386

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)، وإليك نصّ عبارته:

«ثمّ لا يذهب عليك أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة ـ لو كان المكلّف متمكّناً منها ـ تجب ـ ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً، ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك أيضاً؛ لامتناعها، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته ـ للتمكّن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت، وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة. وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً؛ فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهة، مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام، لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً. ومن هنا انقدح: أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاُصول الحكميّة أو الموضوعيّة في أطراف العلم، لو كانت جارية مع قطع النظر عنه».

وظاهر العبارة أنّ كلمة «من هنا» في آخر عبارته إشارة إلى كلّ ما مضى، إذن فمقصوده(رحمه الله) هو الجواب عن مشكلة مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول:

أوّلاً: بأنّ الالتزام الواجب إنّما هو الالتزام بالواقع على إجماله، لا الالتزام به بعنوانه التفصيلىّ، والالتزام بالواقع على إجماله لا ينافي جريان الاُصول.

وثانياً: بأنّه لو تنزلنا وافترضنا كون الواجب هو الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيليّ: «لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة؛ ولما وجب عليه الالتزام...» إلى آخره.

إلّا أنّ المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) فسّر العبارة بتفسير غريب، وهو: أنّه مع الاعتراف بأنّ الواجب هو الالتزام بالواقع على إجماله يصبح وجوب الالتزام مانعاً عن جريان الاُصول؛ لأنّ وجوب الالتزام ثابت حتّى في حالة دوران الأمر بين المحذورين، فيمنع عن جريان الاُصول على رغم عدم محذور عملىّ؛ لعدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة، أمّا إذا افترضنا أنّ الواجب هو الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلىّ، إذن لا يشكّل هذا محذوراً عن جريان الاُصول في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ إذ على هذا الفرض «ما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة...» إلى آخر عبارة الكفاية.

387

وعلى أىّ حال، فلو كان مقصود صاحب الكفاية هو الذي نحن فهمناه من عبارته: من افتراض عدم وجوب الالتزام بالعنوان التفصيلىّ، وكفاية الالتزام بالواقع على إجماله جواباً مستقلّاً عن مانعيّة وجوب الالتزام عن إجراء الاُصول، فهذا هو عين الجواب الذي نقلناه عن الدراسات، وقد عرفت تعليقنا عليه.

أمّا الذي نريد بحثه هنا، فهو جوابه عن تقدير وجوب الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلىّ.

وظاهر عبارته(رحمه الله): أنّه على هذا التقدير له جوابان. إلّا أنّ الذي يقتضيه الفنّ هو أن يكونا شقّين لجواب واحد عن فرضين مختلفين، بأن يقال:

تارة يفترض أنّ التكليف يتطلّب الالتزام به بعينه، ولكنّنا نتنزّل من الموافقة القطعيّة إلى الموافقة الاحتماليّة بالالتزام بأحد الطرفين؛ لعدم القدرة على الموافقة القطعيّة باعتبار استحالة الالتزام بالضدّين.

واُخرى يفترض أنّ التكليف ابتداءً لا يتطلّب عدا الالتزام به، أو بضدّه تخييراً.

فإن فرض الأوّل، قلنا: إنّ الالتزام بأحدهما كان موافقة التزاميّة احتماليّة، لكنّه في نفس الوقت يحتمل أن يكون التزاماً بضدّ التكليف، وليس محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً بأقلّ من محذور عدم الالتزام بالتكليف.

وإن فرض الثاني، قلنا: إنّ إشكال حرمة الالتزام بضدّ التكليف لايكون وارداً؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف هو الذي يتطلّب منّا تخييراً الالتزام به أو بضدّه، إلّا أنّ هذا الفرض في نفسه ضرورىّ البطلان؛ بداهة أنّ التكليف لو كان يقتضي الالتزام، فإنّما يقتضي الالتزام به عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ويرد عليه: أنّ فرضيّة عدم كون محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً أقلّ من محذور عدم الالتزام بالتكليف، لا تكفي لإسقاط وجوب الالتزام في المقام. نعم، يمكن إسقاطه لو فرض كون محذور الالتزام بضدّ التكليف أقوى، أمّا مع التساوي فستترجّح كفّة وجوب الالتزام بالتكليف على كفّة قبح الالتزام بضدّ التكليف؛ لأنّ في ترك الالتزام بشيء من الحكمين مخالفة قطعيّة لوجوب الالتزام، وفي الالتزام بأحدهما مخالفة احتماليّة لقبح الالتزام بضدّ التكليف، والمخالفة الاحتماليّة أهون من المخالفة القطعيّة.

388

توضيح ذلك(1) أنّنا تارة نتكلّم على مبنى علّيّة العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة وتعلّقه بالواقع، واُخرى على مبنى اقتضائه وتعلّقه بالجامع. أمّا على الثاني فلا تزاحم بين الحقّين أصلاً؛ لتمكّنه من الموافقة القطعيّة لكليها: بأن يلتزم بالجامع، ولا يلتزم بخصوصيّة أحد الفردين.

فالذي ينبغي فرضه في المقام هو المبنى الأوّل الذي هو مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله). وعليه نقول: إنّ هناك حقّين عقليّين للمولى قد تزاحما:

الحقّ الأوّل: هو حقّ الالتزام بحكم المولى، وبعد فرض عدم إمكان الموافقة القطعيّة بالالتزام بالضدّين، وفرض بقاء هذا الحقّ، وعدم سقوطه على رغم عدم إمكان الالتزام بالضدّين، لابدّ من افتراض تبدّل محور الحقّ، وتنزّله من الالتزام بالحكم بنحو الموافقة القطعيّة إلى الالتزام به بنحو الموافقة الاحتماليّة، وذلك بغضّ النظر عن الحقّ الثاني المزاحم لهذا الحقّ، وبمجرّد نكتة عدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة وبقاء الحقّ في نفس الوقت.

