411

تذهب إلى الصحراء على رغم كثرة المخاطر فيها؟! فإنّ حصول الجزم لنا ليس أمراً اختياريّاً. نعم، له أن يقول هذا الكلام بعنوان السؤال عن وجه حصول الجزم، فيقال له في الجواب: إنّ الوجه في ذلك هو: إنّنا خلقنا هكذا، وتكوّنت فينا خصوصيّات لا يكون معها الالتفات إلى كثرة الأخطاء مانعاً تكويناً عن حصول الجزم. نعم، لو كنّا نحتمل الملازمة بين نفس مدلولات الأدلّة، لكان انكشاف خطأ بعضها موجباً لعدم علمنا بصحّة باقي الأدلّة، لكنّنا لا نحتمل ذلك، وإنّما نعتقد بالتلازم العلّىّ بين نفس الدليل المقترن بشرائط خاصّة وحصول العلم بمدلوله.

وقد ظهر بما ذكرناه ما في كلام الاُصوليّين حيث سلكوا غير هذا المسلك في ردّ شبهة الأخباريّين.

هذا تمام الكلام في فرض كون مراد الأخباريّين إنكار اليقين بمعناه الاُصولىّ.

 

إنكار اليقين بمعناه المنطقىّ

 

أمّا إنكاره بمعناه المنطقىّ، فقد مضى أنّه خروج عمّا نحن فيه، ومع ذلك لا بأس ببحثه هنا على سبيل الإجمال.

فنقول: قد تعارف بهذا الصدد لدى أتباع منطق أرسطو القول بأنّ صفحة واحدة من صفحات المعارف البشريّة مضمونة الحقّانيّة، وهي صفحة (البرهان) من بين صفحات (الصناعات الخمس) وفي صدر الصفحة توجد (البديهيّات الستّ) وهي: الأوّليّات، والفطريّات، والحسّيّات، والتجريبيّات، والحدسيّات، والمتواترات. فهذه القضايا مضمونة الحقّانيّة ضماناً ذاتيّاً. وبعد ذلك يأتي في هذه الصفحة دور الأحكام المكتسبة التي تكتسب من تلك البديهيّات، وهي ليست مضمونة الحقّانيّة بالذات، ولكنّها تصبح مضمونة الحقّانيّة ببركة قوانين البرهان؛ فإنّ الخطأ في النتيجة إن كان ناشئاً من الخطأ في الصورة، فقوانين البرهان ـ لو روعيت ـ تمنع عن خطأ من هذا القبيل، وإن كان ناشئاً من الخطأ في المادّة، فهذا لابدّ من رجوعه إلى الخطأ في قياس سابق عليه، فننقل الكلام إلى ذاك القياس، ونضمن عدم خطئه في الصورة بمراعاة قوانين البرهان، وهكذا إلى أن نصل

412

إلى الموادّ الأوّليّة الثابتة في صدر الصفحة، وهي البديهيّات التي كانت مضمونة الصحّة بالذات.

وتوجيه إشكال الأخباريّين على ذلك يمكن أن يكون بأحد وجهين:

1 ـ أن يقال: إنّ نفس القانون المنطقىّ حكم عقلىّ يحتاج إلى عاصم له من الخطأ؛ إذ ليس هو من الأحكام الأوّليّة التي أدركها الإنسان منذ خلق، وإنّما اخترعه أرسطو بعد مضيّ آلاف الدهور من عمر الإنسان.

2 ـ أن يقال: إنّ نفس القانون المنطقىّ حقّ، ومراعاته في التطبيق تعصم من الخطأ، ولكنّنا بحاجة إلى عاصم آخر يعصمنا من الخطأ في نفس التطبيق، ولا تعقل عاصميّة نفس القانون لتطبيقه من الخطأ؛ إذ لا يعقل وجوده في رتبة تطبيقه.

ولابدّ لنا من تعمّق أكثر؛ كي نعرف حقيقة الحال. ولتوضيح ما هو التحقيق نتكلّم في جهتين:

إحداهما: في تحقيق الحال بالنسبة إلى القضايا البديهيّة.

والثانية: في تحقيق الحال بالنسبة إلى القضايا المكتسبة.

 

القضايا البديهيّة

أمّا الجهة الاُولى: فقد مضى أنّ اليقينيّات في نظر منطق أرسطو عبارة عن القضايا الستّ، إلّا أنّ لنا كلاماً في ضمان حقّانيّة بعض تلك القضايا:

فنحن نؤمن بضمان حقّانيّة (الأوّليّات) التي لا يحتاج الجزم بها إلى أكثر من تصوّر الطرفين، كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء. و(الفطريّات) أي: القضايا التي قياساتها معها، والتي يصدق عليها ـ ولو بنوع من المسامحة ـ أنّها ـ أيضاً ـ لا يحتاج الجزم بها إلى أكثر من تصوّر الطرفين، كقولنا: الأربعة زوج.

أمّا الحسّيّات فعلى قسمين:

أحدهما: الإحساس بالاُمور المجرّدة النفسيّة، كالعلم، واللذّة، وهذه لا تقلّ عن الأوّليّات، فهي ـ أيضاً ـ مضمونة الصحّة.

وثانيهما: الإحساس بالاُمور الخارجيّة، وهذا تارة نتكلّم عنه بلحاظ اُفق الحسّ،

413

فالمرئي ـ مثلاً ـ له وجود في اُفق الرؤية، وهو عبارة عن نفس الإحساس الرؤيتي، وهذا راجع إلى القسم الأوّل من الإحساس، فحاله حاله.

واُخرى نتكلّم عنه بلحاظ اُفق الخارج، كإثبات وجود المرئي خارجاً، وهنا نفصّل بين إثبات أصل الواقع الموضوعىّ المستقلّ عنّا، وإثبات التفاصيل التي نحسّ بها: من طول، أو عرض، أو شكل، وهيئة، وما إلى ذلك.

أمّا الأوّل: فهو ـ أيضاً ـ كالأوّليّات في كونه مدركاً بالبداهة، وإن كان يفترق عنها في احتياج إدراكه إلى مقدّمات إعداديّة لا يحتاج درك الأوّليّات إليها(1).

وأمّا الثاني: فليس مضمون الحقّانيّة بالذات، ويقع فيه الخطأ كثيراً، كما أنّه ليس مضمون الحقّانيّة بواسطة البرهان أيضاً، وإنّما يدرك بإدراك أغفله المنطقيّون من الحساب، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الجهة الثانية.

وأمّا التجريبيّات، فكالحسّيّات في عدم ضمان الحقّانيّة لها بصورة عامّة، بل قد تخطأ وقد تصيب؛ إذ لو جرّبنا ـ مثلاً ـ النار مرّات عديدة، فرأيناها محرقة، فهذا بالنسبة إلى الإنسان المتعارف سبب لحصول اليقين بالمعنى الاُصولىّ، ولكن كونه مضمون الصحّة موقوف على استقراء تمام الخصوصيّات التي يكون عالم التجربة أضيق منها(2)؛ ولذا يتّفق كثيراً انكشاف خطأ الجزم الناشئ من التجربة بالوصول إلى مادّة النقض.

وما ذكرناه في التجربة يأتي في الحدس أيضاً، وهو المسمّى في المصطلح الحديث بالملاحظة المنظّمة، كما في قولنا: نور القمر مستفاد من الشمس؛ فإنّها كالتجربة بفرق أنّ المجرّب يتدخّل في مورد التجربة بإدخال تغييرات وتعديلات عليه بخلاف الملاحظ.

وأمّا المتواترات فأيضاً ليست من اليقينيّات؛ فإنّ التواتر قائم على أساس الحسّ، وقد


(1) بل الصحيح: أنّ هذا إمّا مدرك بالاكتساب على أساس قانون العلّيّة، بأن يقال: التحوّلات التي نجدها في محسوساتنا في اُفق الإحساس تكشف بقانون العلّيّة عن واقع موضوعىّ متحوّل، أو أنّه ليس مدركاً حتّى بهذا القانون بناءً على احتمال نشوء هذه التحوّلات من حركة النفس الجوهريّة، فسيكون إذن حال إثبات الواقع الموضوعىّ هو حال إثبات التفاصيل مدركاً بحساب الاحتمالات.

وقد عدل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن دعوى بداهة أصل الواقع الموضوعىّ في كتابه (الاُسس المنطقيّة للاستقراء).

(2) أو على استحالة أكثريّة الصدفة، وقد فنّد ذلك في كتاب الاُسس المنطقيّة للاستقراء، فراجع.

414

عرفت حال الحسّ. مضافاً إلى أنّنا نطالب القائل بيقينيّة المتواترات بتفسير المتواترات، وبيان العنصر الذي أوجب ضمان الحقانيّة.

فإن فسّره بتكاثر الأخبار إلى حدّ يفيد الجزم الاُصولىّ، قلنا: إنّ إفادته للجزم الاُصولىّ لا تستلزم ضمان الحقّانيّة، وإلّا لكانت تمام أخبار الوسائل مضمونة الحقّانيّة؛ لأنّها أفادت الجزم للأخباريّين المدّعين تواترها.

وإن فسّرها بتكاثرها إلى حدّ يستحيل خطؤها، أصبح قولنا: (إنّ الخبر المتواتر مضمون الحقّانيّة) قضيّة بشرط المحمول، أي: إنّ تكاثر الأخبار إلى حدّ ضمان الحقّانيّة يوجب ضمان الحقّانيّة، وهذا كما ترى لا يرجع إلى محصّل(1).

