122

البحث عن الحروف والهيئات. ويقع البحث هنا في مقامين:

 

حقيقة المعاني الحرفيّة:

المقام الأوّل: في تحقيق حقيقة الحال في معاني الحروف. وهناك ثلاثة مسالك في حقيقة المعنى الحرفيّ:

1 ـ إنّ الحروف لا معنىً لها(1).

2 ـ إنّ معنى الحرف من قبيل معنى الاسم، وليس بينهما فرق ذاتيّ. نعم، يوجد بينهما فرق عرضيّ(2).

3 ـ إنّ الحرف له معنىً مغاير ذاتاً لمعنى الاسم.

أمّا المسلك الأوّل: فيقال في شرحه: إنّ الحروف ليس لها معنىً، وإنّما هي علامات لمعاني وخصوصيّات في الأسماء من قبيل الإعراب؛ ولهذا لا يفهم معنىً


(1) (2) هذان القولان منسوبان إلى المحقّق الرضيّ الاستراباديّ(رحمه الله) وكأنّ النسبتين نشأتا من الاختلاف في فهم عبارته، وعبارته ـ كما ورد في شرح الكافية، ج 1، ص 10 بحسب طبعة منشورات المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة للشيخ عبدالكريم التبريزيّ ـ ما يلي:

«ثُمّ نقول: إنّ معنى (مِن) الابتداء، فمعنى (من) ومعنى لفظ الابتداء سواء، إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقةً، ومعنى (مِن) مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصليّ؛ فلهذا جاز الإخبار عن لفظ الابتداء، نحو: (الابتداء خير من الانتهاء) ولم يجز الإخبار عن (مِن)؛ لأنّ الابتداء الذي هو مدلولها في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه، بل في لفظ غيره؟! وإنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الذي في نفسه مطابقةً، فالحرف وحده لا معنى له أصلاً؛ إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدلّ على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما، فإذا اُفرِد عن ذلك الشيء بقي غير دالّ على معنىً أصلاً».

123

من الحروف حينما تستعمل وحدها.

وقد أوردوا عليه: أنّ هذا يستبطن شبه التناقض، فمن ناحية يفرض أنّ الحرف لا معنى له، ومن ناحية اُخرى يفرض أنّه دخيل في الدلالة، وهذا تناقض. فنحن نقول: هل إنّ قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» لو حذفت منه الحروف يبقى المعنى المتحصّل من الكلام على حاله، أو لا؟ فإن قيل: نعم، فهو خلاف الوجدان. وإن قيل: لا، قلنا: إنّ الخصوصيّات الموجودة في هذا الكلام التي تفقد عند حذف الحروف هل هي مستفادة من الحروف، أو من «السير» و «البصرة» و «الكوفة» مثلاً التي هي أسماء؟ فإن قيل بالأوّل، فهذا معناه أنّ الحروف ذات معنىً. وإن قيل بالثاني، قلنا: إنّ «السير» و «البصرة» و «الكوفة» بذاتها لا تدلّ على هذه الخصوصيّات؛ ولذا لا تدلّ عليها عند التجرّد من الحروف، ففهم هذه الخصوصيّات يحتاج إلى قرينة. فإن كانت القرينة هي الحروف، رجعنا مرّة اُخرى إلى القول بكون الحروف ذات معنىً، وإلاّ فليست هناك قرينة اُخرى، إذن فهذا المسلك يستبطن المحال.

أقول: إنّ هذا المسلك بناءً على الرأي المشهور في حقيقة الوضع من إرجاعه إلى الإنشاء بأحد الوجوه الماضية يمكن تفسيره بنحو لا يستبطن تناقضاً، ولا استحالة، وذلك بأن يدّعى: أنّ لكلمة «السير» مثلاً أوضاعاً عديدة بعدد حالاتها من حيث اكتنافها بالحروف وعدمه، فمثلاً كلمة «السير» حينما لا تكون مكتنفة بحرف تكون موضوعةً لطبيعيّ السير، وحينما تكون مكتنفة بـ «من» و «إلى» تكون موضوعةً لحصّة خاصّة من السير، وهي: السير من كذا إلى كذا. فنفس «من» و «إلى» لا تدلاّن على معنىً، وإنّما الخصوصيّة تستفاد من نفس السير؛ لأنّها موضوعة بوضع آخر حينما تكون مكتنفة بـ «من» و «إلى»، فلا يكون

124

هذا المسلك مستبطناً لتناقض أو استحالة. نعم، قد يقال: إنّه خلاف الوجدان.

وأمّا المسلك الثاني: فهو الذي اختاره المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)(1). وكلامه ينحلّ إلى جهتين:

الجهة الاُولى: أنّ كلمة «من» مع كلمة الابتداء في جوهر المعنى واحد، وإنّما بينهما فرق عرضيّ، وهو أنّ كلمة «من» يقصد بها الابتداء ملحوظاً باللحاظ الآليّ الفاني في غيره، وكلمة الابتداء يقصد بها الابتداء ملحوظاً باللحاظ الاستقلاليّ، فالاستقلاليّة والآليّة من شؤون لحاظنا، لا من ذاتيّات جوهر المعنيين.

الجهة الثانية: أنّ الآليّة والاستقلاليّة اللتان هما من شؤون اللحاظ هل اُخذتا قيداً في الموضوع له، فأوجبتا نوع فرق بين المعنى الموضوع له الحرف والمعنى الموضوع له الاسم، أو اُخذتا قيداً في الوضع، فلم يبق أيّ فرق ولو غير جوهريّ بين الموضوع له الحرف والموضوع له الاسم؟ اختار(رحمه الله) أنّه قيد في الوضع. وكأنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) فرض الجهة الاُولى أمراً مفروغاً عنها، فأشبع الكلام في أكثر من مورد في الجهة الثانية فحسب، وأخذ يبرهن بعدّة براهين على أنّ اللحاظ الآليّ قيد في الوضع لا الموضوع له، وفهمت الجهة الاُولى من كلامه ضمناً، في حين أنّ كون الفرق بين الاسم والحرف إنّما هو في اللحاظ الآليّ واللحاظ الاستقلاليّ أوّل الكلام، فيجب أوّلاً أن نتكلّم في الجهة الاُولى:

فنقول: إنّه قد اعترض على ما اختاره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ الفرق بين «من» و «الابتداء» إنّما هو باللحاظ بإشكالات:

الإشكال الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) وهو: أنّ المعنى الحرفيّ


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 15 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكينيّ.

125

لا يمكن أن يكون له لحاظان، أي: وجودان ذهنيّان: آليّ واستقلاليّ حتّى يقال: إنّه متى ما كان استقلاليّاً عبّر عنه بالاسم، وهو الابتداء، ومتى ما كان آليّاً عبّر عنه بمن؛ وذلك لأنّ الوجود الذهنيّ لشيء يجب أن يكون مطابقاً للوجود الخارجيّ له، والمعنى الحرفيّ وهو النسبة كالنسبة الابتدائيّة مثلاً ليس له في الخارج نحوان من الوجود، وإنّما يوجد في الخارج دائماً بالوجود الفاني والمندكّ، وليس له في الخارج وجود استقلاليّ، فيجب أن يكون وجوده في الذهن أيضاً آليّاً وفانياً دائماً(1).

 


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 23 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ في قم.