الحقّ الثاني: هو حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف، وهذا الحقّ بغضّ النظر عن مزاحمه،


(1) هذا التوضيح في الحقيقة جواب عن إشكال قد يورد في المقام: وهو أنّ المخالفة القطعيّة لوجوب الالتزام بالواجب توأم مع الموافقة القطعيّة لحرمة الالتزام بضدّ الواجب، والمخالفة والموافقة الاحتماليّة لأحدهما توأم للمخالفة والموافقة الاحتماليّة للآخر، فالكفّتان متعادلتان.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: ما قد يقال في موارد اشتباه عمل واجب بعمل آخر محرّم: من أنّه يجب التنزّل من الموافقة القطعيّة لأحدهما التوأم للمخالفة القطعيّة للآخر إلى الموافقة الاحتماليّة لكلّ منهما، فإذا كان الأمر كذلك في موارد اشتباه الواجب بالحرام، فكذلك الحال في المقام.

إلّا أنّ هذا غير تامّ في المقام لأمرين:

أوّلاً: أنّ هذا الرأي مبتن على أنّ العلم الإجمالىّ متعلّق بالجامع بحدّه الجامعىّ، لا الواقع بحدّه الواقعىّ، وأنّ العلم الإجمالىّ أصبح بذلك علّة تامّة لوجوب الامتثال بقدر الجامع، إذن فترجح كفّة الموافقة الاحتماليّة لكلا الطرفين المساوقة للإتيان بكلا الجامعين على كفّة الموافقة القطعيّة لأحدهما والمخالفة القطعيّة للآخر، في حين أنّنا في المقام نتكلّم على مبنى تعلّق العلم الإجمالىّ بالواقع، كما جاء توضيح ذلك في المتن.

ثانياً: أنّ كون العلم الإجمالىّ بناءً على تعلّقه بالجامع علّة تامّة لتنجّز الجامع فقط إنّما يعقل في العلم بالتكليف، لا في العلم بالحقّ العقلىّ؛ فإن مفهوم الحقّ قد استبطن فيه التنجّز، فمجرّد احتماله ينجزّه بحدّه الواقعىّ.

الثاني: ما جاء في المتن بتعبير (توضيح ذلك...) إلى آخره.

389

وهو الحقّ الأوّل، ليس فيه تنزّل عن الترك بنحو الموافقة القطعيّة إلى الترك بنحو الموافقة الاحتماليّة؛ وذلك لقدرة المكلّف على الموافقة القطعيّة بترك الالتزام بهما معاً.

فإذا كان الحقّ الأوّل بذاته متنزّلاً إلى حقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة بخلاف الحقّ الثاني، تبيّن لك: أنّ في الالتزام بأحد الطرفين موافقة قطعيّة لحقّ الالتزام، ومخالفة احتماليّة لحقّ ترك الالتزام بضدّ الواجب، وفي ترك الالتزام بهما معاً موافقة قطعيّة لحقّ ترك الالتزام بضدّ الواجب، ومخالفة قطعيّة لحقّ الالتزام بالواجب. إذن فكلا الفرضين يشتركان في موافقة قطعيّة، ويختلفان في أنّ أحدهما يشتمل على مخالفة احتماليّة، والآخر يشتمل على مخالفة قطعيّة، والمخالفة الاحتماليّة أهون من المخالفة القطعيّة.

إن قلت: بعد البناء على قبح التجرّي يكون للمولى فيما نحن فيه حقوق عقليّة ثلاثة:

1 ـ حقّ الالتزام بأحد الحكمين.

2 ـ حقّ ترك الالتزام بالوجوب.

3 ـ حقّ ترك الالتزام بالحرمة.

وباعتبار وجود التناقض بين متعلّقي الحقّين الآخرين بمجموعهما، ومتعلّق الحقّ الأوّل، يستحيل اجتماع الحقّين الآخرين مع الحقّ الأوّل، لا للتزاحم، وعجز المكلّف عن الجمع فحسب، بل لعدم تعقّل تعلّق الحقّ بالنقيضين في ذاته، فيتساقط الحقّ الأوّل مع أحد الحقّين الأخيرين، ويتحوّل الحقّان الأخيران إلى حقّ ترك الالتزام بأحدهما تخييراً.

قلت: مركز حقّ عدم الالتزام بضدّ الحكم إنّما هو ابتداءً عبارة عن أصل الحكم الواقعىّ المعلوم، ويجب ملاحظة حاله عند التزاحم مع حقّ الالتزام بالتكليف، فلو تقدّم عليه، وصلت النوبة إلى تحقّق حقّين بعدد الموافقتين الاحتماليّتين له، بناءً على كون القبح في الحقيقة للجامع بين التجرّي والمعصية، ولو تقدّم حقّ الالتزام عليه كما عرفت، لم تصل النوبة إلى ذلك(1) هذا.

 


(1) وينبغي ـ أيضاً ـ بيان أنّ مصبّ حقّ وجوب الالتزام بالتكليف ـ أيضاً ـ كان من أوّل الأمر هو ذات التكليف المعلوم، ولكن بما أنّ هذا الحقّ لو بقي محوره عبارة عن ذات التكليف، لوجبت موافقته القطعيّة بالالتزام بكلّ واحد من الحكمين؛ لأنّ مفهوم الحقّ مستبطن لمفهوم التنجّز، واحتمال المنجّز منجّز لا محالة، والاحتمال قائم في كلا الطرفين، في حين أنّ المفروض عدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة. فالمفروض: أنّ محوره


390

وكأنّ منشأ اشتباه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) أنّه لاحظ كلّاً من الفردين على حدة، ورأى أنّ في الالتزام به احتمال حصول الالتزام بالحكم الواقعىّ، واحتمال حصول الالتزام بضدّه، والمفروض: أنّ حسن الأوّل ليس بأشدّ من قبح الثاني.

