196

إلاّ أنّ في هذا المثال طريقاً للمناقشة؛ وذلك لأنّ النجاشيّ قال: (أخبرنا فلان عن فلان بكتبه) ولم يعطف على كتبه رواياته، فقد يبدي أحد احتمال كون المقصود أخبرنا بعناوين كتبه لا بواقع كتبه.

كما أنّ هذا الإشكال ـ إن تمّ ـ يأتي حتّى في تصحيح طرق الشيخ إذا كان طريقه في المشيخة ضعيفاً وفي الفهرست صحيحاً. فنقول: إن لم يعطف في الفهرست رواياته على كتبه جاءت فيه نفس هذه المناقشة(1). نعم، حينما تعطف الروايات على الكتب لا نحتمل أن يكون المراد عناوين الروايات؛ إذ لا معنى


ومن الكتب التي ذكرها الشيخ(رحمه الله) هوكتاب (الأصفياء)، إلاّ أنّ النجاشيّ ذكر ما نصّه: (ورأيت جماعة من شيوخنا يذكرون الكتاب المنسوب إلى عليّ بن الحسن بن فضّال المعروف بأصفياء أمير المؤمنين(عليه السلام)، ويقولون: إنّه موضوع عليه لا أصل له، والله أعلم، قالوا: وهذا الكتاب ألصق رواية إلى أبي العباس بن عقدة وابن الزبير، ولم نرَ أحداً ممّن روى عن هذين الرجلين يقول قرأته على الشيخ، غير أنّه يضاف إلى كلّ رجل منهما بالإجازة حسب). وهذا الكلام يعني أنّ هذا الكتاب لم يصل إذن إلى النجاشيّ عن طريقه الصحيح؛ لأنّ هذا الكتاب لم تعرف روايته عن غير ابن عقدة وابن الزبير. فأحمد بن محمّد بن سعيد ـ الذي روى عنه كتب ابن فضّال محمّد بن جعفر في آخرين ـ لم يروِ هذا الكتاب، ولو فرض أنّه رواه فروايته تعارض ما قاله جماعة من شيوخ النجاشيّ من أنّ هذا الكتاب موضوع على ابن فضّال. وعلى أيّة حال فحينما نرى الرواية أجنبيّة عن مسألة الأصفياء نطمئنّ ـ بحساب الاحتمالات ـ بأنّها مأخوذة من كتاب آخر غير كتاب الأصفياء.

(1) لا يبعد القول بأنّ التتبّع في فهرست الشيخ الطوسيّ يوجب استظهار أنّ هدفه في قوله: (أخبرني بكتبه فلان عن فلان) هو إعطاء السند للكتب لا مجرّد سرد أسماء الكتب.

197

للعناوين في قبال الواقع بالنسبة للروايات، فبقرينة وحدة السياق يكون ظاهر الكلام هو الإخبار عن واقع الكتب أيضاً.

وعلى أيّة حال، فهذا إشكال صغرويّ ـ إن تمّ ـ لم يضرّ بأصل الكبرى، فهذا الوجه من التعويض صحيح ولو في خصوص فرض عطف الروايات على الكتب.

الوجه الرابع: أوسع من الوجوه الماضية، وحاصله: أنّنا إذا وجدنا طريقاً ضعيفاً من الشيخ إلى أحمد بن محمّد بن عيسى مثلاً، ولكن طريق الصدوق(رحمه الله) إليه كان صحيحاً في المشيخة، نحكم بصحّة الحديث الذي يرويه الشيخ عن أحمد بن محمّد بن عيسى بذاك الطريق الضعيف، سواء كان الصدوق داخلاً في طريق الشيخ أو لا، وذلك باعتبار أنّ طريق الشيخ إلى الصدوق صحيح، فيتلفّق من طريق الشيخ إلى الصدوق والصدوق إلى أحمد بن محمّد بن عيسى طريق صحيح.

وهنا إشكال واضح، وهو أنّ الصدوق في المشيخة يذكر طرقه إلى الروايات التي رواها في من لا يحضره الفقيه، وهذه الرواية الضعيفة التي نريد تصحيحها غير موجودة في من لا يحضره الفقيه، وإلاّ لعملنا بها ابتداءً، وإنّما هي موجودة في كتاب التهذيب للشيخ الطوسيّ(رحمه الله)فكيف نعرف أنّ هذه الرواية الموجودة في كتاب التهذيب يرويها الصدوق أيضاً بذلك الطريق الصحيح؟

بل وحتّى لو كان الصدوق يصرّح في مشيخة الفقيه بأنّ هذه الطرق طرق إلى جميع كتب وروايات من يروي عنه كان هذا الإشكال أيضاً وارداً؛ لما عرفت من أنّ معنى هذا الكلام هو أنّ جميع الكتب والروايات الواصلة إليه يرويها بالسند الفلانيّ، ولا سبيل لنا لمعرفة أنّ هذا الحديث وصل إلى الصدوق(رحمه الله).

ولدفع هذا الإشكال لابدّ أنّ يتمسّك بما ذكره الشيخ الطوسيّ من الحوالة في آخر مشيخته في التهذيب والاستبصار على فهارس الشيوخ حيث قال في آخر مشيخته في التهذيب: (قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والاُصول،

198

ولتفصيل ذلك شرح يطول، هو مذكور في الفهارس المصنّفة في هذا الباب للشيوخ(رحمهم الله)، مَن أراده أخذه من هناك ـ إن شاء الله ـ وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة).

وقال في آخر مشيخته في الاستبصار: (قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والاُصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، هو مذكور في الفهارس للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء الله تعالى).

ومن هنا ظهر أنّ تماميّة الرجوع في مقام تصحيح سند خبر ذكره الشيخ إلى مشيخة الصدوق مبنيّة على دعوى أنّ المقصود من كلام الشيخ في آخر كتابيه ليس هو الحوالة على خصوص فهارس الشيوخ التي يذكر فيها طرقهم إلى أصحاب الكتب والاُصول بلحاظ كلّ ما وصل إليهم من كتبهم ورواياتهم، واستظهار أنّ كلامه(قدس سره)في كتابيه حوالة على القضيّة الخارجيّة من الفهارس الموجودة للشيوخ، ومن أجلى مصاديقها مشيخة الصدوق وإن كانت ـ بحسب مدلولها اللفظيّ ـ مشيخة لخصوص الروايات المذكورة في الفقيه، فإطلاق كلام الشيخ شامل لذلك، ويدلّ على أنّ نفس الطرق التي للصدوق إلى أصحاب هذه المصنّفات هي موجودة له أيضاً بالنسبة للروايات التي ذكرها في التهذيب، فإن لم يقطع بهذا الظهور لم يتمّ ذلك.

إن قلت: إنّ هذا الإطلاق معارض بقوله: (وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة) فإنّ ظاهره أنّه ذكر جميع طرقه في فهرسته، فالحديث الضعيف في مشيخته إن وجدنا سنداً صحيحاً له في فهرسته فلا حاجة إلى الرجوع إلى مشيخة الصدوق، وإلاّ فمقتضى إخباره بذكر جميع طرقه في فهرسته أنّ الطريق الموجود في مشيخة الصدوق غير الموجود في فهرست الشيخ لم يكن عند الشيخ.