وأقول: لا يخفى أنّ صدر عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) وإن كان يوهم ما نقله عنه اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه) هنا من مجرّد التمسّك بأنّ النسبة ليس لها نحوان من الوجود في الخارج، فكذلك لا يمكن أن يكون لها نحوان من الوجود في الذهن؛ ولذا نقض عليه ـ رضوان الله عليهما ـ بالعرض الذي له نحو واحد من الوجود في الخارج، وهو الوجود في المحلّ، في حين أنّ له نحوين من الوجود في الذهن، وهما الوجود في المحلّ والوجود الاستقلاليّ، وذكر: أنّه لا برهان على ضرورة تماثل أنحاء الوجود الذهنيّ تماماً لأنحاء الوجود الخارجيّ، ولكن مراجعة تمام عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله)تُثبت بوضوح أنّ مقصوده لم يكن هو هذا التقريب الساذج، وهو ملتفت إلى الفرق بين النسبة والعرض. وحاصل مقصوده في المقام هو: أنّ العرض إنّما يكون بحاجة إلى المحلّ في وجوده الخارجيّ لا في ماهيته وهويّته، فالعرض كالبياض مثلاً مستقلّ في الهويّة والماهية عن الجسم الأبيض، ولكنّه مفتقر إليه في وجوده الخارجيّ وهذا الافتقار كان مخصوصاً بالوجود الخارجيّ، ولم يشمل الوجود الذهنيّ، فأمكن وجوده في الذهن مستقلاًّ. وبكلمة اُخرى: أنّ العرض له وجود نفسيّ في الخارج كالعين، بفرق: أنّ العين لها وجود في نفسه لنفسه، ولكن العرض له وجود في نفسه لغيره. وأمّا النسبة فليس لها وجود نفسي في الخارج أصلا، وإلاّ لم يكن ثبوت شيء لشيء، بل ثبوت أشياء ثلاثة، فتحتاج

126


إلى رابطة اُخرى، والنسبة مبتلاة بالنقص في ذاتها وهويّتها، فهي في هويّتها متقوّمة بالطرفين، فكما يستحيل وجودها مستقلاًّ في الخارج كذلك يستحيل وجودها مستقلاًّ في الذهن.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يرد عليه النقض بالأعراض الوارد في كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله). نعم، برهنته على عدم إمكان وجود هذه النسبة في الذهن بوجودين، ببيان: أنّ النقص والفقر ثابتان في ذاتها وهويّتها لا في وجودها الخارجيّ بعد فرض كمالها الذاتيّ متوقّف على الفهم الفلسفيّ القائل بأنّ الماهية توجد في الذهن حقيقةً كما توجد في الخارج حقيقةً، وإنّما الاختلاف في نوع الوجود، فما هو من شؤون الوجود الخارجيّ كمحرقيّة النار لا يتعدّى إلى الذهن؛ ولذا ترى أنّ النار في الذهن لا تحرق الذهن، وما هو من شؤون الماهية تراه ثابتاً في الخارج وفي الذهن، كزوجيّة الأربعة. وفي المقام بما أنّ النقصان والافتقار كان من شأن ماهية النسبة، فهو ثابت في الذهن أيضاً كما هو ثابت في الخارج، وهذا بخلاف نقص الأعراض وافتقارها إلى المحلّ، فإنّ ذلك من شؤون الوجود الخارجيّ للعرض، لا من شؤون ماهيته؛ ولذا يمكن تواجد العرض في الذهن مستقلاًّ عن المحلّ. أمّا لو أنكرنا هذه القاعدة الفلسفيّة، وقلنا: إنّ الوجود الذهنيّ ليس إلاّ تصويراً عمّا في الخارج، فبطبيعة الحال ينهار هذا البرهان، بل ويمكن إرجاع النقض أيضاً بأن يقال: لو كان تصوير الذهن عمّا في الخارج بصورتين مختلفتين غير ممكن فكيف وقع ذلك في باب الأعراض؟!

ولكن يمكن أن يستبدل البرهان الذي ينهار بإنكار تلك القاعدة الفلسفيّة ببيان آخر، وهو: أن يقال: إنّ ما يكون في ذاته متلاشياً في الغير وفانياً كيف يمكن للذهن أن يأخذ عنه صورة في غير ضمن صورة ما تلاشى فيه؟! وبهذا تختلف النسبة عن العرض الذي ليس في ذاته متلاشياً في الغير. والفرق بينهما: أنّ العرض وإن كان لا يوجد في الخارج إلاّ في المحلّ لكن الذهن قادر على أن يجرّده عن محلّه. أمّا النسبة المفتقرة في هويّتها إلى


127

أقول: إنّنا وإن كنّا نؤمن ـ على ما سوف يتّضح ـ بأنّ المعنى الحرفيّ لا يوجد في الذهن إلاّ آليّاً، لكن البرهنة على ذلك بأنّ وجوده الخارجي لا يكون إلاّ آليّاً غير صحيحة؛ إذ لا برهان على ضرورة كون أقسام الوجود الذهنيّ مطابقة لما في الخارج، بل نبرهن على خلافه، وذلك بالتمثيل بالأعراض، فالبياض مثلاً لا يوجد في الخارج إلاّ في محلّ، لكنّه يوجد في الذهن تارةً في محلّ حينما يتصوّر الجسم الأبيض، واُخرى مستقلاًّ حينما يتصوّر نفس البياض.

ثُمّ إنّ في هذا الكلام للمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) تحميلاً على المحقّق الخراسانيّ حيث يحمّله أنّ المعنى الحرفيّ هو النسبة، وهذا تحميل بلا موجب.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) وهو: أنّه لو كان معنى «من» والابتداء واحداً، وكان الفرق بينهما في اللحاظ فحسب، لصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر على حدّ صحّة الاستعمال المجازيّ في الموارد المتعارفة على الأقلّ، فإنّنا إن فرضنا أنّ اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ قيد للموضوع له، فغاية ما يلزم من استعمال أحدهما في مكان الآخر هو استعمال الشيء في معنىً غير ما وضع له قريب من المعنى الموضوع له؛ لوجود جامع بينهما، وهو معنى الابتداء، وهذا استعمال مجازيّ جائز. وإن فرضنا


الطرفين فبمجرّد أن يجرّدها الذهن من طرفيها لا يبقى شيء حتّى في عالم التقرّر حتّى يصوّره، فلا طريق للذهن إلى تصويرها إلاّ تصوير المفنيّ فيه والمتلاشى فيه الذي هو تصوير ضمنيّ للفاني والمتلاشي.

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 15، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 49 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 57.

128

أنّ الآليّة والاستقلاليّة قيد للوضع فالأمر أحسن؛ لعدم تصرّف في الموضوع له، فهذا استعمال مجازيّ جائز أيضاً؛ فإنّه في المجازات المتعارفة يستعمل اللفظ في معنىً مباين للمعنى الموضوع له، ويقال بجواز ذلك. وفيما نحن فيه يستعمل اللفظ في نفس المعنى الموضوع له مع مخالفة قيد الوضع، ولئن جاز استعمال اللفظ في المباين فكيف لا يجوز استعماله في نفس المعنى مع رفض القيد؟!

أقول: إنّنا لو مشينا حسب مسالك القوم، كان هذا الإشكال أيضاً قابلاً للردّ؛ وذلك لأنّ المعنى المجازيّ إنّما يصحّ في طول وجود معنى حقيقيّ للّفظ بالوضع، فالواضع ينشئ وضع اللفظ لمعنىً ثُمّ تتمّ له الدلالة على معنىً آخر مجازيّ بالعلاقة والشبه والذوق؛ فكلمة «أسد» إنّما تدلّ على الرجل الشجاع؛ لأنّها موضوعة للحيوان المفترس، فلو فرض نسخ هذا الوضع مثلاً لم تبقَ لها دلالة على الرجل الشجاع، والمدّعى للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام هو: أنّ وضع «مِن» مقيّدٌ باللحاظ الآليّ، أي: أنّ دائرة الوضع مضيّقة، فالواضع إنّما وضع لفظة «من» للابتداء حينما يلحظ آليّاً، فلو لوحظ استقلاليّاً لم يكن هناك وضع أصلاً، من قبيل أن يفرض أنّ الواضع إنّما جعل لفظة أسد دالّةً على الحيوان المفترس في الليل، ففي النهار لا تدلّ على ذلك، إذن فحينما يلحظ المعنى استقلاليّاً لا تبقى لكلمة «من» دلالة ووضع حتّى يصحّ استعمالها مجازاً.