 

القضايا المكتسبة

وأمّا الجهة الثانية: فقد أفاد علماء المنطق: أنّ ما لا يكون بديهيّاً ومضمون الصحّة ذاتاً يجب أن يكتسب من البديهيّات بالحجّة، وهي على ثلاثة أقسام: القياس، والاستقراء، والتمثيل. والأخيران غير مرضيّين عندهم ما لم يرجعا إلى الأوّل، وهو القياس، وهو على أربعة أشكال، ثلاثة منها ترجع إلى الشكل الأوّل(2). فتمام الحجج والبراهين يجب أن ترجع إلى الشكل الأوّل، وهو ذوحدود ثلاثة: (الأصغر) وهو موضوع النتيجة والصغرى. و(الأوسط) وهو الحدّ المشترك بين المقدّمتين غير الموجود في النتيجة. و(الأكبر) وهو محمول النتيجة والكبرى. ويكون الأوسط همزة وصل بين الأصغر والأكبر، وموجباً لائتلافهما وحمل الأكبر على الأصغر. وكيفيّة الاستنتاج من الشكل الأوّل عبارة عن تطبيق الأكبر على الأوسط، وهو بديهىّ ومضمون الحقّانيّة. وتطبيق الأوسط على الأصغر، وهو بديهىّ ومضمون الحقّانيّة، فينطبق الأكبر على الأصغر


(1) قد يكون مقصودهم بالتواتر: درجة من الكثرة توجب الجزم الاُصولىّ عند عامّة الناس المتعارفين، فيدّعى أنّ هذا يستلزم استحالة الخطأ، وإن جاء في تعبيراتهم أنّ التواتر: هو درجة من الكثرة يستحيل معها التواطؤ على الكذب، فلا يبعد أن يكون هذا عنواناً مشيراً إلى كثرة كاثرة لا شرطاً للمحمول، فالأولى في إثبات عدم ضمان حقّانيّة المتواترات هو الرجوع إلى البراهين الواردة في كتاب الاُسس المنطقيّة؛ لإبطال قانون استحالة كون الصدفة أكثريّة.

(2) كما أنّ الاستثنائىّ يمكن إرجاعه إلى الاقترانىّ.

415

بحكم آخر للعقل بديهىّ ومضمون الحقّانيّة أيضاً، وهو: أنّ المنطبق على شيء منطبق على شيء ثالث يكون منطبقاً على ذاك الشيء الثالث.

وبهذا تحصّلت لدينا خريطة المعلومات المضمونة الصحّة، ففي أوّل الخريطة البديهيّات، وتجعل تحتها ما يكون أخصّ منها بدرجة، وهي أكثر عدداً ممّا في السطر الأوّل لا محالة. ثُمّ ما يكون أخصّ من الدرجة الثانية، وهي أكثر عدداً منها، وهكذا إلى أن نصل إلى الجزئيّات الصرفة، ويتشكّل من كلّ ثلاثة اُمور مترتّبة في هذه الخريطة قياس من الشكل الأوّل. ويجب أن يكون درك انطباق كلّ واحد من هذه الاُمور على ما يتلوه بلا فصل بديهيّاً لا اكتسابيّاً، وإلّا للزم وجود الفصل بينهما؛ لأنّ الاكتساب يكون بالقياس، وهو بحاجة إلى الأوسط، وإذا كان انطباق كلّ واحد من هذه الاُمور على تاليه بديهيّاً، كان تمام ما يثبت في هذه الخريطة مضمون الحقّانيّة.

وبهذا البيان ظهرت صحّة القول بأنّ منطق أرسطو لا يزيد شيئاً على المعارف البشريّة، ولا يثمر معرفة جديدة، على أن يكون المراد بهذا الكلام: أنّه كلّما عرف تفصيلاً بالاستنتاج من القياس، كان كامناً في الكبرى، فمنطق أرسطو إنّما يفيد في إلفات النظر تفصيلاً إلى جزئيّات الاُمور المعلومة إجمالاً.

وقد اتّضح بما مرّ: أنّ مراعاة قانون المنطق عاصمة في حدوده من الخطأ. وبالرغم من ذلك نرى الأخطاء الكثيرة في الفكر البشرىّ التي يضجّ منها العالم، فلابدّ من التفتيش عن نكتة ذلك، فنقول: لا يعقل سبب لهذه الأخطاء إلّا أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: ما مضى من دعوى أنّ نفس قانون المنطق من نتاج الفكر البشرىّ بعد ردح من الزمن، وليس بديهيّاً ومعصوماً بذاته كي يكون عاصماً.

ويرد عليه: ما عرفته: من بداهة إنتاج الشكل الأوّل بحكم العقل البديهىّ المدرك لقاعدة: أنّ (المنطبق على شيء منطبق على ثالث منطبق على ذاك الثالث) وعدم التفات البشر بالتفصيل ردحاً من الزمن إلى الشكل الأوّل ـ مثلاً ـ لا يعني عدم بداهته؛ لثبوت الالتفات الإجمالىّ لكلّ أحد إليه، على أنّ عدم التصديق الناشئ من عدم الالتفات لا ينافي البداهة؛ فإنّ التصديق بالبديهيّات ـ أيضاً ـ متوقّف على التصوّر بلا إشكال.

وخلاصة الكلام: أنّ قوانين المنطق منها ما هو بديهىّ ومضمون الصحّة بنفسه، فلا يحتمل فيه الخطأ، ومنها ما هو نظرىّ مكتسب من الأوّل، فهو مضمون الصحّة ببركة

416

الأوّل، إلّا من ناحية احتمال نشوء الخطأ في التطبيق، وهذا رجوع إلى الأمر الثاني.

الثاني: ما مضى ـ أيضاً ـ من دعوى أنّ قانون المنطق صحيح، ولكنّه لا يعقل كونه عاصماً من الخطأ في تطبيقه، فيقع الاشتباه في ذلك. وهذا صحيح لا إشكال فيه، إلّا أنّه لا يفيد الأخباريّين بنحو الإطلاق.

توضيح ذلك: أنّ الخطأ في تطبيق قانون المنطق يرجع في الحقيقة إلى أحد أمرين:

1 ـ الغفلة والذهول عن نفس شرائط الإنتاج: من كلّيّة الكبرى، وإيجاب الصغرى، وفعليّتها، أو عن مراعاتها على رغم بداهتها؛ إذ قد يغفل الإنسان أحياناً عن أمر بديهىّ، وهذا نادر جداً لمن له أدنى ممارسة في الاستدلالات، فلا يؤثّر بشكل ملحوظ في الموادّ البعيدة عن البديهيّات فضلاً عن القريبة منها.

2 ـ عدم الالتفات إلى الحدود الثلاثة، والغفلة عن مقدار شمولها، وغير ذلك من خصوصيّاتها؛ فإنّ معنى بداهة القضيّة ليس هو وضوح حدودها، وعدم الخطأ في ذلك حتّى مع عدم الالتفات، وإنّما معناها هو الوضوح، وعدم الخطأ في حدود البداهة عند الالتفات.

وهذا القسم من الخطأ كثير في الموادّ البعيدة عن البديهيّات كعلم الاُصول، وكلّما اقتربت المادّة إليها، قلّ فيها هذا الخطأ، والسرّ في ذلك: أنّ الخطأ في المادّة السابقة يؤثّر في اللاحقة دون العكس؛ ولأجل ما ذكرناه لا ترى الاشتباه في المنطق والحساب والهندسة وسائر الرياضيّات، إلّا في غاية الندرة؛ فذلك ناشئ من قربها من البديهيّات، إضافة إلى خلوّها عمّا سيأتي من السبب الثالث من أسباب الاشتباه.

وقد اتّضح بهذا: أنّ دعوى سقوط العقليّات عن درجة الاعتبار لكثرة الخطأ فيها، لم تتمّ بإطلاقها، بل ينبغي التفصيل بين الموادّ القريبة من البديهيّات والبعيدة عنها(1).

وهذا التفصيل صدر عن المحقّق الأسترآبادىّ(رحمه الله) ولكن كلام كثير من الأخباريّين مطلق في ذلك.

هذا. وما عرفته من الإشكال وارد عليهم حتّى بناءً على كون مرادهم من اليقين اليقين الاُصولىّ كما هو واضح.


(1) إلّا أن يكون المطلوب الحصول على العصمة الكاملة، وحينئذ فلاتشترط في نفي الحقّانيّة كثرة الأخطاء، بل الخطأ النادر ـ أيضاً ـ يكشف عن عدم الحقّانيّة.

417

ثُمّ الخطأ في التطبيق يقلّ بطول الممارسة، وتمرين الفكر، وتقوية الذكاء، وفي أىّ فنّ مارس العقل، وطال مرانه فيه، قلّت أخطاؤه مطلقاً وبصورة خاصّة في ذلك الفنّ.

الثالث: أنّ هنا منشأً آخر للخطأ في المعارف البشريّة لم يلتفت إليه أرسطو في فنّه، ولا الاُصوليّون، ولا من عارضهم من الأخباريّين، وهو: أنّ ما مضى ذكره من الخريطة في مقام التنازل من العالي إلى السافل كان من شرط عدم وقوع الخطأ فيها كون تطبيق أىّ شيء وجد في تلك الخريطة على ما بعده بلا فصل بديهيّاً، وهذا شرط أساس لاحظوه في فنّ المنطق، ولكن الإنسان قد يطبّق ـ مع الالتفات ومن دون غفلة ـ شيئاً على شيء بلا فصل من دون أن يكون هذا التطبيق بديهيّاً، وإلّا لما وقع في الخطأ.

فهذا التطبيق لا هو تطبيق مع فاصل، كي يكشف عن نقص في الخريطة، ويكون تتميمها بتحصيل الفاصل، ولا هو تطبيق بديهىّ ومعصوم من الخطأ، كي تصبح الخريطة بتمامها معصومة، بل هو تطبيق ينشأ من حساب الاحتمالات وتجميع القرائن إلى حدّ يفني الشكّ وينهيه تلقائيّاً، وليس المقصود بذلك فناء الشكّ رياضيّاً؛ فإنّ الاحتمال لا يفنى رياضيّاً بتجميع القرائن على خلافه، بل مهما كثرت القرائن، كان مقتضى الحساب الرياضىّ بقاء كسر ضئيل دون أن يزول، ولكن الإنسان خلق بنحو يضمر ويزول الاحتمال الضئيل في نفسه، وينتفي عند تظافر القرائن ضدّه في ضمن شروط لا مجال لبحثها هنا.

