39



نعم، لا ننكر أنّ نفس اللذّة والألم أيضاً قد يكون محبوباً أو مبغوضاً، فيريد الشخص الاُولى ويهرب من الثانية، أي: أنّ اللذّة والهرب من الألم أيضاً يدخلان في غايته من دون أن يولّد ذلك لذّة غير تلك اللذّة، أو ألماً غير ذاك الألم، وإلّا لتسلسل.

وقد تلخّص: أنّ الغاية دائماً هي المحبوب أو نفي المبغوض، لا اللذّة ونفي الألم وإن كانا هما أيضاً قد يتعلّق بهما الحبّ والبغض، فيدخلان في الغاية بهذا الاعتبار.

وأمّا لو كان الملحوظ هي العلّة الفاعليّة، قلنا: إنّ كون اللذّة والألم هما العلّة الفاعليّة للتحرّك نحو الفعل أو نحو الفرار لا يتصوّر إلّا بأحد معان ثلاثة:

إمّا بمعنى كونهما دافعين للإنسان من دون اختياره، فمن يلتذّ بشيء يتحرّك نحوه بلا اختيار، ومن يتأ لّم من شيء يندفع نحو الفرار منه من دون اختيار.

وإمّا بمعنى دخلهما في القدرة مع فرض حفظ الاختيار بعد تحقّق القدرة، فاللذّة الموجودة في الشيء تخلق في الإنسان القدرة على الاندفاع إليه، فيندفع إليه باختياره، والألم الموجود في الشيء يخلق في الإنسان القدرة على التحرّك نحو الهرب منه، فيهرب منه اختياراً، ولولا اللذّة والألم، لما كان الإنسان قادراً على التحرّك نحو المحبوب، أو باتّجاه الفرار من المبغوض.

وسواء قلنا: إنّ اللذّة والألم دافعان قهريّان، أو قلنا: إنّهما يؤثّران في القدرة على الاندفاع لا ينافي ذلك أن تكون الغاية هي ما يندفع إليه من المحبوب أو نفي المبغوض، لا نفس اللذّة أو نفي الألم وحده.

وإمّا بمعنى كون اللذّة والألم دخيلين في تحقّق الإرادة برغم فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغضّ النظر عنهما.

وكلّ هذه الفروض باطلة:

40



أمّا الفرض الأوّل، وهو فرض الاندفاع وراء اللذائذ والفرار من الآلام قهراً، فهذا يساوق الجبر وإنكار الاختيار، وهذا خلف موضوع علم الأخلاق بعد فرض كون الحسن والقبح أمرين واقعيّين مدركين بالعقل، لا أمرين اعتباريّين مجعولين من قبل العقلاء أو الشريعة، وقد كان هذا هو فرض بحثنا في المقام، فنحن وإن كنّا لا نمانع عن كون بعض القضايا الأخلاقيّة اجتماعيّة أو شرعيّة، لكن لو لم نؤمن بقضايا أخلاقيّة واقعيّة وبالحسن والقبح الذاتيّين والعقليّين، لم يبقَ موضوع لبحثنا هذا.

وأمّا الفرض الثاني، وهو دخل اللذّة والألم في القدرة، فهذا يعني: أن لا يقدر الإنسان إلّا على الفعل الذي يلتذّ منه، ولا يقدر الفرار إلّا من الفعل الذي يكون مبغوضاً له، ومن المعلوم أنّ فرض تعلّق القدرة بأحد النقيضين دون الآخر هو عين الجبر تماماً، فإنّ القدرة لابدّ أن تتعلّق بطرفي النقيض سواء بسواء.

وأمّا الفرض الثالث، وهو عدم تحقّق الإرادة نحو الشيء إلّا بفرض الالتذاذ به أو التأ لّم من فقده برغم انحفاظ اختياره وقدرته لولا اللذّة والألم، وبرغم فرض حبّه أو بغضه للمتعلّق في المرتبة السابقة على اللذّة والألم، فهذا أيضاً أمر غير معقول، سواء فسّرنا الإرادة بمعنى الشوق الأكيد كما هو المعروف، أو فسّرناها بما يشابه أن يقال بأمر وسط بين الشوق الأكيد والفعل، وهو حملة النفس، بدعوى: أنّها هي مركز القدرة والسلطنة:

أمّا على الأوّل، فلوضوح: أنّ الشوق الأكيد هو الحبّ الأكيد الذي هو في الرتبة السابقة على اللذّة.

وأمّا على الثاني، فلوضوح: أنّ توقّف حملة النفس على اللذّة والألم مع انحفاظ كامل القدرة والاختيار في المرتبة السابقة عليهما، وتماميّة الحبّ والشوق أمر غير معقول، إلّا بمعنى: أنّ الغاية المحبوبة كانت عبارة عن نفس اللذّة والألم، وهذا رجوع إلى الشقّ الأوّل الذي أبطلناه.

41



وبهذا تمّ برهان كامل على أنّ العلّة الغائيّة والعلّة الفاعليّة متّحدان، غاية الأمر: أنّ العلّة الغائيّة تكون بوجودها العلميّ ـ ولو الخاطئ ـ محرّكة.

نعم، لا إشكال ـ كما أشرنا إليه ـ في أنّ اللذّة والألم قد يدخلان بنفسهما في العلّة الغائيّة، ويكونان محبوباً أو مبغوضاً.

وقد يقول قائل: إنّ حبّ الدعة والراحة الموجود في الإنسان لابدّ أن يتكاسر مع حبّ آخر، ويقع مقهوراً تحت شعاعه كي يتحرّك الإنسان نحو ما يكون في وضعه الأوّليّ موجباً لسلب الدعة والراحة، والمقصود بعلّيّة اللذّة والألم هو: أنّه لولاهما، لما كان المحبوب الأصليّ من المُثُل والقيم والمبادئ ورضا الله وما إلى ذلك قادراً على الغلبة على حبّ الراحة، فلكي يغلب حبَّ الراحة، أو قل: «لكي تصبح راحة الشخص في خلاف راحته الظاهريّة» لابدّ أن ينضمّ إلى تلك الغاية الشريفة غاية اللذّة أو الفرار من الألم، وعند ذلك تكون الغلبة لمجموع الغاية الشريفة النبيلة مع اللذّة ودفع الألم على حبّ الراحة، فيقوم الإنسان بالعمل النبيل، ويكون الشخص بقدر ما كان من حصّة الدخل في الغاية لذاك المبدأ النبيل والشريف مستحقّاً للمدح والثواب، وبهذا قد جمعنا بين القول بأنّه لابدّ لتحريك الإنسان من وجود اللذّة والألم في المتعلّق من ناحية، وبين نُبل التضحيات في سبيل المبادئ والعقائد الحقّة والمُثل والقيم العليا ورضا الله سبحانه وتعالى من ناحية اُخرى. فليكن هذا نوع توجيه لكلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، إلّا أنّ هذا التوجيه ليس شاملاً لمورد ما قد يتّفق من عدم وجود زحمة وأقلّ صعوبة في التحرّك، أو كان المطلوب هو الترك ولم يكن في الترك أيّ زحمة ومشقّة، وإنّما يمكن تطبيق هذا التوجيه في موارد صعوبة العمل وفق ما هو مطلوب أخلاقيّاً.

والظاهر: أنّ هذا التوجيه أيضاً غير صحيح. وتوضيح ذلك:

42



إنّ عدم تحرّك الشخص من دون لذّة أو ألم لكون حبّه للمحبوب غير كاف لتحريكه، ولكن مع دخول الحبّ كجزء للعلّة في الحساب كافياً له قد يكون صحيحاً بشأن بعض السالكين، ويكون هذا الشخص أعلى درجة ممّن لا يتحرّك إلّا من وراء اللذّة والألم، ولكن ليس هذا هو آخر الدرجة الممكنة من درجات مرقاة الكمال في سلّم الفضائل، والدليل على ذلك مؤتلف من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ التقدير المعنويّ لمقدار تلك اللذّة المعنويّة يقول لنا بفهم الوجدان: إنّ درجة تلك اللذّة توازي درجة الحبّ لذلك المبدأ النبيل، وكلّما اشتدّ حبّه اشتدّ بقدره الالتذاذ به، وكلّما ضعف حبّه ضعف بقدره الالتذاذ به.