قلت: أوّلاً: إنّ هذا الظهور لكلمة (مستوفى) غير معلوم، ولا يبعد أن يكون

199

المقصود أنّنا تعرّضنا لذلك مفصّلاً ـ ولو من باب ذكر جلّ المطلب ـ في فهرست الشيعة.

وثانياً: إنّه مع فرض تعارض الظهورين في كلامه في التهذيب وحصول الإجمال نرجع إلى ما مضى من كلامه في الاستبصار؛ لعدم اقترانه بمثل هذه الجملة التي أوجبت الإجمال، ولا يتخيّل أنّ هذا يفيد فقط بالنسبة للرواية الموجودة في الاستبصار ولا يفيدنا لروايات التهذيب؛ إذ لم يقل: (الطرق إلى أخبار هذا الكتاب) كي يرد هذا الإشكال، بل قال: (الطرق إلى هذه المصنّفات والاُصول)(1).

وثالثاً: إنّه ذكر الشيخ في فهرسته طريقه إلى الصدوق، وهذا كاف في رفع التهافت بين الظهورين، فإنّ ذلك ذكر إجماليّ لجميع طرق الصدوق الموجودة في مشيخته، وقد فرضنا أنّ طرق الصدوق في مشيخته في الحقيقة طرق له إلى جميع كتب الرواة المذكورين في فقيهه الواصلة إليه، لا إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه، وإن كان كلامه في مشيخته لا يدلّ ـ من باب الضيق في التعبير ـ على أزيد من كونها طرقاً إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه، وذلك بقرينة إطلاق كلام الشيخ في الحوالة على فهارس الشيوخ.

وعلى أيّة حال، ففي خصوص ما نحن فيه قد عرفت أنّنا لا نحتاج في مقام



(1) لو عرفنا أنّ الروايات المذكورة في التهذيب مأخوذة من نفس المصنّفات والاُصول التي اُخذ منها روايات الاستبصار لم يرد هذا الإشكال حتّى لو عبّر بــ(الطرق إلى أخبار هذا الكتاب)؛ لأنّ روايات الفقيه إنّما أخذها من المصنّفات والاُصول، وطرقه إليها هي طرقه إلى تلك المصنّفات والاُصول، ولو لم نعرف ذلك ورد الإشكال رغم تعبيره بــ(الطرق إلى هذه المصنّفات والاُصول).

200

تصحيح الخبر إلى أحمد بن محمّد بن عيسى إلى نظريّة التعويض أصلاً؛ لأنّ الحديث مأخوذ من نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى وسند صاحب الوسائل إلى النوادر الذي هو سند له إلى الشيخ، ومن الشيخ إلى النوادر تامّ في ذاته، فالإشكال من هذه الناحية منتف بقطع النظر عن نظريّة التعويض، كما عرفت أنّ انتفاء الإشكال من هذه الناحية ـ أعني: ناحية السند إلى أحمد بن محمّد بن عيسى ـ لا تفيدنا بعد ما تركّز الإشكال الأوّل، وهو الإشكال من ناحية رواية أحمد بن محمّد بن عيسى، عن إسماعيل الجعفيّ.

ولنرجع مرّةً اُخرى إلى حديث رفع التسعة المذكور في الخصال والتوحيد والفقيه الذي مضى ضعفه سنداً، فإنّه يمكن تصحيحه عن طريق نظريّة التعويض.

فنقول: قد عرفت أنّ سند الصدوق في الخصال في حديث رفع التسعة غير صحيح باعتبار أحمد بن محمّد بن يحيى، ولعلّ الشيخ الأعظم(رحمه الله)إنّما عبّر بسند صحيح في الخصال بناءً منه على صحّة أحمد بن محمّد بن يحيى كما هو المعروف بين جملة من الأكابر، وتعبير المتأخّرين بنفس هذا التعبير حتّى السيّد الاُستاذ الذي لا يقول بوثاقة أحمد بن محمّد بن يحيى لعلّه من باب المتابعة للشيخ الأعظم(قدس سره) من دون مراجعة الخصال.

وعلى أيّة حال، فنحن نبني على ضعف هذا السند باعتبار وجود أحمد بن محمّد بن يحيى فيه الذي لم يثبت توثيقه، إلاّ أنّنا مع هذا نقول باعتبار حديث رفع التسعة، وذلك بنظريّة التعويض ويمكن بيان ذلك بتقريبين:

التقريب الأوّل: يتوقّف على مقدّمات ثلاث:

المقدّمة الاُولى: أنّ الصدوق(رحمه الله) ذكر هذا الحديث في توحيده مسنداً بهذا الإسناد غير الصحيح، وهو أحمد بن محمّد بن يحيى قال: (حدّثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز) وذكره في الخصال مسنداً

201

بنفس هذا الإسناد أيضاً وإن وقع خطأً في نسخة الخصال المطبوعة، حيث إنّه جاء فيها بدلاً عن أحمد بن محمّد بن يحيى محمّد بن أحمد بن يحيى، مع أنّ وقوع محمّد بن أحمد بن يحيى هنا غير معقول، وذكر الحديث في الفقيه مرسلاً بعنوان قال أبو عبد الله(عليه السلام)، فيدّعى أنّ الظنّ الاطمئنانيّ قاض بأنّ نظره في هذا الحديث الذي ذكره بنحو الإرسال كان إلى السند المذكور في الخصال والتوحيد وحده، أو إليه وإلى سند آخر، ولا يحتمل عقلائيّاً أنّه كان نظره إلى سند آخر فحسب دون هذا السند؛ وذلك لأنّنا نعرف بقرينة ذكره لهذا السند في كتابيه، واقتصاره عليه فيهما أنّ هذا السند كان ملحوظاً له في نفسه بالنسبة لهذا الحديث، فعدم التفاته إليه في الفقيه وذكره فيه اعتماداً على سند آخر فحسب بعيد جدّاً، و هذا لا يتوقّف على إثبات كون الخصال والتوحيد مؤلّفين قبل الفقيه، حيث إنّ الظاهر أنّه أ لّف الفقيه في أواخر عمره، بل يتمّ حتّى لو فرض تأليفهما بعده، فإنّه أ لّف الفقيه بعنوان تسجيل فتاواه لصديقه الذي طلب منه ذلك، وبعد أن أكمل تحصيله للروايات وصار فقيهاً وكاملاً، بل في أواخر حياته خصوصاً أنّ الصدوق قد أكمل ذلك في شبابه وفي أوائل عمره دون أواخر عمره، باعتبار ما كان يمتلكه من النبوغ.