الإشكال الثالث: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في تعليقته من أنّه لو كان امتياز المعنى الحرفيّ عن المعنى الاسميّ إنّما هو باللحاظ الآليّ والاستقلاليّ والفناء وعدم الفناء، إذن لكانت الأسماء حينما تقع في قضايا ناظرة إلى الخارج حروفاً، فمثلاً حينما يقال: «النار محرقة» يكون مفهوم النار معنىً حرفيّاً؛ لأنّه لوحظ آليّاً وفانياً في واقع النار، فإنّ مفهوم النار الموجود في الذهن حينما يلحظ

129

استقلاليّاً لا يحكم عليه بالإحراق؛ إذ هو صورة ذهنيّة موجودة في عالم النفس غير محرقة أصلاً(1).

 


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 15 تحت الخطّ.

والنصّ الوارد في كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في هذا التعليق ما يلي: « مضافاً إلى أنّ لحاظ المعنى آلة لو كان موجباً لكونه معنىً حرفيّاً، لزم منه كون كلّ معنىً اسميّ يؤخذ معرّفاً لغيره في الكلام وآلة للحاظه كالعناوين الكلّيّة المأخوذة في القضايا معرّفات للموضوعات الواقعيّة معنىً حرفيّاً ». وكأنّ هذا التعبير فُسّر من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بمعنى فناء العمومات في مصاديقها الخارجيّة، فأورد عليه: بأنّ المقصود بالفناء في المقام لم يكن هو فناء العنوان في المعنون والمفهوم في المصداق، بل كان هو فناء مفهوم في مفهوم، ولكن الذي يبدو من كتاب المحاضرات (ج 1، ص 58) أنّ مقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ليس هو هذا المعنى (أو كان هذا المعنى مقصوداً في تعليقه على أجود التقريرات، ثُمّ صحّحه وبدّله بالبيان الموجود في المحاضرات). ففي المحاضرات قد نقض بمثل مرآتيّة التبيّن في الآية الشريفة لحلول الفجر، فليس التبيّن ملحوظاً بذاته وموضوعاً لحرمة الأكل والشرب، وإنّما اُخذ مرآةً وطريقاً إلى طلوع الفجر، فلو كانت ميزة المعنى الحرفيّ أنّه لوحظ آلة لغيره وفانياً فيه، لزم أن يكون معنى التبيّن هنا معنىً حرفيّاً. وهذا البيان لا يرد عليه إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فإنّ فناء معنى التبيّن في معنى طلوع الفجر إنّما هو فناء مفهوم في مفهوم كما هو الحال في المعاني الحرفيّة، لا فناء المفهوم في المصداق، أو العنوان في المعنون.

إلاّ أنّ هذا البيان أيضاً غريب؛ فانّ مقصود القائل بفناء المعنى الحرفيّ في المعنى الاسميّ إنّما هو الفناء في باب دلالات الألفاظ على مستوى الدلالة اللغويّة التصوّريّة، لا على مستوى الأهداف، أو على مستوى الدلالات الجدّيّة، أو على مستوى الملاكات. ومن الواضح: أنّ التبيّن في الآية لا يعطي على مستوى الدلالة اللغويّة وعلى مستوى استعمال اللفظ في معناه اللغويّ إلاّ معنى التبيّن، وليس فانياً في معنى طلوع الفجر بمعنى اندكاك هذا في ذاك في عالم التصوّر، إلاّ أنّه كان الهدف من إعطاء مسألة التبيّن كمقياس

130

أقول: إنّ هذا الإشكال في غير محلّه. وتوضيح ذلك: أنّ الفناء له معنيان:

الأوّل: فناء العنوان في المعنون، والمفهوم في الواقع والمصداق، من قبيل فناء مفهوم النار الموجود في الذهن في واقع النار في قولنا: «النار حارّة»، وهذا في الحقيقة ليس فناء شيء في شيء؛ فإنّه لم يدخل في الذهن إلاّ مفهوم النار ويستحيل دخول واقع النار فيه حتّى يقال: إنّ هذا فنى في ذاك، فلو فرض ثبوت مفهوم النار في الذهن إذن فليس فانياً في شيء، ولو فرض فناؤه في النار الخارجيّة إذن لم يبق شيء في الذهن، وإنّما معنى الفناء هنا هو: أنّه نظر إلى مفهوم النار بالنظر التصوّريّ؛ ولذا حكم عليه بالحرارة، ولم ينظر إليه بالنظر التصديقي، وإلاّ لم يكن يرى إلاّ صورة ذهنيّة ليست لها أيّة حرارة. فالفناء هنا يكون بمعنى


لترك الأكل والشرب، أو كان الملاك في ذلك أنّ التبيّن يكون دليلاً على طلوع الفجر، أو أنّ المراد الجدّي هو طلوع الفجر. وأين هذا من الفناء المدّعى للمعاني الحرفيّة في المعاني الاسميّة؟!

هذا، وكان بالإمكان تقريب المطلب ببيان ثالث، إلاّ أنّ هذا البيان لا يتحمّله تعبير السيّد الخوئيّ(رحمه الله) الذي نقلناه عن تعليقه على أجود التقريرات، وهو أن يقال: إنّ المقياس في حرفيّة الحرف لو كان هو آليّة النظر، للزم أن تكون كلمة «الابتداء» مثلاً حينما ينظر إلى معناها بما هي حالة للسير بالقياس إلى البصرة كما في قولنا: «السير المبتدأ به من البصرة» حرفاً.

ولكن بإمكان الشيخ الآخوند(رحمه الله) أن يجيب على هذا النقض أيضاً بأنّ نفس التصوّر هنا لم يكن تصوّراً فنائيّاً واضمحلاليّاً في معاني الأسماء كما هو الحال في تصوّر معنى «مِن» في قولنا: «سرت من البصرة»، وإنّما كان المتصوّر بالتصوّر الاستقلاليّ معنى الابتداء المنتزع من السير والبصرة، وحاله حال سائر المفاهيم الانتزاعيّة الإضافيّة كالاُبوّة والبنوّة.

131

تبديل نظرة إلى مفهوم بنظرة اُخرى إليه، وليس بمعنى اندكاك شيء في شيء.