فمثلاً: حين نشير إلى محسوسنا في اُفق الحسّ، ونطبّق عليه عنوان المطابقة للواقع الخارجىّ، فهذا التطبيق ليس بالبداهة، ولا بوسيط محذوف، بل بحساب الاحتمالات، وإلى هذا يرجع كلّ (المحسوسات) الخارجيّة و(التجربيّات) و(الحدسيّات) و(المتواترات)(1).

وما أفاده الشيخ الرئيس في الشفاء: من أنّ إفادة التجربة للعلم تكون بضمّ قاعدة عقليّة، وهي: (أنّ الصدفة لا تكون دائميّة أو غالبيّة) غير صحيح؛ فإنّ هذه القاعدة بنفسها


(1) هذه القطعة من البحث لم أكتبها بالشكل الذي أفاده(رحمه الله) في الدرس في الدورة التي حضرتها، حيث ذكر(رحمه الله) هنا تفاصيل وبيانات عدل عنها بعد ذلك، فحذفتها وبدّلتها بهذا المقطع. وتفصيل مختاراته الأخيرة(رحمه الله)موجود في كتاب (الاُسس المنطقيّة)، كما غيّرت بعض العبائر في الأبحاث الآتية المرتبطة بهذا المقطع بالشكل الذي يلائم مختاره الأخير.

418

لامنشأ لها سوى التجربة، فلا تفيد ضمّ هذه المقدّمة إلى التجربة شيئاً (1).

والخلاصة أنّ العلوم التي تحصل للإنسان عن هذا الطريق ليست عدا يقين اُصوليّ. نعم، يمكن تقليل الخطأ في ذلك بطول الممارسة، وتمرين العقل، وتقوية الذكاء، وملاحظة مقاييس حساب الاحتمالات.

وكلّما كانت القضيّة أقرب إلى الموادّ البديهيّة، قلّ وقوع الخطأ فيها، كما أنّ القضايا التي لم يعمل فيها حساب الاحتمالات تبقى سليمة عن هذه الأخطاء، كما هو الحال في (المنطق) و(الحساب) و(الهندسة) وسائر الرياضيّات، هذا.

وحساب الاحتمالات ليس حاله حال منطق أرسطو في عدم إفادته لتكثير المعارف البشريّة؛ فإنّ هذا طريق للتخطّي إلى الخارجيّات(2).

وكذلك الحال بالنسبة إلى العقل المدرك للبديهيّات إلى حدّ ما؛ إذ لا أقلّ من كون إدراك الواقع الموضوعىّ المستقلّ مستفاداً منه(3).


(1) والدليل على عدم بداهة هذه القاعدة وضمان حقّانيّتها اُمور مذكورة في (الاُسس المنطقيّة) نكتفي هنا بالإشارة إلى وجهين منها:

الأوّل: إلفات الوجدان إلى أمرين:

أحدهما: أنّ إدراك العقل للأوّليّات يستبطن عنصر كون نسبة المحمول إلى الموضوع في المدرك نسبة الضرورة، ولا نمتلك قضيّة أوّليّة ولا فطريّة تكون نسبة المحمول إلى الموضوع فيها مجرّد نسبة الفعليّة والإطلاق العامّ (ومن هنا لا نؤمن بأوّليّة وجود العالم الموضوعىّ).

وثانيهما: أنّنا لا ندرك في قضيّة (الصدفة لا تكون أكثريّة) عنصر الضرورة بين المحمول والموضوع، مع أنّها لو كانت بديهيّة، لكانت من الأوّليّات ـ مثلاً ـ لا من المحسوسات.

الثاني: أنّنا لو افترضنا أقلّ درجات الكثرة المقطوع بعدمها في قولنا: (الصدفة لا تكون أكثريّة) عبارة عن عشرة مثلاً، وجرّبنا طعاماً أعطيناه لعشرة فتسمّموا، ثمّ اكتشفنا الصدفة في تسعة منهم مثلاً، فلا إشكال في أنّ الجزم الحاصل من التجربة يسلب منّا، في حين لو كانت هذه القضيّة عقليّة بديهيّة يمتنع خطؤها، لم يكن من المترقّب زوال ذاك الجزم.

(2) يلتقي الإنسان بأنحاء ثلاثة من المعلومات:

1 ـ ما يكون حاضراً لدى النفس باعتباره من المجرّدات الموجودة في اُفق النفس، كالألم واللذّة، وهذا يعرفه الإنسان مباشرة بلا حاجة إلى حساب الاحتمالات.

2 ـ ما في لوح الواقع (غير الخارجيّات)، وقد يدرك العقل بعض الاستحالات والضرورات في ذلك بلا حاجة إلى حساب الاحتمالات، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكون اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة.

3 ـ عالم الخارج، ولا سبيل له إلّا حساب الاحتمالات.

(3) قد مضى منّا عدم صحّة ذلك، وذكرنا عدوله(رحمه الله) عن ذلك في كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء). ويبدو أنّه في بحثه في دورته الأخيرة الذي لم أحضره جرى على وفق ما في كتاب الاُسس المنطقيّة.

419

 

 

 

 

العقل العملىّ

 

وأمّا المقام الثاني: وهو فيما يسمّى عند المنطقيّين بالعقل العملىّ(1)، وعند المتكلّمين بالحسن والقبح، وعند الفلاسفة بالخير والشر، وعند علماء الأخلاق بالفضيلة والرذيلة، فقد وقع الخلاف في ذلك بين الاُصوليّين والمحدّثين، فأثبت الاُصوليّون الحسن والقبح المدركين بالعقل، وأنكرهما الآخرون.

قد مضى أنّ العقل العملىّ يحتاج في مقام استنباط الحكم الشرعىّ منه إلى ضمّ حكم العقل النظرىّ إليه: من قاعدة الملازمة، أو استحالة صدور القبيح عن الحكيم. إذن يقع الكلام هنا في جهتين:

الاُولى: في تحقيق الحال في أصل العقل العملىّ.

والثانية: في تحقيق الحال في العقل النظرىّ المنضمّ إليه، أعني: قاعدة الملازمة، وأمّا استحالة صدور القبيح عن الحكيم، فليس هنا محلّ بحثها.

 


(1) ليس المقصود من تقسيم العقل إلى النظرىّ والعملىّ، وكذلك إلى ما قد يقال: من العقل المدرك للبديهيّات، والعقل المدرك للنظريّات بنحو التوالد الموضوعىّ، والعقل المدرك بحساب الاحتمالات بنحو التوالد الذاتىّ: دعوى التعدّد بلحاظ القوى، بل المقصود اختلاف المعقولات سنخاً بهذا النحو، أمّا كون المدرك لها جميعاً قوّة واحدة أو لا، فهذا بحث آخر.

420

 

الحسن والقبح العقليّان

 

أمّا الجهة الاُولى: فالقدر المتيقّن من كلمات المحدّثين هو: إنكار الحسن والقبح العقليّين، بمعنى: إنكار الاعتماد في ذلك على دركنا لها بعقولنا القاصرة، دون إنكار أصل الحسن والقبح.

لكن الاُصوليّين ـ إلّا من شذّ ـ ذهبوا إلى التصديق بأصل الحسن والقبح العقليّين، وإلى صحّة الاعتماد على العقل في إدراكنا لهما.

وهناك قول ثالث ذهبت إليه الأشاعرة، وهو: إنكار أصل الحسن والقبح الواقعيّين، وقالوا: إنّ الحسن ما حسّنه الشارع، والقبيح ما قبّحه الشارع، ومقصودنا من نسبة ذلك إلى الأشاعرة نسبته إليهم بنحو الموجبة الجزئيّة (وكذلك في سائر الموارد عند ما ننسب شيئاً إلى طائفة؛ كي لا ينافي ذلك أفتراض مخالفة جملة منهم لذاك الرأي).

وقد ينسب إلى فلاسفة المسلمين القول بما يكون وسطاً بين قول الأشاعرة وقول الأخباريّين، وهو القول بأنّ الحسن ما حسّنة القانون، والقبيح ما قبّحه القانون، وذلك يختلف باختلاف المجتمعات والموالي والعبيد.

وقد تسرّب النزاع في الحسن والقبح العقليّين إلى غير المسلمين، فذهب رجال الدين المسيحيّون إلى أنّ الحسن والقبيح ما حسّنه الشارع أو قبّحه، وذهب فلاسفتهم إلى ثبوت الحسن والقبح في الواقع، والاعتماد على إدراك العقل لهما.

 

مع المنكرين على مستوى النقض

 

هذا، وقد اُورد نقضان على من ينكر الحسن والقبح إنكاراً (أشعريّاً) أو (أخباريّاً)، ولو تمّ النقضان، فهما واردان على فلاسفة المسلمين أيضاً؛ إذ إنّ كلامهم ـ كما سيأتي(1) ـ لا يرجع بعد التحليل إلى محصّل سوى ما مضى من كون الحسن والقبيح هو ما حسّنه أو


(1) سيأتي منه(قدس سره) إبراز احتمالين فيما هو مقصود الفلاسفة.