وعلى أىّ حال، فالذي يهوّن الخطب أنّ عنوان الحرام ليس هو الذي ذكره(قدس سره) في كلامه من الالتزام بضدّ التكليف، بل الذي دلّ على حرمته العقل والنقل هو التشريع الذي يكفي في تحقّقه بالإسناد والالتزام مجرّد الشكّ في كون هذا من الشارع.

ثُمّ إنّ ما أفاده(رحمه الله): من عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة بناءً على وجوب الالتزام بالعنوان التفصيلىّ للحكم غير صحيح؛ فإنّ اجتماع الضدّين لاشكّ في استحالته، لكن الالتزام بهما ليس محالاً؛ فإنّ الالتزام بمعنى عقد القلب والاستسلام القلبيّ أمر اختيارىّ للقلب يحصل حتّى تجاه ما يعلم باستحالته كالضدّين، والضدّيّة بين الشيئين لا تسري إلى الالتزامين.

 

 

 

 


قد تبدّل من الواقع المعلوم إلى أحد محتملي الواقعيّة على سبيل التخيير، لا أنّ مصبّ الحقّ ابتداءً كان عبارة عن كلا محتملي الواقعيّة، وسقط أحدهما بالعجز؛ كي يقال: إنّه إذن في مقابل ذلك يكون حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف ـ أيضاً ـ ابتداءً عبارة عن حقّ ترك الالتزام بهذا، وحقّ ترك الالتزام بذاك، فرجعنا إلى فرضيّة الحقوق الثلاثة.

ثُمّ إنّني أعتقد أنّ هذا الإشكال على ما اُعمل فيه من دقّة وتحقيق غير واضح الورود على صاحب الكفاية؛ فإنّه لم يفترض التساوي بين حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف وحقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة بالتكليف، وإنّما افترض التساوي بين حقّ الالتزام بضدّ التكليف وحقّ الالتزام بذات التكليف، ومن حقّه أن يدّعي أنّ حقّ الالتزام بذات التكليف حينما يتحوّل (على أساس العجز عن الموافقة القطعيّة الالتزاميّة) إلى حقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة، سيكون الحقّ المتحوّل إليه أخفّ من الحقّ الأصلىّ، وأنزل درجة بقدر ما يوجد من مستوى الفرق بين درجة الموافقة القطعيّة والموافقة الاحتماليّة.

391

بحث القطع

6

 

 

 

الدليل العقلىّ

 

 

 

○ تمهيد.

○ القُصور في عالم الجَعل.

○ القُصور في عالم الكشف.

○ القُصور في عالم الحجّيّة.

 

 

 

 

 

393

الدليل العقليّ

1

 

 

تمهيد

 

 

○  تحرير محلّ النزاع.

○  طرق استنباط الحكم الشرعىّ من العقل.

 

 

395

 

 

 

لنمهّد قبل الدخول في البحث ـ عمّا وقع الخلاف فيه بين الاُصوليّين والأخباريّين من حجّيّة القطع بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل ـ مقدّمتين:

 

المقدّمة الاُولى في تحرير محلّ النزاع

 

إنّ كلمات بعض المتقدّمين في بيان ما هو المراد من الدليل العقلىّ في غاية التشويش، كتفسيرهم ذلك بالاستصحاب، والبراءة، وغير ذلك، إلّا أنّ الصحيح في ضابط محلّ النزاع هو: أنّ الخلاف قد وقع في إمكانيّة الاعتماد على استنباط الحكم الشرعىّ بدليل عقلىّ قطعىّ وعدمها.

وهذا غير النزاع الثابت بين الإماميّة والعامّة في حجّيّة الدلالة العقليّة المتقدّم تأريخيّاً على هذا النزاع، حيث ادّعى السنّة حجّيّة الظنون العقليّة في الاستنباط، ومنع الإماميّة عن ذلك، ولعدم التمييز بين النزاعين اتّهم بعض الأخبارييّن الاُصوليّين باتّباعهم الظنون العقليّة في استنباط الأحكام.

والواقع: أنّ الشيعة بأجمعهم أنكروا حجّيّة هذه الظنون تبعاً لأئمّتهم الذين كثر عنهم الردع عن ذلك، كقولهم: «دين الله لا يصاب بالعقول»، كما أنّه يكفي في عدم حجّيّتها بغضّ النظر عن العمومات والإطلاقات الرادعة عن العمل بالظنّ مجرّد أصالة عدم الحجّيّة.

وبعد هذا تطوّر النزاع إلى نزاع آخر بين الشيعة أنفسهم في مدى إمكانيّة الاعتماد في استنباط الحكم الشرعىّ على دليل عقلىّ مورث للقطع، وليس المقصود بإدراك العقل ـ الذي وقع الخلاف في الاعتماد عليه في استنباط حكم الشرع ـ الإدراكات العقلانيّة بالقوّة الخاصّة من قوى النفس المسمّاة بالقوّة العقليّة عند الفلاسفة، وإنّما المقصود هو: الإدراك المقرون بالجزم، سواء كان حصيلة تلك المرتبة الخاصّة، أو حصيلة سائر المراتب والقوى الموجودة في النفس.