الثاني: فناء مفهوم في مفهوم، من قبيل فناء المعنى الحرفيّ في المعنى الاسميّ في قولنا: «سرت من البصرة». فالفناء هنا يكون بمعنى اندكاك معنىً في معنى، وكون أحد المفهومين ملحوظاً بالتبع وطوراً للمعنى الآخر، أي: أنّه وقع التصوّر أوّلا وبالذات على ذي الطور، فنفس الطور يكون مندكّاً وفانياً وملحوظاً تبعاً نظير أنّ من تصوّر الأبيض فقد تصوّر البياض تبعاً ومندكّاً في ضمن تصوّر الأبيض وفانياً فيه. والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إنّما يقصد بالفناء هذا المعنى الثاني، حيث يقول: المعنى الحرفيّ حالة في غيره، ويقصد بذلك: أنّه حالة في معنىً اسميّ، لا أنّه فان في المعنون؛ ولذا يشبّهه بالعرض مع موضوعه. وممّا يؤيّد ذلك أنّه فرّع في بحث مفهوم الشرط على مبناه في المعنى الحرفيّ عدم إمكان الإطلاق والتقييد في المعنى الحرفيّ؛ لأنّه آليّ ومغفول عنه، فكيف يطلق أو يقيّد. وأمّا إنّ هذا التفريع هل صحيح أو لا، فسيأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ وإنّما المقصود هنا أنّ هذا التفريع شاهد على إرادة فناء مفهوم في مفهوم، لا فناء العنوان في الخارج؛ إذ من الواضح إمكان الإطلاق والتقييد فيه وعدم الغفلة عن العنوان، غاية الأمر أنّه التفت إليه بالنظر التصوّريّ لا التصديقيّ.

الإشكال الرابع: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أيضاً في تعليقته من النقض بالمصادر(1). وتوضيح ذلك: أنّ الأصحاب ـ ومنهم السيّد الاُستاذ ـ قد ذكروا: أنّ الفرق بين المصدر واسم المصدر هو: أنّ اسم المصدر يدلّ على ذات الحدث بما هو هو، والمصدر يدلّ على الحدث بما هي حالة في الفاعل أو المفعول.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 16 تحت الخطّ.

132

وعليه يقال: إنّه يلزم كون المصدر حرفاً؛ لأنّه يلحظ حالة في غيره وفانياً فيه.

وفيه: أنّ المصدر قد وضعت مادّته لمفهوم الحدث، وهيئته للدلالة على كون الحدث حالة في الفاعل أو المفعول، وفرقه عن اسم المصدر هو: أنّ اسم المصدر قد وضع بمادّته لمفهوم الحدث من دون أن يكون لهيئته وضع مستقلّ يدلّ على صدوره من الفاعل، أو وقوعه على المفعول وكونه حالة فيه. فإن كان المراد من هذا النقض أنّ مادّة المصدر يلزم أن تكون حرفاً فللمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أن يقول: إنّ مادّته تدلّ على مفهوم الحدث وهو اسم، والهيئة تدلّ على الصدور بما هو حالة في غيره. وإن كان المراد أنّ هيئة المصدر صارت حرفاً؛ فهذا لا بأس به، ومداليل الهيئات دائماً معان حرفيّة.

الإشكال الخامس: ما ذكره السيّد الاُستاذ أيضاً في التعليقة(1) من أنّ المعنى الحرفيّ قد يتعلّق به النظر الاستقلاليّ، وذلك من قبيل ما لو كان السائل يعرف أصل سفر زيد، وإنّما يشكّ في أنّ سفره كان في السيّارة أو على السيّارة، أو كان في السيّارة أو في الطائرة ونحو ذلك، فهو ينصبّ رأساً سؤاله على معنى «في» أو «على» في قوله: هل سافر زيد في السيّارة أو على السيّارة؟ أو هل سافر في السيّارة أو في الطائرة؟ ونظره الاستقلاليّ الاستفهاميّ إنّما هو منصبّ على المعنى الحرفيّ، وأمّا أصل السفر فهو معلوم لديه.

ويرد عليه: أنّ الصحيح ـ كما قال المشهور ـ أنّ المعنى الحرفيّ لا يمكن لحاظه مستقلاًّ، وهو مقتضى مبنى السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ فإنّ السيّد الاُستاذ مع المشهور بانون على الفرق الذاتيّ بين المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ، وإنّ المعنى


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 19، وراجع أيضاً المحاضرات، ج 1، ص 58.

133

الحرفيّ بذاته معنىً مفتقر، وتنشأ تبعيّته من حاقّ ماهيته، كما أنّ المعنى الاسميّ في ذاته وماهيته مستقلّ. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون لحاظ المعنى الحرفيّ آليّاً وغير مستقلّ؛ لأنّ الوجود سواء كان ذهنيّاً ـ وهو اللحاظ ـ أو خارجيّاً إنّما يبرز واقع الماهية وخصائصها، فإذا كانت الماهية في عالم الماهويّة والذات غير مستقلّة، فلا يمكن أن يكون وجودها الذهنيّ مستقلاًّ. وأمّا مثل من علم بأصل سفر زيد وأراد أن يسأل عن أنّ سفره في السيّارة أو في الطائرة مثلاً، فله طريقان إلى هذا السؤال:

1 ـ أن يأخذ مفهوماً اسميّاً إجماليّاً مشيراً إلى المعنى الحرفيّ كمفهوم الكيفيّة والخصوصيّة ونحو ذلك، فيقول: أسألك عن كيفيّة ركوبه، أو خصوصيّة سفره، ونحو ذلك.

2 ـ أن يسأل عن الحصّة الخاصّة من حصص المفهوم الاسميّ، فهو يعلم بأصل السفر، لكن السفر له حصّتان: الاُولى: السفر المتحصّص والمتقيّد بكونه في السيّارة، والثانية: السفر المتحصّص والمتقيّد بكونه في الطائرة، وهو إنّما يعلم بالجامع بين الحصّتين، ولا يعلم بإحدى الحصّتين بالخصوص، فيقول: هل سافر زيد في السيّارة أو في الطائرة؟ واللحاظ الاستقلاليّ لم يتعلّق بالمعنى الحرفيّ، بل تعلّق بطرفه المتحصّص به، وتعلّق بالمعنى الحرفيّ بالتبع. فمعنى سؤاله هو: أنّ أيّ الحصّتين من السفر وجدت خارجاً؟ هل السفر المقيّد بكونه في السيّارة، أو السفر المقيّد بكونه في الطائرة؟ بعد العلم بالجامع بينهما.

والتحقيق بعد اندفاع هذه الاعتراضات: أنّ أصل هذا المسلك غير صحيح. والبرهان على ذلك هو: أنّه يوجد عندنا شيئان: أحدهما: مفهوم الابتداء، أي: كون السير قد ابتدأ من البصرة، والآخر: النسبة الواقعة بين السير والبصرة، وهما أمران

134

مستقلاّن، بدليل: أنّ مفهوم الابتداء قابل لأن يوجد بوجود استقلاليّ في الذهن، وكلّ إنسان يستطيع أن يتصوّر مفهوم الابتداء دون أن يتصوّر أطرافه، وبحسب القائمة المعروفة للمقولات العشر يمكن إدخاله في مقولة الإضافة من قبيل الاُبوّة والبنوّة. وأمّا حاقّ النسبة بين السير والبصرة، فلا يمكن وجودها في الذهن مستقلاًّ؛ لما سوف نبرهن عليه من أنّها بذاتها فقيرة ومتعلّقة بالغير، فلا يمكن لحاظها مستقلاًّ، فهي أمر تعلّقيّ ماهيةً ووجوداً. فمن يقول بأنّ معنى «من» ومعنى الابتداء واحد هل يقصد أنّ معنى الابتداء هو النسبة كَمِنْ، أو يجرّد كلمة «من» من معنى النسبة، ويقول: إنّ معناها هو الابتداء؟ فإن قصد الثاني وقال: إنّ «من» والابتداء كلاهما بمعنى الابتداء، إلاّ أنّه حينما يلحظ الابتداء لحاظاً مستقلاًّ سمّي بالابتداء، وحينما يلحظ فانياً وحالة في غيره سمّي بمن، قلنا: إنّ الابتداء وإن كان قابلاً للّحاظين، بمعنى: أنّه تارةً يلحظ بما هو هو، واُخرى بما هو حالة وطور لغيره، لكنّه حينما يلحظ بما هو حالة وطور لغيره لا محالة يشتمل على نسبة بين الابتداء وبين ما كان طوراً له؛ لأنّ كلاّ منهما مفهوم استقلاليّ، وكلّ مفهوم استقلاليّ إذا اُريد ربطه بمفهوم استقلاليّ آخر فلا محالة لابدّ من ربط ونسبة بينهما، ففي مورد لحاظ الابتداء طوراً وحالة في غيره يوجد ابتداء وتوجد نسبة، فإن كان «من» للابتداء كما فرض احتجنا إلى دالّ آخر على النسبة، وليس ما يدلّ على النسبة إلاّ الحرف بمعنىً يشمل الهيئات، فرجعنا إلى أنّ معنى الحرف هو النسبة، وهو مباين لمعنى الاسم. فكلمة «مِن» في «سرت من البصرة» ليس معناها الابتداء، وإلاّ لاحتاج إلى النسبة، وليس معناها النسبة بين الابتداء والبصرة؛ إذ لا ابتداء عندئذ في الكلام. وعليه، فيجب أن يكون معناها النسبة بين السير والبصرة.