المقدّمة الثانية: أنّه بعد أن ثبت نظر الصدوق في الفقيه إلى السند المذكور في الخصال والتوحيد يدّعى الاطمئنان بأنّه كان نظره إلى كتاب من كتب هؤلاء؛ لأنّه التزم في أوّل الفقيه بأنّ روايات هذا الكتاب مأخوذة من المصنّفات والكتب المشهورة التي عليها المعوّل، وقد روى هذا الحديث في التوحيد والخصال عن كتاب يعقوب بن يزيد حيث قال: أحمد بن محمّد بن يحيى قال: (حدّثنا سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد....) والطريقة العامّة للصدوق في التوحيد والخصال ـ على ما تتبّعناه ـ هي أنّه يكرّر حدّثنا مادامت الرواية مأخوذة بالشفاهة حتّى إذا وصل إلى الكتاب يبدّل كلمة (حدّثنا) بكلمة (عن)، فيظهر أنّ هذا الحديث موجود

202

في كتاب يعقوب بن يزيد، ولعلّه موجود أيضاً في كتاب سعد بن عبد الله، أو حمّاد بن عيسى، أو حريز. أمّا أحمد بن محمّد بن يحيى فليس له كتاب. فقد ثبت بمجموع هاتين المقدّمتين أنّ هذا الحديث في الفقيه مأخوذ من كتاب يعقوب بن يزيد، أو حمّاد بن عيسى، أو حريز، وفي أكبر الظنّ هو مأخوذ من كتاب يعقوب بن يزيد؛ لما جاء في الخصال والتوحيد من كلمة (عن) في قوله: (عن يعقوب بن يزيد).

المقدّمة الثالثة: أنّه بعد فرض حصول الاطمئنان بأنّ الصدوق في الفقيه كان ناظراً إلى كتاب يعقوب، أو ـ على الأقلّ ـ حصول الاطمئنان بأنّه كان ناظراً إلى واحد ممّن وقع بعد أحمد بن محمّد بن يحيى نقول: إنّ الصدوق(قدس سره)ذكر في مشيخته لنفسه إلى كلّ واحد من هؤلاء الذين وقعوا في هذا السند بعد أحمد بن محمّد بن يحيى طريقاً صحيحاً، فنبدّل صدر ذلك السند الذي وقع الضعف في أوّله في الخصال والتوحيد بهذا السند بناءً على دعوى ظهور قوله: (ما رويته في الكتاب عن فلان فقد رويته بالسند الفلانيّ) في الإطلاق الشامل للحديث الذي لم ينسبه في الكتاب إلى فلان بل نقله عن الإمام ابتداءً، لكن بحسب السند المستتر للحديث كانت روايته عنه.

يبقى في المقام احتمال، وهو: أنّه لعلّ هذا الحديث لم يكن في الخصال والتوحيد مأخوذاً من كتاب من قِبل الصدوق مباشرةً، صحيح أنّ قوله: (أحمد بن محمّد بن يحيى قال: حدّثنا سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد) ظاهر في أنّ هذا الحديث موجود في كتاب يعقوب بن يزيد، لكن من المحتمل أنّ الصدوق بنفسه لم يرَ ذاك الكتاب. بل روى له شفهاً أحمد بن محمّد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن ذاك الكتاب، وفي الفقيه حينما كان ملتزماً بالنقل عن كتاب فقد روى حتماً هذا الحديث عن كتاب آخر غير كتاب يعقوب بن يزيد، ولا ندري ما هو الكتاب الذي أخذ هذا الحديث منه في الفقيه، ولا ندري ما هو سنده إليه.

203

وتتميم المطلب لدفع هذه الثغرة هو أن يقال: إنّه إن كان أخذه من كتاب آخر غير كتب هؤلاء فذلك ينبّهه عادةً إلى وجوده أيضاً في كتاب من كتب هؤلاء، فهو بالآخرة كان ناظراً حتماً إلى كتاب من كتبهم ومستنداً إليه في نقله، فيدخل في الأسانيد التي ذكرها لنفسه إليهم.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تكميل هذا التقريب، لكن فيه بعض نقاط الضعف، من قبيل ما ذكر في المقدّمة الثالثة من دعوى ظهور قوله: (ما رويته في الكتاب عن فلان) في شموله بالإطلاق للحديث الذي أرسله إلى الإمام ولم يكن قد نسبه في الكتاب إلى ذاك الشخص، فإنّ هذا الظهور غير مسلّم عندنا(1).


(1) ومن نقاط الضعف أيضاً أنّنا لو احتملنا أنّ الصدوق لم يكن قد رأى كتاب يعقوب بن يزيد وأنّه أخذ الحديث في الفقيه من كتاب آخر، فدعوى الاطمئنان بنظره واستناده في الفقيه إلى نفس السند المذكور في الخصال والتوحيد بالمعنى الذي يدخله في إطلاق (أخبرني بكتبه ورواياته فلان عن فلان) ممنوعة، فلعلّه إنّما نقل في الفقيه عن غير هذا السند ولم ينظر إلى هذا السند؛ لأنّه التزم على نفسه بأن يأخذ الأحاديث من الكتب، وكان سنده إلى الكتاب الذي أخذ منه هذا الحديث غير السند الذي ذكره في الخصال والتوحيد، وما رواه في الخصال والتوحيد لم يكن قد أخذه من كتاب، إلاّ أنّ هذه النقطة لا تضرّنا؛ لأنّ أصل احتمال أنّ الصدوق لم يكن أخذ الحديث في الخصال والتوحيد من كتاب يعقوب بن يزيد، بل أخذه شفهاً من أحمد بن محمّد بن يحيى ليس احتمالاً عقلائيّاً، فإنّ أحمد بن محمّد بن يحيى إنّما هو شيخ إجازة الكتب وشأنه رواية الكتب، ويأخذ الصدوق منه عادةً إجازة نقل الكتب، لا أنّه يأخذ منه رواية يرويها شفهاً عن شخص، أو عن كتاب.

وهناك نقطة ضعف اُخرى، وهي أنّ المتن الوارد في الفقيه يختلف شيئاً ما عن المتن

204

والإنصاف: أنّ هذا التقريب لا يمكن الاعتماد عليه.

التقريب الثاني: وهو التقريب المتين الذي ينبغي الاعتماد عليه، هو أنّ أحمد بن محمّد بن يحيى قد نقل هذا الحديث عن سعد بن عبد الله. وللشيخ الطوسيّ طريق


الوارد في الخصال والتوحيد. وهذا يؤيّد احتمال كون النظر في الفقيه إلى نقل آخر غير النقل الوارد في الخصال والتوحيد، ومتن الخصال والتوحيد قد مضى فيما سبق. وأمّا المتن الوارد في الفقيه فكما يلي:

قال أبو عبد الله(عليه السلام): قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «وضع عن اُمّتي تسعة أشياء: السهو، والخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، والطيرة، والحسد، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة»(1).

هذا. ولو قبلنا بما مضى من دعوى أنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) حينما أرجع في مشيخة التهذيب والاستبصار إلى فهارس الأصحاب قصد بذلك ما يشمل مشيخة الفقيه، وأنّ هذا يعني أنّ مشيخة الفقيه مشيخة لكلّ ما وصل الصدوق من كتب وروايات اُولئك الذين ذكرهم في المشيخة، إذن لسنا بحاجة هنا إلى فرض حديث الرفع في الفقيه، بل نقول: إنّ حديث الرفع ورد في التوحيد والخصال بسند ضعيف مثلاً عن كتاب يعقوب بن يزيد، فكتاب يعقوب بن يزيد الذي فيه هذا الحديث واصل إلى الصدوق، فهو مشمول للسند التامّ الذي ذكره في مشيخة الفقيه إلى يعقوب بن يزيد، وهذا كاف لتماميّة سند حديث الرفع، إلاّ أنّ هذا الاستظهار ـ أعني: استظهار كون إحالة الشيخ إلى الفهارس شاملاً لمشيخة الفقيه، وبالتالي كون تلك المشيخة مشيخة لجميع كتب اُولئك الواصلة للصدوق ـ غير واضح الصحّة.