كما ينبغي الإشارة إلى أنّ المقصود هو الإدراك العقلىّ الذي هو في عرض الكتاب والسنّة؛ فإنّ الكلام إنّما هو في استنباط الحكم من العقل على حدّ استنباطه من الكتاب

396

والسنّة، وليس الكلام في الحكم العقلىّ الذي هو في الرتبة المتقدّمة على الكتاب والسنّة، والذي به يثبت وجود الكتاب والسنّة أو حجيّتهما، ولا في الحكم العقلىّ في المرتبة المتأخّرة عن حكم الشرع، كحكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية، فكلّ هذا خارج عن محلّ النزاع. نعم، لو اُريد إثبات وجوب الإطاعة وحرمة المعصية شرعاً عن طريق حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية بناءً على قاعدة الملازمة، فهذا داخل في محلّ النزاع.

والخلاصة: أنّ الأخباريّين يدّعون أنّ العقل ليس دليلاً على الأحكام الشرعيّة في قبال الكتاب والسنّة.

 

المقدّمة الثانية في أقسام أو طرق استنباط الحكم الشرعىّ من العقل

 

قد يقسّم العقل إلى النظرىّ والعملىّ، ويقال في الفرق بينهما: إنّ العقل النظرىّ عبارة عمّا يدرك ما هو واقع في نفسه، كالوجوب والإمكان، والعقل العملىّ عبارة عمّا يدرك ما ينبغي أن يقع، أو يقال:

إنّ الأوّل عبارة عمّا يدرك ما ينبغي أن يعلم، والثاني عبارة عمّا يدرك ما ينبغي أن يعمل.

والأولى أن يقال: إنّ الأوّل عبارة عمّا يدرك الواقع بنحو ليس له اقتضاء التأثير مباشرة في مقام العمل، ولو أثّر في ذلك بالواسطة، كإدراك العقل لوجود الله الذي يؤثّر في مقام العمل بتوسّط إدراك حقّ المولويّة له سبحانه، والثاني عبارة عمّا يدرك ما يقتضي إدراكه التأثير المباشر في العمل، وهو إدراك الحسن والقبح.

والحكم الشرعي تارة يستنبط من العقل النظرىّ بلا دخل للعقل العملىّ في ذلك، واُخرى يكون للعقل العمليّ دخل فيه.

أمّا القسم الأوّل: وهو الذي يستنبط بالعقل النظرىّ بلا دخل للعقل العملىّ فيه، فله طريقان:

الأوّل: تطبيق قوانين الإمكان والاستحالة على الحكم الشرعىّ؛ إذ هو ـ أيضاً ـ من الاُمور الخاضعة لتلك القوانين، وهذا يفيد ابتداءً في مقام نفي حكم شرعىّ محتمل، كأن تنفى ملكيّة الورّاث لمال المورث بالإشاعة بمعنى التبعيض في المملوك، بعد فرض كون

397

نسبة سببيّة موت المورث لملكيّة الوارث إلى تمام الأجزاء على حدّ سواء، وفرض كون بقاء هذه العين بلا مالك خلاف الضرورة الفقهيّة، فيقال ـ حينئذ ـ: إنّ ملكيّة الوارث للتركة بالإشاعة بأحد معنييها: وهو التبعيض في المملوك غير معقولة، سواء فرض المملوك لكلّ فرد من أفراد الوارث جزءاً معيّناً، أو جزءاً مردّداً، أو كلّيّاً في المعيّن:

أمّا الأوّل: فلاستحالة الترجيح بلامرجّح بعد أن فرضنا نسبة سببيّة الموت لملكيّة الوارث إلى تمام الأجزاء على حدّ سواء.

وأمّا الثاني: فلاستحالة الترديد في الواقع ؛ إذ الوجود الواقعىّ مساوق للتشخيص.

وأمّا الثالث: فلاستلزامه بقاء ذات العين بلا مالك، وهو خلاف الضرورة الفقهيّة، إذن فالمعنى الأوّل للإشاعة منفيّ في المقام.

هذا هو كيفيّة استنباط نفي الحكم الشرعىّ من الدليل العقلىّ النظرىّ.

وقد يقع ذلك في طريق استنباط الحكم الشرعىّ في جانب الإثبات؛ وذلك بأن يضمّ ـ مثلاً ـ هذا الحكم العقلىّ باستحالة الإشاعة بهذا المعنى إلى دليل شرعىّ دلّ على سببيّة موت المورث لملكيّة الوارث، ويستنبط من ذلك ثبوت الإشاعة بمعناها الآخر(1).

وخلاصة الكلام: أنّ استنباط الحكم عن طريق تطبيق قوانين باب الإمكان والاستحالة إنّما يفيد بلا واسطة في جانب النفي فقط، وإذا ضمّ إلى دليل شرعىّ دلّ على الجامع بين الممكن والمحال، أفاد تعيّن الممكن.

الثاني: تطبيق قوانين العلّيّة على الحكم الشرعىّ بالمستوى الذي يمكن تطبيقه على الأفعال الاختياريّة، وذلك يكون في ثلاثة أبواب:

1 ـ ما يناسب أن يسمّى بباب (المستقلّات العقليّة): وهو ما إذا كان الحكم الشرعىّ معلولاً لشيء وقد أدرك العقل العلّيّة والعلّة، أو كان الحكم الشرعىّ علّة لشيء وقد أدرك العقل العلّيّة والمعلول:

أمّا الأوّل: فكما لو أدرك العقل المصلحة التامّة في أمر، (أي: مصلحة لا معارض لها)، وأدرك علّيّة ذلك للحكم بقانون تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد.

وأمّا الثاني: فكما هو الحال في السيرة العقلائيّة وسيرة المتشرّعة، حيث يستنبط منها الحكم الشرعىّ بعد درك العقل بالقرائن التاريخيّة وغيرها ثبوت هذه السيرة بمرأىً


(1) وهو تصوير ملكيّات متعدّدة ناقصة على مملوك واحد.