والثانية: أنّ هذا الالتذاذ قد يفوق في بعض الحالات لذّة الراحة التي كانت تثبت في ترك التحرّك نحو ذاك المحبوب، وآية ذلك: أنّ الإنسان عندئذ لا يحسّ بالراحة النفسيّة في الترك، بل يحسّ بأنّ راحته النفسيّة في الفعل فحسب، في حين أنّ من لم يصل حبّه إلى هذا المستوى يحسّ بالتعب النفسيّ في عمله، ولكنّه يتحمّل هذا التعب في سبيل محبوبه.

والنتيجة: أنّه إذن سيكون حبّه لذاك المحبوب غالباً على حبّه للدعة والراحة؛ لأنّه يوازي لذّته الغالبة على لذّة الدعة والراحة، ويكون وحده كافياً للغلبة على المزاحم(1).


(1) قد تقول: إنّه يوجد في طرف الدعة والراحة شيئان: حبّه للدعة والراحة، والتذاذه بهما، وفي طرف المبدأ النبيل أيضاً يوجد شيئان: حبّه للمبدأ النبيل، والتذاذه بتحقيقه. فصحيح: أنّ التذاذه بالمبدأ النبيل غالبٌ على التذاذه النفسيّ بالدعة والراحة، وبالتالي يكون حبّه لذاك المبدأ غالباً على حبّه للدعة والراحة، لكن هذا لا يعني غلبة حبّه للمبدأ، أو لله، أو لرضوان الله، أو ما إلى

43



نعم، لا شكّ أنّه يحصل ـ إضافة إلى ما حصل عليه من الفضيلة ـ على لذّة فائقة أيضاً، ولكنّها واقعة تحت الشعاع لما يطلبه من مبدأ أو فضيلة، أو رضا الله سبحانه وتعالى، فذاك المبدأ أو حبّ الله هو محرّكه الحقيقيّ، وتترتّب على ذلك صدفةً اللذّة والانبساط كزيادة خير.

وقد اتّضح بكلّ ما شرحناه: أنّ المطيع تنقسم إطاعته ـ بحسب الدوافع النفسيّة ـ إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: دافع اللذّة أو الألم الثابتين بالثواب والعقاب، وتلك طاعة التجّار أو العبيد.

والثاني: المزدوج من دافع حبّ الطاعة ورضوان الله، ودافع اللذّة والألم، وتلك طاعة الخواصّ.

والثالث: دافع حبّ الله سبحانه وتعالى وتحصيل رضاه، وتلك طاعة خاصّة الخواصّ حيث يكون التذاذه بالطاعة أيضاً مندكّاً تحت داعويّة أصل الطاعة.


ذلك على مجموع حبّه للدعة والراحة والتذاذه بهما، فقد يُدّعى: أنّ الغلبة على المجموع لا تكون إلّا بعد انضمام الالتذاذ بذاك المحبوب الشريف إلى حبّه.

والجواب: أنّ هذا غفلة عن الفرق بين حبّ الدعة والراحة وحبّ الله، أو حبّ رضوان الله، أو حبّ الفضائل ونحو ذلك، أو قل: هذا غفلة عموماً عن اللذائذ المادّيّة؛ وذلك لأنّه في اللذائذ المادّيّة لايتصوّر محرّكان ينضمّ أحدهما إلى الآخر؛ لأنّ الحبّ في المادّيات ليس إلّا حبّاً للذّة، أو للفرار عن الألم، ولولا التذاذه بالدعة والراحة لما أحبّهما، فليس حبّهما شيئاً جديداً يضاف إلى اللذّة في الداعويّة، في حين أنّه في الحبّ المعنويّ تكون اللذّة في طول الحبّ، وليس العكس؛ فلأنّ الشخص يحبّ ابنه مثلاً وراحة ابنه يلتذّ براحته، لا العكس.

44



والالتفات إلى ما قلناه لو لم ينفعنا في ارتقائنا السلوكيّ إلى الله سبحانه وتعالى في مرقاة هذه الكمالات، فلا أقلّ من أن يكون نفعه لنا عبارة عن الاعتصام في مقابل صفة العُجب؛ لأنّنا ما لم نصل إلى المرحلة الثالثة، وهي داعويّة نفس الطاعة ورضوان الله دون الالتذاذ بهما، أو على الأقلّ الثانية، وهي الدافع المزدوج، فنحن ـ في الحقيقة ـ قد عبدنا لذّتنا وعشقنا ذاتنا، فأيّ استحقاق لنا للثواب؟! وأيّة عبوديّة تكون هذه العبوديّة؟!

وأنا لا أقصد بنفي استحقاق الثواب نفيه من باب: أنّنا مملوكون ملكيّة حقيقيّة لله، فلا نستحقّ شيئاً منه تعالى في قبال طاعتنا إيّاه، ولا نفيه من باب: أنّ الاستحقاق إنّما يكون لمن أعطى من نفسه شيئاً لغيره، ونحن كلّ ما أعطيناه لله سبحانه كان من الله لا من أنفسنا كي نستحقّ شيئاً بالمقابل، فإنّ أمثال هذه الاُمور لاتختصّ بنا، بل تشمل حتّى المعصومين(عليهم السلام).

بل أقول بغضّ النظر عن هذه النكتة: إنّنا غير مستحقّين للثواب بعقليّة مكافأة الإحسان، لأنّنا ـ في الحقيقة ـ لم نعمل له، بل عملنا لأنفسنا، فلا مكافأة على أعمالنا إلّا بفضل الله ورحمته ورأفته.

نعم، تصحّ في العرف الفقهيّ عباداتنا؛ لأنّها تشتمل على القربة بالمعنى المقصود في الفقه، حيث قرّروا فيه كفاية الداعي إلى الداعي القربيّ، وهذا موجود في المقام؛ لأ نّا نعمل بداعي الامتثال والطاعة وإن كان الداعي لنا إلى هذا الامتثال والطاعة ثوابه، أو الفرار من عقابه، أو الالتذاذ بطاعته، إلّا أنّ هذا ـ كما ترى ـ حيلة شرعيّة علّمتنا نفس الشريعة إيّاها وقبلها الله منّا بقبول حسن بلطفه وكرمه، وإلّا لهلكنا جميعاً، إلّا أنّ هذا لا يعني: أنّ الاستحقاق إذن أصبح واقعيّاً (بعد غضّ النظر عن المملوكيّة وعدم الواجديّة الذاتيّة)، فغير الواصل إلى ابتغاء رضا الله لأنّه رضاه لا لنعيم الجنّة، ولا للفرار عن الحجيم إن كان مطيعاً

45

هذا بناءً على كون مقصود المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّ الدخيل في موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال هو عدم صدور الترخيص ولو منفصلاً، كما هو ظاهر عباراته ولعلّه صريحها. وأمّا لو فرض كفاية عدم الترخيص المتّصل في حكم العقل بالوجوب، لزم من ذلك: أنّه عند ورود الترخيص المنفصل يقع التعارض بين البيان المنفصل وحكم العقل، وهذا غير معقول، بينما على مسلكنا يكون التعارض بين دلالتين لفظيّتين، ولابدّ من إعمال قواعد التعارض والجمع، ولا بأس بذلك.