135

وإن قصد الأوّل، وقال: إنّنا نسلّم أنّ معنى «من» هو حاقّ النسبة، ولكنّنا نقول: إنّ معنى الابتداء أيضاً هو حاقّ النسبة، قلنا: إنّنا سوف نبرهن على أنّ حاقّ النسبة لا يمكن أن يوجد في الذهن مستقلاًّ، ومن الواضح: أنّ مفهوم الابتداء يمكن تصوّره في الذهن مستقلاًّ.

هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى، وبنسفها لم يبقَ موضوع للجهة الثانية، ولكن مع ذلك نقول:

وأمّا الجهة الثانية: فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ قيد اللحاظ الآليّ ـ الذي فَرَض أنّه المميّز للحرف عن الاسم الذي يلحظ باللحاظ الاستقلاليّ ـ إنّما هو قيد في الوضع، وليس قيداً في الموضوع له، وذكر عدّة براهين لإثبات عدم كونه قيداً في الموضوع له، ونحن لنا هنا عدّة كلمات(1):

الكلام الأوّل: أنّه لا إشكال ـ بناءً على كون الفرق بينهما باللحاظ الآليّ والاستقلاليّ ـ في أنّه كما أنّ المتكلّم يكون تصوّره لمعنى «مِنْ» بنحو اللحاظ الآليّ دائماً كذلك السامع يكون تصوّره لمعنى «مِنْ» الذي يسمعه بنحو اللحاظ الآليّ دائماً، والنكتة في ذلك بناءً على كونه قيداً للموضوع له واضحة، حيث إنّ الوضع يدعو السامع إلى تصوّر المعنى بما له من قيود، وقد فرض تقيّد المعنى بنحو اللحاظ الآليّ. أمّا إذا كان قيداً في الوضع فيبقى ذلك بلا تفسير، فإنّ الوضع لا يدعو السامع إلاّ إلى تصوّر ما وضع له اللفظ، فلماذا يفترض أنّ السامع يتصوّر دائماً معنى ما يسمعه من كلمة «مِن» بنحو اللحاظ الآليّ؟!


(1) بعد غضّ النظر عن أصل أنّ تقييد الوضع إنّما يعقل على مبانيهم من فرض الوضع أمراً جعليّاً قابلاً للإطلاق والتقييد، ولا يعقل على مبنانا في فهم حقيقة الوضع.

136

نعم، قد يستنتج السامع بالنظر التصديقيّ أنّ المتكلّم قد لاحظه آليّاً؛ لأنّه لا يستعمل لفظاً غير موضوع، لكن هذا الاستنتاج بالنظر التصديقيّ شيء وكون نظره التصوّريّ بنحو اللحاظ الآليّ شيء آخر.

الكلام الثاني: أنّ البراهين التي ذكرها إن تمّت، فإنّما توجب عدم أخذ قيد اللحاظ الآليّ في الموضوع له للحرف؛ لأنّه يلزم من ذلك مثلاً تعدّد اللحاظ وعدم الصدق على الخارجيّات، وكون المعنى الاسميّ أيضاً خاصّاً؛ لأنّه اُخذ فيه اللحاظ الاستقلاليّ، فلنفترض أنّ القيد المأخوذ في الموضوع له للحرف هو عدم اللحاظ الاستقلاليّ، فإنّ هذا يؤدّي إلى الفرق المطلوب له في المقام بين الاسم والحرف من دون أن يرد عليه شيء من تلك الإشكالات(1).

الكلام الثالث: فيما ذكره صاحب الكفاية من الأدلّة على أنّ اللحاظ الآليّ غير مأخوذ في الموضوع له(2)، وهي ما يلي:

الأوّل: أنّه لو فرض أخذ اللحاظ الآليّ في الموضوع له، للزم تعدّد اللحاظ لدى المستعمل الذي يستعمل اللفظ في الموضوع له، بداهة أنّ تصوّر المستعمل فيه ممّا لابدّ منه في استعمال الألفاظ، وهو كما ترى.

وتوجيه ما ذكره دام ظلّه من القضيّة الشرطيّة وهي: « أنّه لو فرض أخذ اللحاظ الآليّ في الموضوع له لزم تعدّد اللحاظ » هو أنّه لو فرض أخذ اللحاظ الآليّ في الموضوع له، فإمّا أن يفرض أخذ مفهوم اللحاظ أو واقع اللحاظ: أمّا الأوّل، فهو خلاف المدّعى، ولا يحقّق جزئيّة المعنى الحرفيّ التي اُريد استنتاجها من فرض


(1) ويبقى الموضوع له للحرف أيضاً عامّاً كما يريده الشيخ الآخوند(رحمه الله).

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 14.

137

أخذ اللحاظ الآليّ. وأمّا الثاني فإن فسّر بمعنى أخذ نفس اللحاظ الذي يمكّن المستعمل من الاستعمال لزم التهافت؛ لأنّ المستعمِل إنّما يلحظ معنىً مفروضاً في المرتبة السابقة، ويُطرئ عليه لحاظه. وإن فسّر ذلك بمعنى أخذ لحاظ آخر غير ذلك اللحاظ، لزم تعدّد اللحاظ، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

وتوجيه بطلان التالي أنّه: أوّلاً: يكون تعدّد اللحاظ خلاف الوجدان.

وثانياً:(1).

 


(1) من هنا إلى أوّل المسلك الثالث ساقط لدينا من كتابتنا الأصليّة، ومن المناسب أن يكون المحذوف ما يلي:

وثانياً: يمكن البرهنة على بطلان تعدد اللحاظ بأنّ اللحاظ بذاته من المعلومات الحضوريّة لدى الذهن، فلا يعقل تعلّق اللحاظ به؛ لأنّ تعلّق اللحاظ بشيء ما يعني أخذ الذهن صورة عنه، وهذا إنّما يكون فيما يغيب بذاته عن الذهن.

وقد يعترض على هذه البرهنة بأنّ المعلومات الحضوريّة كالحبّ والبغض ونحوهما يمكن لحاظها بإلقاء نظرة ثانويّة عليها، ولا محذور في إحضار صورتها لدى الذهن مع حضورها هي بالذات أيضاً لديه، فإن تصوّرنا إمكانيّة ذلك لا يبقى في المقام عدا دعوى الوجدان.