398

ومسمع من الشارع، ودركه لكون السيرة معلولة للحكم الشرعىّ، أو كون عدم الردع معلولاً له؛ إذ لولاه لردع الشارع عنها. على تحقيق وتفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

2 ـ باب الملازمات العقليّة، كباب وجوب مقدّمة الواجب. وفي هذا الباب يدرك العقل العلّيّة فقط، ويضمّ ذلك إلى الدليل الشرعىّ الدالّ على وجود العلّة، فمثلاً: العقل يدرك علّيّة وجوب الشيء لوجوب مقدّمته، والشرع يدلّنا على وجوب ذلك الشيء، فيثبت وجوب مقدّمته.

3 ـ باب قياس الأولويّة والمساواة. والعلّيّة هنا تؤخذ من الشرع، وتضمّ إلى إدراك العقل لوجود العلّة في المقيس، فيقال ـ مثلاً ـ: إنّ الحزازة التي أصبحت علّة للتحريم في (الأفّ) في الآية الكريمة موجودة في أىّ شتم أو ضرب، فيحرم الشتم والضرب.

وأمّا القسم الثاني: وهو الذي يستنبط بالعقل العملىّ، فهو المصطلح عليه بباب المستقلّات العقليّة. والعقل العملىّ وحده لا يمكن أن يدرك الحكم الشرعىّ، بل يجب تتميمه بالعقل النظرىّ، سواء طبّقنا العقل العملىّ على أفعالنا، أو طبّقناه على أفعال المولى:

أمّا الأوّل: فكما إذا حكم العقل العملىّ بقبح ضرب اليتيم، وضمّ إلى ذلك قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ـ وهي قاعدة مستفادة من العقل النظرىّ ـ فنستنتج من ذلك حرمة ضرب اليتيم شرعاً.

وأمّا الثاني: فكما إذا حكم العقل العملىّ بقبح ترخيص المولى في المعصية، فيستفاد من ذلك ـ بضميمة ما دلّ عليه العقل النظرىّ من استحالة صدور القبيح عن الحكيم ـ نفي ترخيص المولى فيها.

وبعد الانتهاء من هاتين المقدّمتين نشرع في أصل البحث، فنقول:

إنّ دعوى انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل يمكن أن تكون ناظرة إلى إحدى مراحل ثلاث:

1 ـ دعوى قصور الحكم في مرحلة الجعل، فلا يشمل الجعل فرض العلم بالحكم عن طريق العقل.

2 ـ دعوى قصور الأدلّة العقليّة بحسب عالم الاستكشاف.

3 ـ دعوى القصور في عالم الحجّيّة.

إذن فيقع الكلام في ثلاث مراحل:

399

الدليل العقليّ

2

 

 

 

القُصور في عالم الجعل

 

 

 

 

 

401

 

 

 

 

المرحلة الاُولى: مرحلة الجعل، وقد حمل المحقّق النائينىّ(رحمه الله) كلام الأخباريّين على دعوى القصور في هذه المرحلة، لابمعنى نفي حجّيّة كشف الحكم الشرعىّ عن طريق العقل؛ فإنّه لوكشف الحكم الشرعىّ عن طريقه، لم يمكن سلب حجّيّته عندئذ، بل بمعنى تقييد أصل الجعل عن طريق متمّم الجعل؛ فإنّ هذا بمكان من الإمكان، فكأنّ هذا حمل لكلام الأخباريّين على أمر ممكن، وإخراج له عن فرضيّة إسقاط القطع عن الحجّيّة الذي هو غير ممكن.

أقول: قد مضى منّا بيان إمكانيّة جعل العلم عن طريق ما ـ كالعلم عن طريق العقل ـ مانعاً بلاحاجة إلى متمّم الجعل، وكذلك يمكن جعل العلم عن طريق الشرع ـ مثلاً ـ شرطاً بمعنى أخذ العلم بالجعل شرطاً للمجعول بلا حاجة ـ أيضاً ـ إلى متمّم الجعل.

ولكنّه يقع الكلام هنا في أنّ هذا التقييد هل يفيد لردع من توصّل إلى حكم شرعىّ عن طريق العقل عن العمل بدليله العقلىّ؛ كي نستطيع أن نسند عدم جواز الاعتماد على الدليل العقلىّ إلى هذا التقييد، أو لا؟

والجواب: أنّ هذا غير ممكن؛ إذ لو تمّ لدى هذا الشخص الكشف، فهذا يعني:أنّه ـ مثلاً ـ اعتقد الحصول على العلّة التامّة للحكم، فاعتقد ـ مثلاً ـ أنّ ضرب اليتيم قبيح، وأنّ القبح العقلىّ علّة حتميّة للحرمة الشرعيّة، فلو قيل له: إنّ الحرمة الشرعيّة منتفية بشأنك باعتبار حصول العلم لك بها عن طريق العقل، لا يستطيع أن يصدّق بذلك؛ إذ هو مساوق عنده لانفكاك المعلول من علّته التامّة.

ولو لم يتمّ لديه الكشف؛ لعدم اعتقاده بالعلّيّة التامّة مثلاً، فبإمكانه التصديق بمانعيّة العلم العقلىّ عن الحكم: بأن يكون ما أدركه مقتضياً للحكم فحسب، قابلاً لاقترانه بهذا المانع، ولكن يكفي ـ عندئذ ـ لعدم حجّيّة دليله العقلىّ عدم تماميّة الكشف، وإضافة عدم الحجّيّة إلى تقييد الحكم بغير حالة العلم العقلىّ ليست إلّا إضافة تبرّعيّة، وعليه فتوجيه كلام الأخباريّين بهذا التفسير ليس حملاً لكلامهم على أمر ممكن(1).