وأمّا الاحتمال الثالث: وهو أن تكون الدلالة على الوجوب لفظيّة بمقدّمات الحكمة، فقد قرّب ذلك المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بما يرجع حاصله إلى أنّ الأمر مادّة أو صيغة يكون دالّاً بمدلوله الوضعيّ على إرادة المولى وطلبه، وهذه الإرادة أمرها دائر بين أن تكون إرادة قويّة وهي الوجوب، أو ضعيفة وهي الاستحباب، والإرادة القويّة تكون ما به الامتياز لها عن الإرادة الضعيفة أيضاً هي الإرادة،



فهو في مرحلة العرفان يكون صاعداً من مستوىً تحت الصفر إلى مستوى الصفر، لا أكثر من ذلك، ومن يلتفت إلى ذلك كيف يبتلي بالعجب؟!

أمّا من صعد من هذه المرتبة إلى ابتغاء مرضاة الله تعالى وإرادة ذاته عزّ وجل، فهو ليس بحاجة إلى ما قلناه في الارتداع عن العجب، بل الذي يردعه عن العُجب قول إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «وما قدر أعمالنا في جنب نعمك، وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك»(1).

اللّهمّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وعرفان الحرمة، إنّك أنت السميع المجيب بمحمّد وآله الطاهرين(عليهم السلام).


(1) دعاء أبي حمزة الثمالي لأسحار ليالي شهر رمضان.

46

فإنّها تمتاز عن الضعيفة بقوّة الإرادة ودرجة زائدة من الإرادة، بينما الإرادة الضعيفة ما به الامتياز لها عن القويّة ليست هي الإرادة، بل عدم الإرادة؛ فإنّ ضعف الإرادة عبارة عن عدم تلك الدرجة الزائدة من الإرادة، إذن فلو كانت ما في نفس المولى هي الإرادة القويّة فكلّ ما في نفسه إرادة؛ لأنّ ما به الاشتراك وما به الامتياز كلاهما إرادة، فاللفظ دالّ على كلّ ما في نفس المولى؛ إذ هو دالّ على الإرادة، ولو كانت ما في نفس المولى هي الإرادة الضعيفة فليس كلّ ما في نفسه الإرادة؛ لأنّ ما به الاشتراك بين الضعيفة والقويّة وإن كانت هي الإرادة، لكن ما به الامتياز للضعيفة عبارة عن عدم الإرادة، فاللفظ لا يدلّ على كلّ ما في نفس المولى، وإذا دار الأمر بين أن يكون ما في نفس المولى كلّه هو المبرز باللفظ أو يكون بعض ما في نفسه شيئاً لم يبرز باللفظ، فمقدّمات الحكمة تعيّن الأوّل(1).

وهذا البيان وإن كان صناعيّاً في نفسه لا ترد عليه جملة ممّا اُورد عليه، لكن يرد عليه: أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما هي عبارة عن ظهور عرفيّ وحاليّ يقتضي: أنّه متى ما دار الأمر بين كون مرام المتكلّم سنخ مرام يفي به كلامه وليست فيه مؤونة زائدة في نظر العرف، وكونه سنخ مرام فيه مؤونة زائدة في نظر العرف لم يفِ بها الكلام، كان مقتضى الإطلاق هو الأوّل. وأمّا لو فرض: أنّ أحدهما ليست فيه مؤونة والآخر فيه مؤونة في نظر العقل لا العرف، فهذا لا يكفي لتعيين ما ليست فيه مؤونة في مقابل ما فيه مؤونة بمقدّمات الحكمة، وما ذكر من أنّ الإرادة الشديدة ما به الامتياز وما به الاشتراك فيها كلّه إرادة بخلاف الإرادة الضعيفة؛ حيث إنّ ما به الامتياز فيها عبارة عن عدم الإرادة، فهذا يكون بحسب التحليل



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 208 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 192 بحسب طبعة جامعة المدرّسين بقم.

47

العقليّ، وأمّا بالنظر العرفيّ فلا يرى أنّ أحدهما فيه مؤونة في مقابل الآخر.

وبهذا ظهر: أنّ المقصود ليس دعوى: أنّ العرف غير ملتفت تفصيلاً إلى ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)حتّى يقال ـ كما ذكر المحقّق العراقيّ في مقالاته ـ: إنّ هذا المطلب وإن لم يلتفت إليه العرف تفصيلاً، لكنّه مركوز في نفسه، بل المقصود: أنّه حتّى إذا شرح له هذا المطلب لا يرى مؤونة في أحدهما في مقابل الآخر بما هو إنسان عرفيّ، فهو لا يصدّق بالفرق بينهما في المؤونة بما هو عرف وإن كان قد يصدّق بذلك بما هو فيلسوف.

نعم، هنا بيان آخر لتحليل الإطلاق أمتن من هذا البيان، وهو يتوقّف على مقدّمة حاصلها: أنّه كان المعروف بين جملة من المتقدّمين أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع النهي عن الترك، والاستحباب مركّب من طلب الفعل والترخيص في الترك، فهما يشتركان في الجزء الأوّل، وأحدهما يمتاز بالمنع من الترك، والآخر يمتاز بالترخيص في الترك، فإذا بنينا على هذا لم يمكن إجراء الإطلاق؛ إذ الأمر يدلّ على الجزء المشترك وهو طلب الفعل، وأمّا أنّه: هل انضمّ إليه النهي عن الترك، أو الترخيص في الترك، فلا يفي به كلام المولى، ولكن في مقابل هذا الكلام وجه آخر، وهو: أنّ الاستحباب وإن كان مركّباً من جزءين وجوديّين: الطلب والترخيص في المخالفة، لكن الوجوب ليس مركّباً من جزءين وجوديّين، وإنّما هو مركّب من جزء وجوديّ وهو الطلب وجزء عدميّ وهو عدم الترخيص في المخالفة، لا وجوديّ وهو النهي عن المخالفة؛ إذ النهي عن المخالفة لا يكفي في كون الطلب وجوبيّاً، فإنّنا ننقل الكلام إلى ذاك النهي، فإنّه أيضاً كالأمر ينقسم إلى إلزاميّ وهو ما منع مثلاً عن مخالفته، وكراهتي وهو ما رخّص في مخالفته.

فإذا فرض: أنّ الوجوب مركّب من الجزء المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب، وجزء عدميّ وهو عدم الترخيص في الترك، والاستحباب مركّب من ذاك

48

الجزء المشترك وجزء وجوديّ وهو الترخيص في الترك، قلنا: إنّ الأمر يدلّ على الجزء المشترك وهو الطلب، وما هو مرام المولى: إمّا هو الطلب مقيّداً بخصوصيّة وجوديّة وهي الترخيص في الترك، أو هو الطلب مقيّداً بعدم تلك الخصوصيّة، وكلّما دار أمر القيد في مرام المولى بين خصوصيّة وجوديّة وعدمها، فإذا نصب قرينة على الخصوصيّة الوجوديّة ثبتت، وإلّا فنفس عدم نصب القرينة على الخصوصيّة الوجوديّة قرينة على الخصوصيّة العدميّة، كما هو الحال في المطلق والمقيّد على رأي المشهور، حيث إنّ الإطلاق اللحاظيّ عبارة عن لحاظ عدم القيد. هذا.

