجوب الذي هو واحد منها. وبتعبير آخر: أنّ الإباحة بالمعنى الأخصّ معنى مركّب من أربعة أعدام، ثلاثة منها لا ينفيها دليل الوجوب بل يثبتها، فلا يبقى إلاّ عدمٌ واحد وهو عدم الوجوب، وقد نفاه بالمطابقة لا بالالتزام، وقد سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة.

والمقصود: أنّه لا علم إجماليّ لنا ـ عند نسخ الوجوب ـ بجعل المولى لحكم وجوديٍّ مردّد بين الأحكام الأربعة؛ إذ من المحتمل أنّه اكتفى بعدم جعل حكم اقتضائيّ الذي نتيجته نتيجة جعل حكم وجوديّ باسم الإباحة، فإنّ المهمّ إنّما هو عدم جعل حكم اقتضائيّ من دون فرق بين جعل حكم وجوديّ وعدمه. فإذا رجعت الإباحة بالمعنى الأخصّ إلى مجموع أعدام الأحكام الاقتضائيّة الأربعة أمكن إثبات ذلك بمجموع دليل الناسخ ودليل المنسوخ؛ لأنّ ثلاثةً من هذه الأعدام قد ثبتت بالدلالة الالتزاميّة للمنسوخ، وهي عدم الحرمة وعدم الاستحباب وعدم الإباحة، وواحداً منها قد ثبت بدليل الناسخ، وهو عدم الوجوب.

269

التقريب الثاني:مبنيّ على عدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقال بناءً على أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك: إنّ نسخ الوجوب إنّما هو نسخ لمجموع هذين الأمرين المنتج لتيقّن نسخ الأخصّ منهما وهو المنع عن الترك. أمّا نسخ طلب الفعل فغير معلوم، فنتمسّك بالدلالة التضمّنيّة لدليل المنسوخ لإثبات طلب الفعل. فهذا التقريب يثبت الجواز بالمعنى الأعمّ في ضمن الاستحباب، كما أنّ التقريب السابق كان يثبت الجواز بالمعنى الأعمّ في ضمن الإباحة.

ويمكن أن يُذكر أيضاً نفس التقريب بناءً على كون الفرق بين الوجوب والاستحباب هو الفارق في درجة الطلب، وذلك بناءً على تأتّي ما ذكرناه من عدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة في الدلالات التضمّنيّة التحليليّة أيضاً، فيقال: إنّ القدر المتيقّن من نسخ الوجوب هو نسخ المرتبة الشديدة من الطلب، فتبقى المرتبة الضعيفة من الطلب ثابتةً بالدلالة التضمّنيّة التحليليّة لدليل المنسوخ.

التقريب الثالث:مبنيّ على ما اشتهر في مدرسة المحقّق النائينيّ؛ من أنّ الوجوب والاستحباب إنّما هما من حكم العقل، وأمّا مفاد الأمر الوجوبيّ والأمر الاستحبابيّ فهو شيء واحد وهو طلب الفعل، فإن ضُمّ الطلب إلى عدم الترخيص في الخلاف حكم العقل بالوجوب، وإن ضُمّ إلى الترخيص بالخلاف حكم العقل بالاستحباب.

وبالرغم من أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ وغيرهما من بعض الأصحاب ذهبوا إلى هذا المبنى، لا أدري لماذا لم يلتفتوا إلى أنّه مبنيّاً عليه يمكن أن يقال بدلالة دليل المنسوخ على ثبوت الجواز بالمعنى الأعمّ في ضمن الاستحباب، ولا حاجة في ذلك إلى القول بعدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة أو التضمّنيّة للمطابقيّة، فإنّه يمكن التمسّك على هذا المبنى بنفس الدلالة المطابقيّة للأمر؛ إذ الأمر لم يدلّ على أزيد من الطلب، والنسخ إنّما تعلّق بالوجوب، ومعنى ذلك نسخ المجموع المركّب من الطلب وعدم الترخيص، والمتيقّن منه هو نسخ عدم

270

الترخيص، أي: إثبات الترخيص في الخلاف، فالعقل إلى الآن كان يحكم بالوجوب لضمّ الطلب إلى عدم الترخيص، أمّا الآن فيحكم بالاستحباب لضمّ الطلب الذي لا دليل على نسخه إلى الترخيص.