(1) اللّهمّ، إلّا أن يكون مقصود الأخبارىّ إلفات نظر الاُصولىّ إلى أنّ ما اكتشفه الاُصولىّ ليس علّةتامّة للحكم؛ لأنّ نفس حصول العلم به عن طريق العقل مانع عن ثبوت الحكم، بأمل أن يلتفت الاُصولىّ إلى ذلك، فيزول علمه بالحكم وكشفه له.

403

الدليل العقليّ

3

 

 

القُصور في عالم الكشف

 

 

○ العقل النظرىّ.

○ العقل العملىّ.

 

 

 

405

 

 

 

 

المرحلة الثانية: مرحلة الاستكشاف، وعمدة(1) ما يوجد في المقام لتزييف مرحلة الكشف: هي القول بأنّنا نواجه كثيراً خطأ العقل في استنتاجاته، وهذا ما يسقطه عن الاعتبار، لا بمعنى سلب الحجّيّة عنه الذي يرجع إلى بحث المرحلة الثالثة، بل بمعنى عدم إمكان الاعتماد على طريق يكثر فيه الخطأ.

وهذا الكلام هو من سنخ كلام الفلاسفة الشكّاكين، لا من سنخ كلام الفلاسفة المادّيّين المنكرين للأدلّة العقليّة.

وتوضيح ذلك: أنّ الفلاسفة المادّيّين يرجع لبّ كلامهم إلى دعوى حصر مصدر المعرفة بالتجربة، لا إلى التشكيك في استنباط العقل على الإطلاق، فهم يقولون: إنّ المصدر الوحيد الذي يكون من حقّ العقل استقاء المعارف منه هو التجربة، وحتّى أبده البديهيّات، كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، إنّما يعرف عن طريق التجربة التي مضت في عصر حياة الإنسانيّة ككلّ، أو تجربة الفرد الموجود من الإنسان بنفسه.

أمّا الفلاسفة الشكّاكون فهم يشكّكون في أصل إدراك العقل، سواء فرضناه مستمدّاً من التجربة، أو لا.

وكلام الأخباريّين في المقام يشبه هذا المدّعى دون مدّعى المادّيّين، فهم ينكرون أن يكون من حقّ العقل ـ مثلاً ـ درك وجوب مقدّمة الواجب ولو عن طريق التجربة: بأن نفترض إيقاع التجارب على أكبر عدد ممكن من أفراد الإنسان، فنعرف أنّ انقداح حبّ الشيء في النفس وإرادته يستلزم انقداح حبّ مقدّمته فيها وإرادتها.


(1) قد يكون مراد بعض الأخباريّين مجرّد إلفات نظر الاُصولىّ إلى أنّه لا ينبغي حصول الجزم بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل؛ لبعد مناشئها ـ وهي الملاكات ـ عن متناول العقل؛ وذلك بأمل أن يزول من الاُصولىّ جزمه بالحكم حينما يلتفت إلى هذا الكلام.

فإذا كان هذا هو مقصود الأخبارىّ، ينبغي لفت نظره إلى الموارد التي قد يكون الحكم فيها قريباً من متناول العقل، كما في الملازمات العقليّة، مثل: وجوب المقدّمة، أو تحريم ما قبّحه العقل، وتحبيذ ما حسّنه العقل.

406

هذا. ولا يفترق الحال ـ في مدى صحّة أو عدم صحّة شبهة الأخباريّين ـ بين القول بأنّ الأخطاء التي تقع في علوم البشريّة ترجع إلى زلّة قوّة واحدة في عملها واستنتاجها، أو القول بأنّها ترجع إلى الخلط بين القوى، بمعنى: أنّ كلّ قوّة من القوى لا تخطأ في عملها، ولكن بما أنّ جميع تلك القوى تمركزت في مصبّ واحد: وهو النفس يقع الخطأ من ناحية ما يصدر عن النفس من عمليّة التركيب وجعل المحمول المستنتج من إحدى القوى لموضوع مستنتج من قوّة اُخرى، فهذا الكلام سواء صحّ تماماً، أو في الجملة، أو لم يصحّ أصلاً: بأن افترضنا أنّ كلّ خطأ ينشأ من قوّة واحدة لا من الخلط بين القوى، فهذا لايؤثّر فيما نحن بصدده من دعوى أنّ كثرة الخطاء في الأدلّة العقليّة تمنع عن الاعتماد عليها.

وعلى أىّ حال، فالكلام في تحقيق حال هذه الشبهة ومدى صحّتها وبطلانها يقع في مقامين:

الأوّل: في العقل النظرىّ.

والثاني: في العقل العملىّ.

 

407

 

 

 

 

العقل النظرىّ

 

أمّا المقام الأوّل: وهو الكلام في العقل النظرىّ، فلا إشكال في كثرة الأخطاء الواقعة في العلوم المستنتجة من العقل النظرىّ، والمدّعى للأخباريّين بحسب الفرض ثبوت القصور لذلك في عالم استكشاف الحكم الشرعىّ منه.

ويرد على ذلك:

أوّلاً: النقض بالأحكام العقليّة الواقعة في الرتبة السابقة على الكتاب والسنّة ممّا يثبت به أصل حجّيّة الكتاب والسنّة، كدليل نبوّة الرسول(صلى الله عليه وآله) التي لابدّ من رجوع إثباتها إلى العقل النظرىّ، أو ما تثبت به نفس الكتاب والسنّة؛ فإنّ ثبوت ذلك: إمّا يكون بالتواتر، أو بالآحاد مع ثبوت حجّيّة خبر الآحاد بالتواتر، أو ما في حكمه، وليس التواتر عدا اجتماع آحاد كثيرة على أمر واحد يحكم العقل النظرىّ بأنّه يستحيل ـ بحسب الواقع العملىّ ـ خطؤها مثلاً مع ما لها من خصوصيّات عدديّة وغيرها، وكذا ما بحكم التواتر، كالسيرة العقلائيّة لابدّ من رجوع الاستدلال به إلى العقل النظرىّ.