421

قبّحه القانون، ولا فرق بين هذا وقول الأشاعرة سوى أنّ الأشاعرة ـ بما هم متديّنون ـ أضافوا الحسن والقبح إلى قانون الشرع، والفلاسفة أضافوهما إلى مطلق القانون:

النقض الأوّل: حكم العقل العملىّ الواقع في طول الكتاب والسنّة، كوجوب المعرفة، ووجوب الطاعة، وحرمة المعصية؛ إذ مع إنكار العقل العملىّ لا يبقى ملزم لتحصيل المعرفة، ولا للطاعة وترك المعصية، وفرض إيجاب الشارع لهذه الاُمور غير مفيد: أمّا بالنسبة إلى وجوب المعرفة، فواضح؛ إذ المفروض أنّه لم يثبت بعد وجود الشارع كي يتمسّك بحكمه، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الطاعة وحرمة المعصية، فلانّه لو لم يكن ذلك مدركاً بالعقل، واُريد تثبيته بحكم الشرع، نقلنا الكلام إلى إطاعة هذا الحكم، وهكذا إلى أن يتسلسل، أو يدور.

والنقض الثاني: حكم العقل العملىّ الواقع في الرتبة السابقة على الكتاب والسنّة، وهو حكمه بقبح إجراء المعجز على يد من يدّعي النبوّة كذباً؛ لكونه إضلالاً، فإنّه بناءً على إنكار ذلك لا يبقى مدرك لإثبات النبوّة.

والتحقيق: عدم ورود شيء من النقضين:

أمّا النقض الأوّل: فلأنّ بإمكان الأخبارىّ والأشعرىّ أن يدّعيا: أنّ المحرّك لنا لتحصيل المعرفة وللطاعة هو احتمال العقاب الذي هو المحرّك الوحيد حتّى بالنسبة إلى المعترفين بالحسن والقبح العقليّين، إلّا من شذّ وندر ممّن يعبد الله عبادة الأحرار، فاحتمال العقاب بذاته محرّك للإنسان بلا حاجة في تحريكه إلى توسيط حكم العقل بالقبح.

أمّا كيف ينشأ احتمال العقاب؟ فبإمكان الأخبارىّ أن يقول: إنّنا لا نعتمد على إدراك عقولنا القاصرة في درك الحسن والقبح، لكنّنا لاننكر أصل الحسن والقبح، ونحن نحتمل حسن الطاعة وقبح المعصية، ولا نحتمل العكس، وهذا الاحتمال يصبح منشأً ـ بحسب العقل النظرىّ ـ لاحتمال فعليّة العقاب في ترك الطاعة، وكذا الحال في ترك تحصيل المعرفة.

وبإمكان الأشعرىّ أن يقول: إنّنا أنكرنا أصل الحسن والقبح، فلا يأتي احتمال حسن الطاعة وقبح المعصية، ولكن ما دام لا يوجد حسن وقبح فالله تعالى حرّ في أفعاله، وقد أنذرنا بالعقاب على ترك الطاعة وفعل المعصية، والإنسان السوىّ في عقله وتفكيره

422

يحتمل لامحالة صدق هذا الإنذار احتمالاً راجحاً على احتمال كون العقاب على فعل الطاعة وترك المعصية (إن احتمل ذلك أيضاً)، وهذا بنفسه محرّك نحو الطاعة وترك المعصية، وكذا الحال بالنسبة إلى وجوب المعرفة.

وهناك جواب آخر يمكن للأخبارىّ والأشعرىّ أن يتمسّكا به ـ على وفق مبانيهما ـ بالنسبة إلى مسألة الطاعة فحسب دون مسألة المعرفة، وهو دعوى القطع بثبوت العقاب على المخالفة:

أمّا الأخبارىّ فلما ذهب إليه: من أنّ الدليل النقلىّ يورث القطع، وقد ورد كثيراً الإخبار بالعقاب على المخالفة، فنقطع بثبوت العقاب، بل بهذا الطريق يحصل لنا القطع بنفس الحسن والقبح؛ لدلالة الأخبار ـ أيضاً ـ على حسن الطاعة وقبح المعصية، فإذا ثبت الحسن والقبح، ثبت العقاب في المخالفة.

والإيراد على ذلك: بأنّه (لو سقط العقل عن الاعتبار، سقط النقل أيضاً؛ لتوقّفه عليه) إيراد على المبنى، ونقض وارد عليهم في باب العقل النظرىّ، وقد مضى ذكره. وهنا إنّما نتكلّم بلحاظ العقل العملىّ، فنرى أنّ هذا النقض غير وارد عليهم بناءً على مبانيهم.

وأمّا الأشعرىّ فصحيح أنّه أنكر الحسن والقبح بمعنى الجهة المترتّب عليها المدح والذمّ، لكنّه لم ينكر الكمال والنقص ودرك العقل لهما حتّى في الاُمور الخارجة عن الاختيار؛ ولذا استدلّوا على امتناع الجهل على الله بأنّ الجهل نقص، وأنّ النقص محال على الذات الواجبة الوجود، فاستنتجوا من هاتين المقدّمتين امتناع الجهل على الله. ولا نريد البحث هنا عن مدى صحّة هاتين المقدّمتين، ومدى إمكانيّة التفكيك بين درك الكمال والنقص ودرك الحسن والقبح، وإنّما نهدف للقول بأنّهم على مبانيهم يمكنهم الجواب عن النقض بدعوى أنّ الكذب نقص بحكم العقل النظرىّ، والنقص محال على الله بالعقل النظرىّ أيضاً، فيثبت بذلك صدق الإنذارات الواردة من الشارع(1).

هذا، مضافاً إلى أنّ الأشعرىّ يمكنه دفع النقض بالنسبة إلى كلّ من مسألتي الطاعة


(1) لا يخفى أنّ الكمال والنقص أحياناً يكونان ثابتين بشكل مستقلّ عن الحسن والقبح، كما في العلم والجهل، والقدرة والعجز، وما شابه، واُخرى يكونان نتيجة للحسن والقبح، فالكذب إنّما يكون نقصاً لأنّه قبيح، فلا ينبغي قياس باب الكذب بباب الجهل، ولا مسوّغ لافتراض امتناع الكذب على الله بعد فرض عدم القبح.

423

والمعرفة بما يتبنّاه: من أنّ كلّ ما يصدر عن الإنسان من فعل أو ترك فهو مجبور عليه(1).

وأمّا النقض الثاني: فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الاستدلال على النبوّة بقبح إجراء المعجز على يد الكاذب لكونه تضليلاً غير صحيح، على الرغم من أنّه هو الاستدلال الرسمىّ لعلم الكلام منذ وجد حتّى الآن؛ وذلك لأنّ المعجز إن لم يكن ـ بغضّ النظر عن قبح التضليل ـ دليلاً على النبوّة وصدق مدّعى من جرى على يده، إذن ليس إجراؤه تضليلاً، وإن كان دليلاً على ذلك، إذن ضمّ مسألة التضليل (المتوقّف على الدلالة في الرتبة السابقة) إلى تلك الدلالة ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان(2).

 


(1) لايخفى أنّ مدّعي الجبر لا ينكر عادة الدوافع ومقدّمات الإرادة والشوق المؤكّد في النفس، وإنّما يقول: إنّ الأفعال التي تصدر عن الإنسان تكون واجبة الوجود بالغير، بمعنى: أنّها يجب أن تصدر عنه بدوافعها؛ لوجود علّة تامّة لذلك (كما أنّ صاحب الكفاية المدّعي للاختيار سمّى نفس هذا اختياراً). وعليه، فبالإمكان إيراد التساؤل على الأشعرىّ عمّا هو دافعه نحو الطاعة وتحصيل المعرفة على رغم إنكاره للحسن والقبح، ولا يصحّ الجواب عن ذلك بأنّه مجبور على ما يفعل.

(2) قلت له (رضوان الله عليه): إنّه قد يقال: إنّ المعجز دليل على النبوّة بقطع النظر عن قبح التضليل في مستوى فكر العوامّ غير الملتفتين إلى هذه المناقشات، وأمّا عند الخواصّ فهو بذاته ليس دليلاً على النبوّة، ولكن تتمّ دلالته على النبوّة عندهم ببيان: أنّه لو لم يكن نبيّاً فإجراء المعجز على يده تضليل للعوامّ، والتضليل قبيح يستحيل صدوره عن الله تعالى.

فأجاب(رحمه الله) عن ذلك:

أوّلاً: بأنّ هذا لو تمّ، فهو تصحيح للبرهان الكلامىّ على النبوّة، ولكنّه لا يفيد بحثنا في المقام لتثبيت الإشكال على الأخبارىّ والأشعرىّ؛ إذ بعد أن ثبتت في الجملة دلالة المعجز على النبوّة في المرتبة المتقدّمة على قاعدة قبح التضليل، فمن الممكن للأشعرىّ والأخبارىّ أن يدّعيا حصول العلم لهما من هذا الدليل، وعدم اختصاص دلالة المعجز بمستوى فهم العوامّ فقط. وحينئذ وإن كان يقع البحث في أنّ دلالة المعجز في الرتبة المتقدّمة على مسألة التضليل هل هي تامّة حقيقة، أو هي فهم بسيط للعوامّ والسذّج؟ لكن هذا غير انسداد باب إثبات النبوّة رأساً وورود النقض على الأخبارىّ والأشعرىّ.

أقول: لو غضّ النظر عمّا سيأتي في المتن من الجواب الثاني عن النقض: من كون المعجز بنفسه دليلاً على النبوّة، وكذلك توجد أدلّة اُخرى عليها، فهذا الجواب هنا لايرجع إلى محصّل؛ إذ غاية ما هناك أنّنا نبحث مع الأخبارىّ والأشعرىّ إلى أن نثبت لهما بعد النقاش: أنّ الإعجاز بحدّ ذاته ليس دليلاً تامّاً على النبوّة، وإنّما هو دليل في نظر العوامّ، وحينئذ يكون إجراؤه على يد الكاذب تضليلاً للعوامّ، فإن قبلتم قبح التضليل، ثبت النقض عليكم، وإلّا انهار أصل الإيمان بالنبوّة.