ولكن الصحيح: أنّ افتراض كون الوجوب في الأمر مستفاداً من الإطلاق ـ سواء فرض بالتقريب الذي نقلناه عن المحقّق العراقيّ (رحمه الله) أو فرض بهذا التقريب الثاني الذي بيّنّاه ـ لا يتمّ بنحو نستغني به عن الدلالة الوضعيّة على الوجوب؛ إذ يرد عليه: أنّه لو تمّ الإطلاق بأحد التقريبين فإنّما يجري في بعض الموارد لا في سائر الموارد؛ إذ يحتاج الإطلاق في المقام إلى مؤونة لا توجد دائماً. وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان إجماليّ لكبرى الإطلاق وصغرياته، وتفصيله موكول إلى بحث المطلق والمقيّد، فنقول: إنّ أساس مقدّمات الحكمة وروحها هو أصل عقلائيّ وظهور حاليّ، وهو أصالة كون مرام المتكلّم لا يزيد على مقدار مدلول كلامه، وأنّه يبيّن كلّ مرامه. ولتطبيق هذه الكبرى على المصاديق ثلاث حالات:

الحالة الاُولى: أن تكون الكبرى منطبقة على المورد حقيقةً وبالدقّة العقليّة بلاحاجة إلى فرض مسامحة عرفيّة، وذلك من قبيل الإطلاق الذاتيّ في أسماء الأجناس على مبنانا، حيث نقول في مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ): إنّنا لانحتاج إلى الإطلاق اللحاظيّ بمعنى فرض لحاظ عدم القيد في مقابل التقييد اللحاظيّ، بل من الجائز أن يكون المقصود من البيع هو الجامع بين المطلق اللحاظيّ، والمقيّد اللحاظيّ، وهو ذات الطبيعة الموضوع لها اسم البيع، والمطلق الذاتيّ بذاته يسري

49

إلى كلّ أفراد الطبيعة، فيثبت الحكم لكلّ الأفراد بلاحاجة إلى الإطلاق اللحاظيّ، فلو كان مقصود المولى هو ذات الطبيعة، فمرامه لا يزيد على مدلول كلامه حقيقةً، ولو كان مقصوده البيع العقديّ مثلاً، فمرامه يزيد على مدلول كلامه، فتطبّق على ذلك أصالة كون مرامه لايزيد على مدلول كلامه، ويثبت المطلق الذاتيّ في مقابل المقيّد، وهو المطلوب.

الحالة الثانية: أن لا تنطبق الكبرى على المورد حقيقةً، لكنّها تنطبق بالمسامحة العرفيّة، وذلك في مورد نقطع بأنّ مرامه يزيد على مدلول كلامه، إلّا أنّ الزيادة مردّدة بين ما لا يراه العرف مؤونة زائدة وما يراه كذلك، فكأنّه يرى العرف ـ على تقدير إرادة الأوّل ـ: أنّ مرامه لا يزيد على مدلول كلامه، فيتعيّن في مقابل الثاني بأصالة كون مرامه لا يزيد على مدلول كلامه بعد إدخال المورد في مصاديق هذه الكبرى بالمسامحة العرفيّة، وذلك من قبيل الإطلاق اللحاظيّ في أسماء الأجناس كالبيع في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بناءً على رأي جماعة يقولون: إنّ موضوع الحكم الشرعيّ: إمّا هو المطلق اللحاظيّ، أو المقيّد اللحاظيّ، ولا يعقل أن يكون ذات الطبيعة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد، فبناءً على هذا المبنى لا نشكّ في أخذ خصوصيّة زائدة في مرامه غير موجودة في كلامه؛ لأنّ اسم الجنس لا يدلّ وضعاً إلّا على الطبيعة الجامعة بين المطلق والمقيّد، ولكن العرف يرى بالمسامحة: أنّه لو كان مراده هو المطلق فقد بيّن تمام مرامه، ولو كان مراده هو المقيّد لم يبيّن تمام مرامه، فيعيّن الأوّل بتطبيق قانون أصالة عدم زيادة مرام المتكلّم على مدلول كلامه.

الحالة الثالثة: أن لا تنطبق الكبرى على المورد حتّى بالمسامحة، وعندئذ نحتاج إلى الاستعانة بمؤونة زائدة على مقدّمات الحكمة، كما هو الحال فيما إذا قطعنا بأنّ مرامه يزيد على مدلول كلامه، وكانت الزيادة مردّدة بين زيادة أخفّ

50

وزيادة أشدّ، ولكن الزيادة الأخفّ ليست بنحو يتسامح فيها العرف، ويفرضها عدم الزيادة، كما في الحالة الثانية، بل كلتا الزيادتين ملحوظتان للعرف، فلا معنى لتطبيق أصالة عدم زيادة مرامه على مدلول كلامه ولو بالمسامحة العرفيّة، فنحتاج إلى مؤونة زائدة على كبرى مقدّمات الحكمة، وهي: أن نعرف صدفةً بقرينة من القرائن أنّ المتكلّم بالرغم من سكوته عن كلتا الزيادتين هو في مقام بيان الزيادة، إذن فقد اعتمد في مقام بيان الزيادة على نفس السكوت، فإذا دار الأمر بين جعل عدم بيان الأشدّ قرينة على الأخفّ، أو جعل عدم بيان الأخفّ قرينة على الأشدّ، تعيّن الأوّل طبعاً في نظر العرف على الثاني، ففي مثل ذلك لم تنطبق تلك الكبرى الأوّليّة وهي أصالة كون مرامه لا يزيد على مدلول كلامه؛ إذ ـ على أيّ حال ـ قد زاد مرامه على مدلول كلامه حتّى عرفاً، وإنّما استعنّا بعناية زائدة على مقدّمات الحكمة، وهي إحراز أنّ المولى في مقام بيان الزيادة بالرغم من سكوته عنها، وهذا الإحراز أمر اتّفاقيّ قد يحصل وقد لا يحصل، ومثال ذلك ما نحن فيه، فإنّ الأمر إنّما يدلّ على الطلب، ومرام المولى فيه زيادة على الطلب ملحوظة حتّى عند العرف، وتلك الزيادة مردّدة بين زيادة أخفّ وهي عدم الترخيص في الخلاف وزيادة أشدّ وهي الترخيص في الخلاف، أو بين زيادة أخفّ وهي شدّة الإرادة وزيادة أشدّ وهي عدم الإرادة الزائدة، حيث إنّ الأمر إنّما هو موضوع للجامع بين الإرادة الشديدة والخفيفة، فشدّة الإرادة وإن كانت من سنخ الإرادة لكنّها خارجة عن الموضوع له، فهنا لابدّ من الاستعانة بعناية زائدة غير أصالة كون مرام المولى لا يزيد على مدلول كلامه، وتلك العناية هي إحراز كون المولى بالرغم من سكوته بصدد بيان الزيادة، فقد فرض سكوته عن إحدى الزيادتين بياناً للزيادة الاُخرى حتّى تتعيّن عندئذ في نظر العرف الزيادة الأخفّ وهي شدّة الإرادة، أو عدم الترخيص في الخلاف، وهذه العناية الزائدة ـ كما ترى ـ لا تحصل دائماً وفي

51

سائر الموارد، بينما البناء الفقهيّ والعرفيّ على فهم الوجوب في سائر الموارد(1). هذا.

وهناك إشكال آخر لو تمّ فهو مشترك الورود بين جميع أنحاء دعوى كون دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق لا بالوضع، وهو يشبه ـ بحسب الحقيقة ـ ما أوردنا على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله): من أنّه لو كان الوجوب بحكم العقل عند عدم الترخيص، للزم عدم التعارض بين الترخيص العامّ والأمر الخاصّ، فلا مجال لتخصيص الأوّل بالثاني، ونقول هنا: إنّه لو كان الوجوب بالإطلاق، إذن لا وجه لتقديم الأمر الخاصّ كقوله: «أكرم الفقيه» على الترخيص العامّ كقوله: «لا يجب إكرام العالم» بالتخصيص؛ إذ هذا التعارض يكون من نسخ التعارض بالعموم من وجه، من حيث إنّه كما يمكن رفع اليد عن إطلاق «لا يجب إكرام العالم» لحساب قوله: «أكرم الفقيه» كذلك يمكن العكس، بأن ترفع اليد عن إطلاق الأمر الدالّ على الوجوب لحساب الترخيص العامّ، إذن فيتعارضان ويتساقطان، بينما البناء الفقهيّ والعرفيّ في ذلك على التخصيص، وهو إنّما يتمّ بناءً على الوضع، لا الإطلاق، إذن فهذا المسلك لا يفي بما عليه البناء فقهيّاً وعرفيّاً في باب الأمر، ويكشف ذلك إنّاً عن أنّ ملاك الدلالة على الوجوب هو الوضع، لا الإطلاق. هذا.