ويمكن الجواب على هذا الدليل بإبطال القضيّة الشرطيّة، وذلك باختيار الشقّ الذي يقول: إنّ الواضع أخذ واقع اللحاظ قيداً في الموضوع له، مع بيان: أنّ هذا لا يستلزم تعلّق اللحاظ المصحّح للاستعمال بذاك اللحاظ، فإنّ المستعمل إنّما يحتاج إلى لحاظ القيد بمعنى أخذ صورة عنه لو لم يكن ذاك القيد من المعلومات الحضوريّة لديه، ومن الواضح: أنّ واقع لحاظه معلوم حضوريّ لديه، فيصبح نفس اللحاظ المأخوذ في المرتبة السابقة على الاستعمال في معنى اللفظ ممكّناً للمستعمِل من الاستعمال.

الثاني: أنّه لو أخذ اللحاظ الآليّ الذي لا موطن له إلاّ الذهن في المعنى الوضعيّ الذي يستعمل فيه اللفظ، لزم امتناع صدق المعنى على الخارجيّات؛ لأنّه دخل فيه قيد من قيود

138

وأمّا المسلك الثالث: وهو القول بوجود فارق جوهريّ بين المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ، فهو المشهور بين المحقّقين المتأخّرين، كالمحقّق النائينيّ والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سرهما) والسيّد الاُستاذ دامت بركاته. وهذا المسلك قد يشتمل على وجوه عديدة يختلف بعضها عن بعض حسب ما ينسب إلى أصحاب هذه الوجوه، فنحن نذكر أوّلاً الجامع بينها، وهو التفريق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ بالفارق الذاتيّ بالنحو الذي سوف نوضّح، ثمّ نذكر ما قد ينسب من الوجوه الفرعيّة


عالم اللحاظ الذي هو عالم الذهن، والمركّب ممّا يحكي عمّا في الخارج وينتزع منه وما يؤخذ رأساً من عالم الذهن لا يقبل الانطباق على ما في الخارج، كما هو الحال تماماً في الكلّيّ العقليّ.

وبالإمكان الإجابة على ذلك بأنّه لم يكن مقصود المستعمِل ولا الواضع انطباق المقيّد على ما في الخارج بالمعنى المستلزم لانطباق ذات القيد على ما في الخارج، وإنّما المقصود انطباق ذات المقيّد على ما في الخارج بما هو مقيّد، وهذا منحفظ بانحفاظ القيد في وعائه المناسب له، وهو الذهن حسب الفرض.

الثالث: أنّه لو فرض اللحاظ الآليّ مأخوذاً في المعنى الموضوع له في الحروف، وأنّه أصبح الموضوع له بذلك خاصّاً، فلم لا يفرض مثل ذلك في الأسماء بأن يقال: إنّ اللحاظ الاستقلاليّ مأخوذ في المعنى الموضوع له في الأسماء، فقد أصبح الموضوع له بذلك خاصّاً في الأسماء أيضاً؟! ونحن نعلم أنّ كيفيّة أخذ اللحاظ في الأسماء وفي الحروف متماثلة، بفرق أنّه في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلاليّ.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّه لو فرض أنّ كلّيّة معنى اسم الجنس وجزئيّة المعنى الحرفيّ كانتا وجدانيّتين لشخص ما، وكان يفحص ذاك الشخص عن تفسير لذلك، كان بإمكانه أن يفترض: أنّ المعنى الحرفيّ مقيّد باللحاظ الآليّ، فأصبح جزئيّاً؛ لأنّ واقع اللحاظ فرد يمنع عن انطباق المعنى على كثيرين، والمعنى الاسميّ مقيّد بعدم اللحاظ الآليّ لا باللحاظ الاستقلاليّ، ولهذا لم يصبح جزئيّاً.

139

المختلفة إلى أصحاب هذا المسلك.

فنقول: إنّنا نوضّح الفارق الذاتيّ والجوهريّ بين المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ ضمن مراحل خمس:

المرحلة الاُولى: من التوضيح(1) هي: أنّنا حينما نواجه قضيّة خارجيّة من قبيل (نار في الموقد) مثلاً، ننتزع منها مفاهيم عديدة موازية للحقائق الثابتة، فننتزع مفهوم النار ومفهوم الموقد في مقابل حقيقة النار وحقيقة الموقد، وننتزع علقةً ونسبةً بين المفهومين في مقابل العلقة والنسبة الواقعيّة الموجودة بين واقع النار وواقع الموقد، والهدف من انتزاع مفهوم النار ومفهوم الموقد ليس هو إيجاد الخصائص التكوينيّة للنار والموقد بأن تصبح النار مثلاً محرقة للذهن، وإنّما الهدف من ذلك هو إصدار الحكم بكون النار في الموقد، وإصدار الحكم لا يتوقّف على أن يحضر في الذهن بالنظر التصديقيّ ما هو طرف للحكم، بل يكفي فيه إحضار ما هو طرفه وموضوعه بالنظر التصوّريّ؛ ولهذا يُحضر في الذهن مفهوم النار، ومفهوم النار ليس ناراً حقيقة وبالنظر التصديقيّ، وإنّما هو نار بالنظر التصوّريّ، هذا حال إحضار النار والموقد في الذهن، وأمّا العلقة والنسبة التي يحضرها المتكلّم مثلاً في الذهن فهو يهدف من وراء هذا الإحضار إيجاد الخاصّيّة والأثر التكوينيّ للعلقة والربط، وهو شدّ شيء بشيء، والتوحيد والربط بينهما، وإيجاد الخصائص التكوينيّة لشيء لا يكون بمجرّد إحضار ما هو ذاك الشيء بالنظر التصوّريّ، بل يحتاج


(1) كأنّ هذه المرحلة من البيان مصاغة بصياغة مناسبة لفرضيّة تفسير الوجودات الذهنيّة بكونها وجودات لصُور عمّا في خارج الذهن، دون فرضيّة تفسيرها بكونها وجوداً لنفس الماهية الموجودة في الخارج، وأنّ اختلافها عمّا في الخارج إنّما يكون باختلاف الوجود، أمّا الماهية فواحدة.

140

إلى إحضار ما هو ذاك بالنظر التصديقيّ أيضاً؛ إذ خاصّيّة الشيء وأثره التكوينيّ لا تترتّب إلاّ على وجوده حقيقة، لا على مجرّد وجوده بالنظر التصوّريّ، فيجب إحضار ما هو علقة ونسبة وربط بالنظر التصديقيّ أيضاً. والقسم الأوّل وهو مثل مفهوم النار والموقد نسمّيه بالاسم، والقسم الثاني وهو مثل الربط بينهما نسمّيه بالحرف. فقد تحصل فرق جوهريّ بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفيّ، وهو: أنّ مفهوم الاسم سنخ مفهوم يكفي بلحاظ الهدف من إحضاره أن يكون ما يحضر في الذهن عين حقيقته بالنظر التصوّريّ كمفهوم النار، ولا يلزم بلحاظ الهدف منه كونه عين حقيقته بالنظر التصديقيّ أيضاً، وإن كان صدفة هو كذلك أحياناً كمفهوم الكلّيّ. وأمّا مفهوم الحرف فهو سنخ مفهوم لا يكفي بلحاظ الهدف من إحضاره إحضار ما هو عين حقيقته بالنظر التصوّريّ، بل لابدّ بلحاظ الهدف من إحضار ما هو عين حقيقته بالنظر التصديقيّ؛ لأنّ المطلوب منه هو آثاره التكوينيّة، وهي لا تترتّب إلاّ على واقع الشيء.

هذا تمام الكلام في المرحلة الاُولى من التوضيح.