نعم، لو فرضنا أنّ دليل الناسخ كان ناظراً إلى شخص ذلك الأمر ونسخه لم يتمّ هذا التقريب، وكان هذا في الحقيقة نسخاً للطلب لا لخصوص الوجوب، وكان هذا عناية زائدة على ما يُفرض في عنوان المسألة.

إلاّ أنّ هذه التقريبات كلّها غير تامّة عندنا:

أمّا التقريب الأوّل فلعدم صحّة مبناه، وهو عدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة.

وأمّا التقريب الثاني فلأنّنا وإن كنّا نقول بعدم تبعيّة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة في الجملة، ولكنّنا لا نؤمن بتركّب الوجوب من طلب الفعل مع المنع من الترك. وأمّا على مبنى كون الفارق بين الوجوب والاستحباب هو الفارق في درجة الطلب فلا نؤمن بعدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة في الدلالات التحليليّة.

وأمّا التقريب الثالث فلأنّنا لا نؤمن بكون الوجوب والاستحباب حكماً للعقل منتزعاً من انضمام الطلب إلى الترخيص في الخلاف أو عدمه، بل نقول: إنّ الوجوب والاستحباب من مفاد نفس الأمر.

فقد تحصّل: أنّه بلحاظ دليل الناسخ ودليل المنسوخ لا دلالة على بقاء الجواز ما لم تفرض عناية زائدة على عنوان البحث، ككون لسان دليل الناسخ لسان التخفيف ونحو ذلك ممّا ليس لها ضابط عامّ وإنّما ترجع إلى ذوق الفقيه.

ثُمّ إنّه قد اتّضح ممّا ذكرناه حال الكلام المعروف في المقام، وهو بناء المسألة على أنّ الجنس أو ما بمثابة الجنس هل يبقى بعد زوال الفصل أو لا؟ فالجواز ـ مثلا ـ في المقام جنس والإلزام بالفعل فصل، فإذا قلنا: إنّه بانتفاء الفصل ينتفي

271

الجنس لم يبق لدليل المنسوخ دلالة على بقاء الجواز. وإذا قلنا: إنّ الجنس لا ينتفي بانتفاء الفصل دلّ دليل المنسوخ على بقاء الجواز.

وقد أورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ ثلاثة اعتراضات:

الاعتراض الأوّل: أنّ الوجوب ليس أمراً مجعولا شرعيّاً حتّى يُفرض أنّه نسخ بعضه وبقي بعضه، وإنّما هو حكم عقليّ منتزع من طلب الشيء مع عدم ورود الترخيص في الخلاف.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن بطلان المبنى وكون الوجوب مجعولا شرعيّاً ابتداءً ـ: أنّنا لئن سلّمنا كون الوجوب من حكم العقل وعدم كونه مجعولا ابتداءً فلا إشكال في كونه منتزعاً من مجموع أمرين راجعين إلى المولى وثابتين تحت يد المولى، أحدهما أمر وجوديّ وهو طلب الفعل، والثاني أمر عدميّ وهو عدم الترخيص في الخلاف.

ونسخ العنوان الانتزاعيّ يكون بنسخ منشأ انتزاعه، وكما يمكن نسخه بنسخ الطلب الذي هو أمر مجعول وجوديّ، كذلك يمكن نسخه بنسخ الأمر العدميّ وذلك بإيجاد الترخيص في الخلاف، والتعبير عن ذلك بنسخ الوجوب تعبير صحيح عقلا وعرفاً، ولذا لو قال المولى مثلا: قد نسخت وجوب صلاة الليل ولم أرفع يدي عن أصل مطلوبيّتها لم يكن كلاماً مستنكراً. إذن فقد يُدّعى أنّ دليل النسخ بما أنّه لم يدلّ على أكثر من نسخ عدم الترخيص في الخلاف فبالإمكان التمسّك بدليل المنسوخ لإثبات الجواز.

الاعتراض الثاني: أنّ الوجوب لو سلّمنا كونه أمراً مجعولا شرعاً فهو أمر اعتباريّ وليس أمراً حقيقيّاً، والأمر الاعتباريّ ـ أعني: المعتبر لا نفس الاعتبار الذي هو كيفٌ نفسانيّ مركّب لا محالة من جنس وفصل ـ من أبسط الأشياء، وليس مركّباً من جنس وفصل أو مادّة وصورة، فإنّه لا ماهيّة له لكي تتركّب عن ذلك بل هو أمرٌ وهميّ صرف.