ولكن يمكن لأصحاب مسلك الإطلاق أن يستعينوا في دفع هذا الإشكال، وتوجيه مسلكهم بأحد وجهين:



(1) وهناك وجه آخر لاستفادة الوجوب من مادّة الأمر بالإطلاق يسلم عن الإشكالات الماضية على الوجوه السابقة ستأتي الإشارة إليه ـ إن شاء الله ـ في بحث صيغة الأمر في المتن، وسيأتي منّا التأمّل فيه تحت الخطّ، والإشكال الذي سيأتي الآن في المتن أيضاً جوابه إن تمّ، يرد على كلّ وجوه إثبات الوجوب بالإطلاق بما فيها الوجه الذي سيأتي في بحث الصيغة.

52

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ الميزان في قرينيّة الخاصّ للعامّ هو أخصّيّة موضوع الخاصّ عن موضوع العامّ، ولا يلحظ في هذه القرينيّة مجموع الجهات في الدليلين، أيّ: الموضوع والمحمول معاً، وهذا ـ في الحقيقة ـ مطلب سيّال له عدّة أمثلة في الفقه، حاصله: أنّ القرينيّة العرفيّة للخاصّ على العامّ هل هي بنظر العرف تكون بلحاظ الموضوعين، أو تكون بلحاظ مجموع الجهات؟ فعلى الأوّل يقدّم قوله: «أكرم الفقيه» على قوله: «لا يجب إكرام العالم»؛ إذ الموضوع في الأوّل ـ وهو الفقيه ـ أخصّ منه في الثاني وهو العالم، وعلى الثاني لا وجه للتقديم؛ لأنّه يوجد في قوله: «لا يجب إكرام العالم» إطلاق في الموضوع وهو العالم، ويوجد في قوله: «أكرم الفقيه» إطلاق في المحمول وهو «أكرم»، ورفع اليد عن أحدهما لحساب الآخر لا مبرّر له، ونظير ذلك ما ورد في الفقه في البول يصيب الجسد: أنّه «صبّ عليه الماء مرّتين»(1)، وورد في بول الصبيّ: «تصبّ عليه الماء»(2)، فمقتضى الأوّل وجوب التعدّد، ومقتضى إطلاق الثاني عدمه، فبناءً على أنّ الميزان في قرينيّة الأخصّ هو الموضوعان، فالرواية الثانية تقدّم على الاُولى؛ لأنّها وردت في خصوص بول الصبيّ، وبناءً على لحاظ مجموع الجهات لا وجه للتقدّم؛ فإنّ التعارض يكون بين إطلاق موضوع الاُولى لبول الصبيّ وإطلاق محمول الثانية للصبّ مرّة واحدة.

الوجه الثاني: أنّنا سلّمنا أنّ الأخصّيّة يجب أن تتحصّل بلحاظ مجموع جهات الدليل، لا بلحاظ الموضوع فحسب، ولكن مع ذلك نقول في المقام: إنّ قوله: «أكرم الفقيه» مخصّص لقوله: «لا يجب إكرام العلماء». وتوضيح ذلك: أنّ الإطلاق تارةً



(1) الوسائل، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب. من النجاسات، ح. و4،ص 359 ـ 396.

(2) المصدر السابق، ب 3، ح 2، ص 398.

53

يكون مفاده السعة من قبيل إطلاق العالم للفقيه وغيره، واُخرى يكون مفاده التعيين من قبيل انصراف السيّد بإطلاقه إلى سيّد البلد مثلاً، فإذا كان الإطلاقان كلاهما إطلاقاً للتوسعة وبينهما مادّة اجتماع ومادّتا افتراق من قبيل: «أكرم العالم ولا تكرم الفاسق»، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر بالخصوص، ومن هذا القبيل قوله في المتنجّس بالبول: «صبّ عليه الماء مرّتين»، وفي المتنجّس ببول الصبيّ: «صبّ عليه الماء»، أعني: أنّ الإطلاق في كلّ منهما للتوسعة، ومادّة الاجتماع صبّ الماء مرّتين في بول الصبيّ، ومادّتا الافتراق صبّ الماء مرّتين في بول غير الصبيّ، وصبّ الماء مرّة واحدة في بول الصبيّ، فإن لم يتمّ الوجه الأوّل فلا مبرّر لتقديم أحدهما على الآخر. وأمّا إذا كان أحد الإطلاقين يفيد التوسعة والآخر يفيد تعيين الفرد، كما لو قال: «أكرم العلماء»، وقال: «لا تكرم زيداً» وعندنا زيدان: جاهل وعالم، وكان اللفظ منصرفاً إلى العالم، فهنا يعامل معاملة العامّ والخاصّ؛ حيث إنّ العرف يرى: أنّ النتيجة المتحصّلة من هذا الإطلاق هي عدم إكرام شخص خاصّ من العلماء، وهي أخصّ من النتيجة المتحصّلة من «أكرم العلماء».

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ إطلاق العالم للفقيه من باب التوسعة، ودلالة الأمر بالإطلاق على الوجوب من باب التعيين، فالعرف يأخذ النتيجة المتحصّلة من كلا الإطلاقين، ويرى: أنّ الثانية أخصّ من الاُولى(1). هذا.



(1) لا يخفى: أنّ كلّ هذا مبتن على تصوّر كون تقدّم الخاصّ على العامّ بالقرينيّة. أمّا بناءً على ما هو المختار من كونه بالأقوائيّة، فكلّ هذا البيان لا يأتي، ولا يبقى إلّا شيء واحد، وهو: أنّ فرض كون دلالة الأمر بالوضع يكون في صالح أقوائيّة الخاصّ الدالّ على الوجوب أكثر من فرض كون دلالته بالإطلاق؛ لأنّ الوضع أقوى من الإطلاق، فقد لا تُقبل أحياناً أقوائيّة الخاصّ بناءً على كون دلالته على الوجوب بالإطلاق، وتُقبل بناءً على كونها بالوضع.

54

بعض الثمرات المترتّبة على المسالك الثلاثة:

وهنا نذكر بعض الثمرات المترتّبة على ما عرفتها من المسالك الثلاثة، تقدّم توضيح بعضها في أثناء مناقشة هذه المسالك، وبعضها مستأ نَف.

فمنها: تطرّق قواعد الجمع الدلاليّ والعرفيّ على مسلك الوضع والإطلاق، بخلافه على مسلك حكم العقل؛ فإنّه على الأوّلين يصبح الأمر طرفاً للمعارضة بمدلوله اللفظيّ بالوضع أو الإطلاق لدليل تفترض دلالته على الترخيص ونفي الوجوب، فتصل النوبة إلى الجمع الدلاليّ والعرفيّ، بينما لو بنينا على مسلك حكم العقل، فلا دلالة لفظيّة للأمر تعارض دليل الترخيص، وإنّما الوجوب يثبت بحكم العقل معلّقاً على عدم الترخيص، وقد ورد الترخيص حسب الفرض.