وهذا الذي ذكرناه في هذه المرحلة إحدى مدلولات ما اشتهر في هذا المسلك، وما جاء عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) من أنّ المعاني الاسميّة إخطاريّة، والمعاني الحرفيّة إيجاديّة، فمعنى ذلك: أنّ المعنى الاسميّ لا يجب بلحاظ الهدف من إحضاره إيجاده حقيقة في الذهن، بل يكفي إخطاره بمعنى تصوّر صورة عنه تُرى بالنظر التصوّريّ أنّها عين الحقيقة. وأمّا في المعنى الحرفيّ فلابدّ من إيجاده حقيقة في الذهن حتّى يترتّب عليه ما هو أثره التكوينيّ.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 42 فصاعداً بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 18 فصاعداً.

141

المرحلة الثانية: أنّه يتفرّع على ما مضى أنّ المعنى الحرفيّ ليس هو مفهوم النسبة والعلقة والربط ونحو ذلك، فإنّ هذه المفاهيم إنّما هي نسبة وعلقة وربط بالنظر التصوّريّ، وليست نسبة وربطاً حقيقة وبالنظر التصديقيّ، وقد عرفت أنّ مفهوم الحرف يكون بالنظر التصديقيّ عين الحقيقة، فهو واقع الربط والنسبة(1).

المرحلة الثالثة(2): أنّه توجد عندنا ثلاث نسب في ثلاثة أوعية:

1 ـ النسبة بين النار الخارجيّة والموقد الخارجيّ مثلاً في وعاء الخارج.

2 ـ النسبة بين النار الذهنيّة والموقد الذهنيّ في وعاء ذهن المتكلّم.

3 ـ النسبة بين النار الذهنيّة والموقد الذهنيّ في وعاء ذهن السامع.

فهل يوجد بين هذه النسب جامع ذاتيّ أو لا؟

قد يتراءى وجود جامع ذاتيّ بينها، وهو مفهوم النسبة. والصحيح: أنّه جامع عرضيّ من قبيل جامع «أحدها» أو «الشيء» ونحو ذلك، وليس جامعاً ذاتيّاً. والبرهان على ذلك يتكوّن من ثلاث كلمات:

1 ـ إنّ تحصيل الجامع الذاتيّ يكون بالاحتفاظ على المقوّمات الذاتيّة أو بعضها للأفراد، وإلغاء الخصوصيّات العرضيّة لها، فمثلاً في تحصيل الجامع الذاتيّ بين أفراد الإنسان تلغى الخصوصيّات العرضيّة من قبيل البياض والطول والقصر


(1) كأنّ ما ورد في هذه المرحلة أيضاً مصاغة بالصياغة المناسبة للتفسير الأوّل من تفسيري الوجودات الذهنيّة الماضي ذكرهما في تعليقنا على المرحلة الاُولى من البيان، وهو تفسيرها بكونها مجرّد تصاوير وانعكاسات عمّا في الخارج، وكيف لا وهي متفرّعة ـ كما قال اُستاذنا ـ على المرحلة الاُولى المصاغة على مبنى ذاك التفسير!

(2) هذه المرحلة من البيان تستفاد من كلام الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في كتابه: «الاُصول على النهج الحديث» ص 25 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

142

وغير ذلك، ويحتفظ على المقوّمات الذاتيّة وهي الحيوانيّة والناطقيّة، فيصبح الجامع هو الحيوان الناطق، أو الإنسان، أو على بعض المقوّمات الذاتيّة على الأقلّ كالحيوانيّة فقط، فيكون الحيوان جامعاً ذاتيّاً بين أفراد الإنسان.

2 ـ إنّ كلّ نسبة من هذه النسب تكون مقوّماتها الذاتيّة تماماً مغايرة للمقوّمات الذاتيّة للاُخرى؛ لأنّ النسبة في الحقيقة ليست إلاّ حدّاً لوجود طرفيها، وليست وجوداً مستقلاًّ في قبالهما، فمقوّماتها عبارة عن شخص وجود طرفيها، وأطراف النسب المتعدّدة حتّى إذا اتّحدت في المفهوم تكون متغايرة في أشخاص الوجودات، والنسبة متقوّمة بشخص الوجودات بما هي أشخاص، لا بالمفاهيم بما هي هي، فالمفاهيم بما هي مفاهيم بغضّ النظر عن أيّ وجود لها خارجيّ أو ذهنيّ أو فرضيّ واعتباريّ لا يتعقّل بينها أيّ نسبة.

3 ـ أنّنا إذا أردنا أن ننتزع جامعاً ذاتيّاً بين أفراد النسب، فهل نحتفظ على المقوّمات الذاتيّة لها كما قلنا في الكلمة الاُولى، أو نلغي تلك المقوّمات وهي أشخاص وجودات الأطراف؟ فإن فرض الأوّل وهو الاحتفاظ على المقوّمات الذاتيّة وهي شخص وجودات الأطراف، لم يتحقّق جامع لما عرفت في الكلمة الثانية من أنّ تلك المقوّمات متباينة. وإن فرض الثاني وهو إلغاء الأطراف، لم يبقَ شيء يكون هو النسبة، ومع إلغاء المقوّمات الذاتيّة لا معنى لانتزاع جامع ذاتيّ، إذن فمفهوم النسبة الذي هو جامع بين النسب ليس إلاّ جامعاً عرضيّاً من قبيل جامع «الشيء» وجامع «أحدها» ونحو ذلك.

المرحلة الرابعة(1): أنّ المعنى الحرفيّ ليس له تقرّر ماهويّ في المرتبة السابقة


(1) هذه المرحلة من البيان أيضاً تستفاد من كلام الشيخ الإصفهانيّ(قدس سره) في المصدر الذي أشرنا إليه في تعليقنا على المرحلة الثالثة.

143

على الوجود. وتوضيح ذلك: أنّ المفهوم الاسميّ في الذهن يمكن بنظرة تحليليّة أن يحلّل إلى ماهية ووجود، وتشكّل قضيّة تحليليّة، فيقال: النار وجدت في الذهن. فالوجود والماهية وإن كانا متّحدين خارجاً ولكن بحسب التحليل تتقرّر في المرتبة السابقة ماهية، ويحمل عليها الوجود أو العدم. وهذا معناه: أنّ مفهوم النار في مرتبة وقوعه موضوعاً لهذه القضيّة التحليليّة له تقرّر في نفسه بقطع النظر عن الوجود، وهذا التقرّر الماهويّ يوجد في باب المفاهيم الاسميّة. وأمّا في المفاهيم الحرفيّة فهذا النحو من التقرّر الماهويّ غير معقول. بيان ذلك: أنّه لو لم تكن هويّة أفراد النسب عبارة عن حدود أشخاص الوجودات كما عرفت في المرحلة الثالثة، بل كانت لها ماهية مستقلّة عن وجود الطرفين، أمكن أن يشار إلى تلك الماهية وتجعل موضوعاً لقضيّة تحليليّة، ويحمل عليها الوجود، وكان لها تقرّر ماهويّ في ذاتها بغضّ النظر عن الوجود، ولكن قد عرفت أنّ المعنى الحرفيّ ليس إلاّ عبارة عن حدّ الوجودات فليست له ماهية وراء حدّ الوجود، فإذا غُضّ النظر عن الوجود كان معنى ذلك غضّ النظر عن ماهية المعنى الحرفيّ، فليس له تقرّر ماهويّ في المرتبة السابقة على الوجود.