272

والجواب: أنّ من يدّعي ابتناء المسألة على زوال الجنس بزوال فصله وعدمه يدّعي تركّب الوجوب من اعتبارين: اعتبار الطلب، واعتبار عدم الترخيص بالخلاف، لا كون الاعتبار الواحد مركّباً من طلب الفعل وعدم الترخيص في الخلاف حتّى يقال: إنّ الاعتباريّات من أبسط الاُمور. فالمدّعى في المقام أنّ أحد الاعتبارين قد زال حتماً وهو اعتبار عدم الترخيص في الخلاف، فيبقى مجالٌ للبحث عن أنّ الاعتبار الآخر باق أو لا؟

الاعتراض الثالث: أنّ مسألة انعدام الجنس بانعدام فصله وعدمه مسألة ثبوتيّة، ومسألتنا مسألة إثباتيّة، ولا ترتبط إحداهما بالاُخرى، أي: إنّه لو فُرض أنّ الجنس يمكن بقاؤه بعد زوال الفصل فهذا معناه إمكان بقاء الجواز في المقام، أمّا ثبوت بقائه ـ وهو المقصود من البحث هنا ـ فلم يُعلم، وليس إمكان البقاء دليلا على البقاء.

ويرد عليه: أنّ مَن يبني المسألة في المقام على زوال الجنس بزوال فصله وعدمه، مقصوده هو بناء المسألة على ذلك بعد الفراغ عن عدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقول: إنّ دليل الوجوب دلّ ضمناً على الجنس وهو الجواز، فإن كان الجنس ينتفي بانتفاء فصله فقد علمنا بانتفاء شخص ذلك الجواز، فلا معنى للتمسّك بالدلالة التضمّنيّة؛ للقطع بخلافها أيضاً. وإن كان الجنس لا ينتفي بذلك إذن نتمسّك بالدلالة التضمّنيّة لإثبات الجواز؛ لعدم تبعيّتها للمطابقيّة.

فتحصّل: أنّ كلّ هذه الاعتراضات الثلاثة غير وارد.

والصحيح: أنّ هذا الكلام المعروف يرجع بالتحليل إلى ما ذكرناه من التقريب الثاني الذي ذكرناه نحن خالياً عن إدراج مصطلحات الجنس والفصل التي أوجبت تشويش الموقف، وينبغي تكميله بذكر التقريب الأوّل والثالث ليُعرف أنّ التمسّك بدليل المنسوخ لإثبات الجواز: تارةً يكون بدلالته الالتزاميّة، واُخرى التضمّنيّة، وثالثةً المطابقيّة بالشرح الذي عرفت.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

273

 

مقتضى الأصل العمليّ في المسألة:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو مقتضى الأصل العمليّ في المسألة ـ: فمقتضى الأصل هو استصحاب الجواز بالمعنى الأعمّ.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بإيرادين(1):

الإيراد الأوّل: أنّ هذا من استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث؛ لأنّ الجواز في ضمن الوجوب قد ارتفع، والجواز في ضمن الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة بالمعنى الأخصّ غير معلوم الحدوث.

ويرد عليه: أنّه لو أردنا استصحاب الجواز بمعنى وجوديّ جامع بين الوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخصّ، أمكن الإيراد عليه بأنّه من الاستصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، إلاّ أنّه ـ بغضّ النظر عن عدم جامع وجوديّ من هذا القبيل بين الوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة ـ نقول: إنّ الفائدة المستهدفة من استصحاب الجواز بالمعنى الأعمّ ـ وهي التأمين ـ لا تتوقّف على استصحاب هذا الأمر الوجوديّ المفترض، بل يكفي فيها استصحاب عدم الحرمة، وعدم الحرمة أمرٌ عدميّ يقترن بأحد أضداد الحرمة، وهو واحد شخصيّ وليس


(1) بل ثلاثة إيرادات على ما يظهر من تقرير الفيّاض، والثالث هو: أنّ الجواز ليس حكماً موجوداً في ضمن الوجوب ـ على حدّ وجود الكلّيّ في ضمن فرده ـ كي يستصحب، وإنّما كلٌّ من الوجوب والجواز أمرٌ انتزاعيّ عقليّ ينتزع من اعتبار مباين لاعتبار آخر، وقد ارتفع اعتبار الوجوب، ولو سلّم كون الوجوب شرعيّاً فهو بسيط وليس مركّباً من الجواز والمنع من الترك، وتفسيره بذلك تفسيرٌ بما هو لازم له.

أقول: يكفي في الجواب على كلّ ذلك أنّ كلّ هذا لا يمنع عن استصحاب عدم الحرمة.