ومنها: أنّه على مسلك الوضع والإطلاق تثبت لوازم كون الأمر عن ملاك أكيد شديد، فلو علمنا مثلاً من الخارج أنّ الدعاء عند رؤية الهلال مع الدعاء آخر الشهر متساويان في درجة الملاك والمطلوبيّة، فإذا ورد أمر بأحدهما أثبتنا بذلك وجوب كليهما بناءً على مسلك الوضع والإطلاق لحجّيّة مثبتات الاُصول اللفظيّة، بينما بناءً على مسلك حكم العقل إنّما يكون الوجوب بحكم عقليّ من دون أن يكون للّفظ كشف عن درجة الملاك والمطلوبيّة، فلا يثبت وجوب الدعاء الآخر(1).

ومنها: ثبوت دلالة السياق على الوضع، وسقوطها على الإطلاق وحكم العقل.

وتوضيح ذلك: أنّ مبنى الفقهاء عادةً في الفقه قام على أنّه إذا وردت أوامر في سياق واحد بأشياء، وعرفنا من الخارج استحباب بعضها، كانت وحدة السياق قرينة على رفع اليد عن ظهور الأمر الآخر في الوجوب، فلو قال مثلاً: «إذا أردت



(1) وأيضاً لو علمنا بالملازمة بين الوجوب وأيّ أمر آخر شرعيّ أو ذي أثر شرعيّ، فعلى الوضع والإطلاق يثبت اللازم بالأمر مطلقاً، ولكن على مسلك الحكم العقليّ إن لم نعرف عدم الترخيص بالوجدان، وتمسّكنا باستصحاب عدم الترخيص، لم يمكن إثبات اللازم.

55

الصلاة، فأذّن وأقم واقرأ الدعاء الفلانيّ وتخشّع»، ونحن نعلم أنّها كلّها أوامر استحبابيّة عدا الإقامة، فلا ندري أنّها مستحبّة أو واجبة، فعندئذ يرفع اليد عن ظهور أمرها في الوجوب، وهذا على مسلك الوضع تامّ، فإنّ استعمال الأمر بالإقامة في الوجوب دون باقي الأوامر خلاف ظهور وحدة السياق. وأمّا بناءً على مسلك الحكم العقليّ، فهذه الأوامر كلّها استعملت في معنىً واحد وهو الطلب، وافتراض ورود الترخيص في بعضها ممّا يوجب عدم حكم العقل بالوجوب، وعدمه في بعضها ممّا يوجب حكم العقل بالوجوب لا ينافي وحدة السياق، وكذلك الحال بناءً على الإطلاق، فإنّ ثبوت التقييد في بعض الإطلاقات وبقاء الباقي على الإطلاق مع كون الأمر فيها جميعاً مستعملاً في مدلوله الوضعيّ الواحد ـ وهو الطلب ـ لا ينافي وحدة السياق، فمثلاً لو ورد: «أكرم العالم، وأكرم الهاشميّ، وأكرم الكريم»، ثُمّ عرفنا تقييد العالم والهاشميّ بالعدالة، لم يوجب ذلك رفع اليد عن إطلاق الكريم لغير العادل(1)، فكذلك الحال فيما نحن فيه، أي: الأوامر الواردة في سياق واحد حينما يثبت عدم إرادة الإطلاق المقتضي للوجوب في بعضها.

ومنها: أنّه لو فرض وجود أمر واحد بشيئين، لا أوامر متعدّدة، من قبيل «اغتسل للجمعة والجنابة»، وعلمنا من الخارج بأنّ غسل الجمعة ليس بواجب، فهل يمكن إثبات وجوب غسل الجنابة مثلاً بمثل هذا الأمر، أو لا؟



(1) يمكن دعوى الفرق بين المقام وبين المثال المذكور، وذلك ببيان: أنّ المقصود في المقام هو التمسّك بإطلاق الهيئة، وهي في الجميع هيئة واحدة، أو قل: إنّ الهيئات متماثلة ومتكرّرة، فكونها في بعض المرّات في مقام بيان القيد بخلاف بعض المرّات خلاف وحدة السياق، وأمّا في المثال فالمقصود هو التمسّك بإطلاق المتعلّق، والمتعلّق في كلّ أمر غيره في الأمر الآخر، وليست المتعلّقات متماثلة، فهي أبعد في وحدة السياق ممّا نحن فيه، على أنّه قد يلتزم بوحدة السياق في هذا المثال أيضاً ولو بلحاظ نفس الدلالات الإطلاقيّة، فإنّها متماثلة ومتكرّرة في سياق واحد، فإرادة بعض وعدم إرادة البعض خلاف الظاهر.

56

فبناءً على مسلك الوضع لا يمكن إثبات ذلك؛ إذ هذا الأمر ليس للوجوب بدليل عدم وجوب غسل الجمعة، فهو: إمّا مستعمل في الاستحباب، أو في الجامع بينهما، وعلى أيّ حال لا يدلّ على وجوب غسل الجنابة، ولا يمكن فرض كونه للوجوب في غسل الجنابة وللاستحباب في غسل الجمعة؛ إذ يكون هذا من قبيل استعمال اللفظ في معنيين، وهو غير صحيح عرفاً.

وأمّا على مسلك حكم العقل فالأمر مستعمل في الطلب، والوجوب حكم عقليّ معلّق على عدم ورود الترخيص، فإذا ورد الترخيص في أحدهما دون الآخر، ثبت ـ لا محالة ـ وجوب ما لم يرخّص في خلافه دون الآخر وإن كان كلاهما مأموراً به بأمر واحد، فبذلك يثبت وجوب غسل الجنابة، وكذلك الحال على مسلك الإطلاق، فإنّ الأمر ينحلّ إلى حصّتين تقيّد إطلاق إحدى الحصّتين بدليل خاصّ، وهذا لا يوجب تقييد الحصّة الاُخرى، وهذا ليس من قبيل استعمال اللفظ في معنيين، وإنّما هو من باب التقييد في بعض الحصص والإطلاق في بعضها، والتقييد ضرورة، والضرورات تتقدّر بقدرها(1)، من قبيل ما لو قال: «أكرم العالم»، وعرفنا أنّ الفقيه لا يُكرَم إلّا إذا كان عادلاً، ولكن في غير الفقيه لم نعلم بذلك، فنبني على الإطلاق.

ومنها: أنّه لو ورد أمر بطبيعيّ فعل، من قبيل ما إذا ورد: «أكرم العالم»، وعلمنا من الخارج بأنّ إكرام العالم غير الفقيه لا يجب، فهل يمكن إثبات استحبابه على الأقلّ، أو لا؟

فعلى مسلك الوضع لا يثبت ذلك؛ إذ قوله: «أكرم» ظاهر في الوجوب، ومستعمل في الوجوب بمقتضى أصالة الحقيقة، وموضوعه العالم، وعلمنا عدموجوب إكرام غير الفقيه، فمقتضى القاعدة هو التخصيص؛ لأنّ هذا الدليل لسانه الوجوب، ولا وجوب لغير الفقيه، فلا يبقى دليل على الاستحباب أيضاً.



(1) إن وافقنا على الدلالة السياقيّة في الفرع السابق، فروح الدلالة السياقيّة موجودة هنا بشكل أشدّ.

57

وأمّا على مسلك حكم العقل فالأمر مستعمل في الطلب، ولا موجب لتخصيصه بالفقيه؛ إذ لا دليل على عدم الطلب في غير الفقيه، فيحكم العقل في الفقيه بالوجوب لعدم الترخيص، وفي غيره بالاستحباب للترخيص، كما أنّه على مسلك الإطلاق نقول: إنّ مفاد «أكرم العالم» هو الطلب، ومقتضى إطلاقه هو الوجوب، وقد سقط الإطلاق في غير الفقهاء، ولكن أصل الطلب لا موجب لسقوطه.