(1) الوسائل، ج 4، ب 37 من قواطع الصلاة، ح 2، ص 1284.

205

صحيح إلى جميع كتب سعد بن عبد الله ورواياته، وقد مضى أنّ المقصود من ذلك جميع ما وصله من كتبه ورواياته، وهذا الحديث قد وصله؛ إذ الشيخ يروي كتاب الخصال والتوحيد عن الصدوق، وهذا الحديث موجود فيهما، فهذا وجه لتصحيح هذا الحديث خال عن التعقيد وفي غاية اللطافة.

بل يمكن تتميم المطلب حتّى لو فرض أنّ التوحيد والخصال لم يصلا إلى الشيخ؛ وذلك لأنّ الصدوق قد وقع في هذا الطريق الصحيح للشيخ إلى سعد بن عبد الله حيث يقول: أخبرني بجميع كتبه ورواياته عدّة من أصحابنا عن محمّد بن عليّ بن الحسين (يعني الصدوق) عن أبيه، ومحمّد بن الحسن عن سعد بن عبد الله عن رجاله، ثمّ يقول الشيخ(رحمه الله): قال محمّد بن عليّ بن الحسين: إلاّ كتاب المنتخبات، فإنّي لم أروها عن محمّد بن الحسن إلاّ أجزاء قرأتها عليه... بناءً على أن يستظهر بهذا الاستثناء في هذا السياق أنّ الصدوق قد قال: (أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان إلاّ كتاب المنتخبات)، ومعنى جميع كتبه ورواياته ـ كما عرفت ـ جميع ما وصلني من كتبه ورواياته، ولا شكّ في أنّ هذا الحديث قد وصل الصدوق؛ لذكره في توحيده وخصاله، فهو مشمول لهذا الكلام(1).

 


(1) يبدو لي أنّ هذا الوجه وحده لا يتمّ؛ لأنّ الظاهر أنّ المقصود بكلمة (رواياته) في (أخبرني بكتبه ورواياته) هي الكتب التي يرويها بلا واسطة أو بالواسطة، لا الروايات الشفهيّة التي يصعب عادةً إضافتها إلى سند موحّد، ولذا ترى أنّ عطف الروايات على الكتب لم يرد في فهرست الشيخ، إلاّ بالنسبة للرواة المتأخّرين الذين يعتبرون مشايخ إجازة للكتب من قبيل أحمد بن محمّد بن عيسى، ومن في طبقته، ومن يقع في الطبقات التي تأتي بعد تلك الطبقة. أمّا بالنسبة للرواة المتقدّمين كزرارة وأضرابه ممّن كانوا رواة

206

وقد تحصّلت من تمام ما ذكرناه تماميّة حديث رفع التسعة سنداً ودلالة.

 

3 ـ حديث السعة:

ومنها: حديث «الناس في سعة ما لا يعلمون».

ودلالة هذا الحديث على البراءة المساوقة للبراءة العقليّة واضحة لا تحتاج إلى كلام، وإنّما الإشكال في تقريب دلالته على البراءة بالنحو الذي يعارض دليل


ولم يكونوا مشايخ إجازة للكتب فهو لا يذكر سنداً موحّداً إلاّ إلى كتبه لا إلى رواياته. ومن هنا نقول: إنّ نظريّة التعويض إنّما تفيدنا حينما يكون الضعف بيننا وبين صاحب الكتاب، ونجد سنداً تامّاً إلى من يقع بين الضعف وصاحب الكتاب، أو إلى صاحب الكتاب مباشرة، ولا تفيدنا حينما يكون الضعف بين صاحب الكتاب والإمام(عليه السلام). وفيما نحن فيه لو لم يثبت أنّ الحديث مأخوذ من كتاب يعقوب بن يزيد أو سعد بن عبد الله مثلاً، واحتملنا أنّ الصدوق إنّما سمع الحديث شفهاً من أحمد بن محمّد بن يحيى عن سعد بن عبد الله، فالضعف المفروض في أحمد بن محمّد بن يحيى لا يمكن تداركه بفرض سند تامّ للصدوق إلى كتب وروايات سعد بن عبد الله. نعم، بناءً على ما مضى منّا من استظهار أنّ الصدوق لم يأخذ الحديث شفهاً عن أحمد بن محمّد بن يحيى الذي هو شيخ إجازة للكتب وليس راوياً لمتون الأحاديث شفهاً، فسند الصدوق التامّ إلى سعد بن عبد الله كاف في المقام لدفع الإشكال.

وأمّا وصول كتاب الخصال والتوحيد إلى الشيخ فلا ينفعنا في المقام أصلاً؛ لأنّ الشيخ وإن كان له سند تامّ إلى سعد بن عبد الله ولكن الضعف إنّما وقع بين صاحب كتاب الخصال والتوحيد والإمام، ولم يقع بيننا وبين صاحب الكتاب وقد قلنا: إنّ نظريّة التعويض إنّما تنفعنا حينما يكون الضعف بعد صاحب الكتاب لا بين صاحب الكتاب والإمام.

207

وجوب الاحتياط الذي يقيمه الأخباريّ.

والتقريب الساذج لذلك هو: أنّ المفروض أنّ الواقع غير معلوم، وقد جعلت السعة في هذا الحديث مغيّاة بعدم العلم، وإيجاب الاحتياط ليس إيصالاً للمشكوك وجداناً أو تعبداً، وإنّما هو تنجيز له، فهو مناف لا محالة لهذه السعة.

واعترض على ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كانت «ما» في الحديث موصولة؛ إذ يكون ظاهر المعنى عندئذ أنّ الناس في سعة من ذلك الشيء الذي لا يعلمونه، ولكن من المحتمل كونها مصدريّة زمانيّة، ويكون الحديث ـ على التقدير ـ في قوّة أن يقال: الناس في سعة ماداموا لا يعلمون، ومقتضى إطلاقه هو عدم العلم لا بنفس التكليف ولا بإيجاب الاحتياط في قباله.

وأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّ لفظة «ما» في الحديث ظاهرة في إرادة المعنى الموصوليّ، وذلك بنكتة ندرة دخول (ما) المصدريّة الزمانيّة على الفعل المضارع، وإنّما يتعارف دخولها على الماضي، كأن يقال: (ما لم يعلموا)، أو (ماداموا لا يعلمون)(1).

ويرد عليه: أنّه على تقدير كون «ما» موصولة تقرأ كلمة «سعة» مضافة وبلا تنوين، بخلافها على تقدير كونها ظرفيّة زمانيّة. فالتنوين قرينة متصّلة على الظرفيّة الزمانيّة، فاحتماله مساوق لاحتمال القرينة المتصّلة، كما أنّ احتمال الظرفيّة الزمانيّة مساوق لاحتمال التنوين، فيكون احتمال الظرفيّة الزمانيّة مساوقاً لاحتمال القرينة المتّصلة عليها. فلا يمكن دفع هذا الاحتمال بالظهور؛ إذ الجزم بالظهور فرع القطع بعدم القرينة المتّصلة، وفي سائر الموارد إنّما ندفع احتمال القرينة المتّصلة بشهادة الراوي؛ لأنّ سكوته عن ذكرها في مقام الذكر



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 278.