وثانياً: النقض باستنباط الأحكام من نفس الكتاب والسنّة؛ فإنّه كثيراً ما يحتاج إلى إعمال العقل النظرىّ في مقام إيقاع النسبة بين الأدلّة المتعارضة، خصوصاً إذا كانت أزيد من اثنين، ونحو ذلك ممّا وقع الخطأ فيه كثيراً. على أنّه لا حاجة إلى فرض كثرة الخطأ فيه، بل تكفي كثرة الخطأ في سنخه، فما دمنا رأينا أخطاءً كثيرة في الاستنباطات العقليّة ولو في غير هذا المورد، فالمفروض سلب الاعتماد ـ مثلاً ـ عن ذلك حتّى في هذا المورد.

وأمّا الجواب الحلّىّ عن الإشكال، فالمتعارف في ذلك هو القول بأنّ العقل البشرىّ بحدّ ذاته يتورّط في أخطاء كثيرة، لكن يوجد لدينا قانون يعصمه من الخطأ حينما يلتزم الإنسان به، وهو قانون المنطق.

وكأنّ المحدّث الأستر آباديّ(رحمه الله) كان يهدف الجواب عن هذا الكلام حينما قال: إنّ علم المنطق إنّما يعصم من الخطأ في صورة الدليل، لكن تبقى الموادّ غير مضمونة الصحّة.

408

وهذا الجواب مع إبقائه على هذا المستوى من البحث يدفعه: أنّ علم المنطق اشترط في موادّ الأقيسة أن تكون داخلة في القضايا الستّ البديهيّة، أو منتهية إليها بقياس سابق. ومع مراعاة هذا الشرط لا يتصوّر خطأ في النتيجة، إلا بالنشوء من خطأ في بعض صور الأقيسة المتسلسلة، وقد افترضنا أنّ المنطق يعصمنا من الخطأ في ذلك.

وتحقيق الحال في المقام: أنّ معنى اليقين يختلف بحسب المصطلح المنطقىّ عنه بحسب المصطلح الاُصولىّ، فمفهوم اليقين في علم المنطق اُخذ فيه عنصر ضمان المطابقة للواقع، وذكروا أنّ البرهان علّة لحصوله، أمّا مطلق الجزم فقد يحصل من غير البرهان أيضاً، كالمغالطة، والجدل، والسفسطة، في حين أنّ مفهوم اليقين في مصطلح الاُصولىّ عبارة عن مطلق الجزم الخالي من أىّ تردّد في النفس.

وبعد هذا نقول: هل المراد من الاستشكال في حصول اليقين من الدليل العقلىّ هو الاستشكال في حصول اليقين المنطقىّ، أو في حصول اليقين الاُصولىّ؟

فإن اُريد الأوّل، فهذا غير مرتبط بما هو غرض الاُصولىّ، وإنّما هو بحث آخر، وقع فيه الخلاف بين الفلاسفة الشكّاكين والفلاسفة اليقينيّين(1)، طبعاً لا بمعنى الخلاف في ضمان الحقّانيّة لدى نفس المتيقّن؛ إذ لا إشكال في أنّ المتيقّن لا يحتمل حين يقينه خطأه، بل بمعنى الخلاف في ثبوت قضايا مضمونة الحقّانيّة بصورة عامّة بالنسبة إلى طريقة التفكير. وعلى أيّة حال، فالكلام فيما نحن فيه ليس في خصوص اليقين المنطقىّ الذي يحصل بالبرهان، بل في الجزم بمعناه العامّ، فلو أحرقنا كتاب البرهان بتمامه، لم يضرّنا شيئاً في المقام.

 

إنكار اليقين بمعناه الاُصولىّ

 

وإن اُريد الثاني، وهو إنكار إمكان حصول اليقين بالمعنى الاُصولىّ من الأدلّة العقليّة، قلنا: إنّ اليقين بنفسه موجود من الموجودات يخضع لقوانين العلّيّة، ولا يوجد من دون علّة كباقي المعلولات في العالم، وعلّته تتركّب من: المعلومات الضروريّة الثابتة في


(1) فالشكّاكون يدّعون أنّ التفاتهم إلى عدم وجود ضمان لمطابقة الجزم مع الواقع سلبهم الجزم، أي: إنّ عدم كون اليقين منطقيّاً جعلهم غير قادرين على تحصيل اليقين الاُصولىّ، وهو الجزم، وأنّه ينبغي لكلّ من لا يحصل على ضمان الحقّانيّة أن يشكّ، وينسلب عنه الجزم.

409

النفس، ومقدار استعداد الشخص، وما له من الإحاطة بالمعلومات الثانويّة، ومقدار الذكاء، وغير ذلك من خصوصيّات روحيّة وجسميّة، واُمور خارجة عن الروح والجسم. وشرائط حصول العلم تختلف باختلاف الأشخاص في مستوى الذكاء وسائر الخصوصيّات، وحصول العلم واليقين عند تحقّق علّته أمر غير اختيارىّ. نعم، يدخل تحت قدرة الشخص في الجملة تغيير الشرائط بالنسبة إلى نفسه. ولا يجب أن يكون مجرّد كثرة الأخطاء في الأدلّة العقليّة مانعاً عن علّيّتها لحصول القطع، نظير أنّ المشي الذي نفترضه علّة لتقوية الأعصاب والعضلات ـ مثلاً ـ لا تمنعه عن علّيّته كثرة زلّة الماشي وسقوطه على الأرض، أو تيهه في الطريق وعدم وصوله إلى مقصده.