ومنها: أنّه لو كان عندنا أمران، وعلمنا أنّه ورد الترخيص لأحدهما دون الآخر، ولم نستطع التعيين، فبناءً على مسلك الوضع أو الإطلاق يقع التعارض بينهما ويتساقطان، ولا يثبت الوجوب حتّى لأحدهما على ما يظهر من كلام المشهور في باب تخصيص العامّ بالمخصّص المردّد بين متباينين، حيث يظهر منهم تساقط العموم في كلا الموردين وعدم ثبوت أحدهما على الاجمال.

وأمّا بناءً على مسلك الحكم العقليّ فلا تعارض بين الأمرين، وإنّما العقل يحكم بالوجوب فيما لم يرد فيه الترخيص، وبالاستحباب فيما ورد فيه الترخيص، وحيث لا يعلم أنّ أيّ الأمرين لم يرد فيه الترخيص وأ يّهما ورد فيه يحصل العلم الإجماليّ بوجوب أحدهما.

نعم، على مسلكنا في تخصيص العامّ بالمردّد بين المتباينين من حجّيّته في الآخر على إجماله لا تتمّ هذه الثمرة.

ومنها: أنّه بناءً على مسلك الإطلاق بالتقريب الذي ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ الأمر يكون ظاهراً بإطلاقه في الطلب الشديد يثبت بنفس النكتة أعلى مراتب الوجوب، فلو وقع التزاحم بين واجبين: أحدهما ثبت بأمر لفظيّ، والآخر بالإجماع، قدّم دائماً ما يثبت بالأمر اللفظيّ؛ لأنّ دليله يدلّ على كونه في أعلى مراتب الوجوب بخلاف دليل الآخر؛ لأنّ احتمال الأهمّيّة يكون في باب التزاحم من المرجّحات، وهنا لو كان الواجب الثاني أيضاً في أعلى مراتب الوجوب لتساويا، وإلّا فالأوّل أهمّ منه، فقد دخل ذلك في باب احتمال الأهمّيّة.

58

الطلب والإرادة

الجهة الرابعة: قد مضى أنّ كلمة الأمر موضوعة للطلب، وقد وقع الكلام في أنّه: هل هو عين الإرادة أو غيرها؟ وأنّه: هل هو أمر نفسانيّ كالقدرة، أو فعل نفسانيّ، أو فعل خارجيّ؟

والأشاعرة ادّعوا المغايرة بين الطلب والإرادة، والمعتزلة ادّعوا العينيّة بينهما.

والأشاعرة استدلّوا على المغايرة بوجوه، أحدها مبتن على مسألة الجبر، وهو: أنّ الإرادة التشريعيّة لا تتعلّق بشيء غير مقدور، والأفعال مخلوقة لله وغير مقدورة للعبد، مع أنّنا نرى أنّه في الشريعة تعلّق الطلب بها، إذن نعرف أنّ الطلب غير الإرادة.

وبهذه المناسبة وقع البحث في الجبر والتفويض والاختيار، إذن فهنا مسألتان:

1 ـ إنّ الطلب والإرادة هل هما أمران، أو أمر واحد؟

2 ـ ما انجرّ إليها البحث من المسألة الاُولى بالمناسبة التي عرفتها، وهي مسألة الجبر والتفويض والاختيار.

ونحن هنا نقصر الكلام على المسألة الثانية، وهي مسألة الجبر والاختيار.

ويكون كلامنا في ذلك بشيء من الاختصار، فنقول:

مسألة الجبر والاختيار

إنّ مسألة الجبر والاختيار تنحلّ إلى مسألتين:

الاُولى: هي المسألة الكلاميّة، حيث وقع الكلام فيها بين المعتزلة القائلين بالتفويض والأشاعرة القائلين بالجبر والشيعة القائلين بأمر بين الأمرين، وروح هذه المسألة يرجع إلى النزاع في تشخيص فاعل هذه الأفعال التي تتحقّق على

59

أيدي الناس، فمذهب التفويض يقول: إنّ الفاعل محضاً هو الإنسان وليس لله نصيب في هذه الفاعليّة، ومذهب الجبر يقول: إنّ الفاعل محضاً هو الله تعالى، ومذهب الشيعة يقول بأنّ لكلّ منهما نصيباً في الفاعليّة بالنحو المناسب له.

الثانية: هي المسألة الفلسفيّة، وروحها يرجع إلى أنّ فاعل هذه الأفعال ـ سواء فرضناه في المسألة الاُولى الإنسان أو ربّ الإنسان ـ هل يفعله اختياراً، أو بلا اختيار؟

ومن هنا يعرف أنّ المسألة الاُولى وهي الكلاميّة وحدها لا تكفي لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار، فلنفرض: أنّنا قلنا: إنّ الفاعل هو الإنسان وحده، لكن يبقى احتمال كونه فاعلاً بلا اختيار، من قبيل فاعليّة النار للإحراق التي قد يقال فيها أيضاً بأنّ الإحراق فعل للنار محضاً.

المسألة الكلاميّة:

أمّا المسألة الاُولى: فيوجد فيها بدواً خمسة احتمالات:

1 ـ أن يكون الفاعل محضاً هو الإنسان، ولا نصيب لربّ العباد في الفاعليّة، وهذا مذهب التفويض، وهو مذهب المعتزلة.

وهذا يرجع ـ بحسب الحقيقة ـ إلى دعوى: استغناء المعلول عن العلّة بقاءً؛ إذ لو فرضت حاجة الإنسان في وجوده البقائيّ إلى الله تعالى، ووجوده البقائيّ هو علّة أفعاله، إذن لم يعقل إنكار ثبوت نصيب لله في الفعل عرضيّاً وطوليّاً. وحيث إنّ هذا المبنى ساقط ـ كما حقّق في موضعه من الكلام والفلسفة؛ إذ برهن على أنّ المعلول بحاجة إلى العلّة بقاءً أيضاً ـ يثبت بطلان التفويض، وليس هنا موضع البحث عن تلك البراهين.

2 ـ أن يكون الفاعل محضاً هو الله تعالى، وإنّما الإنسان محلّ قابل لذلك الفعل من قبيل ما يفعله النجّار في الخشب، حيث إنّ الخشب ليس فاعلاً للفعل وإنّما هو

60

قابل له، وليس لمبادئ الإرادة في نفس الإنسان أيّ دخل في الفعل، واقتران الفعل بالإرادة دائماً إنّما هو صدفة متكررّة، فصدور الفعل من الله يقترن صدفةً دائماً بإرادة الإنسان، وهذا مذهب الأشعريّ.

وهذا الاحتمال هو الذي ينبغي أن يكون مقابلاً بالوجدان المدّعى في كلماتهم، حيث قالوا: إنّ هناك فرقاً بالضرورة بين حركة المرتعش وحركة غير المرتعش. وهذا البحث ـ بحسب الحقيقة ـ لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة، بل يأتي في كلّ عالم الأسباب والمسبّبات، فقد يقال: الإحراق شغل الله مباشرة يقترن بنحو الصدفة الدائميّة بالنار، والوجدان المبطل لذلك أيضاً عامّ يشمل كلّ عالم الأسباب والمسبّبات، وهو وجدان سليم بالقدر المبيّن في الاُسس المنطقيّة.

3 ـ أن يكون لكلّ من الإنسان والله تعالى نصيب في الفاعليّة، بمعنى كونهما فاعلين طوليّين، أي: أنّ الإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما اُوتي من قدرة وسلطان وعضلات، وتمام القوى التي استطاع بها أن يحرّك لسانه ويديه ورجليه، والله هو الفاعل غير المباشر من باب أنّ هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاءً له تعالى، ومُفاضةٌ آناً فآناً، ومعطاة من قبل الله.

وهذا أحد الوجوه التي فسّر بها الأمر بين الأمرين.

4 ـ أن يكون الفاعل المباشر هو الله، لكن الإرادة ومبادئها مقدّمات إعداديّة لصدور الفعل من الله تعالى، ومعنى استناده إلى الإنسان إرادته إيّاه.