بكلمة اُخرى: أنّ المفهوم الاسميّ له تقرّر ماهويّ قبل مرتبة الوجود في الذهن، ثُمّ يوجد في الذهن، وأمّا المفهوم الحرفيّ فقبل مرتبة وجود الطرفين بحدّهما في الذهن ليس له تقرّر ماهويّ، ويحصل له التقرّر الماهويّ في نفس مرتبة وجود الطرفين بما لهما من حدّ في الذهن؛ لأنّ هويّة المعنى الحرفيّ ليست إلاّ عبارة عن نفس حدّ شخص وجود الطرفين، إذن ففي مرتبة سابقة على عالم الذهن لا يوجد تقرّر ماهويّ للمعنى الحرفيّ كما كان يوجد للمعنى الاسميّ، وإنّما يكون تقرّره الماهويّ بنفس تكوّنه في عالم الذهن.

144

وهذا أيضاً أحد مداليل ما جاء عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ معاني الأسماء إخطاريّة، ومعاني الحروف إيجاديّة، أي: أنّ المفهوم الاسميّ له تقرّر ماهويّ في نفسه بغضّ النظر عن مرتبة عالم الذهن، ثُمّ يخطر في الذهن. وأمّا المفهوم الحرفيّ فتقرّره الماهويّ لا يكون إلاّ بنفس وجوده في الذهن.

المرحلة الخامسة: أنّ مفهوم النار مثلاً الذي هو معنىً اسميّ إذا التفت إليه بقيد وجوده في الذهن، فنسبته إلى النار الخارجيّة نسبة المماثل إلى المماثل. وأمّا إذا التفت إليه بقطع النظر عن وجوده الذهنيّ، فنسبته إليها نسبة الكلّيّ إلى فرده. وأمّا العلاقة الذهنيّة فنسبتها إلى العلاقة الخارجيّة دائماً هي نسبة المماثل إلى المماثل؛ لأنّها بالنظر إلى الوجود تكون فرداً مماثلاً للفرد الخارجيّ، وبقطع النظر عن الوجود عرفت أنّه ليس لها تقرّر ماهويّ حتّى تنسب إلى الخارج، وليس هناك جامع حتّى تكون نسبته إلى ما في الخارج نسبة الكلّيّ إلى فرده.

وهذا الفرق بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفيّ مدلول ثالث من مداليل ما جاء عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ معاني الأسماء إخطاريّة، ومعاني الحروف إيجاديّة، فالمعنى الاسميّ منطبق على ما في الخارج انطباق الكلّيّ على فرده، فكأنّه أُخذ من الخارج واُخطر إلى الذهن من الخارج. وأمّا المعنى الحرفيّ فلا يخطر إلى الذهن من الخارج، بل نسبته إلى ما في الخارج نسبة الوجود إلى الوجود، لا الكلّيّ إلى فرده.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّ النسبة الذهنيّة الحرفيّة بعد أن كانت وجوداً مماثلاً للوجود الخارجيّ، ولم تكن بأيّ وجه من الوجوه عنواناً للمعنون الخارجيّ، أو كلّيّاً منطبقاً على الأفراد الخارجيّة، فكيف تحكي عن الخارج؟!

وبكلمة اُخرى: أنّ المعنى الاسميّ إنّما كان يحكي عن الخارج باعتبار أنّه

145

بلحاظه مفهوماً (وبقطع النظر عن وجوده الذهنيّ) كان عنواناً ينطبق على معنونه الخارجيّ، وكلّيّاً ينطبق على مصداقه الخارجيّ، فكان يعتبر فانياً في الخارج، أو قل: كان يُرى بالنظر التصوّريّ عين ما في الخارج، فمن هنا جاءت حكايته عمّا في الخارج. أمّا المعنى الحرفيّ فقد فرضتم أنّه ليست نسبته إلى ما في الخارج إلاّ نسبة المماثل إلى المماثل، لا العنوان إلى المعنون أو الكلّيّ إلى الأفراد، فيتوجّه السؤال عن أنّه كيف تتمّ إذن حكايته عمّا في الخارج؟!

والجواب: أنّ حكايته عمّا في الخارج تكون بتبع المفهوم الاسميّ، حيث إنّه بالنظر التصوّريّ يرى أنّ ما تصوّره من النار والموقد هو نفس النار والموقد الخارجيين، فبهذا النظر يرى أنّ النسبة بينهما هي نفس النسبة بينهما.

وقد اتّضح بما ذكرناه التباين الذاتيّ بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفيّ.

واتّضح بهذه المراحل الخمس معنى القول المعروف في هذا المسلك من كون معاني الأسماء إخطاريّة ومعاني الحروف إيجاديّة، وصفوة القول في ذلك: إنّ الإيجاديّة لها ثلاثة أركان:

1 ـ إنّ المعنى الحرفيّ لا يتأتّى الغرض منه إلاّ إذا كان عين الحقيقة، كما مضى في المرحلة الاُولى.

2 ـ إنّ المعنى الحرفيّ بغضّ النظر عن وجوده في الذهن ليس له تقرّر ذاتيّ وماهويّ، بخلاف المعنى الاسميّ المتقرّر ذاتاً وماهيةً بقطع النظر عن عالم الوجود، وهذا ما اتّضح بالمرحلة الثالثة والرابعة.

3 ـ إنّ المعنى الحرفيّ نسبته إلى الفرد نسبة الوجود إلى الوجود، لا نسبة الكلّيّ إلى الفرد، وهذا ما بيّن في المرحلة الخامسة.

هذا تمام الكلام في بيان أصل المسلك الثالث.

146

هذا، وقد نسب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في ذلك كلاماً إلى المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، واعترض عليه، وكلاماً إلى المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)، واعترض عليه. ولعلّ التأمّل فيما ذكرناه من المراحل الخمس، مع التحفّظ على ما ينبغي أن ينسب إلى هؤلاء يورث القطع بأنّ مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ واحد، ولا خلاف حقيقيّ بينهم.

أمّا المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فقد فسّر السيّد الاُستاذ مدّعاه بأنّ المعنى الحرفيّ إيجاديّ بمعنى أنّ المعنى الحرفيّ هو نفس الربط الذي يوجده الحرف في مرحلة الكلام، فكلمة «في» مثلاً في قولنا: «النار في الموقد» لا تكشف عن معنىً ثابت وراء عالم اللفظ، وإنّما هي توجد الربط في عالم اللفظ بين لفظة «النار» ولفظة «الموقد».

وفسّر برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على مدّعاه بأنّ المعنى: إمّا إخطاريّ أو إيجاديّ، ومعنى كونه إخطاريّاً أن يكون قابلاً للّحاظ الاستقلاليّ، ومعنى كونه إيجاديّاً أن يكون عبارة عن الربط في عالم اللفظ والكلام، وبما أنّ المعنى الحرفيّ ليس إخطاريّاً؛ إذ لا يعقل لحاظه مستقلاًّ فينحصر الأمر في كونه إيجاديّاً.

وأورد على مدّعاه بأنّ الحرف لا يوجد الربط الكلاميّ بالمعجز، وإنّما يوجده باعتبار الدلالة على معنىً، فالربط في عالم الكلام انعكاس للربط في عالم قبل الكلام، ولولا وجود ربط في عالم آخر كيف يوجد «في» ربطاً في الكلام، فإيجاديّة الحرف غير صحيحة؛ إذ إيجاده للربط فرع معنىً سابق، فيجب في مرتبة سابقة تنقيح ذاك المعنى.

وأورد على برهانه بأنّ قسمة المعنى إلى إيجاديّ وإخطاريّ غير حاصرة، بل هناك شقّ ثالث، وهو أن يكون للحرف معنىً ثابت قبل مرحلة الكلام، ويكون