208

يعتبر شهادة على العدم، لكن هنا لا ندري أنّ الراوي هل كان يقرأ بلا تنوين أو مع التنوين، وعدم التنوين في الكتب ليس شهادة على العدم؛ إذ لم يكن من المتعارف كتب التنوين بنحو يعدّ عدمه شهادة على العدم، بل لعلّه هكذا الأمر في زماننا أيضاً في غير ما أُريد ضبط حركاته. فتحصّل أنّ هذا الجواب عن الإشكال غير مقبول(1).

نعم، أصل الإشكال أيضاً غير مقبول، فإنّ استظهار البراءة من الحديث وعدمه لا يدور مدار كون «ما» موصولة أو مصدريّة زمانيّة، بل يدور مدار كون إضافة السعة إضافة لها إلى ما يكون مورداً للسعة والضيق وبمعنى نفي مورديّته للضيق وثبوت السعة في ذاك المورد، أو إضافة إلى ما يترقّب أن يكون سبباً للضيق وبمعنى نفي سببيّته للضيق.

توضيح ذلك: أنّنا لو فرضنا «ما» موصولة فإضافة السعة إليها إن كانت إضافة مورديّة، أي: من باب إضافته إلى ما يكون مورداً للسعة أو الضيق كان معنى الحديث: أنّ الإنسان لا يكون في ضيق في مورد ما لا يعلم، وهذا ينافي دليل إيجاب الاحتياط، فإنّ دليل إيجاب الاحتياط يثبت الضيق في مورد الحكم غير المعلوم وينفي السعة، وإن كانت إضافة إلى ما يترقّب كونه سبباً للضيق وبهدف نفي سببيّته للضيق كان معنى الحديث: أنّ الإنسان لا يكون في ضيق بسبب ما لا يعلم، وهذا لا ينافي دليل إيجاب الاحتياط؛ لأنّ سبب الضيق هو إيجاب الاحتياط،



(1) نعم، بالإمكان إنكار صحّة دخول (ما) المصدريّة على المضارع على ما يبدو من موارد استعمالها، وعندئذ يكون هذا دليلاً على حمل ما في المقام على الموصول من دون ورود إشكال احتمال القرينة المتّصلة، ويحتمل من عبارة مصباح الاُصول كون هذا أيضاً مقصوداً للسيّد الخوئيّ(رحمه الله) فراجع.

209

وهو معلوم ولم يكن الواقع المجهول بنفسه سبباً كافياً للضيق.

ولو فرضنا «ما» مصدريّة زمانيّة فالسعة عندئذ وإن لم تكن مضافة في اللفظ، لكن من الواضح أنّ السعة لابدّ أن تكون متعلّقة بشيء، فهي مضافة إلى شيء في التقدير، فكأنّه قال: (الناس في سعة من الشيء ماداموا لا يعلمون) وظاهر السياق كون متعلّق عدم العلم هو نفس ما تضاف إليه السعة، وعندئذ يأتي هنا نفس التفصيل الذي شرحناه في فرض كون «ما» موصولة. فإن فرضت إضافة السعة إلى الشيء إضافة مورديّة بمعنى أنّ الناس ليسوا في ضيق في مورد شيء ماداموا لا يعلمونه فهذا ينافي دليل إيجاب الاحتياط المثبت للضيق في ذاك المورد. وإن فرضت إضافة السعة إلى شيء بمعنى نفي سببيّته للضيق لم ينافِ الحديث دليل إيجاب الاحتياط؛ لأنّ ذاك الدليل إنّما يجعل إيجاب الاحتياط سبباً للضيق، وهذا لا ينافي فرض عدم كون الشيء الذي لا يعلمونه سبباً كافياً للضيق.

إذن فالمقياس في معارضة الحديث لدليل الاحتياط ليس هو كون «ما» موصولة أو مصدريّة زمانيّة، وإنّما المقياس هو كون الإضافة مورديّة أو سببيّة بالمعنى الذي عرفت، والظاهر منها كونها مورديّة لا سببيّة.

ثمّ إنّ هذا الحديث ـ بناءً على تماميّة دلالته ـ حاله حال حديث الرفع في شموله للشبهة الموضوعيّة وللشبهة الحكميّة بجميع أقسامها. فإن بيّن الأخباريّ حديثاً يدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة، أو بعض أقسامها لم يمكن للاُصوليّ دفعه بالمعارضة بهذا الحديث، أو حديث الرفع؛ لأنّ دليل الاحتياط عندئذ يتقدّم عليهما بالأخصّيّة. نعم، لو وجد الاُصوليّ حديثاً دالّاً على البراءة في خصوص مورد حديث الاحتياط فتعارضا وتساقطا أفادنا حديث الرفع، أو حديث «الناس في سعة ما لا يعلمون» كعامّ فوقانيّ نرجع إليه وتثبت بذلك البراءة. هذا تمام الكلام في دلالة هذا الحديث.

210

وأمّا سنده فالظاهر أنّه غير موجود في الكتب المعتبرة بهذه الصياغة، ومن المحتمل أن يكون هذا الحديث مأخوذاً من ذيل آخر حديث رواه في الوسائل(1)في كتاب اللقطة، وهو كما يلي:

محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن»، فقيل: يا أميرالمؤمنين، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ، فقال: «هم في سعة حتّى يعلموا». والظاهر أنّ الجهة المنظورة للسائل حينما يقول: لعلّه مجوسيّ هي النجاسة، أو لعلّه ينظر إلى تصوّر أنّ طعام المجوسيّ في نفسه فيه محذور شديد أو غير شديد مثلاً، وكأنّ أحداً من العلماء نقل حديث (الناس في سعة ما لا يعلمون) ناظراً إلى ذيل هذا الحديث من باب النقل بالمعنى أو نحو ذلك، ثمّ تبعه الآخرون من دون مراجعة المصدر، وأنت ترى أنّ ذيل هذا الحديث إنّما ورد في الشبهة الموضوعيّة ولا يمكن التعدّي، أو نقول باختصاصه بخصوص الجهة الملحوظة للسائل، وهي الطهارة أو النجاسة مثلاً(2).

 


(1) ج 17، ب 23 من اللقطة، ص 372.

(2) وقد روي الحديث في مستدرك الوسائل، ج 3، ب 14 من اللقطة، ص 153و154 عن الجعفريّات، وفيه بدلاً عن (السكّين) (السكّر)، ولعلّه أصّح، والنصّ ما يلي: (الجعفريّات أخبرنا محمّد، حدّثني موسى، حدّثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ عليّاً(عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها

211

 

4 ـ حديث الحجب:

ومنها: ما رواه في الكافي بسند صحيح من قوله(عليه السلام): «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1). ورواه الصدوق في التوحيد، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريّا بن يحيى، عن الصادق(عليه السلام). ولا يخفى أنّ أحمد بن محمّد بن يحيى لا يمكن أن يروي عن أحمد بن محمّد بن عيسى، والظاهر أنّه قد سقط في الطبع اسم أبيه(2)، وهو وارد في الكافي، حيث روى الكلينيّ(رحمه الله)في


وجبنها وبيضها وفيها سكّر فقال عليّ(عليه السلام): «يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس لما فيها بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن» فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا نعلم سفرة ذمّيّ ولا سفرة مجوسيّ، قال: «هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا حتّى يعلموا». ورواه في دعائم الاسلام عنه(عليه السلام) مثله.