ففرقه عن الثاني: أنّ اقتران الفعل بالإرادة على الثاني كان مجرّد صدفة، وعلى هذا الوجه يكون من باب كون الإرادة مقدّمة إعداديّة للفعل، وفرقه عن الثالث أيضاً واضح؛ إذ على الثالث يكون الفعل فعل الإنسان مباشرة والله فاعل الفاعل، وأمّا على هذا الوجه فالله هو الفاعل المباشر، والإرادة مقدّمة إعداديّة لقابليّة المحلّ لإفاضة الفعل.

61

وهذا أحد وجوه الأمر بين الأمرين.

5 ـ ما ذهب إليه عرفاء الفلاسفة ومتصوّفوهم، وهو: أنّ الفعل له فاعلان: الله والعبد، ولكنّهما لا طوليّان كما على الثالث، ولا عرضيّان كما على الرابع، بل هي ـ بحسب الحقيقة ـ فاعليّة واحدة تنسب بنظر إلى العبد، وبنظر آخر إلى الله تعالى مبنيّاً منهم على تصوّر عرفانيّ يقول: إنّ نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء، والمعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ، فبالنظر الاندكاكيّ تعتبر هذه الفاعليّة فعل الله، وبالنظر غير الاندكاكيّ تعتبر فعل العبد(1).



(1) لا بأس بشيء من بسط الكلام في هذا الوجه ولو مختصراً، فنقول ومن الله التوفيق:

تعارف القول بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، وأنّها في مرتبة ذاتها ليست وجوداً ولا عدماً وإن كان لابدّ أن يحمل عليها: إمّا الوجود، وإمّا العدم، فهي: إمّا موجودة، وإمّا معدومة.

ولكن لا يخفى: أنّ هذا النوع من التصوّر يشتمل على شائبة أصالة الماهيّة، وعروض الوجود على الماهيّة شاء صاحبه أم أبى، ويفترض: أنّ للماهيّة ثبوتاً في عالم التقرّر، وتتلبّس: إمّا بثوب الوجود، أو بثوب العدم، في حين أنّ من الواضح: أنّه لا يتصوّر قبل الوجود شيء يلبس ثوب الوجود.

وبهذا ينهار البيان الفلسفيّ القائل: إنّ العالم مركّب من وجود وماهيّة، وإنّ الماهيّة إن كان ينبع من ذاتها الوجود كانت واجبة الوجود، وإلّا كانت ممكنة الوجود، أو ممتنعة الوجود، وبما أنّ العالم لا ينبع من ذاته الوجود؛ لأنّه متغيّر، والمتغيّر حادث، إذن فلابدّ له من علّة، ولابدّ من انتهاء العلّة إلى واجب الوجود.

والبيان الصحيح الذي يحلّ محلّ هذا البيان هو: أنّه لا شيء في العالم إلّا الوجود، وأمّا الماهيّة فليست إلّا عبارة عن حدّ الوجود وانتهاء الوجود، أي: أنّ الماهيّة عدم صِرف،

62



والذي يكون بذاته هو حقيقة الوجود المستقلّ يكون واجب الوجود، ولا يتصوّر العقل له حدّاً، وما لا يكون كذلك يكون عدماً صِرفاً، إلّا أن يوجد ويُخلَق، وبما أنّ كلّ ما في هذا العالم محدود، وكذلك هو متغيّر فيستحيل أن يكون هو واجب الوجود، فلابدّ من انتهائه إلى واجب الوجود.

وبكلمة اُخرى: إنّنا بدلاً عن أن نقسّم الشيء إلى ما يكون الوجود واجباً لماهيّته، أو ممتنعاً عليها، أو ممكناً لها نقسّمه إلى الوجود المستقلّ الواجب، أو الوجود التعلّقيّ، أو العدم.

وبما ذكرناه انهار أيضاً ما عن المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): من أنّ كلّ وجود محدود له حدّان: حدّ وجوديّ وهو مقدار وجدانه المصحوب بالفقدان، وحدّ عدميّ وهو اللازم لحدّه الوجوديّ، وإن كان من ذوات الماهيّة فله حدّ ثالث وهو الحدّ الماهويّ(1).

وعلى أيّة حال، فإذا صحّ: أنّ الوجود اللامحدود هو واجب الوجود لا غيره، ثبت بذلك بعد ثبوت أصل الواجب تعالى أوّلاً: استحالة تعدّد واجب الوجود؛ إذ لو تعدّد لشكّل كلّ واحد منهما حدّاً للآخر؛ لأنّ أحدهما يجب أن ينتهي منذ أن يبدأ الآخر.

وثانياً: استحالة ثبوت وجود آخر ولو ممكناً بحيث يحدّ وجود ذلك الواجب؛ لأنّه لو صار الواجب محدوداً لكان ذلك خلف وجوبه.

ولتطبيق هذه النتيجة الثانية على واقع الحال ـ من وجود إله خالق وعالم مخلوق ـ




(1) راجع كتاب (توحيد علمي وعيني) الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) جواب على رسالة السيّد أحمد الكربلائيّ(رحمه الله)، ص 96. والصحيح: أنّ للوجود المحدود حدّاً واحداً إن شئت فسمّه بحدّه العدميّ، وإن شئت فسمّه بحدّه الماهويّ.

63





تصويرات ثلاثة لا رابع لها، بعد التسليم بوجود العالم حقيقةً:


التصوير الأوّل: افتراض: أنّ واجب الوجود، أو الوجود المطلق لا يحدّه إلّا واجب مثله، أو وجود مطلق مثله، وأمّا الوجودات المخلوقة فليست حدّاً لوجود الواجب؛ ولهذا اجتمع بالفعل وجود واجب الوجود من ناحية، ووجود عالم مخلوق له من ناحية اُخرى.


إلّا أنّ هذا التصوير ما لم يرجع إلى التصوير الثاني يبدو بظاهره واضح البطلان؛ لما قد يقال: من أنّ الوجود المطلق إن كان مطلقاً حقّاً لم يبقَ مجال لأيّ وجود آخر، وأيّ وجود آخر يفترض في مقابل هذا الوجود يعني ذلك انتهاء ذاك الوجود المطلق من حين ابتداء هذا الوجود، ومجرّد افتراض رابطة التعلّق بين الوجودين على شكل كون الوجود المطلق علّة أو خالقاً، والوجود الآخر المحدود معلولاً أو مخلوقاً لا يحلّ مشكلة استحالة وجود آخر إلى صفّ الوجود المطلق.


التصوير الثاني: افتراض: أنّ إطلاق الوجود يعني إطلاق الوجود المستقلّ، ولا تعارضه الوجودات التعلّقيّة، فإنّنا لا نفترض وجودات مستقلّة متّصفة فيما بينها بصفة العلّيّة والمعلوليّة، كي تحدّ تلك الوجودات المستقلّة المعلولة وجودَ العلّة.


وبكلمة اُخرى: إنّنا لا نفترض: أنّ نسبة الواجب تعالى إلى مخلوقاته كنسبة العلل والمعلولات المادّيّة التي ألِفناها، والتي يفترض فيها وجودان مستقلاّن بينهما رابطة التعلّق، أو نسبة العلّيّة والمعلوليّة، بل نقول: إنّ وجودات المخلوقات هي كلّها وجودات تعلّقيّة، في حين أنّ وجود الله تعالى هو الوجود المستقلّ المطلق، فليس هذا التعلّق خيطاً رابطاً بين شيئين مستقلّين، بل المخلوق هو عين التعلّق والارتباط، وهذا هو الفهم السائد بين الفلاسفة الإسلاميّين، وعلى هذا الأساس قالوا: إنّ علم الله سبحانه بمخلوقاته علم حضوريّ، لا حصوليّ.