وثانياً: بأنّ هذا البيان بنفسه غير تامّ، بغضّ النظر عن مسألة تثبيت النقض على الأخبارىّ والأشعرىّ وعدمه؛ إذ لو لم يكن المعجز في المرتبة السابقة دليلاً على النبوّة إلّا على مستوى فهم العوامّ والسذّج، فدليل

424

وثانياً: أنّه لا حاجة لنا في مقام إثبات النبوّة إلى الاستدلال بقبح التضليل الذي عرفت عدم تماميّته، بل النبوّة تثبت بحساب الاحتمالات، ومن دون لجوء إلى قبح التضليل من عدّة وجوه:

الوجه الأوّل: دلالة المعجز على ذلك في ذاته وبغضّ النظر عن قبح التضليل.

وتوضيح ذلك: أنّ المعجز عبارة عن خرق نواميس الطبيعة وقوانينها، فأوّلاً نثبت بالتجربة وحساب الاحتمالات أنّ شيئاً ما من قوانين عالم الطبيعة.

فمثلاً: قد دلّ حساب الاحتمالات على أنّ سكوت الحصى ليس من باب الصدفة، كسكوت الإنسان أحياناً، بل هو بمقتضى قوانين الطبيعة، فتسبيح الحصى خرق لقوانين الطبيعة ويكون بالتدخّل من وراء عالم الطبيعة، إذن فهذا دليل على أنّ صاحب الإعجاز ارتبط بما وراء عالم الطبيعة وبخالق الطبيعة للتوصّل إلى الإعجاز، وأنّ بارئ الطبيعة قد فتح باباً مباشراً لنفسه على صاحب المعجز حول ما ادّعاه، وبعد ذلك نقول: إنّنا لا نحتمل


قبح التضليل عند الخواصّ إنّما يثبت لديهم كون هذا نبيّاً على العوامّ والسذّج، أمّا دعواه النبوّة حتّى على الخواصّ، فلا تثبت ما دام لا دلالة في المعجز على النبوّة في المرتبة المتقدّمة على التضليل؛ فإنّه ـ عندئذ ـ لا تضليل للخواصّ، فهم ملتفتون إلى أنّ المعجز ليس بحدّ ذاته دليلاً على النبوّة، فكيف يضلّون؟!

وبتعبير آخر نقول: هل دعوى النبىّ لشمول نبوّته للخواصّ مقبولة في نظر الخواصّ بغضّ النظر عن قبح التضليل، أو لا؟ فإن قبلت لم نحتج إلى ضمّ قاعدة قبح التضليل، وإن لم تقبل لاحتمال اشتباه النبىّ في دعوى الشمول ـ ولو اشتباهاً ناشئاً من إيهام الله تعالى له لمصلحة ما ـ فلا تضليل كي يتمسّك بقبحه. ودعوى نفي احتمال اشتباه من هذا القبيل عن النبىّ بحساب الاحتمالات لا يتناسب مع إنكار كون المعجز ـ في الرتبة المتقدّمة على التضليل ـ دليلاً على النبوّة، فمن لا يدرك بحساب الاحتمالات دلالة شقّ القمر وتسبيح الحصى وما أشبه ذلك على النبوّة، كيف يحكم بعدم صدور مثل هذا الاشتباه عن النبىّ.

أقول: هذا الكلام ـ أيضاً ـ لا يرجع إلى محصّل؛ فمن غفل عن نتيجة حساب الاحتمالات في مورد لشبهة حصلت له، لا يستلزم ذلك غفلته عنها في مورد آخر، فأيضاً نقول: لو غضضنا النظر عمّا في المتن من الجواب الثاني عن النقض وكون ذات المعجز دليلاً على النبوّة، أمكن تثبيت النقض على الأخبارىّ والأشعرىّ ببيان: أنّ دلالة المعجز على النبوّة عند الخواصّ تتوقّف على قاعدة قبح التضليل باعتبار كون إجراء المعجز على يد الكاذب تضليلاً للعوامّ، فإذا ثبتت بذلك نبوّته في الجملة وهو يدّعي الشمول، فلا نحتمل عقلائيّاً الاشتباه وعدم الشمول.

425

كذب أو اشتباه هذا الذي انفتح أمامه هذا الباب حول مدّعاه في دعواه(1) وبهذا تثبت صحّة دعواه.

الوجه الثاني: أن تستقرأ بحسب التأريخ والزمان الحاضر المجتمعات المختلفة الكثيرة؛ لتحصيل القطع بالتجربة على أنّه لا ينبغ أحد في مجتمع ما، ولا يفوق ذاك المجتمع في الفهم والذكاء إلّا بنسبة خاصّة، وتحت مستوىً معيّن من الفرق، ثُمّ يلاحظ المجتمع الذي نبغ فيه النبىّ(صلى الله عليه وآله)، ويرى ما جاء به من أحكام وأفكار في شتّى الميادين، ويلاحظ أنّها تفوق بدرجات كثيرة أعلى درجات الذكاء الممكن لنابغة ينبغ في ذاك المجتمع بحسب الطبع البشرىّ، وإن كان من المحتمل علوّ ذكائه إلى حدّ تلك الأحكام والأفكار بلحاظ نبوّته، فيثبت بذلك: أنّ تلك الأحكام والأفكار ليست له، إن هي إلّا وحي يوحى علّمه شديد القوى.

هذا أساس لبرهان صحيح على النبوّة يؤثّر في النفوس أكثر وأشدّ من تأثير البرهان الكلامىّ المعروف ثبّتناه هنا بأمل أن يوفّق الله تعالى بعد هذا شخصاً لبيان إثبات النبوّة على هذا الأساس مع ما يحتاج إليه من مزيد تتّبع وتنقيح.

الوجه الثالث: ملاحظة أحوال الرسول(صلى الله عليه وآله)، وأمانته، وصدق لهجته، وخلقه العظيم، واستقامته في أمره، وصموده أمام المحن والمصائب التي كانت كافية لرفع يد الكاذب عن كذبه، وعلوّ همّته بدرجة لو وضعت الشمس في يمينه والقمر في يساره وجعل سلطاناً على وجه الأرض، لما رفع اليد عن دعوته، فلا يعقل أن تكون دعوته استطراقاً إلى كسب


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ عدم الاحتمال هذا، أو قل: الجزم بصدق تمام مدّعى صاحب الإعجاز الذي أقام الإعجاز بعنوان إثباته (بعد ما ثبت إعجازه بحساب الاحتمالات كما عرفت) يمكن تصعيده إلى مستوى ضمان الحقانيّة، بدعوى أنّها قضيّة بديهيّة التصديق بعد استيعاب تمام أطرافها تصوّراً، قال(رحمه الله): إنّه لا مجال الآن لتحقيق وبيان ذلك.

أقول: بل الظاهر: أنّ هذا ـ أيضاً ـ نتيجة حساب الاحتمالات الذي هو الباب الوحيد للتطرّق إلى عالم الخارج كما مضى، وهذا شبيه تماماً بما يتّفق من أنّه يصل إلينا رسول من قبل شخص، ويبلّغنا رسالته، ونطالبه بعلامة على الصدق، فيرينا علامة نعلم أنّها لم تكن توجد إلّا عند المرسل، وأنّه لا داعي له لإعطائه إلى أحد إلّا بعنوان وضع العلامة.

426

المال والجاه وما أشبه ذلك. فمن لا حظ كلّ هذا وما إليه، حصل له القطع ـ إذا كان سليماً في فطرته وعقله ـ بنبوّته(صلى الله عليه وآله).

هذا تمام الكلام في البحث النقضىّ عن إنكار الحسن والقبح أشعريّاً أو أخباريّاً.

 

مع المنكرين على مستوى الحلّ

 

وأمّا البحث الحلّىّ في المقام: فالواقع أنّه توجد في كلمات الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في بحث الموضوع تشويشات، ونحن نقول: تارة يفترض البحث في أصل إدراك البشر للحسن والقبح الذاتيّين وعدمه.

واُخرى يفترض البحث في أنّ باب الحسن والقبح ـ بعد فرض ثبوت إدراكهما ـ هل هو مرتبط بباب المصلحة والمفسدة، أي: إنّ سبب الحسن والقبح المدركين إنّما هو المصالح والمفاسد، أو هذا باب مستقلّ؟

وثالثة يفترض البحث في حقّانيّة هذا الإدراك بعد فرض ثبوته. فهذه أبحاث ثلاثة:

 

1 ـ إدراك الحسن والقبح

البحث الأوّل: في إدراك الحسن والقبح العقليّين وعدمه.

قد أنكر الأشعرىّ والأخبارىّ إدراك الحسن والقبح العقليّين، ولم يؤمنا إلّا بالحسن والقبح الشرعيّين.

في حين اعترف المعتزلىّ وكذلك الاُصولىّ من العدليّة بإدراكهما.

ويجب أن نلفت النظر هنا إلى الفارق الجوهرىّ بين الحسن والقبح الشرعيّين، والحسن والقبح الذاتيّين اللذين يدركهما العقل بحسب رأي الاُصولىّ والمعتزلىّ، فليست نسبة الحسن والقبح العقليّين إلى الحسن والقبح الشرعيّين كنسبة الموت الناشئ بفعل غير المولى إلى الموت الناشئ بفعل المولى؛ إذ إنّهما لا يختلفان في جوهرهما، وإنّما الفرق: في أنّ الموت تارة يكون بسبب قتل المولى لعبده، واُخرى بسبب قتل شخص آخر إيّاه مثلاً، وحقيقة الموت لا تختلف في كلتا الحالتين. وإنّما نسبة الحسن والقبح الذاتيّين إلى

427

الحسن والقبح الشرعيّين كنسبة السلطنة الواقعيّة إلى السلطنة الشرعيّة المختلفتين جوهريّاً: فالثانية عبارة عن عنوان السلطنة المجعول بتشريع الشارع وإنشائه، وهو الملكيّة مثلاً، في حين أنّ الاُولى عبارة عن نفس المعنون وواقع السلطنة الثابت في الخارج.