(1) الكافي، ج 1، كتاب التوحيد باب حجج الله على خلقه، ح 3، ص 164.

(2) لا يوجد عندي كتاب التوحيد كي اُراجعه، ولكن ما نقله صاحب الوسائل عن التوحيد ـ على ما في الطبعة الجديدة ـ جاء فيه: الصدوق عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى.... راجع ج 18، ب 12 من صفات القاضي، وح 28، ص 119.

أمّا سند الحديث ففي أوّل السند في التوحيد يوجد أحمد بن محمّد بن يحيى، وهذا لا يضرّ بناءً على ما بنينا عليه من وثاقته، على أنّه غير موجود في الكافي؛ لأنّ الكلينيّ ينقل مباشرةً عن محمّد بن يحيى. وعلى أيّ حال فالذي يبدو لي أنّ تعبير اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)

212

الكافي هذا الحديث عن محمّد بن يحيى وذكر نفس السند.

والتقريب البدائيّ للاستدلال بهذا الحديث واضح، وهو أنّ التكليف غير المعلوم محجوب، فهو موضوع عن العباد بمدلول هذا الحديث، والوضع معناه نفي إيجاب الاحتياط، فيقع الحديث طرفاً للمعارضة مع ما يستدلّ به الأخباريّ على الاحتياط.

واعترض على ذلك الشيخ الأعظم(قدس سره) ومن تأخّر عنه من المحقّقين بأنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يكن الحجب مضافاً إلى الله ـ تعالى ـ بأن يقال: ما حُجب عن العباد فهو موضوع عنهم، ولكن بما أنّه اُضيف في هذا الحديث إليه ـ تعالى ـ يكون خارجاً عن محلّ الكلام؛ إذ ظاهر الحجب المضاف إليه ـ تعالى ـ هو الحجب في قبال ما يترقّب من البيان منه ـ تعالى ـ وهو عبارة عن إعلام وليّه بالحكم وأمره بالتبليغ، وأين هذا ممّا هو محلّ الكلام من احتمال اختفاء الحكم المبيّن علينا بالعوارض الخارجيّة؟!

 


عن هذا الحديث بالصحيح اعتماداً منه على نقل الكافي غير تامّ؛ لأنّ الراوي المباشر للإمام هو زكريّا بن يحيى مع تكنيته بأبي الحسن، ولو تمّ القول بانصرافه ـ لولا هذه التكنية ـ إلى زكريّا بن يحيى الواسطيّ أو التميميّ اللذين وثّقهما النجاشيّ وذكر عن كلّ واحد منهما أنّ له كتاباً، وذكر لنفسه سنداً إلى كتاب هذا وسنداً إلى كتاب ذاك فهذه التكنية لا تناسب هذا الانصراف؛ لأنّنا لا نعرف أنّ هذه كنية مَن، وفي كتب الرجال لم تذكر هذه الكنية لأيّ واحد من المسمّون بزكريّا بن يحيى، فلعلّها كنية لغيرهما، ولعلّه إنّما ذكرت له في سند هذا الحديث هذه الكنية تمييزاً له عن زكريّا بن يحيى الواسطيّ أو التميميّ. إذن فالظاهر أنّ الحديث غير تامّ سنداً.

213

وهذا الإشكال قد يدّعى التخلّص منه بوجوه:

الوجه الأوّل: أن يتمسّك أوّلاً بهذا الحديث في الشبهات التحريميّة المستجدّة، فيدفع به مثلاً احتمال حرمة التدخين، أو ركوب الطائرة، أو التلقيح الصناعيّ، فإنّنا نعرف من الذوق المستكشف من الأخبار الواصلة إلينا أنّه لم يكن المبنى على بيان الإمام للأحكام على موضوعات غريبة مستنكرة خارجة عن الحياة الاعتياديّة للسامعين وقتئذ، فلو فرض أنّ هذه الاُمور كانت حراماً في الواقع فهي حرمة محجوبة عن العباد من قِبل الله ـ تعالى ـ فترفع بهذا الحديث، ثمّ يتعدّى إلى سائر الشبهات بالقطع بعدم الفرق، أو الإجماع عليه.

وفيه: أنّ مثل هذا الحديث إنّما يرد بعد ملاحظة المولى لأغراضه الواقعيّة، فإذا رأى تماميّة ملاك الوضع في المحجوبات منها تكلّم بمثل هذا الكلام، فإن قطعنا بأنّ هناك غرضاً واصلاً إلى مرتبة الحكم وإنّما لم يبيّنه لعدم إمكان بيانه في ذلك الوقت بوجه عرفيّ، ومع هذا تكلّم بهذا الكلام عرفنا من ذلك أنّ ملاك الوضع في ذلك المحجوب هو عبارة عن ملاك البراءة، وأنّ المولى جعل البراءة في ذلك المورد وجاء دور التعدّي إلى سائر الموارد بعدم الفصل. وأمّا إذا احتملنا أنّ تلك الاُمور المستجدّة لا تكون مبغوضة عند المولى أصلاً، أو احتملنا أنّه كان من الممكن بيان المبغوض منها بعموم من العمومات مثلاً، كأن يبيّن مبغوضيّة كلّ ما يضرّ بالبدن الشامل للتدخين مثلاً، بحيث يصبح البيان عرفيّاً، فمن المحتمل عندئذ أن يصدر هذا الكلام من المولى من دون تماميّة ملاك لرفع حرام واقعيّ بالبراءة، لكون حجبه تعالى ـ بمعنى عدم بيانه لغرض من الأغراض ـ مساوقاً عندئذ لعدم ثبوت الحكم واقعاً على طبق ذاك الغرض، وحيث إنّ هذا الاحتمال موجود فلا يمكن التمسّك بهذا الحديث عن هذا الطريق.

الوجه الثاني: أن يتمسّك باستصحاب الحجب؛ إذ كلّ حكم من الأحكام يمرّ

214

عليه آن من الآنات يكون محجوباً، وهو قبل نزول الوحي أو قبل بيان الوليّ، فبالاستصحاب ننقّح موضوع هذا الحديث في كلّ تكليف مشكوك، فنتمسّك به لرفعه.

ويرد عليه: أنّ الظاهر أنّ المراد بالحجب عدم بيانه بالنحو المترقّب والمتعارف، فلو فرض أنّ الحكم قد تمّ جعله ولكن تأخّر بيانه ساعتين أو ثلاث حتّى يدخل النبيّ(صلى الله عليه وآله)المسجد ويبيّنه لأصحابه أو تأخّر وحيه شيئاً مّا، لا يقال: إنّ هذا الحكم حجب عن العباد. إذن فالحجب حدوثاً غير متيقّن حتّى يستصحب.

الوجه الثالث: أن نستصحب عدم ورود البيان من الشارع في مورد فقد النصّ، وعدم ورود قرينة رافعة للإجمال في مورد إجماله، أو عدم ورود قرينة على ترجيح الحقّ من المتعارضين في مورد تعارض النصّين، حيث لا فرق في صدق الحجب من قِبله ـ تعالى ـ بين المنع عن البيان رأساً، أو الأمر بالبيان المجمل أو المتعارض، فيثبت الحجب ونتمسّك بالحديث.