ولو التفت الأخبارىّ إلى كلّ ما ذكرناه، وقال: إنّ المدّعى لنا هو أنّ عدم الالتفات إلى كثرة وقوع الخطأ في الأدلّة العقليّة هو بحدّ ذاته جزء العلّة لحصول اليقين، ومع هذا الالتفات لايحصل اليقين.

قلنا له:

أوّلاً: إنّنا جرّبنا ذلك، ورأينا حصول الجزم لنا بالوجدان على رغم التفاتنا إلى ذلك، فيعلم أنّ عدم الالتفات ليس جزءاً للعلّة بشكل عامّ، وإلّا للزم وقوع الانفكاك بين العلّة والمعلول.

وثانياً: إنّ الالتفات إلى الأخطاء الكثيرة يحصل كثيراً في الفكر البشرىّ حتّى الأطفال، فلو فرض هذا مانعاً عن حصول الجزم واليقين، انتفى الجزم واليقين بلا حاجة إلى أن يتعب المحدّث الأسترآبادىّ(رحمه الله) وأضرابه أنفسهم الزكيّة في مقام البحث مع الخصم بما لا يفيد الجزم واليقين؛ لكونه بحثاً عقليّاً أيضاً، وكان الأولى أن يدَعوا الاُمور التكوينيّة تؤدّي دورها، وتؤثّر أثرها، ويرتفع اليقين من البين.

وثالثاً: إنّ نفس دعوى الأخبارىّ الجزم بنحو الموجبة الكلّيّة بعدم إمكان حصول جزم من هذا القبيل مع الالتفات إلى كثرة الأخطاء... آية بطلان هذه القضيّة الكلّيّة؛ فإنّ نفس هذا الجزم هو خلاف هذه القاعدة المدّعاة.

يبقى أن يدّعي الأخبارىّ الشكّ وعدم الجزم في نفسه، واحتمال كون هذا الالتفات مانعاً عن حصول الجزم عند الآخرين، ويقول: إنّي لا أقطع بحصول الجزم عند

410

الآخرين(1)، فلو ادّعى هذه الدعوى، ومشينا معه إلى آخر نقوضها، وادّعى في جميعها الشكّ... لم يسعنا تكذيبه؛ لما مضى: من أنّ أجزاء العلّة لحصول الجزم تختلف من شخص لآخر، ولعلّ أحد أجزاء علّة حصول الجزم بالنسبة إلى هذا الشخص هو عدم الالتفات إلى كثرة الأخطاء، والمفروض التفاته إليها، لكنّا نقطع بأنّ هذا ليس جزء العلّة بصورة كلّيّة؛ لما نراه بالوجدان من تحقّق المعلول في أنفسنا، وهو الجزم، على رغم انتفاء هذا الجزء.

وهذا نظير أنّ ما نراه ـ مثلاً ـ من إحراق النار للقرطاس تحت السماء دليل على أنّه ليس من شرائط إحراقها للقرطاس كونها تحت السقف، فلو ادّعى أحد كون ذلك شرطاً له، كان جوابه نقضاً وحلّاً شيئاً واحداً، وهو ما جرّبناه خارجاً، بفرق أنّ هذه التجربة في مثل هذا المثال تهدينا إلى قضيّة عامّة حاصلها عدم اشتراط كون النار تحت السقف في الإحراق مثلاً؛ إذ لا نحتمل الفرق بين نار ونار، أو قرطاس وقرطاس، أو كون الملقي في النار زيداً أو عمراً... في حين أنّنا فيما نحن فيه لا تهدينا تجربتنا إلى قضيّة عامّة؛ لما قلناه: من أنّ أجزاء علّة حصول الجزم تختلف من شخص لآخر، فقد يكون عدم الالتفات إلى كثرة الأخطاء شرطاً لحصول الجزم في مزاج إنسان معيّن؛ لما له من خصوصيّات روحيّة وفكريّة وغيرها، ولا يكون الأمر بالنسبة إلى شخص آخر كذلك، فهو بما له من خصوصيّات فكريّة وروحيّة ومزاجيّة وغيرها يكون مضطرّاً إلى حصول الجزم له من الأدلّة العقليّة، وقد يكون أحد أجزاء العلّة لحصول الجزم له بكثير من الاُمور اعتقاده بكون ما له من مستوى الذكاء والخبرات والاطّلاع على سائر الآراء واصلاً إلى درجة لو فرض وجودها في أىّ شخص، واقترانها بالخصوصيّات التي اقترنت بها في هذا الشخص، لم تكثر أخطاؤه، بل كانت أخطاؤه في غاية القلّة بنحو لا موجب للتشويش من قبلها.

وخلاصة الكلام: أنّنا لا نمنع أن يدّعي أحد لنفسه الشكّ وعدم الجزم، لكن ليس له أن يقول لنا ـ بعنوان الإشكال والاعتراض ـ: لماذا يحصل لكم الجزم بالأدلّة العقليّة على رغم كثرة الأخطاء فيها؟! سنخ ما يقال لمن يذهب إلى صحراء كثيرة المخاطر: لماذا


(1) أو أن يقول: إنّ هذا الالتفات أصبح في نفسي مانعاً عن حصول الجزم، وألفت نظركم أيّها الاُصوليّون إلى أنّ هذا يناسب المانعيّة عن حصول الجزم، برجاء أن يكون نفس هذا الالتفات سبباً لانسلاب الجزم عنكم؛ كي اُنقذكم بهذا الطريق من اعتناق قطوع يكثر فيها الأخطاء.