وكذلك الحال فيما نحن فيه، فالحسن والقبح الذاتيّان عبارة عن واقع الحسن والقبح ونفس المعنون، في حين أنّ الحسن والقبح الشرعيّان عبارة عن عنوان الحسن والقبح الثابت بالجعل والاعتبار، ولايؤثّر الجعل والاعتبار إلّا في إيجاد العنوان دون المعنون. وإن شئت فسمّ الأوّل بالحسن والقبح بالحمل الشائع، والثاني بالحسن والقبح بالحمل الأوّلىّ.

وبعد أن اتّضحت لك هذه النكتة، نقول: إنّ فرض النزاع في إدراك الحسن والقبح الذاتيّين يتصوّر بأحد وجوه:

الأوّل: أن تقول العدليّة ـ مثلاً ـ: إنّا ندرك الحسن والقبح الذاتيّين، ويكذّبهم الأشعرىّ، ويقول لهم: إنّكم لا تدركون ذلك.

وهذا ليس بحثاً علميّاً؛ فإنّ البحث العلمىّ قائم على أساس التخطئة لا التكذيب. والواقع: هو ثبوت هذا الإدراك في أكثر أفراد البشر.

الثاني: أن يقول هذا: إنّي اُدرك الحسن والقبح. ويقول ذاك: إنّي لا أدركهما. وهذا راجع في الحقيقة إلى البحث الثالث؛ إذ معنى ذلك: أنّ الأشعرىّ يقول للعدليّة: إنّ حقّانيّة ما عندكم من الإدراك غير ثابتة عندي، أو هي ثابتة العدم(1).

الثالث: أن يقول أحدهما للآخر: إنّي اُدرك ما تدركه، إلّا أنّ الخلاف فيما بيننا هو: أنّ هذا الأمر المدرك هل هو مضاف إلى ذات الشيء، أو إلى الشارع؟ وتشعر بذلك كلمات الأشعريّين في كيفيّة تحرير البحث؛ إذ إنّهم يقسّمون أوّلاً الأفعال إلى الحسن والقبيح، ويذكرون أقسام الحسن وأقسام القبيح، ثمّ يبحثون أنّ هذا الحسن والقبح عقلىّ، أو شرعىّ؟ فكأنّهم يرون أنّ الحسن والقبح لا يختلف ذاتهما على فرض كونهما عقليّين عنهما على فرض كونهما شرعيّين.

ويشعر بذلك ـ أيضاً ـ ردّ العدليّة للأشعرىّ بإدراك البراهمة ونحوهم ـ ممّن يقال عنهم:


(1) كأنّ المقصود: أنّ أحدهما يدّعي: أ نّي اُدركهما إدراكاً نابعاً من حاقّ نفسي، والآخر يقول: إنّي لا اُدركهما هكذا إدراك.

428

إنّهم غير متديّنين بأىّ شريعة ـ للحسن والقبح؛ فإنّ هذا ـ أيضاً ـ مشعر باتّحاد سنخ المدرك، وأنّ الاختلاف إنّما هو في إضافته إلى الشرع وعدمه، فيثبت بإدراك من لا يدين بشريعة للحسن والقبح عدم انتسابهما إلى الشرع.

وحلّ المغالطة يكون بما مضى: من بيان الاختلاف سنخاً وذاتاً بين الحسن والقبح العقليّين والشرعيّين؛ فإنّ هذه المغالطة إنّما نشأت من الخلط بين ما مضى ممّا أسميناه بالحمل الأوّليّ والحمل الشائع.

الرابع: أن تقول العدليّة: إنّا ندرك الحسن والقبح الذاتيّين بغضّ النظر عن الحسن والقبح الشرعيّين، ويقول الأشعرىّ: إنّي اُدرك نفس ما تدرك من الحسن والقبح الذاتيّين، لكن لامطلقاً، بل في طول الحسن والقبح الشرعيّين، فكلّ ما أوجبه الشارع كان فعله حسناً بعنوان إطاعة لله، وكلّ ما حرّمه كان قبيحاً بعنوان معصية لله.

وهذا التفسير للنزاع خارج عن مورد بحثنا؛ إذ المفروض فيه تسليم كليهما بإدراك العقل للحسن والقبح الذاتيّين، وإنّما الاختلاف يكون في سعة دائرة الحسن والقبح الذاتيّين وضيقهما، وأنّ الحسن والقبح هل يختصّان بطاعة المولى ومعصيته، أو لا؟ وهذا بحث آخر(1).

 

2 ـ الحسن والقبح مع المصلحة والمفسدة

البحث الثاني: في أنّ الحسن والقبح العقليّين ـ بعد فرض إدراكهما ـ هل يرجعان إلى باب المصلحة والمفسدة، أو لا؟

الواقع: أنّ الإدراك الموجود في نفوس الناس ـ سواء فرضناه حقّاً أوْ لا ـ غير مرتبط بباب المصلحة والمفسدة، بأن يقال: إنّ الكذب ـ مثلاً ـ إنّما يحكم بقبحه لما عرف بطول التجارب من ترتّب المفاسد عليه، وإنّ الصدق إنّما يحكم بحسنه لما عرف بطول التجارب


(1) والواقع: أنّ هذا نزاع في إدراك الحسن والقبح الذاتيّين في غير مصداق الطاعة والمعصية، وهذا النزاع حتماً يرجع إلى أحد الوجوه الثلاثة الماضية لتصوير النزاع، ولكن في دائرة غير الطاعة والمعصية: فإمّا أن يكون مرجعه إلى التكاذب، وليس هذا بحثاً علميّاً، أو إلى دعوى أحدهما إدراكه هو، ودعوى الآخر عدم إدراكه هو، وهذا راجع إلى البحث الثالث، أو إلى الخلط بين الحمل الأوّليّ والحمل الشائع، وحلّه هو توضيح الفرق بينهما.

429

من ترتّب المصالح عليه. والمقصود بالمصلحة: ما هو كمال لقوّة من القوى، وبالمفسدة: ما هو نقص لها(1).

ولا فرق فيما ذكرناه (من التغاير بين باب الحسن والقبح وباب المصلحة والمفسدة) بين ما لو قصد بالمصلحة والمفسدة المصلحة والمفسدة الشخصيّتان بالنسبة إلى قوّة من القوى، أو الشخصيّتان بالنسبة إلى خصوص النفس البشريّة، بمعنى كمال النفس ونقصها في قاموس علم الأخلاق دون ما لها من قوى، أو النوعيّتان؛ وذلك لتخلّف الحسن والقبح عن باب المصلحة والمفسدة في كلّ هذه الفروض الثلاثة. فيعلم أنّ الحسن والقبح لا يدوران مع المصلحة والمفسدة أينما دارتا:

أمّا الأوّل: فلأنّه لو فرض ربط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة الشخصيّتين لكلّ قوّة من القوى، فإمّا أن يقصد بالمصلحة والمفسدة ما هو علّة تامّة لانقداح الداعي إلى الفعل أو الترك، وإمّا أن يقصد ما هو مقتض لذلك.

ومن الواضح: أنّه ليس من المعقول أن يكون المقصود هو الأوّل؛ إذ يلزم من ذلك: أن يصدر عن الإنسان ـ دائماً ـ ما هو حسن، ولا يصدر عنه القبيح.

وإن اُريد الثاني، أعني: ما هو مقتض لانقداح الداعي، قلنا: إنّ هناك فرقاً بيّناً في حالة الإنسان المدرك للحسن والقبح بين فرض ارتكابه لما يعتقد قبحه وفرض ارتكابه لما يعتقد كونه خلاف مصالحه.

فمثلاً: من كان يعتقد بكون التدخين خلاف مصلحته؛ لأنّه يؤثّر في انكسار قواه وانحراف مزاجه، وأنّ الضرر المترتّب على الصبر على تركه أهون بكثير من ذلك، ومع ذلك لا يترك هذا العمل معلّلاً بضعف الإرادة وما شابه ذلك، لا يشعر في نفسه إلّا بالأسف. وهذا بخلاف من كشف سرّ أخيه معتقداً لقبح ذلك؛ فإنّه يشعر في نفسه بالخيانة والخجل


(1) لا يخفى أنّ المصلحة والمفسدة بالمعنى الذي قد يفترض تبعيّة الحسن والقبح لهما: إمّا أن يقصد بهما ما يوجب الكمال والنقص، أو يقصد بهما ما يوجب اللذّة والألم، أو الجامع بينهما. واُستاذنا الشهيد(رحمه الله)فسّر في المقام المصلحة والمفسدة بمعنى الكمال والنقص، ولعلّه فرض اللذّة ـ أيضاً ـ كمالاً لقوّة من القوى والألم نقصاً. وعلى أىّ حال، فلو فسّرت المصلحة والمفسدة بخصوص ما يوجب اللذّة أو الألم، فأيضاً الحقّ انفصال باب الحسن والقبح عن باب المصلحة والمفسدة. ولا تخفى عليك (بعد الإحاطة بما في المتن) كيفيّة صياغة البيان بنحو يوضّح انفصال باب الحسن والقبح عن باب اللذّة والألم، وإن لم يكن ما في المتن بصدد ذلك بالخصوص.