ويرد عليه: أنّ الحجب عنوان ثبوتيّ ملازم لعدم البيان، فالتمسّك باستصحاب عدمه تمسّك بالأصل المثبت.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّ الحجب المنسوب إلى الله ـ تعالى ـ وإن كان في قبال البيان المترقّب منه ولكن قد يفرض أنّ الحجب نسب إليه بما هو مولىً، وقد يفرض أنّه نسب إليه بما هو سيّد الكون وخالقه ومدبّره. فعلى الفرض الأوّل يكون الحجب في قبال البيان المترقّب منه بما هو مولىً، وهو عبارة عن الإيصال إلى الوليّ وأمره بتبليغه فيتمّ ما مضى من الإشكال. وأمّا على الفرض الثاني، فالحجب يكون في قبال البيان المترقّب منه بما هو سيّد الكون، ونسبة الحجب بهذا المعنى إليه صادقة حتّى إذا فرض كون عدم وصول الحكم بسبب طبيعيّ غير عدم بيان الشارع، وذلك من قبيل احتراق الكتاب أو غرقه صدفة ونحو ذلك ممّا يتّفق

215

بالأسباب التكوينيّة الطبيعيّة، كما ينسب نزول المطر ونحوه إليه ـ تعالى ـ مع أنّه ليس فعلاً مباشريّاً له، بل مترتّب بحسب النظام الطبيعيّ الذي وضع الله ـ تعالى ـ على أساسه العالم.

نعم، إذا كان الحجب مستنداً إلى إرادة الفاعل المختار العاصي لله ـ تعالى ـ كشخص طاغية أجبر الإمام على الاتّقاء مثلاً، فهو غير مستند إلى الله ـ تعالى ـ عرفاً، سواء صحّ إسناده إليه حقيقة كما هو مذهب الفلاسفة، أو لا كما هو الصحيح، لكنّنا نتعدّى إلى مثل هذا المورد بعدم الفرق.

والظاهر من الحديث هو إضافة الحجب إليه ـ تعالى ـ بما هو سيّد الكون، فإنّ كلمة (الله) إنّما تستبطن هذه الحيثيّة. أمّا ملاحظة حيثيّة المولويّة فهي جهة زائدة لا قرينة عليها في المقام، فنتمسّك بإطلاق الحجب لمحلّ الكلام.

نعم، في بعض الموارد نحمل الكلام ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ على كونه بعنوان المولويّة، فمثلاً لو ورد أمر من الشارع مردّد بين كونه صادراً بما هو مولىً، أو بما هو مرشد تمسّكنا بالظهور في المولويّة. وأمّا فيما نحن فيه فحيث إنّ مناسبات الحكم والموضوع لا تعيّن لحاظ المولويّة يتعيّن التمسّك بإطلاق الحجب.

وهذا الوجه هو أحسن الوجوه في المقام، وبناءً عليه لا يختصّ الحديث بالشبهات الحكميّة، بل يشمل الشبهات الموضوعيّة أيضاً.

ولكن المحقّق العراقيّ(رحمه الله) مع أنّه تمسّك بهذا الوجه في مقام دفع الإشكال(1)


(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 227. وراجع أيضاً المقالات، ج 2، ص 60، وفيه استبعد حمل الحجب على الحجب في مقام التكوين.

216


وللمحقّق العراقيّ(رحمه الله) وجهان آخران لحلّ الإشكال:

أحدهما: ما جاء في المقالات، ج 2، ص 60، حيث فرض فيه أنّ الحجب هنا وإن كان بمعنى عدم صدور البيان ولكن المقصود بالوضع ليس هو وضع الخطاب المحجوب بمعنى السكوت عنه، فإنّ السكوت عنه هو المفروض في موضوع هذا الحديث، فالمقصود بالوضع إنّما هو وضع إيجاب الاحتياط، وهذا هو معنى البراءة، والإشكال في المقام يكون عبارة عن أنّ هذه البراءة إنّما تثبت في مورد عدم صدور البيان، ولا يشمل النصّ فرض عدم وصول البيان إلينا مع صدوره في الواقع، ويكون حلّ الإشكال هو التمسّك بعدم القول بالفصل.

أقول: يرد عليه: أنّ ما لم يصدر أصلاً من المولى لا يحكم العقل بوجوب امتثاله حتّى مع العلم به صدفة، وهذا غير البراءة التي هي محلّ الكلام، ولا معنى لدعوى عدم الفصل في وجوب الاحتياط وعدمه بين مورد لم يكن يجب الامتثال حتّى مع العلم بالملاك لعدم صدور الخطاب، ومورد يحتمل صدور الخطاب وبيانه رغم عدم وصوله صدفة إلينا.

وثانيهما: ما جاء في نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، حيث اعترف فيه بالقطع بعدم فعليّة حكم لم يوحَ به إلى الرسول(صلى الله عليه وآله)، وأنّ مجرّد الأحكام الإنشائيّة البحتة لا يجب امتثالها، ولكنّه ذكر أنّ الحكم لو اُوحي إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)ولكنّ النبيّ لم يبلّغه إمّا لأنّه لم يكن مأموراً بالإبلاغ، أو لاقتضاء بعض المصالح الإخفاء، فهذا الحكم فعليّ بلا إشكال، فإنّ الذي ينافي فعليّة الإرادة إنّما هي نفي الفعليّة المطلقة لا الفعليّة ولو من جهة الخطاب. وحديث الحجب يشمل هذا النوع من عدم البيان؛ لأنّه مستند إلى الله ـ تعالى ـ الذي لم يأمر نبيّه بالإبلاغ، ويكون الإشكال عندئذ منحصراً في عدم شمول الحديث لمورد تمّ

217

ذكر: أنّ الحديث مختصّ بالشبهات الحكميّة بدعوى أنّ الحجب المضاف إلى الله تعالى ظاهر ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ في الحجب في مقام بيان الأحكام لا الحجب من حيث الاُمور الخارجيّة، فيختصّ بالشبهات التي يترقّب فيها صدور البيان من قِبله ـ تعالى ـ وهي خصوص الشبهات الحكميّة(1).

وهذا الكلام منه(قدس سره) خلف وتهافت؛ إذ لو فرضنا أنّ الحجب اُضيف إليه ـ تعالى ـ بما هو سيّد الكون فعمّمنا الحديث لفرض اختفاء الحكم بواسطة الأسباب الطبيعيّة فلا معنى لإخراج الحجب من حيث الاُمور الخارجيّة عن الحديث، بدعوى أنّ البيان عن هذا الطريق لا يترقّب منه تعالى؛ إذ ذلك مترقّب منه بما هو سيّد الكون وعدمه حجب يسند إليه بما هو مدبّر العالم وخالقه، ولو فرضنا أنّه اُضيف إليه بما هو مولىً، فهو خلف أصل مبنى الاستدلال بهذا الحديث.

والتحقيق: أنّه وإن كان هذا الوجه الرابع لا يبعد تماميّته كجواب على الإشكال


الوحي وبلّغ النبيّ(صلى الله عليه وآله) بالحكم ولكنّه لم يصلنا، ويكون علاجه هو التمسّك بمقتضى عدم الفصل.