430

ووخز الضمير ـ إن لم يكن قد مات ضميره بكثرة الممارسة مثلاً ـ حتّى إذا افترضنا أنّ ذلك لم يكن خلاف مصالحه الشخصيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو ربط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة بمعنى ما هو كمال للنفس أو نقص لها بحسب علم الأخلاق، لزم أن يكون الحسن والقبح في طول كمال النفس ونقصها، في حين أنّ الأمر بالعكس، فما يتّصف بالحسن أو القبح يؤثّر بما هو كذلك في الكمال والنقص، دون العكس، وإلّا للزم إيقاع المزاحمة بين الكمالات والنقائص في مقام استنتاج كون هذا الفعل حسناً أو قبيحاً.

فمثلاً: لو كان كشف سرّ الأخ مقدّمة لتحصيل علم من أهمّ العلوم، فلا إشكال في أنّ من يكشف سرّ أخيه لكي يحصل على علم من هذا القبيل، يعدّ لدى المعترفين بقبح كشف السرّ خائناً غير نبيل، في حين لو فرضنا دوران الحسن والقبح مدار ما يوجبه الشيء من كمال أو نقص، يجب إيقاع التزاحم بين المقدار الذي يزول بسبب كشف السرّ مرّة واحدة من ملكة كتمان السرّ (التي هي في قاموس علم الأخلاق كمال من كمالات النفس) والمقدار الذي يحصل عليه من كمال العلم بسبب ذلك؛ ولرجحان الثاني يحكم بعدم قبح كشف السّر، بل بحسنه.

وكذلك لو فرض أنّ شخصاً قادراً على التصرّف في النفوس قال له: اكشف مرّة واحدة سرّ أخيك، وأنا أضمن لك تتميم هذه الملكة في نفسك، وجعلها أقوى ممّا كانت قبل كشف السرّ بدرجات كثيرة، ففعل ذلك، فلا إشكال في أنّه يعدّ رجلاً خائناً، ويعدّ فعله رذيلة من الرذائل.

وأمّا الثالث: فلأنّه لو ربط الحسن والقبح بمصلحة المجتمع ومفسدته، لزم في مثال مقدّميّة كشف السرّ لتحصيل ما هو من أهمّ العلوم ـ مثلاً ـ إيقاع التزاحم بين المفسدة النوعيّة المترتّبة على كشف السرّ وزوال ملكة الكتمان، والمصلحة المترتّبة على تحصيل ذلك العلم الذي يمكّنه من نفع المجتمع بمنافع عظمى. فمتى ما كانت هذه المصلحة أقوى، لزم أن لا يكون كشف السرّ قبيحاً، ولا يعدّ هذا الشخص خائناً وغير نبيل عند من يدرك قبح كشف السرّ، في حين ليس الأمر كذلك. هذا.

431

وللمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في فوائده(1) بيان في شرح الحسن والقبح، يربط فيه باب الحسن والقبح بباب المصلحة والمفسدة باُسلوب آخر يختلف عن الوجوه الماضية. ولعلّه كان لتفطّنه على ما يرد على تلك الوجوه، أو لتفتيشه عن أساس أعمق. وحاصل كلامه ـ رضوان الله عليه ـ: أنّه طبّق أوّلاً مقالة الفلاسفة في تفسير الخير والشرّ على باب الأفعال.

توضيح ذلك: أنّ الفلاسفة ذهبوا إلى أنّ الوجود خير محض، وأنّ العدم شرّ محض، فكلّما كان أوسع وجوداً، كان أوسع خيريّة، وكلّما كان أضأل وأضيق وجانب العدم أغلب عليه، يكون أكثر شرّيّة. واتّصاف بعض الوجودات بالشرّ يكون باعتبار ما يلازمها، أو يترتّب عليها من الأعدام، كما أنّ اتّصاف بعض الأعدام بالخير يكون باعتبار ما يلازمها، أو يترتّب عليها من الوجودات. فالإنسان ـ مثلاً ـ أكثر خيراً وآثاراً من الحيوان؛ لكونه أوسع وأرقى وجوداً منه، وكذلك الحيوان أكثر بركة وآثاراً من النبات، والنبات من الجماد. هذا هو تطبيق كلام الفلاسفة على الأعيان الخارجيّة.

وكذا الكلام في تطبيقه على الأفعال: فكلّ فعل يكون جانب الوجود فيه أوسع، فهو أكثر خيريّة، وكلّما كان من الأفعال ضئيلاً وحقيراً، وكان جانب العدم هو الغالب عليه، كان أشدّ شرّيّة.

والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بعد ما طبّق كلام الفلاسفة على باب الأفعال ذكر: أنّ كلّ قوّة من القوى في الإنسان ـ كقوّة البصر والذوق والشمّ وغير ذلك ـ تنبسط وتنشرح بإدراك ما يلائمها، وتتضجّر وتنكمش من إدراك ما ينافرها. فالباصرة ـ مثلاً ـ تنبسط لرؤية الحديقة والأزهار، وتتضجّر لرؤية ما تستقبحه من صور الأشياء الكريهة، وكذلك الشامّة بالنسبة إلى الروائح وغيرها من القوى.

وكذلك الحال في رئيس تلك القوى، وهي القوّة العاقلة، فتنبسط لادراك ما يلائمها، وتنكمش من إدراك ما ينافرها. ومقياس الملائمة والمنافرة لها هي: درجة التسانخ وعدمه. وبما أنّ القوّة العاقلة موجود بسيط ومجرّد، ومن أوسع الوجودات وأرقاها، فكلّ فعل كان أوسع وجوداً، كان أشبه وأنسب بالقوّة العاقلة، وأكثر سنخيّة لها، فتنبسط القوّة


(1) وهي الفائدة 13 من كتاب الفوائد للشيخ الآخوند، وبحسب طبعة بصيرتي في ذيل حاشية الآخوند على الفوائد وقعت في صفحة 330 ـ 332.

432

العاقلة بإدراكه لها تصوّراً أو تصديقاً، وكلّ فعل كان أضيق وجوداً وجانب العدم أكثر غلبة عليه، كان أكثر مباينة لتلك القوّة، فتنكمش منه. وهذا هو معنى الحسن والقبح العقليّين(1). هذا هو ما اختاره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في المقام.

وتحقيق ما مضى من تفسير الفلاسفة للخير والشرّ مربوط ببحث الفلسفة، وإنّما نتكلّم هنا فيما أفاده المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بالمقدار المناسب لبحثنا.

والواقع: أنّ ما ذكره(رحمه الله) كان ألطف ما ذكره الاُصوليّون في المقام من حيث التطبيق على المصطلحات، لكن التحقيق: أنّ كلامه لا يرجع إلى محصّل.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما ذكره(رحمه الله) هو خلط في الحقيقة بين المدرك بالذات والمدرك بالعرض.

توضيح ذلك: أنّنا حقّقنا في بحث اجتماع الأمر والنهي أنّ الحالات النفسيّة من قبيل الإدراك والحبّ والبغض وغير ذلك لا تنصبّ ابتداءً على ما في الخارج، وإنّما يكون المدرك بالذات أو المحبوب والمبغوض بالذات ونحو ذلك هي الصورة الموجودة في صقع الإدراك أو الحبّ والبغض، وهي عين الإدراك أو الحبّ والبغض أو غير ذلك من الصفات النفسيّة. أمّا ما في الخارج فهو مدرك بالعرض أو محبوب أو مبغوض بالعرض.

وبعد هذا نقول: إنّ تنافر أىّ قوّة من القوى من إدراك شيء أو انبساطها منه عبارة عن المنافرة أو الملائمة بينها وبين المدرك بالذات، لا المدرك بالعرض؛ فإنّ المدرك بالعرض


(1)وقال(رحمه الله) ما نصّه: ومع ذا لا يكاد يبقى مجال لإنكار الحسن والقبح عقلاً؛ إذ لانعني بهما إلّا كون الشيء في نفسه ملائماً للعقل فيعجبه أو منافراً فيغربه. وبالضرورة أنّهما يوجبان صحّة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختاراً بما هو فاعل، كما لا يكاد يخفى على عاقل. ودعوى عدم اختلاف الأفعال في ذلك، كدعوى عدم إيراث ذلك تفاوتاً فيها ملائمة ومنافرة للعقل، كدعوى عدم صحّة مدح الفاعل وذمّه على صدور الفعل الملائم والمنافر بالاختيار، مكابرة واضحة... إلى أن قال: ثُمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ـ من بيان ما هو سبب اتّصاف الأفعال عند العقل بالحسن والقبح ـ اتّصافها بهما أيضاً عنده جلّ شأنه، ولايبقى مجال لإنكار ذلك ـ بتقريب: أنّه من المحتمل أن يكون ملائمات العقل ومنافراته بالقياس إليه تعالى، كملائمات سائر القوى ومنافراتها بالنسبة إليه. فكما لا يتفاوت عنده الملائم والمنافر لها، بل على حدّ سواء، كذلك كان حال ملائماته ومنافراته بالإضافة إليه تعالى ـ وذلك لما عرفت: من أنّ سبب الاتّصاف هو الاختلاف في السنخيّة والبينونة في الوجود بحسب سعته وكماله وضيقه ونقصه، بما له من الأثر خيراً وشرّاً. ولايخفى أنّ هذا كلّما كان الوجود أكمل، كان أظهر وأبين؛ ولأجل ذلك يكون كلّما كان العقل أكمل، كان استقلاله بهما فيها أكثر، والملائمة والمنافرة أبين وأظهر، وكلّما كان أنقص، كان ذلك أقلّ، إلى أن لا يرى المنافر منافراً والملائم ملائماً، بل يرى بالعكس.

433

ليس هو الحاضر لدى القوّة كي يؤثّر في انبساطها وانقباضها.