أقول: يرد عليه: أنّ العقل كما لا يحكم بوجوب امتثال ما لم يصدر المولى ـ تعالى ـ على طبقه خطاباً كذلك لا يحكم بوجوب امتثال ما أوحى إلى نبيّه(صلى الله عليه وآله) ولم يأمره بالتبليغ، وذلك حتّى في فرض القطع بذلك صدفة، وهذا غير البراءة التي نتكلّم عنها، ولا معنى لدعوى عدم الفصل في ذلك، والمقياس في عدم وجوب الامتثال إنّما هو عدم كون الحكم بمستوىً يحرّك المولى ـ سبحانه ـ للتصدّي إلى إيصاله إلى العباد، من دون فرق بين أن يفرض عدم وحيه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)أو عدم أمره بتبليغ ما اُوحي إليه.

(1) نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 226.

218

بالتقريب الذي بيّنه الأصحاب، ولكنّه ـ رغم هذا ـ لا يتمّ الاستدلال بهذا الحديث على البراءة، والسرّ في ذلك أنّ من المحتمل كون المقصود في الحديث هو تعليق الموضوعيّة عن العباد على الحجب عن العباد من حيث المجموع المساوق لعدم صدور البيان رأساً، لا تعليق الموضوعيّة عن أيّ شخص على الحجب عنه بالخصوص. نعم، لو جاء الحديث بصيغة المفرد كأن يقال: ما حجب الله علمه عن المكلّف فهو موضوع عنه لم يرد هذا الإشكال.

إن قلت: لا إشكال ولا ريب في أنّ مثل قوله: (أكرم العلماء) ظاهر في الانحلال فكيف لا تقولون بالانحلال هنا؟!

قلت: لا ننكر أنّ الحكم على موضوع ظاهر في الانحلال على أفراده، وفي هذا الحديث حكم بالوضع عن العباد، وهذا أيضاً انحلاليّ، فزيد موضوع عنه وعمر موضوع عنه وبكر موضوع عنه.... وهكذا، ولا يتصوّر غير هذا، وإنّما الكلام في أنّ ترتّب الجزاء على الشرط ـ أي: الوضع عن العباد على الحجب عنهم ـ هل هو بنحو مقابلة الجميع بالجميع بمعنى كون الوضع عن كلّ فرد مترتّباً على الحجب عن ذلك الفرد، أو بنحو مقابلة الجميع بالمجموع بمعنى ترتّب الوضع عنهم الذي هو الجزاء على الشرط بمجموعه، وهو الحجب عن كلّ العباد المساوق لعدم صدور البيان؟ ولمّا كان احتمال الثاني موجوداً في المقام فلا محالة يبطل الاستدلال بهذا الحديث.

فإن قلت: أيّ فرق بين هذا الحديث وحديث الرفع، حيث أبديتم هذا الاحتمال هنا ولم تبدوه هناك؟ ولا شكّ بحسب الظهور العرفيّ في أنّ قوله: (رفع ما لا يعلمون) ظاهر في الترتّب بنحو الانحلال، أي: أنّ الرفع عن كلّ شخص مترتّب على عدم علم ذلك الشخص لا على عدم علم الجميع.

قلت: إنّ تعيين كون القيد مأخوذاً بنحو الانحلال، أو بنحو المجموعيّة يرجع

219

إلى المناسبات الارتكازيّة للحكم والموضوع، والقيد في حديث الرفع كان هو عدم العلم، فصحيح أنّ عدم علم الجميع يلازم عدم صدور البيان، وهو حجب مستند إلى الله ـ تعالى ـ لكن الذي اُخذ قيداً في الحكم لم يكن هو الحجب المستند إلى الله بل كان هو عدم علم العبد، والارتكاز العرفيّ يرى أنّ عدم علم كلّ شخص يصلح عذراً لذلك الشخص، ولا علاقة لعدم علم شخص مّا بعذر شخص آخر، ولكن القيد في حديث الحجب كان هو حجب الله ـ تعالى ـ عن العباد، وكما يناسب عرفاً افتراض إرادة كون حجب الله عن كلّ شخص عذراً لذلك الشخص، كذلك يناسب عرفاً كون المقصود أنّ حجب الله عن كلّ العباد المتجسّد في عدم صدور البيان عذراً، فإنّ هذا عذر مفهوم عقلائيّاً، وهو غير عذر البراءة الذي يكون على نحو الانحلال ومقابلة الجميع بالجميع على شكل التوزيع.

وما ذكرناه هي النكتة فيما ترى من أنّه لو قيل: (إنّ عدم مسؤوليّتك تجاه شيء محتمل يتفرّع على كونه ممّا حجب الله علمه عن العباد) كان هذا بياناً عرفيّاً لا حزازة فيه؛ إذ هو في قوّة أن يقال: (إنّ عدم مسؤوليّتك عن شيء محتمل يتفرّع على عدم صدور البيان)، وهذا بخلاف ما لو قيل: (إنّ عدم مسؤوليّتك تجاه شيء محتمل يتفرّع على أن لا تعلم به أنت ولا غيرك)، فهذا تعبير غير مستساغ عرفاً، ويقال في مقابله: إنّه أيّ علاقة لجهل غيري بعذري؟

هذا. ولا يخفى أنّ ما ذكرناه بالنسبة لحديث الرفع إنّما كان بحثاً فيه بالنظر إلى خصوص جملة (رفع ما لا يعلمون). وأمّا إذا نظرنا إلى مجموع الحديث فلا موضوع لهذا البحث؛ إذ إنّ مثل (رفع ما اضطرّوا إليه) لا يعقل التشكيك في انحلاليّته بأن يفترض احتمال أنّ الشرط في (رفع ما اضطرّ إليه زيد) هو اضطرار الجميع، وبوحدة السياق يثبت أنّ (رفع ما لا يعلمون) أيضاً كذلك.

220

 

5 ـ أحاديث الحِلّ:

ومنها: حديث (كلّ شيء لك حلال). وهذه الرواية مرويّة في الكتب العلميّة بصيغ ثلاث:

1 ـ ما ورد في أخبار متعدّدة في موارد مختلفة، منها ما عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(عليه السلام): «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1).

2 ـ ما عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى



(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 1، ص 59، ونحوه ما عن معاوية بن عمّار، عن رجل، عن أبي جعفر(عليه السلام)، راجع الوسائل، ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة،ح 7، ص 92، ونحوهما ما عن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر(عليه السلام)، راجع الوسائل،ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة، ح 1، ص 90 و 91، وسند الحديث الأوّل تامّ. وأمّا سند الحديث الثالث فليس فيه من يتوقّف لأجله عدا عبد الله بن سليمان، وقد روى عنه بعض الثلاثة في مشيخة الفقيه، والمقصود به هو الصيرفيّ؛ لأنّه الذي يوجد له كتاب فلا يمكن أن يكون المقصود به في مشيخة الفقيه غيره، فبناءً على أنّ عبد الله بن سليمان في حديثنا منصرف إلى من له الكتاب وللصدوق والنجاشيّ سند إليه لأنّه المعروف يتمّ سند الحديث.