مثلاً: القوّة الباصرة تلتذّ بإدراكها للحدائق والأزهار ولو فرض إدراكها غير مطابق للواقع الخارجىّ، وتشمئزّ من إدراكها للصور القبيحة ولو فرض غير مطابق للواقع. وحينئذ نسأل بالنسبة إلى القوّة العاقلة: هل المقصود انبساطها وانقباضها بالمدرك بالعرض باعتبار مسانخته أو عدم مسانخته لها، أو المقصود انبساطها وانقباضها بالمدرك بالذات باعتبار مسانخته أو عدم مسانخته لها؟ فإن فرض الأوّل قلنا: إنّ المدرك بالعرض ليس هو الحاضر لدى القوّة العاقلة كي يؤثّر بالمسانخة وعدم المسانخة ذاك التأثير، وإن فرض الثاني قلنا: إنّ المدرك بالذات ـ دائماً ـ على حدّ سواء من حيث التجرّد وسعة الوجود، بلا فرق بين أن يكون المدرك بالعرض وسيعاً أو ضيّقاً؛ فإنّ من أوّليّات علم النفس في الفلسفة: أنّ إدراكات قوّة واحدة تناسب تلك القوّة في التجرّد وسعة الوجود على نهج واحد، فليس ـ مثلاً ـ إدراك الأمر المادّىّ مادّيّاً والمجرّد مجرّداً، بل إدراك ما هو من أرقى الموجودات يساوي من حيث التجرّد إدراك ما هو من أخسّ الموجودات، كالبياض ـ مثلاً ـ الذي هو وجود عرضىّ حالّ في وجود مادّيّ.

وما للمدرك بالعرض من السعة والضيق أو الخيريّة والشرّيّة لا يسري إلى المدرك بالذات، وإنّما يحكم على المدرك بالذات بأحكام وخصائص المدرك بالعرض بمنطق الفناء، ولا يوجب الفناء سريان الخصائص والآثار من الخارج إلى الصورة حقيقة. فصورة النار ـ مثلاً ـ لن تحرق بفنائها في ذي الصورة، وإدراك الوسيع أو الضيّق لن يكون وسيعاً أو ضيّقاً بلحاظ حال المدرك بالعرض، كي يترتّب على ذلك انبساط القوّة العاقلة وانقباضها؛ ولذا ترى وجداناً: أنّ القوّة العاقلة ليس الأولى بها أن تدرك العدل فقط دون الظلم، كما كان الأولى بالقوّة الباصرة أن تدرك الصورة الحسنة دون القبيحة، والأولى بالقوّة الشامّة أن تشمّ الروائح العطرة دون الكريهة.

إذن فما مضى من المقدّمة الفلسفيّة بناءً على تماميّتها لا تنتج المطلوب.

وثانياً: أنّ هناك نقوضاً ترد على ما ذكره(رحمه الله) إن أمكن الجواب عن بعضها بتكلّف، فمجموع النقوض كاف في الإيراد عليه:

الأوّل: أنّه لو كان الحسن والقبح العقليّان باعتبار مدى مسانخة الفعل للقوّة العاقلة في

434

سعة الوجود، لزم أن يختلف العقل العملىّ ـ بالتعبير العلمىّ ـ والضمير الخلقىّ ـ بالتعبير الوعظىّ ـ باختلاف العقل النظرىّ، ويكون تابعاً له سعة وضيقاً. فمن يكون منّا أذكى في العقل النظرىّ وأقوى في مقام اقتناص الكلّيّات وفهم المجرّدات واستخلاصها من شوائب الموادّ والخصوصيّات، يكون أشدّ انقباضاً من إدراك الفعل القبيح واستقباحاً لصدوره عن شخص ما، ومن يكون أضعف في ذلك، يكون أقلّ انقباضاً منه واستقباحاً لصدوره عن نفس ذاك الشخص، في حين ليس الأمر كذلك.

الثاني: أنّه يلزم من ذلك أن تكون الاُمور المباحة وغير القبيحة في نظر الأدنى في العقل النظرىّ قبيحة في نظر الأعلى، حيث تكون نسبة قوّته العاقلة إلى هذا الفعل كنسبة القوّة العاقلة للأدنى إلى ما يستقبحه. فالفعل الخاصّ الصادر عن شخص خاصّ مباح في نظر الأوّل وقبيح في نظر الثاني. وليس الأمر كذلك.

الثالث: أنّه يلزم من ذلك أن يتساوى في نظر شخص واحد قبح العمل القبيح الصادر عن أىّ شخص مع قبح نفس العمل الصادر عن شخص آخر، مع وضوح أنّه يشتدّ قبحاً، ويخفّ بلحاظ الفاعل. فلو أنّه صدر ذلك عن نبىّ من الأنبياء مثلاً، فهو لايساوي في القبح فرض صدوره عن إنسان اعتيادىّ. وإذا فرض الكلام بلحاظ الأعدام الملازمة، قلنا حتّى مع افتراض تساوي الأعدام الملازمة يشعر العقل بأشدّيّة قبح صدوره عن النبىّ من قبح صدوره عن إنسان اعتيادىّ(1).

الرابع: أنّه هل المراد بقبح الكذب ـ مثلاً ـ كونه قبيحاً باعتبار الحدّ العدمىّ له، أو المراد كونه قبيحاً باعتبار الأعدام الملازمة له؟ فإن اُريد الأوّل، ورد عليه النقض بالصدق والكذب؛ فإنّهما بما هما كيف مسموع وكيفيّة نفسانيّة لا فرق بينهما من حيث الحدّ العدمىّ أصلاً، وإن اُريد الثاني، ورد عليه النقض بفرض عدم الالتفات إلى الأعدام الملازمة؛ فإنّه يلزم من ذلك ربط إدراك القبح بالالتفات إلى الأعدام الملازمة وعدم إدراكه


(1) الواقع: هو أنّ الفرق ليس في مقدار قبح العمل، وإنّما الفرق هو في درجة الانحطاط النفسىّ التي يكشف عنها هذا العمل؛ ذلك لأنّ الإنسان الاعتيادىّ كان المترقّب أن يكون أعلى مستوىً من صدور مثل هذا الفعل عنه بدرجة واحدة مثلاً، فكشف هذا العمل عن أنّه قد انحطّت نفسيّته بدرجة حتّى انقدحت في نفسه إرادة هذا العمل، في حين أنّ النبىّ ـ الذي هو أرفع مستوىً من هذا الفعل بمئات الدرجات ـ لو صدر عنه هذا الفعل، كشف عن أنّه قد انحطّت نفسيّته بمئات الدرجات، حتّى استعدّ لعمل من هذا القبيل.

435

عند عدم الالتفات إليها، في حين ليس الأمر كذلك. وكذا ربط إدراك حسن ترك الانتقام بالالتفات إلى وجودات ملازمة له وعدم إدراكه عند عدم الالتفات إليها، في حين ليس الأمر كذلك. هذا مضافاً إلى أنّ هذا الكلام ينافي مبناه(رحمه الله): من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ(1).

وأمّا لو اُريد أنّ إسناد القبح إلى الكذب ـ مثلاً ـ إسناد مجازىّ باعتبار الأعدام الملازمة له، فهو بغضّ النظر عمّا عرفت من النقض بفرض عدم الالتفات إلى الأعدام المترتّبة عليه، يكون ممّا يكذّبه وجدان المدركين للحسن والقبح من العقلاء؛ فإنّهم يدركون قبح الكذب حقيقة لا مجازاً.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ ما ذكره(رحمه الله) من انبساط القوّة العاقلة وانقباضها لا ترى له أىّ منشأيّة لصحّة المدح والذم، فلابدّ من التفتيش عن نكتة لصحّة المدح والذمّ. فإن فرضنا أنّها عبارة عن قانون العقلاء وجعلهم لصحّة المدح والذمّ، رجع هذا في الحقيقة إلى إنكار إدراك الحسن والقبح الذاتيّين، وإن فرضنا أنّها عبارة عن خصوصيّة ذاتيّة في الفعل، فهي بنفسها تفسير للحسن والقبح بلا حاجة إلى ضمّ انبساط القوّة العاقلة وانقباضها، إلّا أن يكون مقصوده(قدس سره) أنّ ذلك علامة ومعرّف للحسن والقبح، وإن كان هذا خلاف ظاهر كلامه (2).

ثُمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه عدم صحّة إرجاع ما يتراءى لدى الناس من إدراك الحسن والقبح إلى باب الميل والغريزة، وسلخهما من باب الإدراك؛ فإنّه يلزم من ذلك عدم صحّة


(1) قد يقول القائل: إنّنا لا ندخل الأعدام والوجودات الملازمة للشيء في الحساب، ولكن ندخل الأعدام والوجودات الناتجة عن الشيء في الحساب، فهذا يشبه اقتضاء النهي عن المعلول النهي عن علّته، لا اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

(2) كان الأولى أن يصاغ هذا المقطع بصياغة اُخرى أشمل، وذلك بأن يقال: هل المقصود أنّ الحسن والقبح عبارة عن نفس الملائمة والمنافرة للقوّة العاقلة التي توجب الانبساط والانقباض، أو المقصود أنّ الحسن والقبح أمران واقعيّان بغضّ النظر عن الملائمة والمنافرة، مرتبطان بسعة الوجود وضيقه (أو هما عين سعة الوجود والضيق في العمل الاختيارىّ)، ومعنى إدراك العقل لهما: انبساطه للحسن وانقباضه للقبيح على أساس الملائمة والمنافرة؟ فإن فرض الأوّل، ورد عليه ما في المتن: من أنّ مجرّد الملائمة والمنافرة، أو تأثير المدرك في انبساط وانقباض العقل، ليس مصحّحاً للمدح والذم... إلى آخره.

وإن فرض الثاني، فهذا في واقعه إنكار لادراك الحسن والقبح؛ فإنّ الإدراك يعني الكشف، لا حالة الانبساط والانقباض؛ إلّا أن يفرض الانبساط والانقباض مجرّد علامة، وهذا خلاف ظاهر كلامه.